مهما فعلتم مع إخوتي هؤلاء الصغار

 

مهما فعلتم مع إخوتي هؤلاء الصغار

 

أحد الأبرار والصدِّيقين (عب 12: 18-24؛ مت 25: 31 -46)

 

31"ومتى ابنُ الإنسان آتٍ في مجدِه ومعهُ ملائكتهُ القدّيسون كلُّهم، حينئذٍ يجلسُ على عرشِ مجدِه. 32فيقيمُ الخرافَ عن يمينِه والجداءَ عن شمالِه. 34حينئذٍ يقولُ المَلِكُ لأولئكَ الذين عن يمينِه: "تعالوا يا مباركي أبي، رثُوا الملكوتَ المُعَدَّ لكم منذُ قاعداتِ العالم، 35لأنّي جعتُ فأعطيتموني لآكلَ، وعطشتُ فسقَيتُموني، وغريبًا كنتُ فآويتُموني، 36وعريانًا كنتُ فكسوتموني، ومريضًا كنتُ فزرتموني، وبين الأسرى كنتُ فأتيتُم إليَّ." 37حينئذٍ يقولون له، أولئك الصدّيقون: "يا ربَّنا، متى رأيناك جائعًا فأطعَمْناك، أو عطشانَ فسقَيناكَ. 38ومتى رأيناكَ غريبًا فآوَيناك، أو عريانًا فكسَوناك. 39ومتى رأيناكَ مريضًا أو بين الأسرى فأتينا إليكَ." 40فيُجيبَ الملكُ ويقولُ لهم: "آمين أنا قائلٌ لكم: كلَّ ما فعلتم لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغارِ لي فعلتُم."

41حينئذٍ يقولُ أيضًا لأولئكَ الذين عن شمالِه: "اذهبوا عنّي يا ملاعينَ إلى نارِ الأبد، تلكَ المُهيَّأةِ للثلاّبِ ولملائكتِه. 42لأنّي جعتُ وما أطعمتُموني، وعطشتُ وما سَقَيتموني، 43وغريبًا كنتُ وما آويتموني، وعريانًا كنتُ وما كسوتموني، ومريضًا كنتُ وبَينَ الأسرى كنتُ وما زرتموني." 44حينئذٍ يجيبُه أولئك أيضًا ويقولون: "يا ربَّنا، متى رأيناكَ جائعًا أو عطشانَ أو غريبًا أو عريانًا أو مريضًا أو بين الأسرى وما خدمناك؟" 45حينئذٍ يجيبُ ويقولُ لهم: "آمين أنا قائلٌ لكم، كلَّ ما أنتم ما فعلتم لواحدٍ من هؤلاءِ الصغارِ، لي أيضًا ما فعلتُم." 46ويذهبُ هؤلاء إلى العذابِ الأبديّ، والصدّيقون إلى الحياةِ الأبديَّة.”

*  *  *

البارّ هو الذي يبحث عن مشيئة الله ليعمل بها. وعنهم قال الربّ: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ فإنَّهم يُشبعون". يُشبعهم الله الآن وفي كلّ آن، ولا ينتظر وصولهم إلى السماء. والصدِّيق هو الذي يتحلَّى بالصدق: لا يكتفي بالقول والكلام، لا يكتفي بأن يقول "يا ربّ، يا ربّ"، بل يعمل.

هذا الأحد، نتذكّرهم. كانوا آباءنا في أعمال البرّ. منذ أيُّوب البارّ وصولاً إلى طوبيَّا وإبراهيم وإسحق ويعقوب وغيرهم. هم الذين يُدعَون "القدِّيسين" في العهد القديم، كما في الحضارات الشرقيَّة. وتذكرهم الرسالة إلى العبرانيِّين على أنَّهم كانوا من أهل الإيمان. هؤلاء كلُّهم حاضرون معنا، فتقول فيهم الرسالة إلى العبرانيِّين: "نحن محاطون بسحابةٍ كثيفةٍ من الشهود" (12: 1).

وتساءل الناس في زمن المسيح، ونتساءل نحن: كيف يكون الإنسان من الأبرار والصدِّيقين؟ هنا نقرأ "إنجيل الدينونة" مع ما يُدعى أعمال الرحمة. يكون يسوع الراعي ومعه قطيعه. يفرزهم عن يمينه (الخراف) وعن شماله (الجداء). مَن يدين الربُّ؟ الشعبَ اليهوديَّ فقط؟ كلاَّ. المسيحيِّين وحدهم؟ كلاَّ. إذًا، مَن يدين؟ "جميع الشعوب". البشريَّة كلُّها تُوزَن في ميزان المحبّة العمليّة، كما قال أحد القدِّيسين: "في نهاية حياتنا نُدان على المحبَّة"، ولا نُدان على شيءٍ آخَر. أين صلواتنا؟ لا بأس بها. أين ممارساتنا التقويَّة؟ لا بأس بها، ولكنَّها تبعدُنا مرَّاتٍ عن الجوهر وتُبقينا عند القشور.

المبارَكون هم الذين عملوا: أَطعموا الجائع، سقوا العطشان، كسوا العريان، آووا الغريب، زاروا المريض، راحوا إلى السجين. والملعونون، أي الذين لا ينالون البركة، يُحرمون منها. هم الذين لم يعملوا. هو حرف النفي يتكرَّر ستّ مرَّات، فيطرق على قلب الإنسان في ساعة الدينونة فيملأه رهبةً ومخافة.

ستَّة أعمالٍ ذُكِرَت. ولماذا لم يذكر الربّ سبعة أعمال؟ لئلاَّ نَحسب أنَّنا نكتفي بهذه الأعمال، ونعتبر نفوسنا من المبارَكين. فاللائحة طويلةٌ وطويلةٌ جدًّا، لأنَّ المحبَّة تخترع الأعمال والأعمال، والعواطف والكلام والبسمة والمشاركة في الحزن، كما المشاركة في الفرح. منذ الآن، ونحن على الأرض، نشارك الربّ في محبَّته، كما تقول فيه المزامير حيث يهتمّ حتَّى بوحوش البَرّ.

منذ القديم، كان لكلّ شعبٍ إلهه وشرائعه، وهو منغلق على ذاته. مثلاً، في التوراة، أنت لا تأكل لحمًا نجسًا بل تبيعه للغريب. أو أنت تقرض الغريب بالرِّبى لا ابن القبيلة وابن جماعتنا... وفي عالمنا العربيّ نسمع: أُنصُرْ أخاك ظالمًا كان أو مظلومًا. ومَن هو أخوك؟ ابن القبيلة. وسائر البشر؟ هم أعداؤك. إذًا، لا تساعدْهم، بل إذا استطعتَ اسلُبْهم وانهبْهم.

أمَّا في المسيحيَّة، فلا وجود بعدُ لعدوّ: من الواجب علينا أن نحبَّهم، ونساعدهم فنكون مثل السامريّ الصالح الذي لم يتطلَّع إلى هويَّة ذلك الجريح. وفي أيّ حال، لا هويَّة خاصَّة له سوى أنَّه إنسان. هو مُعرًّى. كان بالإمكان أن نعرفه من لباسه، ولكن لم يَبْقَ عليه لباس؛ وأن نعرفه من لغته، من لهجته، لكنَّه لا يستطيع الكلام. هو مُلقًى هنا على الأرض.

المحبَّة اخترعت. رأى ذاك السامريُّ الجريحَ. إقترب منه، لمسه، داواه بالزيت والخمر. حمله على دابَّته. ربَّما مشى وراءه. أوصله إلى الفندق، دفع الحساب عنه. وهكذا اهتمَّ به حتَّى النهاية. فالمحبَّة لا تكون نصف محبَّة. والمحبَّة لا تنتظر أن يكون الناس لنا عبيدًا لأنَّنا ساعدناهم. المساعدة تستطيع أن تقف عند المستوى البشريّ. لا بأس! فكلّ موهبةٍ فينا من شفقةٍ وغيرها، هي من لدن أبي الأنوار، أعرَفْنا ذلك أم رفضنا. ولكنَّ المستوى البشريّ لا يأخذنا إلى البعيد. أمَّا يسوع فقال: "كلّ مرَّةٍ عملتم هذا لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار فلي عملتموه". إذًا، مَن سوف يشكرنا؟ يسوع. وحين نرى وجه يسوع في كلّ وجه، على مثال الأُمّ تريزا ده كلكوتا، تصبح أعمال المحبَّة هذه وغيرها فرحًا واندفاعًا.

نكتشف في هذا الإنجيل وجه يسوع. هو ابن الإنسان، أيّ إنسانٍ من الناس. عاش معنا ومات مثلنا. ولكنَّه قام وينتظر أن يُقيمنا معه. وهو اليوم في مجده، بعد أن صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب.

وهو الملك الجالس على عرشه. أتى إلى الأرض يدعو الناس إلى ملكوته، ليكونوا مملكةً من نوعٍ آخَر، تكون المحبَّة فيها الملكة، لا الأنانيَّة والكبرياء والطمع وتكديس الأموال واستغلال الآخَر. في هذا الملكوت، الأوَّل هو الخادم، والفقراء هم أسيادنا.

مَن يقيم حول هذا الملك؟ الذين تصرَّفوا مثله. وها هو يعطيهم بعض الأمثلة. فهو الراعي الذي يعرف خرافه وخرافه تعرفه، ويُميِّز الخراف عن الجداء. أمَّا رمز الخراف فهو الوداعة والطاعة والطواعيَّة. فيسوع لا يأمرنا بأن نعمل، بل هو يدعونا، يعمل معنا، يضع يده مع يدنا فتعمل بسهولة، يضع الحنان في قلوبنا فنعامل المحتاج كما تُعامل الأُمُّ أولادها.

بعضنا يكتفي بالقول: لا نقتل، ولا نسرق، ولا نزني. ونحسب نفوسنا مؤمنين، مسيحيِّين أو غير مسيحيِّين. مثل هؤلاء، لا يدخلون ملكوت السماوات، ومثلهم الكتبة والفرِّيسيون الذين جعلوا للناس 613 فريضةً ووصيَّة. أمَّا يسوع فما عنده سوى وصيَّةٍ واحدة، ليست على مستوى النفي: لا تقتل، لا...، بل تدفعنا للمضيّ إلى الآخَر، وهكذا نشبه برحمتنا الآب السماويّ الذي هو الرحيم. وهو من قال لنا: "طوبى للرحماء لأنَّهم يُرحَمون."

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM