الفصل الحادي عشر: موشحات سليمان ومدرسة يوحنا

الفصل الحادي عشر
موشحات سليمان ومدرسة يوحنا
الآب الدكتور افرام عازار

نذكّر بأن وراء التسمية التي نطلقها على كتابات يوحناش، نشير إلى مجمل الكتابات اليوحناويّة، أي الانجيل الرابع ورسائل يوحنا الثلاث وكتاب الرؤيا. وراء كتابات يوحنا عدة أقلام واصلت فكره. ونقل ارثه تلاميذه الذين كانوا يؤلّفون مدرسة أو جماعة واصلوا نقل إرث معلمهم بأمانة. ونفيدنا الدراسات الحديثة أن إنجيل يوحنا قام بكتابته عدة أشخاص واصلوا فكر معلمهم، وفي الآخير قام يوحنا بنقل البلاغ كشاهد عيان لرسالة يسوع.

اللوحة الاولى: تاريخ الجماعة اليوحناوية
المرحلة الاولى (55- 80)
الفئة الاولى
في فلسطين والمناطق المجاورة، يعيش يهودٌ الآمالَ المشيحانية. يعيش يوحنا المعمدان وتلاميذ هذه الآمال. إنهم يعترفون بيسوع مسيحا ابن داود. وضمن هذه الفئة رجل عرف يسوع من خلال رسالته، وسيصبح فيما بعد التلميذ الحبيب.
الفئة الثانية
يهود مناهضون للهيكل، آمنوا بيسوع، واهتدوا في السامرة. رأوا يسوع من خلال علاقته بموسى، أقلّ ممّا هي بداود. كان مع الله، رأى الله، وآتى شعبه كلمته. أثّر انضمام الفئة الثانية في تطور كرستولوجية الوجود الازلي، وحصلت من جراء ذلك مصادمة مع اليهود الذين ظنوا أن الجماعة اليوحناوية تخلّت عن ايمانها بالله الواحد، لتجعل من يسوع الهًا ثانيًا. وفي أوج هذه المصادمة طرد رؤساء الكهنة المسيحيين اليوحناويّين من المجامع، فأصبح هؤلاء غرباء عن اليهود. واعتبر هؤلاء المسيحيون اليهود أبناء الشيطان، واكدوا بأن الوعود الاسكاتولوجية تحققت بيسوع. اختبر التلميذ خبرة الوعي والنضج، ورافق اخوته ليبلغوا إلى النضج الذي اختبره، فأصبح منذئذ التلميذ الحبيب.
الفئة الثالثة: مهتدون من الامم "اليونانيون"، "الهلّينيون".
المرحلة الثانية (حوالي سنة 90)
بما أن اليهود كانوا عميانًا، جاء انضمام اليونانيين مطابقًا للقصد الالهي. اتجهت الجماعة إلى الجاليات لتعليم اليونانيين. شرع الانفتاح يتجّه نحو الشمولية. ولكن المعاناة التي الّمت بالمسيحيين اليوحناويّين، من جراء معاداة اليهود لهم، ورفض الآخرين، نما وعي، وهو أن العالم معاد ليسوع، لهذا عليهم الا يكونوا من العالم الذي يخضع للشيطان. رفض اليهود المتنصرين أعتبر كجحود الإيمان وأدى إلى قطع العلاقة، بينما استمرت العلاقات مع المسيحيين الرسوليين، على أمل أن تتم الوحدة معهم، بالرغم من الاختلافات المتعلقة بالكرستولوجيا والبنية الكنسيّة. وبسبب التشديد على الكرستولوجيا، كإجراء دفاعي ضد اليهود وضد اليهود- المسيحيين، حصل انشقاق داخل الجماعة.
المرحلة الثالثة (نحو سنة 100): مؤيّدو كاتب الرسائل
لنصبح ابناء الله، ينبغي الاعتراف بيسوع الذي جاء بحسب الجسد، وينبغي حفظ الوصايا. أما المنشقون فإنهم أبناء الشيطان، ومسحة الروح تسد حاجة المعلمين: يختبر المسحة كل من يمتلك الروح.

المنشقون
من نزل من فوق هو بمنزلة اله، وهو ليس انسانا بالكامل، وليس من العالم. فمن ثم لا أهمية لحياته الارضية، ولحياة المؤمن أيضًا، للخلاص. يكفي الايمان بابن الله الذي جاء إلى العالم. من يؤمن به يخلص.
المرحلة الرابعة (القرن الثاني): الوحدة مع الكنيسة الكبرى
عجز بعض مؤيّدي الكاتب عن محاربة المنشقين ليعودوا إلى التقليد، وبسبب فشلهم أمام خصومهم، اعترفوا بضرورة دور المعلمين الرسميين (الشيوخ والاساقفة) الذين أوكل إليهم التعليم. وفي الوقت عينه، تقبلت الكنيسة "الجامعة" كرستولوجية يوحنا، وصحبه تقبل بطيء للانجيل الرابع، إذ إن الغنوصيين كانوا هم أيضًا يستخدمونه.
نحو الغنوصية
يبدو أن غالبية الجماعة اليوحناويّة قبلت لاهوت المنشقين، ولكنها انقسمت على ذاتها وأخذ الانشطار نزعات ثلاثة:
أ- الظاهرية أي العبور من يسوع انسان غير كامل إلى جعله مجرد مظهر بشري.
ب- الغنوصية من يسوع في وجوده الازلي إلى مؤمنين وكأن لهم وجودًا أزلي وقد انحدروا من مساكن سماوية.
ج- المونتانيّة من امتلاك الفارقليط إلى الامتزاج به. حمل أنصار هذا التيار معهم الانجيل الرابع الذي قبله الغنوصيون وفسّروه.

اللوحة الثانية: المجموعات الدينية المنبثقة من جماعة يوحنا
1- الذين لا يؤمنون
أ- العالم: يتّخذ يوحنا موقفًا إيجابيًا من العالم (يو 3: 16). العالم مفهوم أوسع من كلمة اليهود. العالم يمثّل أيضًا جميع الذين رفضوا النور. ولكن يوحنا يتحدّث عن الذين آثروا الظلمة على نور يسوع، لأن أعمالهم كانت سيّئة. اختيارهم هذا أدّى إلى دينونتهم، لأنهم يخضعون لسلطان الشيطان "سيّد هذا العالم". يرفض يسوع الصلاة من أجل العالم. إنه غلب العالم. أما الذين قبلوا النور، فهم من ضمن جماعة يوحنا. هكذا نفهم قوله بأن مجيء يسوع هو بمثابة حكم على العالم (يو 39:9 و12: 31) "إني جئت إلى هذا العالم لإصدار حكم... اليوم دينونة هذا العالم...". هذا العالم الذي يسكنه أبناء الظلمة (يو 12: 35-36) لأنه لا يتماشى والمسيح وروحه (يو 16: 20؛ 17: 14-16؛ 18: 36؛ 14: 17؛ 16: 8- 11). العالم يكره المسيح وتلاميذه (يو 7:7؛ 8:15-9؛ 16: 20). غلب المسيح العالم ورمى سيّد هذا العالم خارجًا (يو 12: 31؛ 14: 30). وفي رسائل يوحنا يشدّد النصّ على رفض العالم (1 يو 2: 15-16). أنمى هذا المفهوم احساسًا لدى الجماعة اليوحناويّة أنها تعيش في المنفى، أي أنها متغرّبة عن العالم.
رفضُ اليهود والعالم للمسيح، كان له تأثير مأساوي على تفكير يوحنا (يو 1: 11؛ 3: 16، 19). ويصبح يسوع غريبًا على الأرض. إنه يذهب إلى بيته ويعود إلى أبيه لينال المجد (يو 15:7). وإن لم يكن يسوع من العالم، فالتلاميذ أنفسهم سوف يُرفَضون (يو 15: 18-19)، وبيتُهم الحقيقي في السماء (يو 2:14-3؛ 24:17). رفضُ انجيل يوحنا من قبل اليهود والعالم، خلق شعورًا، وهو أن الجماعة تعيش في المنفى، وهو أنها غريبة عن العالم. ويوم كتب الانجيل، كانت المحبة تسود الجماعة، وكانت كافية لتولي الفرح والسلام. أما المأساة فستحل لاحقًا عندما حصل الانقسام داخل الجماعة.
كما أبدى الوثنيون امتعاضهم بسبب حماس جماعة المؤمنين ومخاطبة بعضهم البعض بعبارة "الأخ والإخوة". فأصبحت جماعة يوحنا مستهدفة لحقد العالم، وتعرّضت للاضطهاد والقتل.
ليس العالم أرضًا جديرة بتقبّل الانجيل، ولا "منطقة محايدة". ولذلك تعاني الجماعة، لأن الناس آثروا الظلمة على النور. وعلى المؤمنين أن يواصلوا الرسالة بكل الوسائل الممكنة ليشهدوا للمسيح أمام الأمم.
ب- اليهود: لم يؤمن الذين كانوا أعضاء في المجامع بيسوع فحسب، إنما قرروا أن يطردوا من المجمع كل من يعترف بيسوع مسيحًا. إن النقاش الذي يركّز عليه الانجيل هي الوهية يسوع (يو10: 34-36؛ 8: 34-57). وهذه نقاط ساخنة بين الجماعة اليوحناويّة ورؤساء المجمع. تمحور الخلاف مع اليهود حول الخلاص والايمان اللذين هما عطيّة من الله (يو 37:6، 39، 44، 65). وكان من بين المؤمنين من ظلّوا في المجمع. وحثهم يوحنا على المجاهرة بإيمانهم، حتى وإن أدّى ذلك إلى طردهم من المجمع (يو 9: 22). ويدور الخلاف حول ادّعاء وحدة يسوع بالآب. كان يسوع اليوحناويّ يتكلّم عن الله أبيه. جعل نفسه مساويًا لله.
- الادعاءات التي تجعل من يسوع كحضور الله على الأرض. لا بل إنه يعادي الهيكل ومؤسّساته، ويجرّد الأعياد اليهودية من معناها.
- اضطهدوا المسيحيين اليوحناويّين، وقتلوا بعضًا منهم. وكانوا يعتقدون أنهم بفعلهم هذا، يؤدّون العبادة لله.
- في نظر يوحنا، إنهم أبناء الشيطان.
ج- اتباع يوحنا المعمدان: بالرغم من أن بعض تلاميذ يوحنا المعمدان انضمّوا إلى يسوع، وأصبحوا "مسيحيين" يوحناويّين، إلاّ أن بعضًا منهم رفضوا الانضمام، وزعموا أن يوحنا هو مرسل الله في الدرجة الاولى، وليس يسوع. ولكن الانجيل يرفض أن يكون يوحنا المعمدان المسيح أو إيليا النبي أو النور أو العريس. "ليس لأحد أن يأخذ شيئًا لم يُعطه من السماء. أنتم بأنفسكم تشهدون لي بأني قلت إني لست المسيح، بل مرسل قدامه. من كان له العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذي يقف يستمع إليه فإنه يفرح أشد الفرح لصوت العريس. فهوذا فرحي قد تمّ. لا بد له أن يكبر، ولا بد لي من أن أصغر" (يو 1: 15 و19-34 و27:3-30). أما الصورة التي احتفظ بها الانجيل عن أنصار يوحنا المعمدان فتتضمّن بالأحرى سوء فهم يسوع، من دون أن يظهروا له الكراهية، وأن الباب لم يزل مفتوحًا لاهتدائهم.
كان التلاميذ الأوّلين الذين تبعوا يسوع من تلاميذ يوحنا المعمدان. وتتأصل جذور الحركة اليوحناوية عند هؤلاء التلاميذ. لا نعجب من وجود اشارات تقلل من دور يوحنا المعمدان:
- ليس هو النور (يو 1: 9).
- لم يكن قبل يسوع (يو 1: 15-30).
- ليس المخلص، ولا ايليا، ولا النبي (يو 1: 19-20 و3: 28).
- ليس العريس (يو 3: 29).
- عليه أن يصغر، وعلى يسوع أن يكبر (يو 3: 30).
- لم يصنع العجائب (يو10: 40).
- هو بالاحرى شاهد ليسوع وسابقه ليعلنه لاسرائيل (يو 1: 29-34؛ 33:5)، علما بأن يسوع في غنى عنها (يو 5: 34). يوضح هذا لنا حين نقرأ يو 3: 22-26 لماذا بعض تلاميذ يوحنا لم يتبعوا يسوع. هل كان اليوحناويّون ضد يوحنا المعمدان؟
- في أعمال الرسل (19: 4) يتحدّث لوقا عن أبلّوس وبعض المؤمنين في أفسس (الموضع التقليدي الذي فيه كتب الانجيل). فإنهم لم يقتبلوا إلاّ معمودية يوحنا.
- اعتقد اتباع يوحنا المعمدان أنه المخلص، وليس يسوع. ولذلك كان اليوحناويّون على خلاف مع تلاميذ يوحنا المعمدان، وكانوا يعتقدون أنهم سوف يعودون إلى المسيحية (يو 3: 22-26).

2- الذين يؤمنون بيسوع، او يدّعون أنهم يؤمنون به: المتنصرون من اليهود.
أ- المسيحيون- اليهود الذين لم يتركوا المجامع ولم يجاهروا بايمانهم. إنهم آثروا مجد العالم على مجد الله. لقد ظنّوا أن بامكانهم أن يؤمنوا بيسوع، من دون قطع ارثهم اليهودي. وفي نظر يوحنا، فضّلوا أن يبقوا تلاميذ موسى.
ب- المسيحيون الذين تركوا المجامع، ولكن يوحنا يرى أن إيمانه بيسوع، ليس سليما. يظنون أنهم ورثة لمسيحيّة نشأت في أورشليِم، تحت سلطة يعقوب أخي الرب. هؤلاء- يرفضون أن يكون يسوع إلهًا- لم يفهموا الافخارستيا أنها جسد ودم يسوع الحقيقيين- في نظر يوحنا، ليس هؤلاء بمؤمنين.
ج- المسيحيون الذين ينتمون إلى الكنائس الرسولية: جميع الذين انفصلوا عن المجامع أكانوا من الجماعات المؤلفة من اليهود أو من الأمميين، واعتبروا أنفسهم ورثة لمسيحية بطرس والاثني عشر. قبل هؤلاء يسوع مسيحًا، من سلالة داود، ولد في بيت لحم، وهو ابن الله، منذ الحبل به. إلاّ أنهم لم يكن لديهم رؤية واضحة عن وجوده الأزليّ، قبل الخليقة. أما تصوّرهم للكنيسة، فهو أن يسوع أسّس كنيسة وأسرارًا، ولهذه الكنيسة بنية حية، لها رعاة يكمّلون واجبهم التعليمي والرسولي. وبحسب رؤية يوحنا، لم يفهموا يسوع فهمًا كاملاً، ولا دور الفارقليط. يصلّي مسيحيو يوحنا لتتم الوحدة معهم.
دور التلميذ الحبيب
ربما نجد صلة بين تلاميذ يوحنا المعمدان والجماعة اللاحقة التي تمحورت حول التلميذ الحبيب. يقول تيان "كان التلميذ الحبيب الشيخ الذي تتحدّث عنه الرسالة الثانية والثالثة ليوحنا، من دون أن يكون شاهد عيان لرسالة يسوع، وكان له دور مميَّز بحكمه الصائب، ليحكم بين التفاسير ويبتّ بين ما هو حق وبين ما هو خطأ. إن نصوص الانجيل الرابع التي تتحدّث عن التلميذ الحبيب، هي اضافات من قبل كاتب الانجيل، وغايتها محاربة ديوتريفوس الذي يرد ذكره في 3 يو 9-10، والذي رفض الاعتراف بسلطة الشيخ. وهو خائن. ولم يستطع انسان أن يكشف عما إذا كانت آراؤه صحيحة إلاّ التلميذ الحبيب (يو 13: 21- 30)". هذا الوجه الغريب والمليء بالاسرار والغموض والذي لم يرد ذكره إلاّ في الانجيل الرابع، يعتبر بطل الجماعة. الا أن عددا من المفسرين رأوا فيه شخصًا "وهميًا". أما نحن فنعتبر أن هذه النظرية غير منطقية. ولو قبلناها، فهذا يعني أن الذي كتب 21: 20-23 قد خدعه البعض، أو كان يخدع الناس، لأنه ينقل لنا قلق الجماعة عند موت التلميذ الحبيب. وبالتأكيد قدم هذا التلميذ كوجه مثالي. في رأي برون الدراسات والبحوث عن كنيسة يوحنا، تقدمه لنا بكل وضوح شخصًا تاريخيًا، رافق يسوع. وعند دراسة تاريخ الجماعة، نرى أن المسيحيين الذين ينتمون إلى كنيسة يوحنا يختلفون عن بقية الفئات المسيحية الأخرى التي كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بذكريات الاثني عشر، وببطرس، بشكل خاص. استطاع المسيحيون اليوحناويّون أن يدافعوا عن رؤيتهم الخاصة بالكرستولوجيا والاكليزيولوجيا، إذ إنهم كانوا يعنلون انتماءهم المباشر لشهادة التلميذ الحبيب. إن تقدّم هذا التلميذ على بطرس في الانجيل الرابع بديهي، وإن كان تقديمه بهذه الصورة قد خلق ردّ فعل معاكس، إن كان شخصًا وهميًا او رمزيًا، فإن لم يكن قد تبع يسوع بالفعل، لكان الدفاع الشخصي للجماعة، في هذه الحالة، قد انهار. ولكن قد لا يكون وراء التلميذ الحبيب شخص تاريخيّ، كل مرة تشير إليه نصوص الانجيل الرابع. ويؤكّد شناكنبورغ أن هذا التلميذ، وإن رافق يسوع في حياته، فهو لم يكن حاضرًا في العشاء الأخير، وأنه ليس التلميذ الذي اتكأ على صدر يسوع، أثناء العشاء.
كما أن أسلوب كاتب الإنجيل الرابع في ابراز دور هذا التلميذ، يفوق بكثير أهميته أثناء رسالة يسوع. وهذا ما يلاحظه المراقب الذي يقرأ الأحداث من الخارج. يعتبر كاتب الانجيل هذه المسألة مسألة شعور شخصيّ، وليست غايته الخدعة.
على ضوء الدراسات حول جماعة يوحنا نقول، وبكل تأكيد، بأن الانجيل الرابع ليس مجرد شاهد عيان دونّت أقواله دفعة واحدة. هناك إجماع لدى المفسرين من أن الانجيل جاء نتيجة نضج طويل. يميل الاقدمون (في القرن الثاني) إلى تبسيط مسألة الانجيليين تبسيطًا مبالغًا فيه، إلى حد أنهم كانوا يقيمون صلة مباشرة بين الانجيليين من أنهم شهود عيان مباشرين لنشاط يسوع.
وراء "يوحنا" عدة شخصيات: التلميذ الحبيب، يوحنا الرسول، يوحنا مرافق بطرس في نشاطه الرسوليّ، وقد تكون شخصية آخرى وراء "كاتب" الانجيل الرابع.
وبالرغم من عدم تتطابق كلّ الآراء في تحديد هوية كاتب الانجيل الرابع، وبالرغم من عدم ذكر يوحنا اسمه، إلا أنه لا ينبغي التوقف على الشاهد، بل على من هو موضوع البشارة الذي أوصله إلينا، من خلال خبرة عميقة ومعرفة شخصية، في مسيرة نضج روحي. إنه الشاهد عن حياة الجماعات المسيحية في نهاية القرن الاول.
يوحنا والذين خارج الجماعة
أدّى دخول الوثنيين في الجماعة إلى تعديل (إعادة النظر) في فكر يوحنا ليكون أكثر فهما وأكثر تشوقا. الشمولية ليست غائبة عن فكره اللاهوتي وهو يؤكد "أن الله أحب العالم حتى إنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. فإن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم" (يو 3: 16-17). ولكن مع هذه النظرة الشمولية، فإن الانجيل إنجيل دعوى بكامله. هناك من حُكم عليهم والذين لهم الحياة "من آمن به لا يدان ومن لم يؤمن به فقد دين منذ الآن لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد. وإنما الدينونة هي أن النور جاء إلى العالم ففضّل الناس الظلام على النور" (يو 3: 18- 21).
يستعمل يوحنا- وبهذا يختلف عن الأزائيين- المفارقات والعبارات المتناقضة. والغاية من ذلك أن يقود القارئ إلى أن يبصر النور الذي يشعّ من جماعة مؤمنة، وهذه النقطة تشكّل محور الانجيل.
تعكس رسائل يوحنا الطابع المميّز للجماعة اليوحناويّة وتشدد على "الشركة شوتوفوتو": "ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به أنتم أيضًا لتكون لكم شركة معنا..." (1 يو 1: 3). للجماعة شركة واحدة: إنهم كلهم أولاد الله. والكلام في "أحبوا بعضكم بعضًا" هي الوصية الجديدة الموجهة إلى هذه الجماعة. هذه المحبة مصدر فرح وسلام للذين يشاركون الرؤية مع يسوع (يو 15 :11 و27:14).
إن إيمان يوحنا الشفّاف وحسّه المرهف، ليسا مجرد فحص تجريدي من دون أن يكون له أيّ ارتباط مع حياة الجماعة. وصعوبة الايمان بيسوع كانت في الايمان به كـ "كلمة" الله الآتي من الله، "الذي أحب العالم" (يو 16:3 و8:4-9). تصبح علاقة يسوع بأبيه نموذجا لجماعة التلاميذ: "إذا أحب بعضكم بعضا عرف الناس جميعا أنكم تلاميذي" (يو 13: 35). إعترض بعض الباحثين بأن هذا الشعور، أي شعور المحبة داخل المجموعة، والمعارضة (المعاداة) من خارجها، جعل منها خلية منغلقة على ذاتها، لها لغة خاصة بها، ولا يفهمها من هو خارج عنها. ويقول ميكس بأن القارئ المنسجم مع الانجيل بكامل شعوره وإحساسه يستطيع فهم المعاني المزدوجة وحركات أسلوبه اللولبية. وحتى بالنسبة للذين كانوا قريبين من الجماعة، مثل نيقوديموس الذي جاء يبحث، إلاّ أن النقاش معه ظل في طريق مسدودة. ولذلك نرى يوحنا يذهب أبعد من الازائيين، إذ إن الحوار مع يسوع يهدف إلى حث القاريء ليفهم، سواء مع نيقوديموس ومع السامرِية، أم في الخطب الاخرى. ليس الانجيل حكرًا على جماعة منغلقة، ولم يتوخَّ الكاتب إثارة إعجاب الذين أتوا من خارج الجماعة، إنما حث جماعته على فهم يسوع بشكل أعمق. جاء يسوع من عند الآب، ولكنّه يظل غير مفهوم، كالانجيل الذي في غالبية فصوله يصعب فهمه. ولكن هدف يوحنا في كتابة الانجيل ليس أن يكتب بأسلوب غامض، بل ليقنع المؤمنين ليصبحوا مسيحيين، أي حث القارئ لمعرفة ذاته والتحلّي بالثقة. أما المسألة الجوهرية عند يوحنا فهي علاقة المؤمنين بالله، بيسوع ومع يسوع. قيل أن يوحنا في آخر أيام حياته أصبح بسيطًا بحيث كان يخاطب الحمام، وكان يقول لجميع من يأتون لزيارته "أحبوا بعضكم بعضًا". إنجيله أغنى الأناجيل، وأكثرهم تعقيدًا، وربما لكونه بسيطًا استطاع أن يسبر أعماق كنوز حكمة الله.
لا تغيب عن إنجيل يوحنا وعن رسائله التوترات التي شملت المؤمنين اليوحناويّين وغير المؤمنين. لا بل إنها تتحدّث عن صراعات. سنتوقّف عند إبرز هذه المجموعات التي لا تؤمن بيسوع وترفضه.
مؤمنون آخرون في الإنجيل: مؤمنون مهـن اليهود، ولكن يسوع يرفضهم (يو 8: 31). وآخرون، هم من التلاميذ. تراجعوا وتخلّوا عن متابعة يسوع (يو 66:6).
من ناحية أخرى نجد بعض المؤمنين الذين ينظرون إلى يسوع بطريقة تختلف عن تلك التي تنظر إليه الجماعة اليوحناوية، مثل فيلبس الذي تبع يسوع عدة سنوات، ولكنّه لم يعرفه (يو 14: 9). وهناك مؤمنون يلزمون الصمت. إنهم يهود في المجمع (يو 12: 42-43). رؤساء آمنوا، ولكنّهم لم يجاهروا بإيمانهم لئلا يطردوا من المجمع. لا يحب يوحنا موقفهم لأنهم "فضلوا المجد الآتي من الناس على المجد الآتي من الله". يبرز الفصل التاسع قصة الاعمى التي توجز هذا الجانب: لم يخف الأعمى ايمانه، حتى لما طرد من المجمع (يو 9: 22-23). قصة الأعمى هذه تترجم قصة الجماعة اليوحناوية التي لا ترضى بحلول وسط.
ولذلك فإن الانتقادات اللاذعة أحيانًا التي يوجّهها يوحنا إلى اليهود تنطبق على اولئك المؤمنين الذين يخافون أن يجاهروا بإيمانهم الذي يعتبره ناقصًا، إلاّ أنهم لم يؤمنوا بيسوع بصورة كاملة. إنهم يفضلون أن يظلوا كاليهود تلاميذ موسى، من أن يصبحوا تلاميذ يسوع (يو 27:9-28). بالتأكيد لم يشارك هؤلاء نظرة يوحنا ولم يشاطروه في انتقاده المجمع. إن المسيحية تبنّت خطّ يوحنا وابتعدت عن المجمع.
الكنائس اليهوديّة المسيحية: إيمانها غير كاف
يهود آمنوا، وخرجوا من المجمع لأنهم طردوا منه، وأسسوا كنائس. يتخذ يوحنا موقفا عدائيا تجاههم ويوبخههم بسبب إيمانهم الناقص.
* الفئة الاولى تبنّت موقفها بعد خطبة خبز الحياة التي ألقاها يسوع في المجمع (يو 6: 60-66). رفض هؤلاء يسوع حين يقول عن نفسه إنه خبز الحياة النازل من السماء (يو 6: 41-42)، أو إنه جسد ودم (يو 6: 53). وإن كان يسوع بعد خطبته كلّم من يسميهم يوحنا "تلاميذ"، فهذه إشارة إلى الذين كانوا يتبعونه علنا. ونرى في يو 67:6 أن من بين الاثني عشر من تذمروا مما قاله يسوع في المجمع. كلمات يسوع عن خبز الحياة الذي يرمز إليه جسده ودمه، كان من الصعب قبوله، ولكن يسوع يجيب أن كلامه روح وحياة. بعض التلاميذ لم يؤمنوا فعلاً، أما الذين آمنوا به وتبعوه، فهم من مشيئة الآب (يو 66:6). "فارتد عندئذ كثير من تلاميذه وانقطعوا عن السير معه". وربما فكر يوحنا باليهود المسيحيين الذين لم يؤمنوا، لأنهم لا يشاطرون رأي يوحنا في الافخارستيا.
* الفئة الثانية هم اليهود المسيحيون ذوي إيمان متأرجح، وربما يكون إخوة يسوع من بين هؤلاء (يو 7: 3- 5). إنهم طلبوا من يسوع أن يصعد إلى أورشليم ليصنع معجزات، ويظهر نفسه للعالم. رأى البعض في ملاحظة يوحنا "إخوته" أنها جماعة اورشليم، وكانت تتمتع بمكانة خاصة في كنائس فلسطين حتى القرن الثاني. نجد من بين إخوته من لم يؤمن به. ولهذا فان إخوة يسوع الحقيقيين هم من آمن من التلاميذ. ولهذا تصبح أمُّ يسوع أم التلميذ الحبيب. وفي يو 8: 31 يتكلّم يوحنا عن اليهود المسيحيين الذين ايمانهم غير كاف. يسوع يخاطبهم ويتحدّث معهم ليتحقّق إن كانوا أحرارًا أم عبيدًا.
وأخيرًا ما يثير الدهشة هو انتقاد يسوع (يوحنا) للمرتزقة "الاجراء" الذين لا يحمون القطيع من فتك الذئاب (يو10: 12). ليس الاجراء الفريسيين رؤساء المجمع الذين سيتحدّث يوحنا عنهم في مطلع الفصل العاشر عن الراعي الصالح (يو10: 1)، هؤلاء هم لصوص. فالاجراء هم بالاحرى رعاة يمثلون رؤساء مسيحيين يهودًا لم يبعدوا القطيع عن اليهود، لأنهم شكّوا برأي جماعة يوحنا ورأوا أن المسيحية حلت مكان اليهودية. وفي القرن الثاني سنقرأ نصوصًا من آباء الكنيسة تتطرّق إلى القطيعة التي تمّت بين الكنيسة واليهود المسيحيين، واعتبروا هراطقة. ويذكر اغناطيوس الانطاكي في رسائله الموجهة إلى كنائس آسيا الصغرى هذه الجماعة التي كانت تعترف بيسوع معلمًا، ولكنّها لم تعترف به الهًا. يقبلون المائدة المقدّسة على طريقتهم كذكرى لكسر الخبز، ولكن لا في الشركة مع اغناطيوس. يتناقض لاهوت يوحنا وجماعته مع لاهوت اليهود المسيحيين.
لقد شارك اليهود المسيحيون المجمع الذي انعقد في نيقية سنة 325 م. كانت مسيحية آريوس أقدم من مسيحية أثناسيوس الاسكندري. وكان آريوس يعرّف المسيح بهذه العبارات "في البدء كان الكلمة"، وفسّر هذه الآية على طريقته، أي أن للكلمة بداية. أما أثناسيوس فأنه أقنع آباء المجمع لتبني عبارات في قانون الايمان الذي نردده اليوم، وكانت أحدث من تلك التي كانت متداولة "اله حق من اله حق، مولود خير مخلوق، مساو للآب في الجوهر". وفعل هذا بذكاء ودهاء.
المسيحيون في "الكنائس" الرسولية
إنها الجماعة الملتفة حول بطرس وجماعة الاثني عشر والتي يتزعّمها بطرس. لا يستعمل يوحنا كلمة "رسل"، وان هذه المجموعة ليست من الجماعة التي أسّسها. وذكر فيلبس وأندراوس (يو 12: 20) في طلب اليونان أن يروا يسوع، فسّر كانفتاح على الوثنيين. بالتأكيد جماعة يوحنا تتكوّن من اليهود والوثنيين. ولكن يوحنا يشير إلى جماعة خاصة تلتف حول بطرس والاثني عشر. يشير يوحنا إلى هذه الجماعة بعد خطبة خبز الحياة والتي كانت مناسبة لغربلة العديد من التلاميذ (يو 6: 60-69)، حيث نجد مجموعتين من تلاميذ يسوع: المجموعة الاولى هم الذين تركوا المجمع. إنهم مع يسوع، ولكنّهم ارتدوا عنه في ما بعد، بسبب الكلام الصعب عن خبز الحياة. يمثّل هؤلاء التلاميذ الكنائس اليهودية بإيمان غير كامل. أما المجموعة الثانية فهم الاثني عشر ويتكلّم بطرس باسمهم. إنهم لم يتخلوا عن يسوع: "إلى من نذهب يا رب فإن كلام الحياة عندك". من خلالهم نسمع صوت المسيحيين الذين لهم ايمان حقيقي، يجسّده بطرس والاثنا عشر.
هل الجماعة اليوحناوية بدعة
هل تكون جماعة يوحنا قد انسلخت عن بقية الجماعة المسيحية؟ الجواب هو أن لليوحناويّين صلة ببعض المجموعات التي ورد ذكرها من قبل. ليس اليوحناويّون وحدهم مناهضين للمجمع، علما بأن لهجة يوحنا أشد قسوة من بقية كتّاب العهد الجديد. كان اليوحناويون على يقين أنهم يملكون الحقيقة، أما الآخرون فهم غير أصيلين. تتسم مواقف يوحنا بالراديكالية والرؤية الرفيعة. يسوع يوحنا متغرب عن العالم وعن خاصته. للتلميذ الحبيب، وهو بطل الجماعة، حب خاص ليسوع، وهو الوحيد من بين الآخرين لم يتخلّ عن يسوع. اليوحناويّون هم الذين فهموا يسوع، وهم مثله منبوذون ويضطهدهم العالم. مسيحيتهم أعمق، وهم على حق، لأن الروح القدس يرشدهم إلى الحق.
ليست جماعة يوحنا بدعة. إنها لم تنشطر عن بقية المجموعة. حضور بطرس وباقي التلاميذ أثناء العشاء، ووصية المعلم "أحبوا بعضكم بعضًا، كما أحببتكم"، يعني أنهم يشاركون رجاء واحدًا للمستقبل إلى أن تتم الوحدة: "لي خراف أخرى ليست من هذا القطيع، عليَّ أن آتي بها فتسمع صوتي، فتكون رعية واحدة وراع واحد" (يو 10: 16). وكذلك الصلاة الكهنوتية بحضور بطرس والتلميذ الحبيب (يو 17: 20- 21). صلى يسوع "أو هي صلاة يوحنا" من أجل وحدة المسيحيين "الرسوليين" والمسيحيين اليوحناويّين. فالجماعة اليوحناويّة ليست بدعة لها طابعها، وتستقبل من يطلب الانضمام إليها من الجماعات الاخرى، وإن جاؤوا من تقليد مغاير لتقليدها، لأنهم آتون من المسيح.
كاتب موشحات سليمان تلميذ في مدرسة يوحنا
صور ورموز مشتركة تتخلّل صفحات كتابات يوحنا والموشحات، كالماء الحي والحياة الأبدية "الخالدة" والروح والكلمة. هذه المواضيع أساسية في كتابات يوحنا والموشحات. كاتب الموشحات يشارك يوحنا في رؤيته للخلاص والكرستولوجيا، هذا إذا اعتبرنا أن بلورة الفكر اللاهوتي- إذا جاز لنا التعبير، عن الكرستولوجيا بالمعنى المألوف- لم تستجّد إلا لاحقًا. وحتى إذا وجدنا أن مؤلفات العهد الجديد قد بلورت لاهوتا حول المسيح، فينبغي إنتظار قرنين أو ثلاثة قرون، لكي تأخذ هذه الكرستولرجيا شكلها المعروف، في صيغ محددة، وتعابير فلسفية، كما أقرّتها المجامع المسكونية، في القرنين الرابع والخامس، أي في مجامع نيقية وأفسس وخلقيدونية، حيث نوقشت مسائل لاهوتية وكرستولوجية، وفيها تمت صياغة قانون الايمان الذي نتلوه اليوم في كنائسنا.
لا يكفي طرح السؤال إن كانت الموشحات، وكتابات يوحنا، ثمرة بيئة ثقافية وروحية مشتركة، إنما ينبغي طرح السؤال عن بيئة يوحنا نفسها، والتي تجيب على جوانب كثيرة من العناصر التي نجدها في الموشحات. فمن أسلوب الجدل الذي نجده في مقاطع متعددة، إلى الاشارات الواردة في الرسالة الاولى ليوحنا (1 يو 2: 18-23، 26؛ 3:4؛ 2 يو 7)، هذه كلّها تشهد للخلافات والصراعات التي عصفت بالجماعة اليوحناويّة. وعندما نقرأ على سبيل المثال، الفصل السابع عشر من إنجيل يوحنا، والذي يطلق عليه "الصلاة الكهنوتية" الصلاة التي يضعها يوحنا في فم يسوع (تكون صلاة يوحنا، أو صلاة تلميذ من تلاميذه) هي صلاة من أجل وحدة الجماعة التي تعاني من انقسام داخل أعضائها. نستنتج من ذلك أن الجماعات التي توجّه إليها كاتب رسائل يوحنا، مرّت في أزمات حادة. ثمة إشارات توحي بأن جماعة يوحنا كانت منقسمة، وأن أفكار مضادة للوحي المسيحي أوشكت تهدد "أورثوذكسية" الايمان. كما نلاحظ أن هذا الانقسام أثّر في كتابة الانجيل في صيغته النهائية. وفي رأيه كان كاتب رسالة يوحنا، والمنشّقون الذين ورد ذكرهم في هذه الرسالة حريصين على البقاء أمناء لتقليد معلّمهم يوحنا، في تفسيرهم الصائب للانجيل الرابع لما كان للتلميذ الحبيب من دور ومكانة مرموقة وسط جماعته.
إن النزاع داخل الجماعة لم يحدث من جرّاء تقليدين مختلفين، بل بسبب تفاسير مختلفة لفكر يوحنا. الرسالة الأولى ليوحنا تتحدث عن الذين "خرجوا عنها". وفي رأي برون وبرونسون، في القرن الثاني، وتحت تأثير كاتب رسالة يوحنا الاولى انضمت فئة إلى الكنيسة الكبرى، ومال منشقون آخرون إلى الاوساط الغنوصية. وإن الدراسات حول نشأة المسيحية كما نعرفها من مدرسة يوحنا، سوف توجّه تحليلنا في المماثلة القائمة بين الموشحات والتقليد اليوحناوي. إننا نشير إلى جدية دراسات برون الذي كتب بأن جماعتين (ربما أكثر) في بداية القرن الثاني، كانتا تدّعيان الانتماء إلى مدرسة يوحنا، ولكن نقاط خلاف كانت قائمة بين هذه المجموعات، لاسيّما في موضوع الخلاص والكرستولوجيا. كانت هذه التيارات تشكّل خطرًا على الجماعات التي كانت ترى في انجيل يوحنا، تعبيرًا شرعيًا ومطابقًا لايمانها.
الخلاص والكرستولوجيا عند كاتب الموشحات والمنشقين، يختلفان عن نظرة يوحنا. هذه المجموعات المنشقة أعطت تفسيرات غنوصية، أو صنفت خطأ في خط لاهوت الظاهريين. إن نقاط النزاع الأساسية بين هذه المجموعات المسيحية- اليهودية ويوحنا هي حول الكرستولوجيا. إن الذين واكبوا المسيح، وعرفوه، ورأوه، وسمعوه، لم يطرحوا السؤال حول انسانيته، لأن ذلك كان بديهيًا لهم، لكونهم "شهود عيان". ولهذا، فالايمان بوجود ابن الله الازلي، يعتبر أمرا جوهريا للبشرى التي يعلنها يوحنا. ولكن الانجيل الذي كتب بعد غياب هؤلاء التلاميذ الذين كانوا شهود عيان، طرح السؤال لفهم علاقة يسوع الانسان بالله.
البيئة المشتركة للموشحات وللتقليد اليوحناوي
إن التشابه بين الموشحات والتقليد اليوحناوي أمر واضح. يمكننا أن نقوم بمقابلات عديدة ملفتة للنظر. وفي حالة تصنيف الموشحات في لاهوت غير "أرثوذكسي"، لأنها تميل إلى التقليل من شأن التجسد، إلاّ أنها ليست غنوصية، ولا تنتمي إلى تيار ظاهريّ. الموشحات قريبة من يوحنا، وهي تنشد وتسبّح، كما فعل يوحنا، حضور الكلمة "ملتو"، مصدر النور، والحياة للعالم، ولكن بأسلوب يختلف عن أسلوب يوحنا. غير أن الشاعر ينفرد بموضوع الابن، المولود من عذراء، لم يتطرّق إليه الانجيل الرابع، ويتحدّث عنه بعبارات غريبة، تسبق بلورة لاهوت ميلاد يسوع من عذراء، كما جاء في أناجيل الطفولة. فكره بدائي، إذ إنه يتحدّث عن الولادة من عذراء، وثديي الآب والحليب الذي يجرى منهما، ويعتبر الروح مؤنثًا. إن المعالجة التي يقوم بها كاتب الموشحات تبدو غريبة لأول وهلة، إذ إننا اعتدنا على تعابير لاهوتية وعقائدية عن الثالوث والتجسّد والفداء. لا عجب أن تكون الموشحات حمدًا وتسبيحًا، تتّسم بالبساطة، ونقاء الروح، وصفاء التعبير. يعتمد الكاتب على لغة صوفية واختبار روحي وصوفي ليتكلم عن الكلمة المتجسد. في قلب الاختبار الروحي، تتم العلاقة مع "الكلمة ملتو" المتجسد، ومن دونها يكون اللاهوت جافا، وعلم تفسير الكتاب المقدس، عقيما. في هذه المرحلة، كان المؤمنون والشعراء المسيحيون، يعيشون في جو من الحياة المدهشة التي كانت في الوقت ذاته حياتهم، والتي لم يكن بوسعهم أن يحلّلوها أو يحدّدوها، بصورة منهجية وعقائدية، بسبب إعجابهم بما ينهلونه منها.
إن كان كاتب الموشحات ويوحنا عاشا في ذات البيئة، فإنهما يختلفان من حيث الثقافة والتعبير. لقد أعاد كاتب إنجيل يوحنا النظر في بعض الافكار، وعالج بعض ما تبقّى من آثار غنوصية هيمنت على الانجيل، قبل تحريره النهائي، وكتابته في شكله الحالي. أما الموشحات فتكون أقرب إلى جماعات المنشقين الذين يذكرهم كاتب رسالة يوحنا الاولى. فإن لهذا الأخير ردود فعل ضد الافكار التي نجدها في الموشحات. كانت هذه الافكار تهدّد وحدة الجماعة، وتشكّل خطرًا عليها. أما كاتب الانجيل، فبعد أن أعاد النظر في بعض الافكار، والغنوصية منها، رأى في الإنجيل الرابع، إنجيلاً قانونيًا، أي تعبيرًا شرعيًا، ومرجعًا لايمان جماعة الرسول يوحنا.
لـ "الكلمة" دور بارز في الموشحات "أفتح فمي/ فيتكلّم بي روحه/ (أتحدث) عن عمل يديه/ وصنع أصابعه/ عن كثرة مراحمه/ وقدرة كلمته/ فإن كلمة الرب تدرك ما لا يرى/ وتكشف مقصده" (الموشحة 16: 5-8). وتتحدّث الموشحات وكذلك مقدمة إنجيل يوحنا، عن التجسّد، ولكنّها تعبّر عنه بطريقة غريبة، وبأسلوب غير مألوف "عضدًا وجدت في الرب/ عرّفني نفسه بسخاء وبساطة/ ولطفه أظهر (صغّر) عظمته/ صار شبيها بي، لكي أقبله/ بالشكل صار على مثالي، لأتشح به/ لم اخف لما رأيته/ لانه تحنن علي/ أصبح مثل طبيعتي، حتى أدركه/ ومثل صورتي، لئلا ارتد عنه" (الموشحة 3:7-6). الكلمة هو النور "عملها ليهون مثل توقعها/ إنها نور للفكر وشروقه" (الموشحة 7:12). وتربط الموشحات بين مجد الله الذي يتنازل، والنور الذي ينعم به البشر بفضله "نهار عظيم نارنا/ وعجيب من وهبنا تسابيحه" (الموشحة 41: 4).
وكما في مقدمة إنجيل يوحنا، في الموشحات، يميّز الكاتب بين من هم "خاصته"، والذين هم في "الظلمة"، أي الذين لم يعرفوه "رفع صوته إلى العلى/ وقدم له الابناء الذين صنعتهم يده" (الموشحة 31: 4). ثم يليه موجز لقصة نشأة الكون، تختمها أنشودة لـ "لكلمة" "ولا شيء يثبت بعيدا عن الرب/ فهو كائن، قبل كل شيء/ بكلمته كانت العوالم/ وبفكر قلبه وُجدت" (الموشحة 16: 18- 19).
ومن المواضيع الاساسية في الموشحات، الحياة الأبدية. في إنجيل يوحنا، إنها مركز رسالة يسوع. الحياة الأبدية هي الله بالذات، وليست مجرد معرفة غامضة، بل عرفان جميل لذات الله الحق الاحد، إله يسوع المسيح، المرسل من قبله. تُمنح هذه المعرفةُ بالايمان بيسوع، ومن خلال أعماله. ولكنّ اكتمالها يتم في الأزمنة النهيوية. أما الحصول عليها، فيتمّ بالايمان بالمسيح، رسول الله، أي الايمان به، لكونه ابن الله. فالايمان فعل يتم في "المعرفة"، وهو تقبّل كلام المسيح، والامتثال له. على أن الايمان بالحياة "التي لا تموت، حايي لو ميوتي"، يعني أيضًا، تقبّل سرّ العماد، وسرّ الافخارستيا.
أما الموشحات، وخلافا الانجيل، فهي تجهل سبل الخلاص من خلال الاسرار، الامر الذي لا يمنعنا من استخلاص نتائج ملموسة عن الحياة الأبدية، وإن اختلفت في التعبير.
ليس الماء الحي رمزا خاصا بالموشحات، ولا بالكتابات اليوحناوية. يعالج العهد القديم موضوع الماء رمزا لتحقيق الأزمنة المسيحيانية ويرمز إلى محبّة الله. في الموشحة الثالثة، فرع طعّم من شجرة نشيد الاناشيد، ومن كتب حكمية (أم 7: 35-36 و8: 17)، ومن كتب الانبياء.
"ملتو- لوغوس" الكلمة
يعبّر كاتب الموشحات عن الكلمة "ملتو"، كما يعبّر يوحنا عنه بكلمة "لوغوس". ينشد يوحنا للكلمة. مقدمة الانجيل نشيد رائع للكلمة وهي أشبه بسمفونية: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى... به كان كل شيء... فيه كانت الحياة... والكلمة صار جسدا وحلّ فينا". أما الموشحات، فهي بكاملها، نشيد للكلمة الحال في الجماعة المسبّحة. ولكن أن كان كلام يوحنا عن تجسد "الكلمة" صريحا وواضحًا، إلاّ أن الشاعر لا يقول مباشرة وبوضوح، إن الكلمة صار جسدا، وإن وجدنا في كلامه ما يعبّر عن حقيقة تجسد "الكلمة": "مسكن الكلمة هو ابن الانسان، وحقّه هو الحب". تشدد هذه العبارة بالاحرى على النور الذي يضيء كلّ انسان، وعلى تجلي الانسان. التركيز هو إذن على تجلي الله في الانسان. هذه الكرستولوجيا ميزة للاهوت الشرقيين الذين يركّزون على تجلي الله، وتأليه الانسان، من دون أن يتعارض مع اللاهوت الغربي "اللاتيني" الذي يشدد على تجسد الله. يؤكّد ايريناوس وهو وريث فكر يوحنا: "أصبح الله إنسانا، ليصبح الانسان الها". لا يهتم الشاعر، وينطبق هذا على يوحنا، بكيفية التجسد بمعناه اللاهوتي، بل بحضور الكلمة في الخلق والعالم والجماعة. نجد توازيا بين فكرة كلمة "ملتو" وفكرة مسكن الكلمة في الانسان، وهذه الكلمة هي التي تجسدت في بالمسيح، كما تعبر عنها الموشحة "تسير الخلائق بمسارها وتقضي أعمالها، لا تعرف البطالة ولا التوقف. القوات تطيع الكلمة" (الموشحة 16: 13-14). "بكلمة كانت العوالم وبفكر قلبه وجدت". وهذا التعبير مطابق لنشيد الكلمة عند يوحنا: "به كان كل شيء" (19:16). ولا جديد إن قلنا بأن مقدمة الانجيل بعيدة عن المسائل التي تمس عقيدة التجسد، وعن الملابسات والتعقيدات اللاهوتية التي ستعالج لاحقًا.
الكلمة في نظر الشاعر شخص متجسد، ولقد عبّر عن هذه الحقيقة في الموشحة 16: 13-14. "الكلمة" بحسب يوحنا هو بالتأكيد، "الكلمة الذي يرد في الموشحات. إنه الله الذي نصب خيمته بيننا. وهو "ابن الانسان، برنوشو" الذي أصبح مسكن الله. يسوع هو تجليّ الله، ومن ثم، كل انسان، يصبح مسكن الله. وكاتب الموشحات يعبّر عن الكلمة، مستعينا بكلمتين: "فتغومو" و "ملتو". أما تفرّد الكاتب في استعمال "فتغومو" للتعبير عن الكلمة الالهي، فهذا تعبير خاص بالموشحات، ولا نجده في مكان آخر، إذ اننا لا نجد هذه الكلمة على الاطلاق في تاريخ تطور الكرستولرجيا، وهذا ما يجعلنا نستنتج بأن الموشحات ترقى إلى عهد قديم. وقد ذهب الباحثون الذين انكبّوا على دراسة تعابير الكلمة في الموشحات، إلى الاستنتاج بأن المؤلف معاصر ليوحنا، إن لم يكن قد عاش قبله. والنظرية الارجح هي أن يوحنا والشاعر، نهلا من بيئة فكرية وثقافية مشتركة.
الماء الحق، ماء الحياة
حدّ الموشحات عن الماء الحق "فعرها كل من في الرب/ وعاشو بالمياه الحق، إلى الأبد" والموشحة "شربت، وسكرت/ من مياه الحياة التي لا تموت". والموشحة "مثل سيل المياه، يجري الحق على فمي/ وشفتاي أظهرتا ثماره" (الموشحة 6: 18؛ 11: 7؛ 12: 2). لهذا الموضوع أهمية في الأدب البيبلي، وهو مشترك للموشحات وليوحنا. لكن السؤال الذي نطرحه هو ما الذي يجمع بين الكاتبين في استعمالهما رموز الماء هذه؟
إن استعمال كل من الكاف لهذا التعبير يُظهر الأهمية الكبرى التي يوليانها له. بالماء الحق هبة من الله "فالعلي هو الذي اعطى الشراب"؛ "إستقوا لكم ماء من نبع الله الحق، لأنه تدفّق عليكم" (الموشحة 6: 12؛ 30: 1). وفي إنجيل يوحنا نجد أهمية هذا الماء "لو كنت تعرفين عطاء الله ومن هو الذي يقول لك: اسقيني، لسألته أنت فأعطاك ماء حيا" (يو 4: 10). وهذا الماء يروي ظمأ العطشان "شرب كل عطاش الارض، والعطش كفّ وزال" (الموشحة 6: 18؛ والموشحة 11: 7). ويعبّر يوحنا أيضًا عن حقيقة هذا الماء "واما الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا إيّاه فلن يعطش أبدا، بل الماء الذي أعطيه إياه، يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبدية".
الماء الحي رمز لكشف الروح الذي يهبه يسوع للمؤمنين، ويرتبط مباشرة بماء المعمودية، كما لاحظ برون. ونجد هذه الرموز في الموشحات "مياه ناطقة دنت من شفتي، من نبع الرب، بسخاء. لم تكن نشوتي عن جهل إلا أنني تخليت عن الباطل" (الموشحة 11: 6-8). وتعابير "الماء" أو "المياه" قريبة من نصوص يوحنا (4: 10- 15). فالشاعر ويوحنا، يركزان على الدعوة الموجّهة إلى كلّ العطاش "ليرتووا ويستريحوا إلى نبع الرب" (الموشحة (30: 2)، وكذلك عند يوحنا "وفي آخر يوم من أيام العيد، وقف يسوع ورفع صوته وقال: إن عطش أحد فليقبل إليّ ومن آمن بي فليشرب". يجري هذا الماء الحي من "جوف" الرب: "ستجري من جوفه انهار من الماء الحي" (يو 37:7- 38). وفي الموشحات اشارة إلى الماء الذي يخرج من شفتي الرب (30: 5) "لأنه خرج من شفتي الرب، ومن قلب الرب نال اسمه". وتدفق هذا الماء الحي يصبح نهرا: "جرى جدول، فغدا نهرًا عظيمًا واسعًا، جرف كل شيء واجتاحه، وحمله إلى الهيكل" (موشحة 6: 8).
وتتحدّث الموشحات عن خدّام الماء "طوبى لخدام هذا الشراب الذين استودعهم الله مياهه" ((موشحة 13:6)، كما تشير إلى سعة النهر وقوته، (موشحة 8:6-10؛ 8:11). وهي تستفيض في هذه الصور أكثر مما يفعله الانجيل الرابع، مثلاً: العلاقة بين الماء والرضا "الراحة"، (موشحة 30: 1-7). ولكن الدقة في التعبير وشعور يوحنا المرهف يعكس تفكيرًا لاهوتيًا أغنى وأعمق. إن عمق الخبرة الصوفية تتجلى عند كلا الكاتبين؛ وصور الاكليل، والكلمة، والحب، والحبيب، والحق والمعرفة، تتدفق بغزارة عند يوحنا والموشحات. الموشحة الاولى ويوحنا (15) يتحدثان عن الثمار، والعلاقة الحميمة التي تربط المؤمن بالله "الرب اكليل على رأسي، ولن أتخلى عنه. نسج لي اكليل الحق، وفي قلبي يزهر الاكليل ويثمر" (موشحة 1: 1-2).
يركز يوحنا ومؤلف الموشحات، على أهمية الخلاص الذي يتحقق اليوم، وليس وعدًا للمستقبل. فخبرة الحياة الخالدة "اللامائتة"، أو الحياة الأبدية، يعيشها الكاتب منذ الآن، ويختبر حقيقتها وديناميتها، في الحياة مع الله. ما أرق تعابير الموشحة الثالثة "حب الرب اتشح، وجوارحي عنده وأنا مشغوف به وأحبه. لم أكن لم عرف كيف أحب الرب، لو لم يحبّني. من يقدر أن يعرف الحب/ غير المحبوب. أحب الحبيب وتحبّه نفسي/ وحيث يكون رضاه أكون أنا أيضا. ذبت لأصبح حبيبا للحبيب/ لكي أحب ذلك الابن فأصير ابنا. من يلحق المائت/ هو أيضًا لا يذوق الموت. من يسرّ بالحياة/ يناله الحياة". ويعبّر يوحنا عن الحياة الأبدية بتعابير مشابهة (يو 11: 25 و14: 9).
وعن هذا الموضوع يكتب تشارلسوورت: "الموشحات ويوحنا ورثا هذه الرموز من كتابات قمران واستعارا هذه الرموز والصور من ذات البيئة، ولكنهما طوّراها، وعالجاها كل بحسب طريقته. أما دانيالو فيقيم صلة بين الموشحات، وبين مخطوطات قمران. وهذه الصلة تشكل تطورًا متوازيًا، حيث إنها نشأت في بيئة مشتركة، أي بيئة يهودية- مسيحية. إن تأثير كتابات قمران على لغة رسائل اغناطيوس، وأسلوبه لكبير، وهذا ما نجده عند 1 يو والموشّحات معًا.
ويقول كرالنغ: "في هذا الكتاب، كما في رسائل اغناطيوس، ظهرت مجموعة من العناصر المشتركة مع تعابير الموشحات، وهي مهمة ولكنّها ثمرة استشهاد تلقائي وحرّ، فكل الدلائل تشير إلى أنّ انطاكية هي البيئة الادبية، لا بل نذهب إلى القول، بأن الموشحات كتبت، قبل رسائل اغناطيوس الانطاكي، أي حوالي سنة 100 ب م.
الكرستولوجيا
يسوع الذي نعرف حياته وموته هو ابن الله الكائن قبل كل الدهور. أما الجدال فيرمي إلى التوفيق بين المسيح وحياة يسوع الأرضية. لا يقبل المنشقون بحسب تعبير يوحنا ظهور المسيح بحسب الجسد: "وما تعرفون به روح الله هو أن كل روح يشهد ليسوع المسيح الذي جاء في الجسد كان من الله وكل روح لا يشهد ليسوع لم يكن من الله. ذاك هو روح المسيح الدجال الذي سمعتم أنه آت. وهو اليوم في العالم" (1 يو 4: 2-3). كُتبت الرسالة في إطار، كانت فيه الجماعة الموجّهة اليها الرسالة، والمعارضون يتداولون عبارة "المسيح" ابن الله. يدور الخلاف بين الفئتين حول قراءة الانجيل الذي يؤكّد أن يسوع الكلمة المتجسّد، هو ابن الله، أي أن يسوع أبن الله، عاش ومات. تؤكّد الرسائل أن المسيح هو ابن الله. ينكر المنشقون يسوع المسيح الذي جاء بالجسد إذ إنهم كانوا يشهدون على الوهية يسوع، ويهملون حقيقة حياته الارضية.
يرى يوحنا حياة يسوع تجلي "الكلمة" في العالم، ولكن كرستولوجيته فسِّرت كتقليل من أهمية حياته الارضية، وتركت مجالاً لتفسير باتجاه الظاهريين. ولكن هذا التفسير مبالغ فيه، إذ إن يوحنا يشدّد على انسانية يسوع، وعلى حسّه المرهف. نراه مبتهجًا وقلقًا ومتألمًا وباكيًا. إنه إنسان بالكامل. يسوع الانسان هو التجلي لمجد الله "والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا فرأينا مجده، مجدًا من لدن الآب لابن وحيد ملؤه النعمة والحق".
لا تخلو تعابير كرستولوجية الموشحات من الالتباس. فهي قريبة من طروحات المونوفيزيين، وليس الظاهريين. لا تعبّر الموشحات عن إنسانية المسيح وأحاسيسه بوضوح. أثناء آلامه، يبدو وكأن الانسان اختفى "جميع الذين رأوني بُهتوا/ وحسبوني غريبا" (الموشحة 6:17). تهمل هذه الآية حقيقة حياة يسوع الأرضيّة، وكأنّ يسوع "اتّشح" الانسان، ولم يكن انسانًا شبيهًا بنا في كلّ شيء. في موضوع ولادة الابن أيضا، نقرأ بأنه ولد من امرأة، ولكن دون أن تحسّ بآلام المخاض، ولم تستدعي أثناء ولادته، حضور قابلة "وحبلت، وولدت ابنًا، من دون الم/ لأن ذلك لم يكن عبثًا. وما احتاجت إلى قابلة/ لأنه أحياها". "لم أهلك، لأني لم أكن أخًا لهم/ لأن مولدي لم ليهن مثل مولدهم" (الموشحة 19: 8-9؛ 28: 17). في الموشحة 19، إشارة إلى الحبل البتولي، ولكن العذراء ولدت من دون ألم، وهذا يقلّل من دور العذراء كأم حقيقية.
رأى البعض في ذلك حواء، المرأة الاولى "أم الأحياء"، التي ولدت بنيها بألم، بحسب سفر التكوين. وأراد الكاتب أن يعلي من شأن العذراء، لكونها حواء الجديدة، أم الاحياء الجدد. وفسّر موضوع "الجنس الغريب للابن"، و"أصله الالهي" انتقاصًا من انسانيته. وبما أن الموشحات تولي أهمية للخلاص الذي يهبه يسوع، فإن سمات "الغرابة" تطغي على طبيعته الانسانية "إنني من جنس آخر". وإن كان الشاعر يؤكّد حقيقة التجسّد، إلاّ أنه يرى انسانيّة يسوع بشكل عابر. يستعمل الشاعر فعل "سبر"، "فكّر، ظنّ، إعتبر، فحص، استكشف" وفي صيغة استفعل، يترجم ب "ظن، تخيّل". "بدائية" سبقت ما نسميه الكرستولوجيا الرفيعة. تعكس الموشحات فكرا رفيعا عن يسوع المسيح، وتعتبر من أولى الانتاجات الفكرية، وفي مرحلة متأخرة. في الموشحات تأكيد لحقيقة تجسد الكلمة، ولكنها لا تعبّر عنه علنًا، بل تراه، بمثابة ظهور أمام ناقصي المعرفة، ولا علاقة له بالفداء. فالشاعر كالمنشقين، لا يمنح بُعدًا خلاصيًا ليسوع المسيح الذي جاء بحسب الجسد (1 يو 4: 2-3).
لو اتيح لنا تصنيف الموشّحات، لقلنا بأنها مونوفيزية وإن كانت التسمية سابقة لأوانها. لانها ترى انسانية يسوع تختلف عن إنسانيتنا. أما يسوع، بحسب يوحنا، فهو انسان مثلنا: "هذا الذي رأيناه وسمعناه ولمسته يدانا...". ولكن الرسالة إلى العبرانيين تشدد على انسانية يسوع: "تعلّم الطاعة لأنه تألم وصار كاملا". (عب 5: 8-9) وستردد الصلاة الافخارستية الرابعة، بحسب الليتورجيا اللاتينية، ذات التعابير: "صار شبيهًا بنا في كل شيء، ما عدا الخطيئة". فالرسالة إلى العبرانيين، وبأسلوب واضح، وبتعبير أكثر دقة من تعبير يوحنا، توفّقت، إذ إنها حافظت على التوتر، بين الكرستولوجيا الرفيعة وإنسانية يسوع الكاملة. وبمعنى آخر وازنت بين يسوع المسيح إله حق وانسان حق. تتحدث الموشحات عن الولادة العجائبية، وأن هذه الولادة تمت من دون ألم وهذه التعابير قريبة جدا من تلك التي نجدها في الاناجيل المنحولة. وسيتبنى القرآن هذه القراءة، في تفسير لولادة عيسى ابن مريم، معتمدا على هذه الاناجيل، وليس على الاناجيل القانونية.
اعتبارُ كرستولوجيا يوحنا غير كاملة، إذا قيست بمقاييس متأخرة لمجمع خلقيدونية، لا يتناقض مع التعليم الرسمي. ينبغي أن نقرأ الانجيل لا بحسب التعبير اللاهوتي والكرستولوجي الذي حدِّد لاحقًا، إذ لا أحد من محرري أسفار العهد الجديد، كان قد احتوى سرّ يسوع وعبّر عنه كاملا. هذا أمر بديهي، إذ إن الانجيلي يكتب اختباره الشخصي واختبار التلاميذ لشخصية يسوع. أما الكنيسة، ومن خلال مجمع خلقدونية، فهي ذات الكنيسة السائرة ضمن التقليد، والتي تقبل يوحنا ومرقس ومتى ولوقا في قانون الكتب، بالرغم من وجود تباين في تعابيرهم.
كان المنشقون يفكرون أنه بالامكان المشاركة بالحياة الأبدية، من خلال حضور الكلمة في العالم، فقط، وليس بما أنجزه؛ وأنهم لا يولون اهتماما للتفاصيل التاريخية لحياته وموته. حضور الكلمة المتجسد والمحتفل به وسط جماعة حية، أهمّ بكثير من التحدث عنه في الماضي. نفهم من خلال رسالة يوحنا الاولى، أن المنشقين ينكرون أن المسيح هو يسوع: "من الكذّاب إن لم يكن ذاك الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو المسيح الدجّال ذلك الذي ينكر الآب والابن" (1 يو 22:2). لم تكن هذه البدعة تنكر الكرامة المسيحانية ليسوع الانسان، بل تميّز بين المسيح الممجّد، وبين يسوع الناصري. فالسؤال المطروح، لا يتعلق بالمسيح، بل بيسوع. غياب اسم يسوع من الموشحات يفاجئنا، لاسيّما وأنها من نتاج مسيحيّ، وهي تسبّح، وتنشد للكلمة، وللمخلص. وإذ يبلغ تبجيل المسيح "الذي أخلى ذاته"، إلى أسمى درجة من التعبير، في الرسالة إلى أهل فيلبي (2: 6- 11)، تفاجئنا الموشحات بصمتها عن الانسان يسوع. فالشاعر لا يربط، كما فعل المنشقون وكما تذكرهم رسالة يوحنا الاولى، بين يسوع الذي عرفناه في حقيقته على الارض، والمسيح الممجّد الذي تكرّم الجماعة حضوره الفعّال في الجماعة، من خلال التسبيح والاحتفال.
السلوك المسيحيّ
ينبع السلوك المسيحي من الكرستولوجيا. يدّعي المنشقون الكمال منذ البدء. ويدّعون أنهم بلا خطيئة، ولا يبالون بحفظ الوصايا، ولا بضرورة محبة القريب (1 يو: 8-10؛ 2: 4-6؛ 1 يو 2، 3، 4؛ 5: 2-3). إن الكثير من هذه الادعاءات "أنهم كاملون ومن دون خطيئة"، نجد ما يماثلها في إنجيل يوحنا. أن يكون المؤمن متحدا بالله، ويثبت فيه، هبة من الله، حسب وعد يسوع (يو 17: 21). وعبارة "أن نعرف الله" تتجذّر في التقليد اليوحناوي. يعد يسوع الذين يعرفونه أنهم سيرون الآب أيضًا. فإذا كنا نجد في الرسالة الاولى ليوحنا (8:1، 10) الادعاءات التي كان يروّجها المنشقون من أنهم بلا خطيئة، فهو يعلن بأنه طاهر (1 يو 6:3، 9 و5، 18). فما هي إذن طبيعة النزاع بين يوحنا وخصومه؟
هذه الادعاءات التي أشرنا إليها يمكن تبريرها، لاننا نجدها عند يوحنا. فاتحاد الانسان بالله، والثبات فيه، هبات يمنحها يسوع للمؤمنين. والادعاء بأننا "نعرف الله"، ليس غريبا عن فكر يوحنا. وعلى هذه النقطة يختلف المنشقون، بحسب التقليد اليوحناوي، لأنهم يدّعون بأنهم أحرار من الخطيئة، وأنهم لا يخطئون لانهم في النور.
إن الذي يؤمن بحسب يوحنا، لا يخطأ، ويؤكّد أنه بلا خطيئة. ولكن إن خطئ الانسان، فالله يمنح الغفران بيسوع "إذا ما حدث وأخطأ أحد، فان لنا مدافعا عند الآب، إنه يسوع المسيح، الذي هو عادل". أما المنشّقون، فإنهم يشاركون يوحنا في موضوع الطهارة، ولكن من دون الحاجة إلى الغفران. ليست الخطيئة عند المنشقين جزءًا من الخبرة المسيحيّة. أما يوحنا، فهو يؤكّد على ضرورة التزوّد المستمر بالخلاص الذي حقّقه المسيح بموته.
يدّعي كلا الفريقين النقاء، لكنهما يختلفان حول مصدره. يرى المنشقون أن الطهارة صفة مميزة لطبيعة الانسان المسيحي، ينالها مرة واحدة، وليس بحاجة إلى تجددها، ولا حاجة للاعتراف بالخطايا. أما كاتب الرسالة الاولى ليوحنا، فيشدد على الحاجة المستمرة إلى الاعتراف بالخطايا.
لا ذكر للخطيئة في الموشحات، ولا للتوبة. الله هو الذي يغمر الشاعر بحنانه، ليتمكن من الاشتراك بالذبيحة "عضدا وجدت لي من الرب/ عرّفني نفسه بسخاء وببساطة/ ولطفه أظهر (صغّر) عظمته... لهذا شملني بحنانه العظيم/ ووهبني أن أطلب إليه واشترك في ذبيحته" (الموشحة 7: 3، 10). عبارة "الذبيحة" و"اللطف الذي صغّر عظمته" إشارة إلى الضعة، إلى التنازل أو "إخلاء الذات" الذي تتكلّم عنه الرسالة إلى أهل فيلبي (فل 2). إن ذكر كلمة "ذبيحة" في الموشحات أمر مذهل، إذا إنها لا تشير إلى ذبيحة الصليب، ولا إلى التفكير عن الخطايا والغفران، بل إلى التنعم بمعرفة الله، من خلال هذه الذبيحة. لا تهتم الموشحات بالحاجة إلى الغفران المتجدد. نذكّر بأن الاعتراف بالذنوب جاء متأخّرا في اليهودية، وفي ممارسة الكنيسة الاولى. كان الاعتراف العلني بالخطايا يمارس في اليهودية المتأخرة، وكذلك عند الاسيانيين (نظام الجماعة 1: 23-2: 1). والانجيلي متى أيضًا (3: 6، اعمال 19: 18، روم 14: 11، يعقوب 5: 16، اقليميس 1: 50، ديداكي 4: 14، 9: 23...).

حفظ الوصايا
يعلن المنشقون أنهم "يعرفون" ولكن من دون حفظ الوصايا. أما يوحنا فينعت بالكاذب "من قال: "إني أعرفه ولم يحفظ وصاياه كان كاذبًا ولم يكن الحق فيه". لا يعدد يوحنا رذائل معيّنة كما هي الحال في كتب أخرى من العهد الجديد، (غل 5: 19- 21، روم 13: 13 و1 بطرس 3:4) إنما يحذّر من روح العالم، ويشدّد على أن "معرفة الله"، و"المكوث في الله" ينبغي أن يرتبط بتعليم يسوع، أي حفظ وصاياه، والعيش على مثاله. "معرفة الله" هي تجلي المسيح في الحياة، والاقرار بأنه المسيح. فالمطلوب هو الممارسة وليس التبجح بالكلام.
"معرفة الله" ومن المواضيع الرئيسية في الموشحات. إنها تعني الخلاص الذي يناله المؤمن من يسوع. وفي هذه النقطة، تختلف أيضًا رؤية الموشحات، كما فعل المنشقون مع موقف يوحنا. وإذ يرى يوحنا محبة الله كحقيقة فعّالة تترجم في الواقع، وفي صلة مباشرة معه، لا تنظر الموشحات إلى معرفة الله، كضرورة الاقتداء به. يوجز يوحنا هذا الاختلاف بقوله "وأما من حفظ كلمته فإن محبته لله اكتملت فيه حقا. بذلك نعرف اننا فيه" (1 يو 2: 5). إن الاختلاف بين يوحنا وبين طروحات كاتب الموشحات واضح. هذا الأخير لا يعطي للسلوك أيّ بُعد خلاصي، ولا يرى في حياة يسوع أية قيمة خلاصية. لا يعتبر كاتب الموشحات الحياة الارضية للمسيحيّ مشاركة في العمل الخلاصي. وكما أن الموشحات لا تتحدث عن حياة يسوع على الارض، كذلك لا تولي أهمية لحياة المؤمن الارضية. هل تكون هذه النظرة مطابقة لوصيّة المعلّم "لستم من العالم"؟ (يوحنا (يوحنا 15: 19). تم التأكيد على أن الحياة الأبدية تقوم على معرفة الله، ومعرفة الذي أرسله (يو 3:17)، فهل يكفي الادعاء فقط بأن الاتحاد بالله والمعرفة يقودان إلى الخلاص، من دون حفظ الوصايا؟ وهل يعيش المؤمن حياته على الارض وهو متغرّب عن العالم؟
عدم ذكر "حفظ الوصايا" في الموشحات، يبرّر غياب التوجيهات الاخلاقية (السلوك) التي يشدد يوحنا عليها. إهتمام المسيحيين الاولين يقوم على بناء صلة مباشرة بين الايمان والاعمال. وهذا ما يشير اليه إنجيل يوحنا (28:6)، حيث يقوم الايمان بيسوع على عمل الله فقط. وإذا قارنا إنجيل يوحنا بالانجيل الازائية، فانه يفتقر إلى تعليم أدبي. فاذا كان الدخول في ملكوت السماء، في رأي الأناجيل الازائية، لا يتحقق إلاّ من خلال الاهتداء، يشدد انجيل يوحنا على كلام يسوع المطهّر، والذي يقود إلى الله. وحين يتكلم يوحنا عن الخطيئة، فهو يعتبرها رفضًا للنور (يو 8: 24؛ 9: 41).
الجماعة
تحتل الجماعة مكانة هامة عند يوحنا. والجماعة هي إحدى نقاط الخلاف بين الموشحات ويوحنا. في رسالة يوحنا الاولى، المحبة هي جوهرية وتقود إلى الله. وللتأكيد من أن هذه المحبّة حقيقيّة، فإنها تنطلق من محبّة القريب. لا يستطيع المرء أن يحبّ الله من دون أن يحب القريب. يهاجم يوحنا المنشقين الذين يدّعون أنهم يحبّون الله، ولكنهم لا يحبون بعضهم بعضا. تتحدّث الموشحات بإسهاب عن محبة الله، الا أنها لا تعالج موضوع المحبة للقريب. لا يفصل كاتب الرسالة بين محبة الله ومحبة القريب (1 يو 7:4- 11؛ 3: 22-24؛ 4: 21). يركز يوحنا على وصية واحدة، "وصيته هي أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح وأن يحب بعضنا بعضا كما أعطانا وصية بذلك". "إليكم الوصية التي أخذناها عنه: من أحب الله فليحب أخاه أيضًا". وعندما يتحدث عن الوصايا، فإنها تتجسّد في محبة الإخوة. لم يرفض كاتب الموشحات الجماعة أو الإخوة، وله شعور مرهف تجاه الجماعة، كالذي كان لكاتب الرسالة الاولى ليوحنا، وهو يسير في تقليد يوحنا.
ماذا تعني كلمة أخ ليوحنا؟ الإخوة أعضاه الجماعة ومتحدّين بها. أما المنشقون فلم يعودوا إخوة، لأنهم ابتعدوا "خرجوا" عن التقليد اليوحناوي الحقيقي، ولهذا يوصي يوحنا بالمحبة بين الإخوة والأخوات "إذا قال أحد: إني أحب الله وهو يبغض أخاه كان كاذبًا لأن الذي لا يحب أخاه وهو يراه لا يستطيع أن لا يحب الله وهو لا يراه" (1 يوحنا 4: 20). إن وصية المحبة لم يعبّر عنها يوحنا بعبارات محبة القريب كما نجد في متى 9:19، بل بعبارات المحبة المتبادلة (يو 13: 34-35، 15: 12-17). وهذه إشارة واضحة إلى المحبة التي تربط التلاميذ بعضهم ببعض "أحبوا بعضكم بعضًا". يرفض يوحنا الصلاة من أجل الآخرين، أي اولئك الذين "خرجوا" عن الجماعة. وهكذا نفهم رفض يسوع الصلاة من أجل العالم (يو 17: 9). عند هذا التأكيد، ندرك لماذا يوجّه يوحنا حكما قاسيا على المنشقين الذين كانوا أعضاء في جماعته. ولكن الصلاة من أجل الإخوة وصيّة، ولاسيما عندما يخطأون.
ينسب كاتب رسالة يوحنا الاولى إلى المنشقين إدعاء آخر، وهو الاتحاد بالله أو بالمسيح. لا نجد في الانجيل الرابع، ولا في سفر الرؤيا، كلمة "شركة"، ولكن كاتب الرسالة يستعملها بمعنى الاتحاد بالله والصداقة وروح الأخوّة. تتحدث الموشحات عن الشركة "شوتوفوتو"، كما نجدها عند يوحنا. "شوتف" شارك، اتحد بـ ومع. تتشح عبارة "شركة، شوتوفوتو" في الموشحات معنى صوفيا، أي الوحدة التامة والذوبان في الآخر، كما في العلاقة الزوجية "وهبتنا شركتك/ لا لافتقارك إلينا/ بل لافتقارنا إليك" (الموشحة 9:4). تستعمل الليتورجيا السريانية هذه العبارة للدلالة على المشاركة في الافخارستيا، سرّ الشكر، أي الوحدة التامة بالمسيح. وتؤكّد الموشحة 21: 1-19 الاتحاد بالله (أو معه)، ولكن على الصعيد الفردي، من دون البعد الجماعي والكنسي "صار لي فكر الرب عضدًا/ والشركة معه لا تبلى" (الموشحة 21: 5). وبالرغم من استعمال ضمير الجمع في الموشحة 4: 9، إلاّ أن المقصود هو الصداقة مع الله، أكثر من الصداقة مع مؤمنين آخرين.


الخاتمة
لفترة طويلة قد أهملت الأبحاث، أهميّة الموشحات التي تعتبر اليوم مفتاحًا للمصادر التي استخدمها يوحنا. ومع ذلك فان النظرية المذهلة التي جاء بها هرناك قد أنمت إهتمامًا حقيقيًا. ساهم اكتشاف الموشحات وطبعها في فهم كتابات يوحنا. باحثون أجلاء أمثال بارت وبولتمان استشهدوا بالموشحات ورأوها ذات صلة مباشرة بانجيل يوحنا. إن المقارنات التي تجمع الكاتبين، تبيّن العلاقات القائمة بين هذين الكتابين.
ولكن الطابع الغريب للمخلص وكأنه "غريب" في هذا العالم، أكثر من جانبه الانساني العادي والملموس والاهتمام بالهوية "الفوق- الانسانية" ليسوع، ليس بالتأكيد خاصًا بالموشحات، إذ إن مثل هذه المواضيع غالبًا ما تظهر في الانجيل الرابع ذاته (8: 58). لقد حصل لدى كاتب الموشحات وعي عميق، بأن ذلك الكائن قد تجلّى فعلا "وابن العلي ظهر في ملء أبيه"، أنه الابن "وظهر في المقدمة رأس تجلى/ وابن الحق الآب المتعالي" (الموشحة 23: 18؛ 41: 13). وهو ليس الآب. ويعبّر الشاعر عن إيمانه بالتجسّد، من خلال صور ينفرد بها، وليست هذه الصور أقل وضوحًا من تلك التي يستعملها يوحنا، حول ظهور ابن الله، وكلاهما يسميان أعضاء الجماعة "أبناء"، وأن هذه البنوة مرتبطة بالمحبة التي تقود إلى الحياة. ويشير كلاهما إلى أن الجماعة تتلقى حياتها من المسيح، كما أنهما يؤكدان على أن المحبة تنبع من الله.
إلاّ أن هناك اختلافًا بين يوحنا والموشحات تتعلق بارسال الابن. إن كان يوحنا قد اكّد على دور الابن الذي جاء من أجل التكفير عن الخطايا، فالموشحات لا تقول شيئا عن ذلك. إن أوجه الشبه مع يوحنا واضحة. فكلا الكاتبين يربطان الخلاص بالكرستولوجيا، من حيث الأهميّة الجوهرية للايمان الذي يعتمد على الاعتراف بـ "الكلمة" الكائن منذ البدء، في شخص يسوع الناصري. على أن كاتب الموشحات لا يتطرق إلى انسانية يسوع، ولا يتجاهلها، بل يصرف النظر عنها. وعلى كل حال، فان هذه الانسانية لا تجد حقيقتها لا عند يوحنا الذي يؤكد على مجيء الكلمة وسكناه بين البشر "الكلمة صار جسدا وحلّ فينا، ورأينا مجده".
هل يكون الشاعر واحدًا من المنشقين الذين يتكلّم عنهم كاتب الرسالة الاولى ليوحنا؟ ربما يكون الشاعر قد تلقى إرثًا روحيًا، إستقاه من تقاليد مختلفة، لجماعات يهودية- مسيحية سينتهي بها المطاف إلى شق طريق تختلف عن تلك التي سلكتها جماعة يوحنا. ولكن يبدو واضحًا أن الموشحات تمثل إتجاها آخر، في تفسير الكلمة "ملتو". ودون أن نقلل من قيمة الموشحات، أو حتى من قيمة تفسير المنشقين لـ "الكلمة"، فلقد ساهموا في تطوير الفكر اللاهوتي اليوحناوي. ولكن في نهاية المطاف، رفض التقليد اليوحناوي التيارات الاخرى، التي كانت في طريقها إلى الانتشار، والتي اعتبرت في ما بعد، أفكارًا غير سليمة، لبنيان ايمان الجماعة.
إن روحانية الجماعة التي واكبت الموشحات، وحملتها في حنايا أضلعها، ستتدفق في بيئة الرها التي سيكون فيها افراهاط، وافرام، رمزًا لديناميّتها، من خلال كتاباتهما. إنها الدينيامية التي أعطت النور لتيارات كرستولوجية متعددة، غنية ومشبعة باللاهوت الكتابي، الذي تتميّز به المدرسة الانطاكية، والتي ستعطي ثمارها في المجامع الكبرى، بعد أن خضعت لغربلة التقليد الحي. لقد توجب انتظار أكثر من ثلاثة قرون، قبل الوصول إلى الصيغ الارثوذكسية الرسمية التي بلورتها المجامع الكبرى، والتي أصبحت ركيزة للايمان.
كانت الاجيال المسيحيّة الاولى واعية لدور الروح القدس، ولحضوره فيها، ولكنها سرعان ما وجدت ذاتها وهي تواجه مشاكل، تتطلب منها، أن تقول بأنها مؤتمنة على التقليد، وأن تعبّر عن ردود فعلها، بوجه الهرطقات الناشئة. فالحرص على هذه الامانة يوضح لماذا رُفضت بعض الكتب، واحتفظ بغيرها دون سواها. وعلى الأرجح وجد كاتب الموشحات ذاته، وقد أبعده القانون الكنسي مع المنشقين، من جماعة يوحنا. ومع ذلك عندما أعلن كاتب الرسائل القانونية الثانية (والتي نسميها "الكاثوليكية" أو" القانونية الثانية"، والتي تعتبرها بعض الكنائس منحولة)، أو تلك التي نسبت إلى بولس (كالرسالة إلى أهل أفسس) بأنه تلميذ بولس، ونعم ما فعل، فإنه بالتأكيد كان يعني استمراريته مع رسول الامم. ذلك أن كلّ رسول يدخل ضمن الاستمرارية الحية لتقليد كنسي معين، حيث كان تعليم الرسل، منذ ذلك الوقت المبكر، حقيقة مرجعية.
لقد خفت الصوت النبوي المدّوي! ذلك أن "المعلمين" أو "الفقهاء" (السلطة التعليمية في الكنيسة)، سحبوا (سحبت) البساط من تحت أقدام الانبياء، وأرغموهم (أرغمتهم) على الخضوع لهم (لها)، وكانت من ثمّ نهاية الوحي، حتى وإن بقي الرجوع إلى التقليد الرسولي، أمرا حيويًا.
أما يشير ذلك إلى عنصر مهم، كمسألة "القانون"، مثلا: كيف، ولماذا تجرّأ آباء، مثل اقليميس واغناطيوس وآخرون، أن يكتبوا، هم أيضا رسائل، حملت أسماءهم، حتى وإن ظلّ الامر في حالتهم، بعيدا عن التيار النبوي الذي كان حتى ذلك الوقت يحمل الكنائس. وهل يذهب بنا الامر إلى القول بأن بدء تحديد القانون يشير إلى نهاية النبوءة؟ ربما هو الامر كذلك في الكنيسة! ولكن، أوليس على الانبياء الجدد، وملهمي أزمنتنا، أن يطيعوا جماعاتهم؟ وإلا "سيطردون من مدينتهم"، أو يمنعون عن الكلام!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM