الفصل الأول : أخبار الطفولة

الفصل الأول

أخبار الطفولة
1: 5- 2: 52

يتضمّن هذا القسم الأول من إنجيل لوقا مجموعتين من النصوص لا يجب أن نفصل بينهما: إنجيل الطفولة بحسب لوقا (1: 5- 2: 52). بدايات رسالة يسوع العلنيّة (3: 1- 4: 44). نميّز بين هذين الجزئين ولكننا نربط بينهما.
ففي كل جزء نرى فعل الروح القدس (ترد لفظة الروح 19 مرة في القسم الأول) معطي كلمة الله، نرى تدفّق الخلاص الجديد والحالي الذي يمثّله مجيء المسيح إلى العالم، بل هو مجيئان: مجيء خفي في ميلاده (2: 11). مجيء علني في مجمع الناصرة (4: 21). وفي كلا الحالين يتدخل يوحنا المعمدان. هنا اختلف لوقا عن متّى الذي لا يذكر يوحنا المعمدان في خبر سنوات يسوع الخفية. إذا كان الروح قد أعطى الأنبياء أن يتكلّموا فيعود إلى السابق أن يجذّر يسوع في التيّار النبوّي في إسرائيل، أن يدخل ذاك الذي يعلن إنجيل الملكوت (أنجل: 10 مرات في لو، 15 في أع) قبل أن يختفي في ظلمة السجن (3: 20). في كلا الحالين، تجري الأحداث في خط جغرافي يربط اليهودية (مع أورشليم وبيت لحم) بالجليل (مع الناصرة وكفرناحوم). هذا الخطّ يحدّد مدى التاريخ الذي يتمّ حسب مخطّط الله.
وفي الوقت عينه يرتسم انقطاع على ثلاثة مستويات تعرف التواصل. ففي داخل عمل الروح القدس نميّز بين سّر جذور يسوع (ف 1- 2) حتى كلمته الأولى (2: 49)، وخبر بدايات (ف 3- 4) ذاك الذي هو "كلمة النعمة" (4: 22). على المستوى الأدبي، تتميّز هاتان المجموعتان على مستوى الأسلوب: في الفصلين الأولين نجد لغة متشّربة من العهد القديم. وفي ف 3- 4 نجد أسلوب لوقا الخاص. وهناك انقطاع على مستوى التوازي بين يوحنا النبي ويسوع: يبرز تفوّق يسوع شيئاً فشيئاً، ويختفي وجه يوحنا المعمدان. وأخيراً، يتخذ المدى نفسه بعداً رمزياً جديداً: إن تاريخ الخلاص الذي تسجّلت أحداثه حتى الآن على أرض إسرائيل، صار في يسوع خبراً سعيداً (بشرى، إنجيل) للعالم يتعدّى حدود "الوطن" (والقرية) (4: 23، 24).
نتوقف في جزء اول عند الحبل بالروح ومولد الكلمة (1: 5- 2: 52)

1- موقع هذين الفصلين
إن الفصلين اللذين يقدّمان طفولة يسوع يلعبان عند لوقا الوِظيفة التي لعباها عند متّى. حين كتبهما الإنجيليان عملا عملاً كرستولوجياً (يتحدّث عن يسوع المسيح): أدركا سرّ جذور يسوع على ضوء كل حياته، وخصوصاً على ضوء موته وقيامته. وهكذا توخّيا أن يعطياننا فهما لاهوتياً إجمالياً لشخص يسوع ولمصيره.
إستعمل متّى ولوقا الأسفار المقدّسة ليسندا مقالهما، ولكنهما استعملاها بحسب نهجين مختلفين. تعامل متى مع كلمة الله مثل كاتب متنبّه وحكيم، مثل شخص قريب من الوعظ أو المدراش (درس وتأمّل في النصوص الكتابية): إنطلق من النصوص فقدّم برهانه وبيّن أن هذه الأقوال قد تمّت اليوم في شخص يسوع (آنية، تتمة). أما لوقا فلا يورد النصّ الكتابي بحرفيته، لأن عدداً من سامعيه، شأنهم شأن تيوفيلوس، لم يأتوا إلى المسيحية من العالم اليهودي. فيجب أن يدخلوا في العهد القديم، في ماضي يسوع الذي صار ملكاً خاصاً للجماعة المسيحية. إذن، يتذكّر لوقا العهد القديم فيجعل أسلوبه يتشّرب منه. هو يروي الخبر ويستخرج بعده اللاهوتي مستفيداً من تلميحات خفية أو ناسجاَ مجموعة من النصوص البيبلية كما فعل في نشيد التعظيم ونشيد المباركة. وهكذا كوّن "ذاكرة" سامعيه المسيحيّين الآتين من العالم الوثني.
يقدّم لنا لوقا هنا شخص يسوع بواسطة موضوع الهيكل الذي هو مقام الله في وسط إسرائيل: فيه زار الملاك زكريا ساعة كان الشعب يصليّ (1: 10- 11). وفي الهيكل أيضاً، في نهاية الإنجيل، وبعد بركة القائم من الموت (24: 50- 51) (التي لم يستطع أن يعطيها زكريا، 1: 22)، إنطلق التلاميذ يباركون الله (24: 53).
قد يزول هيكل أورشليم (أع 6: 14). ففي يسوع، إبن الآب، يستطيع البشر أن يصلوا إلى الله. إنه الهيكل الجديد كما قال يوحنا. فكلمتا يسوع الأولى والأخيرة ارتبطتا بالهيكل: الأولى تشير إلى سّر الإبن والثانية إلى عبوره نحو الآب. فالكلمة الأولى قالها يسوع الذي وُجد في الهيكل بعد أن أضاعه والداه: "أما تعلمان أنه يجب علي أن أكون عند أبي" (في بيت أبي) (2: 49)؟ وحين صُلب، جاءت كلمته الأخيرة كصدى للكلمة الأولى: "يا أبت، في يديك استودع روحي" (23: 46)، وذلك حين انشقّ حجاب الهيكَل (23: 45). وإن الألقاب المعطاة ليسوع في هذين الفصلين، تعبرّ بأشكال مختلفة عن هوية ابن الله ورسالته وسط البشر.

2- التأليف والبنية
إن لهذين الفصلين اللذين يعالجان أصل يسوع الإلهي بعداً لاهوتياً (على مستوى اللاهوت) أكثر منه سيروياً (على مستوى السيرة وحياة يسوع). هذا لا يعني أننا ننكر قيمتهما التاريخية. ويبرز هذا البعد بشكل ملحوظ حين ننظر إلى التأليف الإجمالي وتلاحم الأحداث التي نقرأها هنا.
هناك سبعة مشاهد تتوزعّ الخبر:
1- البشارة بمولد يوحنا (1: 5- 25).
2- البشارة بمولد يسوع (1: 26- 38).
3- زيارة مريم إلى اليصابات ونشيد التعظيم (1: 39- 56).
4- مولد يوحنا وختانه، نشيد المباركة (1: 57- 80).
5- مولد يسوع وختانه (2: 1- 21).
6- تقدمة يسوع إلى الهيكل ونشيد التسليم (2: 22- 40).
7- ظهور يسوع في الهيكل (2: 41- 52).
نستطيع أن نرى صياغة رسمتين فكريتين في أساس الإعلان الرسولي الأول، في أساس الكرازة الأولى.
الرسمة الأولى هي رسمة البشارة (1: 5- 56) والتتمة (1: 57-2: 40). إنها تشكل التلاحم الرئيسي في "بداية خبر" يسوع: مولده (2: 1- 21)، وتقدمتة إلى الهيكل (2: 22- 40) يحقّقان بشارة الملاك إلى مريم (1: 26- 38). وقد أعدّ الطريق لهما البشارة لزكريا (1: 5- 25) ومولد يوحنا النبي (1: 57- 80). وحدث وجود يسوع في الهيكل يدلّ بوضوح على أن يسوع هو ابن الله (2: 41- 52).
والرسمة الثانية تخضع للأولى فتربط رباطاً حميماً أصول يسوع بشخص يوحنا النبي. هذا وضع خاص بالقديس لوقا. فمرقس (1: 4، 9، 14) ومتّى (3: 1- 13) يبدأان الموازاة بين يسوع ويوحنا مع "مجيء" السابق. في هذا الوقت، لم يتكلّم لوقا عن "مجيء"، بل عن "بداية" ليدلّ على ظهور يسوع العلني (4: 14؛ 23: 5؛ رج أع 1: 22؛ 10: 37). إن تداخل يوحنا النبي في الخبر منذ "الجذور" يُبرز شخصه بنوع خاص. فهو يُسمّى فقط ذاك الذي يدخل يسوع في تقليد إيليا النبوّي (رج مت 3: 4؛ 16: 14؛ 17: 10، 13؛ مر 8: 28؛ أع 19: 4). إنه يمثّل هكذا إسرائيل الشاهد. إنه صورة مسبقة للكنيسة الشاهدة.

أ- التأليف الأدبي
هناك نهج معروف وثابت لدى لوقا: التوازي. وقد أخذه من العالم اليوناني كما من الكتاب المقدّس. فالعهد القديم يقابل بين شخصين عظيمين: بين موسى ويشوع، بين موسى وإيليا، بين إيليا واليشاع. غير أن المقابلة تبقى ضمنية، وهي تبرز التشابه بين الشخصين. أما الموازاة التعارضية فهي عديدة في الأدب اليوناني وهي تشدّد على نقاط الإختلاف بين الرجال العظام. وسار كتبة فلسطين المهلينة (أخذت بالحضارة الهلينية) في هذا الخط فقابلوا بين رابي (معلّم) ورابي. وقدّم لنا سفر الأعمال مثالاً نموذجياً من الموازاة التعارضية بين رسالة بطرس ورسالة بولس.
لهذا نتساءل: أما صاغ الإنجيلي "تعارضاً" بين يسوع ويوحنا؟ توسّع فيه في الفصلين الأولين من إنجيله فدلّ على نقاط الإختلاف بين السابق وبين يسوع (رج 3: 1- 20، 21- 22؛ 16: 16؛ أع 1: 22؛ 10: 27؛ 13: 25). لا يبدو الجواب حاسماً على ضوء الإشارات التي نجدها في النصّ.
حين استعاد لوقا لحسابه تقاليد الجماعات المسيحية ليتثبّت من متانتها، ليغنيها بشهادات جمعها بنفسه، ليطبعها بفكره اللاهوتي الخاص، إكتشف سّر أصول يسوع كما روتها "الكنائس" وتأمّلت فيها ونقلتها وربطتها بشخص يوحنا ورسالته. فأخبار كرازة يوحنا وعماد يسوع تدل على ذلك سواء في الأناجيل الإزائية أم في الإنجيل الرابع. فيوحنا ويسوع قد ارتبطا بالحركات العمادية التي دلّت على يقظة دينية وتجرّد ذات ميول اسكاتولوجية. إستضاء التفكير المسيحي بالحدث الفصحي (حدث القيامة)، فشدّد على التواصل بين يوحنا ويسوع، وأبرز في الوقت عينه الهوّة التي تفصل بينهما.

ب- التقليد السابق للوقا
هل نستطيع أن نعيد تكوين التقليد السابق للوقا؟ نجد في ف 1- 2 رسمة تقرّب بين بشارتي يوحنا (1: 5- 25) ويسوع (1: 26- 38)، وتوازي بين مولد يوحنا وما تبع ذلك من ختان وظهوره كنبي وحياة خفية (1: 57- 80)، ومولد يسوع وما تبعه من ختان وظهوره كمخلص وحياة خفية (2: 1- 40). هذه الرسمة هي سابقة للوقا الذي قد يكون أعاد صياغتها بطريقة شخصية.
فإذا استندنا إلى تحليل دقيق لمسيرة الأخبار، وإلى وضع الأناشيد وتوارد الآيات التي تختتم كل مقطع، نستطيع أن نقدّم البنية التالية:
1- البشارتان (1: 5- 56)
أ- بشارة يوحنا (1: 5- 25) ب- بشارة يسوع (1: 26- 38)
ج- حدث ملحق:
الزيارة ونشيد التعظيم (1: 39- 56)
خاتمة: عودة مريم (1: 56)
2- الميلادان (1: 57- 2: 52)
د- مولد يوحنا (1: 57- 58) هـ- مولد يسوع (2: 1- 25)
عنصر نشيد (1: 58) نشيد الملائكة والرعاة
ختانة. ظهور و- ختانة. ظهور
يوحنا "كنبي" يسوع "كمخلّص"
نشيد المباركة (1: 59- 85) نشيد التسليم (2: 21- 35)
حدث ملحق: حنة (2: 36- 38)
خاتمة: ردّة النمو خاتمة: عودة إلى الجليل (2: 39)
(1: 80) ردّة النمو (2: 40)
ز- حادث ملحق
وجود الطفل في الهيكل (2: 41- 52)
خاتمة: ردّة النمو (2: 52)

عرف يسوع سريعاً على أنه ابن إسرائيل (مت 1: 1- 17) ومختار الله (مت 3: 17؛ مر 1: 11)، ونبيّ العلي (مت 11: 14؛ 21: 11؛ مر 8: 22؛ يو 4: 19؛ 7: 4؛ 9: 17). ومولده، كمولد يوحنا، قد أعلنه ملاك فدلّ على أنّ موقعه يتجاوز كل انتظار بشري. إذا كانت مهمة كل نبيّ أن يعلن المجانية المطلقة لخلاص يقدّمه الله، فمولد يسوع يشارك في سّر هذه المجانية. ليس هو فقط "كلمة النعمة"، بل كلمته هي نعمة (4: 22) مثل حياته نفسها (2: 40، 52). هذا ما يدلّ عليه ميلاده العجائبي.
في هذا المعنى نستطيع القول إن الحبل بيسوع ومولده يشبهان الحبل بيوحنا ومولده. فهما يتسجّلان في تواصل تاريخ مجانية الله الذي لا يزال يتجدّد. ولكن هذا التوازي بين الحبلين والمولدين (حتى على مستوى التقليد السابق للوقا) قد توخّى إظهار نقاط الإختلاف بين يوحنا ويسوع، بين السابق والمخلّص.
يبدو الإختلاف أولاً بين الشخصين: يوحنا هو "عظيم أمام الله" (1: 15 أ). يسوع هو "العظيم" في المطلق (1: 35). لا ترتبط عظمة يسوع بطقس تكريم كما بالنسبة إلى يوحنا (1: 15 ب). بل هي تنبع من الله نفسه. إنه "إبن العلي" (1: 32). ويظهر الإختلاف ثانياً بين المهمّتين: كلّف يوحنا بأن يعدّ طريق الرب (1: 76) كنبي العودة الكبيرة (رج أش 40: 3). أما يسوع فهو ملك الدهور (1: 32، 33)، ذاك الذي قدّم إلى الهيكل (2: 24) فصار "قدس الأقداس" الذي أعلن مسحته دا 9: 24. الذي هو "ملاك العهد" الذي تحدّث عنه ملاخي (ملا 2: 6؛ 3: 1، 23، 24)، و"مجد إسرائيل" (2: 32) الذي صوّره مسبقاً معبد الخروج (خر 40: 35).
بين يوحنا ويسوع لسنا فقط أمام عتبة نتجاوزها. فلا معنى لوجود الأول إلا بالنظر إلى الثاني. ذاك الذي أعلن شاباً انه صوت صارخ في البرية، كان منذ الحبل به السابق أمام ربّه. تحرّك في حشا اليصابات فجعل أمه تتنبّأ، وهكذا نقل إلى مريم العذراء أن تنشد شكرها لله.
ولا تظهر نقاط الإختلاف بين الولدين فقط في التوازي بين البشارتين والميلادين. فهناك حدثان ملحقان يوسّعان هذه الرسمة، بل يفجّرانها: ملحق الزيارة (1: 39- 56)، ملحق يختتم خبر أصول يسوع، هو وجوده في الهيكل (2: 39- 52).

ج- التدوين اللوقاوي
هناك "محطات تدوينية" موزّعة في ف 1- 2، وهي تتيح لنا أن نستكشف البنية الخاصة بلوقا ومقاله اللاهوتي. لقد أدخل الإنجيلي التقليد الذي جمعه حول أصول يسوع، في إطار تدويني لا يعود مؤسّساً على الموازاة. وهكذا بدا أميناً لا لحرفية مراجعه، بل لديناميّتها.
إذن، نعرض بناء للنصّ يدلّ على تلاحمه الأدبي الخاص. وهو يبرز ثلاث مجموعات: 1: 5- 80؛ 2: 1- 38؛ 2: 39- 52. وهكذا ينكشف دور الروح القدس: فهو الذي يجعل الشهود (اليصابات، زكريا، يوحنا بطريقته) يتكلّمون. وهو يعطي العاقر أن تحبل والبتول أن تنجب طفلاً.
أ- البتولية الخصبة ب- الإبن المخلّص
1- دورة زكريا (1: 5- 23) مقدّمة تاريخية
بشارة يوحنا مولد يسوع
2- دورة اليصابات (1: 24- 58) رسالة سماوية: المجد لله في العلى
الحبل بيوحنا ختانة يسوع
بشارة يسوع التقدمة إلى الهيكل
الزيارة ونشيد مريم ظهور المخلّص
مولد يوحنا شهادة سمعان
نشيد التسليم
شهادة حنة
3- دورة يوحنا (1: 59- 80) ج- فصح يسوع
ختانة يوحنا الطفل عبد الله (2: 39- 52)
ظهور النبي يسوع في الهيكل
نشيد زكريا "عند أبي"
حياة يوحنا الخفية حياة يسوع الخفية

إن الإطار اللوقاوي في ثلاث دورات يستند إلى العناصر التدوينية التالية:
* في دورة زكريا: ثلاث بدايات رئيسية. "وحصل، وجرى" في 1: 5، 8، 23. إنها تذكّرنا أيام هيرودس، خدمة الهيكل، تكملة هذه الخدمة.
* في دورة اليصابات: ثلاث بدايات ثانوية تدلّ على الزمن: بعد هذه الأيام حبلت اليصابات (1: 24). وفي الشهر السادس (بالنسبة إلى اليصابات) (1: 26). وجاء وقت اليصابات لتلد (1: 57).
* دورة يوحنا. تضمّنت بداية واحدة: وحصل... إرتبطت باليوم الثامن.
إن هذه الدورات الثلاث تتسجّل في داخل تاريخ إسرائيل الحاضر منذ البداية (1: 5) بذكر هيرودس، ملك اليهودية، حتى النهاية (1: 80)، بالإشارة إلى يوحنا الذي "ظهر في إسرائيل". وهي تتيح لنا أن ندرك إدراكاً أفضل دور زكريا واليصابات ويوحنا في علاقتهم المتبادلة، وفي علاقاتهم مع يسوع. فهم يمثّلون، كل بطريقته، هذا الإسرائيل الذي فيه حُبل بذاك الذي يتجاوزه والذي يكشف الروح عن سّره. إن اسمه بارز في قلب الدورة المركزية (1: 31): يسوع.
ويخصّص الفصل الثاني كله ليسوع. نجد فيه ثلاث بدايات: وحدث (2: 1، 6، 15): في القسم الأول المكرّس لمولد يسوع. ويقدّم القسم الثاني الأشخاص بأسلوب مقولب لا يتبدّل: وها ان: كان رجل (آ 25). وأبوه كان، وأمه (آ 33). وكانت نبية، حنة (آ 36).
إن التحرّك من ناصرة الجليل إلى اليهودية، الذي انطلق في بداية المجموعة الثانية (2: 4) سينتهي بالرجوع من أورشليم، إلى الجليل، إلى الناصرة (2: 39). دلّ سمعان الشيخ على المخلّص، ولكننا لسنا هنا في ذروة الخبر. فيجب أن ننتظر المجموعة الثالثة (2: 39- 52) وكلمة يسوع السّرية في الهيكل (2: 49) لكي نكتشف الكلمة الأخيرة في هذه العودة إلى الجذور. يرى الشّراح أن هذه المجموعة الثالثة (وجود يسوع في الهيكل) يجب أن تعتبر وحدة مستقلة وإن لم نكتشف بدايتها.

د- الطفل المخلّص، الطفل الخادم
نحاول الآن أن نحدّد هدف المجموعتين الأخيرتين (2: 1- 38؛ 2: 39- 52). عنوان المجموعة الأولى: الطفل المخلّص. هذا ما أعلنه الملاك يوم الميلاد (2: 11؛ رج أع 5: 31) ففسّر هذا اللقب حين سمّى يسوع "المسيح الرب" كما في خطبة بطرس بعد العنصرة (أع 2: 38). والمجموعة الثانية تتكلّم عن الطفل الخادم (2: 43: الصبي) الذي ظهر في هيكل أورشليم. سيعود هذا اللقب في بداية سفر الأعمال، بموازاة لقب الرب (أع 3: 13، 26؛ 4: 27- 30).
إن بداية ف 2 التي دوّنها لوقا، لا تكتفي بتحديد موقع مولد يسوع في حدود إسرائيل. بل هي تفتحه على البشرية كلها. فنحن ننتقل من عبارة "وحدث أنه في أيّام هيرودس، ملك اليهودية" (1: 5)، إلى عبارة "وحدث في تلك الأيّام أنه صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن تحصى المسكونة كلها" (2: 1). فالحدث المركزي الذي يريد لوقا أن يشهد له، يغرز جذوره في ماضي إسرائيل (1: 5- 80) ويمتدّ امتداد العالم (2: 1- 38).
أتاح لنا ف 1 أن نحدّد موقع هوية يسوع واسمه داخل تاريخ إسرائيل. هذا التاريخ الذي فيه أعطى الروح لاليصابات وزكريا بأن يتكلما، وليوحنا بأن يشهد بفرحه لذاك الآتي إلى بيته، قد توسّع ساعة حبلت الكلمة في الروح القدس. وبعد أن رسمت بداية ف 2 الكثافة التاريخية للحدث، قدّمت الإطار الجغرافي والسياسي: إحصاء شامل. لقد تمّت ولادة يسوع في امبراطورية، فضاعت في هذه الحركة الإدارية العامة. إن الكلمة التي صارت حدثاً، لم تشعر بها أيضاً الجماعة اليهودية الأمينة لشريعة موسى (2: 21- 38). نال الطفل اسمه ولكن سمعان (ومعنى اسمه: السامع) وحده أدرك سّره بإلهام من الروح القدس (2: 29- 32).
وحدث الهيكل (2: 39- 52) حيث قال الصبي كلمته الأولى، يضمّ على مستوى تاريخ العهد، المسيرتين السابقتين. فتاريخ العهد هذا الذي يجمع يا وعد واحد إسرائيل (1: 5- 80) وكل الأمم (2: 1- 38) يتمّ في هذا الابن الذي حبل بالروح القدس: إنه حكمة الله، كلمة الاب الحية من أجل شعبه، وجواب شعبه البنوي، وطاعة غير مشروطة لأبيه.
كيف تتمّ الوحدة بين هذين الفصلين؟ في ذلك الذي يوحّد التاريخ، في الروح القدس. فهو يعطي نعمة الكلام ونعمة الحبل. فمن تاريخ إسرائيل (له كلمة ظلّت عقيمة) ومسيرة الأمم (تحصي أيام البشر ولا تعطيها معنى) صنع الروح القدس تاريخ العهد.

3- تقديم النصّ
منذ الآية الأولى التي فيها نتحدّث عن "ملك اليهودية" حتى التي تتحدّث عن يوحنا كما ظهر لإسرائيل، يبدو المناخ مطبوعاً بالعالم اليهودي. لقد تمثّل كل إسرائيل في دورات زكريا واليصابات ويوحنا: زكريا مع الهيكل، الشعب مع ملكه (المرأة تدلّ على الشعب) والنبي مع أرضه. بيد أن النصّ يشدّد على الكلمة النبوية التي تسير مسيرتها في إسرائيل.
وفي تسلسل التاريخ المتواصل برزت ظاهرة جذرية وجديدة: تقبل زكريا واليصابات الروح لكي يتكلّما، ويوحنا لكي يشهد، أما مريم فلكي تلد. وهذا الجديد ظهر في الدورة الثانية: "في الشهر السادس" (1: 26). وهكذا لا يكون حدث البشارة والزيارة بداية مطلقة: إنه يتسجّل في زمن إليصابات أي في تاريخ إسرائيل.
وكانت خطوة جديدة مع بداية ف 2: خرج أمر من أوغسطس قيصر. كان الحبل والانتظار في قلب تاريخ إسرائيل. أما أفق الميلاد فهو الإمبراطورية الرومانية. إن بكر مريم هو مخلّص جميع التابعين لسلطة الإمبراطور الذين ضمّهم هذا الإحصاء: إنه المسيح الرب أي سيد الكون والتاريخ. هكذا اعترف به الرعاة في البرية وسمعان وحنة في هيكل أورشليم. إنهم شهود مميّزون وصورة مسبقة للطريقة الجديدة والنهائية التي بها يجب أن يكون إسرائيل شاهداً في الأمم.
في ف 1 برز معنى وبُعد مهمّة السابق النبوية. أما ف 2 فشدّد على هوية يسوع ومدلول مجيئه من أجل جميع الأمم.
ونقرأ في نهاية ف 2 حدثاً يبدو بشكل نبوءة: إنه يوجّه أنظارنا نحو المستقبل. فأوّل كلمة تفوّه بها يسوع ألقت ضوءاً جديداً على ما قيل وجعلتنا نستشف سّر هذا "الطفل الخادم". وهو يشرف على قراءة الإنجيل. فهذه الكلمة الأولى لا تعبرّ عن إسم أو لقب جديد. بل تفهمنا كيف سيلتزم يسوع في تاريخ البشر: هو الإبن في المطلق. وإذ كشف لنا التزامه وخضوعه المطلق تجاه أبيه، أدخلنا في سّر شخصه الذي لا تحويه كلماتنا: "لم يفهما ما قال لهما" (2: 50).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM