إيمان الكنعانيَّة

 

إيمان الكنعانيَّة

 

الأسبوع الثاني عشر بعد العنصرة (أف 3: 1-13؛ مت 15: 21-28)

 

21وخرجَ يسوعُ من هناك، وأتى إلى تخومِ صورَ وصيدون. 22وها امرأةٌ كنعانيَّةٌ من تلكَ التخومِ خرجَتْ وهي صارخةٌ وقائلة: “ارحمْني يا ربُّ، يا ابنَ داود، ابنتي تُقادُ سوءًا بيدِ الشيطان.” 23أمّا هو فما أجابَها بكلمة. وقرُبَ تلاميذُه وطلبوا منه وهم قائلون: “اصرِفْها لأنَّها تصيحُ وراءَنا.” 24أمّا هو فأجابَهم وقالَ لهم: “ما أُرسلتُ إلاّ إلى الخرافِ التي ضلَّتْ من بيتِ إسرائيل.” 25أمّا هي فأتَتْ وسجدَتْ له وقالَتْ: “يا ربُّ، ساعِدْني!” 26فقالَ لها: “لا يَحسُنُ أنْ نَأخذَ خبزَ البنينِ ونَطرَحَه للكلاب!” 27أمّا هي فقالَتْ: “نعم، يا ربّ، والكلابُ آكِلةٌ من الفتاتِ المُتساقطِ من موائدِ أسيادِها، وعائشة.” 28حينئذٍ قالَ لها يسوع: “يا امرأة، عظيمٌ هو إيمانُك! يكونُ لكِ كما أردتِ.” وشُفيَتِ ابنَتُها من تلكَ الساعة.

*  *  *

يحتلُّ خبر المرأة الكنعانيَّة موقعًا مفصليًّا في خبر متَّى. فيشكِّل الحدّ المشترك بين النظام التفرُّديّ الذي أعطاه يسوع لتلاميذه في 10: 5-6 ("إلى طريق الوثنيِّين لا تمضوا. وإلى مدينة السامريِّين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحريّ إلى الخراف الضالَّة في بيت إسرائيل") والنظام الشموليّ الذي نقرأه في 28: 19:("فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم..."). في 15: 24 ("لم أُرسل إلاَّ إلى الخراف الضالَّة في بيت إسرائيل") أخذ يسوع لنفسه الأمر الذي أعطاه للرسل في 10: 6 (امضوا فقط...) ونسيَ أنّ اليهوديّ لا يخالط الوثنيِّين ولا أبناء السامرة. وهكذا فتح الطريق إلى تفسير رمزيّ أي مبتعد عن الإتنيّات والأعراق في عبارة "بيت إسرائيل": "فالخروف الضالّ" في بيت إسرائيل، هو اليهوديّ أو الوثنيّ الذي يطلب لدى الماسيّا يسوع راحة القلب وشفاء الجسد (11: 28-30). فتكون المفارقة كما يلي: لا شموليّ إلاَّ في المفرد ولا تفرُّديّ إلاَّ في الجماعة. والتفرُّديَّة الدينيَّة ترتبط ارتباطًا حميمًا بالانتماء إلى مجموعة عرقيَّة محدَّدة تحديدًا واضحًا. ومقابل هذا، الشموليَّة تمرُّ بالتعرُّف إلى فرديَّة كلِّ إنسانٍ واقفٍ أمام كلام يسوع.

كلُّ هذا يمنعنا من قراءة مت 15: 21-28 قراءة حرفيَّة، فنعتبر أنَّ يسوع احتقر هذه المرأة الكنعانيَّة في البداية، ثمَّ في النهاية، دلَّ على احترام عميق لإيمانها.

قلَّما خرج يسوع من المنطقة اليهوديَّة. أمّا هنا فمضى إلى "نواحي صور وصيدا". لا يحدِّد الإنجيل. بل إذ يقول "صور وصيدا" يشير إلى العالم الوثنيّ الواقع إلى الغرب من العالم اليهوديّ. وإذ يذكر "جرش" فهو يقودنا إلى المدن العشر التي أسَّسها اليونان لتقف سدًّا أمام الامتداد اليهوديّ (8: 28-34). في المدن العشر، الوثنيُّون هم خنازير في نظر اليهود، وفي نواحي صور وصيدا هم كلاب.

إلى يسوع أتت امرأة كنعانيَّة، والكنعانيُّون أعداء بني إسرائيل على مستوى الإيمان والعبادة. غير أنَّ هذه المرأة دعت يسوع "ابن داود"، أي الماسيّا الذي وُعد به إسرائيل. وهكذا لم تعد "وثنيّة" بكلِّ معنى الكلمة. وجَّهت كلامها إلى يسوع مرَّة أولى وتوسَّلت لديه من أجل ابنتها (آ22)، فما أجابها بل تركها "تصرخ" وتصيح. تدخَّل الرسل لديه لأنَّهم انزعجوا من صراخها: أطلِقْها. أرسلْها، حرِّرها. أجابهم: "لم أُرسَل..." وهكذا استعاد ما قاله في ف 10 دون الإشارة إلى الوثنيِّين وأبناء السامرة.

"أتت" المرأة. اقتربت من يسوع. "سجدت" وتوجَّهت إليه "كالربّ" الذي يخلِّص. تدرُّجٌ على مستوى الإيمان. من "الماسيّا" ابن داود، إلى الربّ. أوَّلاً، لم يجبها. هنا أجابها في صورة رمزيَّة، وكأنَّه بدأ الحوار معها. ولكنَّ ما قال لها لا يختلف عمّا قاله لتلاميذه: الفصل تامّ بين شعب إسرائيل والآخرين. الخبز خبزُ البنين. هم في داخل البيت، أمّا الكلاب فخارج البيت ولا خبز لهم.

ما تراجعت المرأة. بل توجَّهت إليه للمرَّة الثالثة: هو الربّ (كيريوس). لا تراجع في إيمانها بمن هو أمامها. وبإيمانها تغلَّبت على تفكير التلاميذ المنغلقين على ذواتهم: نحن وحدنا أبناء إبراهيم. انطلقت من كلام يسوع وفسَّرته بشكل إيجابيّ. ماذا يبقى للكلاب بعد أن يأكل البنون؟ الفتات. لا بأس. ما قالت: نحن مثلهم. ونحن نأكل معهم. فنحن بشر كما هم. كلاّ. بل: اتركْ لهم الخبز وأعطِنا الفتات. فالوفرة عندك يا ربّ، ومعك خبز للجميع، والجميع يقدرون أن يأكلوا. ففي تكثير الأرغفة جمعوا من الكسر "اثنتي عشرة قفَّة" (14: 20) بعد أن أكل الجميع وشبعوا. أما يحقُّ لنا أن نأكل ممّا فضل؟

تغلَّب العالم الوثنيّ على العالم اليهوديّ أو على الأقلّ تساوى معه. ففي تكثير خبز آخر، يُدعى الوثنيُّون ويأكلون ويفضل عنهم "سبع سلال مملوءة" (15: 37). ما انتصر الوثنيُّون لأنَّهم أبناء إبراهيم بالجسد ولا أبناء ختان اللحم. انتصروا بإيمانهم. وانتصرت المرأة على يسوع الذي تعجَّب من إيمانها: "عظيم إيمانك" (آ28). يشبه إيمان قائد المئة (8: 10: "لم أجد مثل هذا الإيمان..."). ويختلف عن إيمان التلاميذ. قال لهم يسوع: "يا قليلي الإيمان" (6: 30). وأعاد كلامه أيضًا عند تهدئة العاصفة (8: 26). كما قال لبطرس الذي كاد يغرق (14: 31).

إيمانكِ عظيم. مع أنَّكِ "وثنيَّة". وهكذا صارت بنتَ إبراهيم بالإيمان. وتابع يسوع: "ليكن لك كما تريدين". أنت تريدين وأنا أعمل إرادتك. تفوَّقت الكنعانيَّة على بيت إسرائيل وبدَّلت أسلوب الرسالة. فالإنجيل لا يتوجَّه فقط إلى فئة معيَّنة لها كلُّ الامتيازات، بل إلى الجميع. فالمجيء إلى يسوع يتمُّ بالإيمان وبالإيمان وحده.

ماذا نستخلص من هذا النصّ؟

- القريبون من يسوع هم الذين يؤمنون. والإيمان يتدرَّج شيئًا فشيئًا من إيمان تقليديّ لأنَّنا معمَّدون، أو لأنَّ أهلنا كانوا مسيحيِّين. والهدف الوصول إلى إيمان شخصيّ مع يسوع المسيح ابن الله الحيّ الذي يملأ حياتنا يومًا بعد يوم.

- نحن مسيحيُّون. شكرًا للربّ. فهل نحن نمجِّد اسم المسيح؟ هل حياتنا نور للذي حولنا أم نكتفي بتقاليد تعوَّدنا عليها. نأتي إلى القدَّاس، هذا إذا أتينا. نادرًا ما نقرأ الإنجيل ونتعمَّق بإيماننا.

- كان التلاميذ شبه حاجز بين المرأة ويسوع. هو انفصال بينهم وبين هذه الوثنيَّة التي ألحَّت وألحَّت حتَّى نالت شفاء ابنتها. وهكذا تمَّ دخولُ الوثنيِّين في مسيرة الإنجيل. فهل نرضى نحن بذلك أم نشبه الشعب اليهوديّ؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM