من القفر إلى القفر

الأحد الثاني من الصوم: أحد الأبرص (رو 6: 12-18؛ مر 1: 35-45)

35وفي الصباحِ باكرًا جدًّا، قامَ وذهَبَ إلى مكانٍ قفْر، وهناك كان مُصلِّيًا.36فكانَ سمعانُ والذينَ معه طالبينَهُ.37وحين وجدوه قالوا له: “الناسُ كلُّهم يَطلبونَك.”38فقال لهم: “سيروا إلى القرى والمدنِ القريبة، وهناك أكرزُ أيضًا، لأنّي لأجلِ هذه أتَيتُ.”39وكارزًا كان في مَجامعِهم كلِّها، في كلِّ الجليل، ومُخرِجًا الشياطين.40وأتى إليه أبرصُ وسقَطَ على رِجلَيه، وطالبًا منهُ كان: “إنْ أنتَ مُريدٌ فإنَّكَ قادِرٌ على تطهيري.”41فرحِمَهُ يسوع، وبسَطَ يدَهُ ولمسَه وقال: “مريدٌ أنا، فكُنْ طاهرًا.”42وفي الساعةِ عينِها ذهبَ برَصُه منهُ وطُهِّر.43فزجرَه وأخرجَهُ.44وقال له: “انظُرْ! لا تكُونُ أنت قائِلاً لأحد. لكنِ اذهَبْ فأظهِرْ نفسَكَ للكهنة، وقرِّبِ القربانَ لأجلِ تَطهيرِكَ كما أمرَ موسى، شهادةً لهم.”45أمّا هو فحين خرج، بدأ كارزًا بكثرة، وأذاعَ الكلمةَ بحيثُ ما كان يَستطيعُ يسوعُ أن يَدخُلَ علنًا إلى مدينة، ولكنْ كان خارجًا، في مكانٍ قَفْر، وكان الآتون إليهِ مِنْ كُلِّ مكان.

*  *  *

من القفر إلى الكرازة

قبل طلوع الفجر. ذاك ما يقول المزمور: "أستبقُ الفجر وأستغيث. وكلامك يا ربُّ رجائي. تستبق عيناي هنيهات الليل حتَّى ألهجُ بأقوالك" (مز 119: 147-148). تلك كانت عادة يسوع خلال حياته العلنيَّة. أتى إليه تلاميذه وكان مأخوذًا بالصلاة. فما تجرَّأوا أن يقطعوا عليه صلاته. ولمَّا انتهى، قالوا له: "علِّمنا أن نصلِّي" (لو 11: 1).

ذهب إلى مكان قفر. هناك الصمت الكبير من أجل الحوار الطويل مع الآب السماويّ. أما هكذا كان يفعل موسى حين يصعد الجبل؟ وإيليَّا ترك صخب المدينة، وأقام أوَّلاً في صحراء شرقيِّ الأردنِّ قرب النهر. وسيكون له أن يمضي إلى حوريب. إذا استطعت، امضِ إلى البرِّيَّة. وهناك وحدك مع الربّ. وإلاَّ، "ادخل مخدعك وأغلق بابك عليك." فالله لا يتكلَّم في الضجَّة ولا في صخب المدينة، بل في الصمت. لهذا يقول له النبيّ: "أنت حقًّا إله محتجب." (إش 45: 15).

بحثوا عنه. وجدوه. مَن؟ سمعان ورفاقه، أي الرسل. فيسوع لا يمكن أن يكون وحده في إنجيل مرقس. هو دومًا مع تلاميذه. بدونه يضيعون. وبدونهم لا يعمل شيئًا. يده بيدهم. هو فخر كبير لهم ومسؤوليَّة في الوقت عينه: "الجميع يطلبونك." في نظرهم: في كفرناحوم. ولكنَّ يسوع لا ينحصر في مدينة واحدة.

قال: "لهذا خرجت" (مر 1: 29). في معنى أوَّل: من كفرناحوم. وفي المعنى العميق: خرجت من عند الآب. هنا نتذكَّر مشهد غسل الأرجل. قال الإنجيل: "علم يسوع أنَّ الآب دفع كلَّ شيء بين يديه، وأنَّه من عند الله خرج وإلى الله يمضي" (يو 13: 3). أجل، أتى الابن من عند أبيه إلى العالم. ويترك العالم ويعود إلى الآب" (يو 16: 28). وها هو يسوع يعلن أنَّه "خرج" من أجل الكرازة، لكي يحمل الإنجيل. لا ليقيم في هذا المكان أو ذاك. كما لا يسمح أن يستأثر به مكان ولا جماعة. قالوا له: الجميع يطلبونك، أي كلُّ أهل كفرناحوم. ولكنَّ هذا لا يكفي. لهذا كان الجواب. نذهب إلى القرى المجاورة.

 

وأتاه أبرص

الأبرص مريض ومرضه معدٍ. لهذا يبتعد عن المجتمعات. يكون في البرِّيَّة ويكون معه جرس وينادي: "نجس، نجس". فإن كان أحد في الجوار يهرب. بالإضافة إلى ذلك، الأبرص إنسان نجس. لا يلمس أحدًا ولا يلمسه أحد لئلاَّ يتنجَّس. يقول عنه سفر اللاويِّين: "تكون ثيابه مشقوقة، ورأسه يكون مكشوفًا ويغطِّي شاربيه... إنَّه نجس يقيم وحده. خارج المحلَّة (مخيَّم، مدينة) يكون مقامه" (13: 45-46).

إلى هذا الأبرص مضى يسوع. ومثله راهبات الأمِّ تريزا ده كلكوتا مضين إلى اليمن لكي يُعالجن البرص. وقبلهنَّ راهبات عالجنَ البرص في إيران. ومن لا يعرف خبر بيار داميان الذي راح يعيش مع البرص في جزيرة نائية وفي النهاية، مات معهم "ما من حبٍّ أعظم من حبِّ من يبذل نفسه عن أحبَّائه."

المبادرة من يسوع، لا من الأبرص. فهو لا يجرؤ أن يقترب من الناس الذين يلاحقونه بالحجارة. عندئذٍ "أتى" الأبرص لدى يسوع الذي قد يكون أشار إليه بأن يأتي. "توسَّل". هل الإنسان يتوسَّل إلى إنسان؟ وماذا يستطيع أن يفعل الإنسان لأخيه في مثل هذه الحالة؟ بل الأمُّ تُجبَر أن تتخلَّى عن ابنها طاعة للشريعة وخوفًا من السلطة. توسَّل الأبرص لأنَّه أحسَّ بقوَّة آتية من عند الله. ثمَّ "جثا"، علامة الطلب وأكثر من ذلك. وتكلَّم:

"إن شئت أنت قادر." ما هذه الثقة؟ يكفي من يسوع أن يشاء. ولماذا لا يشاء يسوع أن يعمل شيئًا لهذا التعيس والمُبعَد عن المجتمع؟ ماذا يطلب الأبرص؟ "أن تطهِّرني." هو نجس. إذًا يحتاج إلى أن يطهر. وفي معنى آخر: إلى أن يُشفى.

ونلاحظ يسوع. "تحنَّن" حرفيًّا: تحرَّكت أحشاؤه، كما الأمُّ تجاه ابن رحمها. عندئذٍ اقترب "مدَّ يده" ثمَّ "لمسه". في منطق الناس: "تنجَّس يسوع وعليه أن يبتعد عن الجماعة حتَّى المساء. عليه أن يغتسل. شرائع قاسية تقيِّد الإنسان. تقتله. إذًا، من يهتمُّ بالبرص يكون "نجسًا"! الحمد لله أنَّ يسوع المسيح رمى جانبًا مثل هذه الشرائع. لمس الأبرص، ومع اللمسة كان الكلام الفاعل: "شئتُ فاطهرْ." وهكذا خُلق الأبرص من جديد، صار لحمه مثل لحم طفل على ما يقول سفر الملوك الثاني عن نعمان السريانيّ الذي شفاه إليشع (5: 14).

ولكن ما إن شفاه يسوع حتَّى انتهره كأنَّه يقول له: لماذا أتيتَ إلى هنا؟ ألا ترى الخطر؟ وأيُّ خطر؟ كانوا يعتبرون أنَّ الشفاء من البرص قيامة الموتى. وبالتالي لا يستطيع أن يقوم به سوى الله. هذا يعني أنَّ الملكوت جاء وأنَّ المسيح هو من يدشِّنه. ثمَّ إنَّ يسوع "صرفه" وكأنَّه لا يريد أن يعرف أحدٌ بما حصل.

 

وعاد يسوع إلى القفر

أرسل يسوع الأبرص إلى الكاهن في الهيكل ليتأكَّد من الشفاء. من جهة، تجاوز الشريعة ولمس الأبرص وما اعتبر نفسه تنجَّس. ومن جهة ثانية، ها هو يطلب من الأبرص أن ينفِّذ ما تطلبه الشريعة: اذهب إلى الكاهن. وفي الحقيقة ما يهمُّ يسوع هو الإنسان. يجب أن يعود هذا الأبرص إلى الحياة العاديَّة في المجتمع، وإلى المشاركة مع الجماعة في الصلاة في الهيكل، والاستماع إلى كلام الله.

حذَّره يسوع: "لا تخبر أحدًا." ولماذا لا يُعرَف ما فعله يسوع؟ أنا وُلدت من جديد. خُلقتُ. كنتُ ميتًا وصرتُ حيًّا. فكيف لا أخبر الناس؟ في منطقنا البشريّ، حسنًا فعلَ هذا الأبرص. ولكن في منطق يسوع، سوف يكتشف الناس أنَّه هو المسيح. وبما أنَّ نظرتهم خاطئة إلى المسيح، أراد يسوع أن يصمت الذين يشفيهم. هكذا فعل هنا. وبعد إقامة ابنة يائيرس: "أوصاهم كثيرًا أن لا يعلم أحد بذلك" (مر 5: 43). وفي منطقنا، من لم يعلم بهذه المعجزة والناس في الخارج يبكون؟ وكذا فعل مع الأصمّ الأخرس (7: 36) ونتخيَّل: أعلن بطرس أنَّه المسيح "فانتهرهم أن لا يقولوا لأحد عنه" (8: 30) إنَّه المسيح. ونحن نفهم ذلك أمام ردَّة الفعل عند بطرس حين أخبر يسوع عن الآلام التي تنتظره. وماذا فعل بطرس: "أخذه إليه وابتدأ ينتهره" (آ31). بطرس ينتهر يسوع! فالآلام ممنوعة بالنسبة إلى المسيح. هو "يُرفع" بدون أن يمرَّ في الصلب والموت والقيامة.

ذاك ما أراد أن يتجنَّبه يسوع. مثلُ هذه الدعاية تضرُّ به. فما إن يصل إلى قرية أو مدينة إلاَّ ويستقبلونه بالهتاف. "ما أحسن ما عمل". طريقة مرقس في تقديم الإنجيل أرادها للآتين الجدد إلى المسيحيَّة من أهل رومة أو من فلسطين. لا تسرُّع، لأنَّ التسرُّع يضرُّ بمسيرة الإنجيل. لا نتكلَّم عن المجد قبل الكلام عن الآلام والصلب. وفي الواقع، بعد أن أعلن بطرس أنَّ يسوع هو المسيح، شرع يسوع يحدِّثهم عن الآلام التي تنتظره. أمَّا هم فما فهموا. ما استطاعوا. وربَّما ما أرادوا.

بعد تكثير الأرغفة، في إنجيل يوحنَّا، نعرف أنَّ الناس أرادوا أن يقيموا يسوع ملكًا، فراح إلى البرِّيَّة، وذاك ما فعل الآن. هو الآن درس لنا: المظاهر الخارجيَّة وتجمُّع الجماهير والنجاحات التي تُبهر هي أكثر ما يضرُّ بالإنجيل. كلُّ هذا مثل فقاقيع الصابون لا يعطي أيَّة نتيجة. زيارات، مهرجانات، مسيرات. كلام يحرِّك الجماهير ويهيِّجها! كم يدوم كلُّ هذا؟ يدوم ما دام ندى الصباح، كما قال هوشع ما إن تطلع الشمس حتَّى يتبخَّر. هي حبَّة قمح لا عمق لها. تنمو بسرعة وتيبس بسرعة.

لهذا عاد يسوع إلى القفر. إلى هناك يأتي إليه من يريد حقًّا أن يسمع الكلمة ويعمل بها. هناك يكون التلاميذ. ثمَّ إنَّ القفر "طهر" بعد أن زال عنه البرص الذي يحطُّ من قيمة الإنسان، جسديًّا ومعنويًّا.

 

أمّا رسالة بولس الرسول إلى رومة التي نقرأ اليوم فتفهمنا أنَّنا كنَّا عبيدًا للخطيئة فتحرَّرنا منها. فلماذا نعود إليها؟ لماذا نريد أن نكون أيضًا عبيدًا. كانت أعضاؤنا سلاحًا للإثم. حوَّلها يسوع فصارت أعضاء للبرّ، أي للعمل بمشيئة الله. فماذا ننتظر لكي نتطلَّع إلى موهبة الله التي هي الحياة الأبديَّة. ويكون فرحنا مثل فرح هذا الأبرص، بل لا يضاهيه فرح.

 

 


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM