القدّيس يوسف مثال كلِّ ربّ بيت

القدّيس يوسف مثال كلِّ ربّ بيت

 

1

يبدو لنا يوسف في اعتنائه بتربية يسوع كالمثال الكامل لكلِّ ربِّ بيت.

رأى يوسفُ في يسوعَ، بوقار كبير كما بحبّ، الابنَ الوحيد للآبِ السماويّ: "إله من إله، نور من نور، إله حقّ من إله حقّ، مساوٍ للآب في الجوهر، حسب لاهوته، وكإنسان من طبيعة واحدة مثلنا. من هذا الإيمانِ الحيّ بألوهيَّة المسيح، استنتج يوسف، حسب مشيئة الله وبالنسبة إلى اهتمامات الله، أنَّ عمانوئيل ينبغي أن يُرفَع. إذًا، لن يستشير يومًا رغباته الطبيعيَّة وذوقه الخاصّ واهتماماته، وبالأحرى لا يسأل هيرودس ولا أوغسطس ليتعلَّم منهما واجباته بالنسبة إلى الطفل يسوع. ولكن في كلِّ شيء، وفي كلِّ زمان، يتَّخذ قاعدة لنفسه أوامر ونصائح آتية من السماء.

والحال، ذاك هو حقًّا الواجب الأوَّل للوالد أو للوالدة. في الأسرة، ينبغي أن يروا دومًا في أولادهم خلائق وبالتالي أخصَّاء الله. منذ نال هؤلاء الأولاد المعموديَّة، يجب أن ينظروا إليهم دومًا على أنَّهم نسل آدم المولودين من علُ أي المولودين من جديد بيسوع المسيح وبالكنيسة. إذًا ينبغي في كلِّ شيء وفي كلِّ زمان أن يربُّوهم حسب النواميس والنوايا ومن أجل اهتمامات يسوع والكنيسة، لا في اهتمام ثروتهما وطموحهما أو بحسب شقاوات العالم أو نظراتهم الشخصيَّة. ولكن وأسفاه! أين هم الآباء والأمَّهات الذين يسيرون دومًا في هذا الخطّ؟

والتربية التي أعطاها يوسف ليسوع تمتلك سماتٍ أخرى يَهمُّ أن نلاحظها. هي دينيَّة، جادَّة، مطبوعة بالسلطة، مملوءة بالعناية. وفي هذا النظام الكامل من التربية، كان يوسف ومريم دومًا على اتّفاق.

هذه التربية هي دينيَّة، خاضعة دومًا لهذا الاتّجاه الفائق الطبيعة، الذي جاء يقول ليوسف: سمِّه يسوع. قدِّمْه إلى الهيكل. احمله إلى مصرَ، أعدْه إلى إسرائيل، إلخ. وحين يصمت الملائكة، يسأل يوسف الناموس ولأنَّه أراد أن يطيع الناموس، أخضع يسوع للختان، للتقدمة إلى الهيكل، إلخ، واقتاده إلى أورشليم لأعياد الفصح. هكذا ينبغي أن يفعل الوالدون المسيحيُّون. ينبغي عليهم باستمرار أن يطلبوا من الله أنواره ونعمه. وفي الوقت عينه أن يستشيروا الكنيسة ويتبعوا توصياتها بدون تردُّد وبدون حياء بشريّ.

 

2

أعطى يوسف يسوعَ تربية مجدَّة. خرج يوسف من سلالة أسرة داود الملكيَّة. ومع ذلك مرَّن ابنه على العمل منذ نعومة أظفاره، وعلى العمل الشاقّ والخفيّ والمتعب والمؤلم. وأراد يسوع أن ينصاع له، لأنَّه عقاب الخطيئة الضروريّ، ويوسف الذي فهم نيَّة المخلِّص هذه، ساندها وفرض عليها مهمَّةً كلَّ يوم بيومه. وقال لنا التقليد إنَّهما كانا يصنعان سككًا للفلاحة وأنيار، وهذا يفترض أنَّهما كانا يعملان في الحديد والخشب. ويروي الإنجيل أنَّ اليهود كانوا معجبين بوسع وعمق العلم الذي لاحظوه في يسوع. فهتفوا: "أما هذا النجّار وابن النجَّار؟" (مر 6: 3؛ مت 13: 55). وهذا ما لمَّح إليه هذا المسيحيّ الحقيقيّ الذي سأله ليبانيوس، حظيَ يوليان الجاحد: "إذًا، ماذا يفعل نجَّار الجليل؟" أجاب الرجل القوس: "- يصنع تابوتًا لبطلك". كلامٌ نبويّ استطعنا أن نردّده منذ ذلك الوقت ونستطيع أن نردّده حتَّى نهاية الأزمنة لجميع المضطهدين الذين يفتخرون بأنَّهم ختموا قبر يسوع وكنيسته، ساعة الجليليّ يصنع لهم تابوتًا.

هذه التربية المجدَّة التي أعطاها يوسف لابن الله، سبق الأنبياء ولاحظوها. قال داود باسم حفيده: "أنا منذ صباي في الفقر والعمل" (مز 88: 16). ليت هذه التربية تكون درسًا لعددٍ من الأهلين الذين ينقصهم الوعي والذين يعطون أولادهم كمعلّمة، الكسل، الكسل الذي هو مدرسة جميع الرذائل (سي 33: 29)، الكسل الذي لا يكفّر فقط عن الخطيئة، بل يفتح لها الباب ويدخلها إلى المكان. وحين يُجعَل هؤلاء الأولاد في مدرسة الكسل، لن يتربُّوا (ويُرفعوا) أي لن يتفوَّقوا على نفوسهم، فيُحطُّون ويُحدَرون وكما تقول العامَّة يكونون مدلَّلين مفسودين، مهترئين. مدلَّلين كرجال وكمسيحيّين، ومدلّلين بضعف تعيس يكونون أوَّل ضحاياه.

ولا يكون العمل المفروض على الطفولة عمل الذاكرة والفهم. ينبغي أن يكون، في قدر ما، عمل الجسد فيمرّن الجسم والنفس، ويعطي الأعضاءَ الخفَّة والرشاقة والقوَّة. وإلاَّ ينقطع التوازن الذي ينبغي أن يكون بين ملكات الإنسان. بعض الأعضاء يصيبها التلف، وأعضاء أخرى تُحمَّل كثيرًا، باكرًا وبدون معيار. قيل: "الحياة هي في الحركة"، وفي هذه الحركة ينبغي أن تسير بخطوة واحدة الذاكرة والحكم والإرادة والجسد.

 

3

وهناك سمة أخرى لافتة للنظر للتربية التي أعطاها يوسف للطفل يسوع. هي مطبوعة بالسلطة، يوسف يأمر. والبرهان هو أنَّ يسوع يطيع (لو 2: 51). فتأمَّلوا إذًا من هو ذاك الذي يطيع وذاك الذي يأمر. الذي يطيع هو الحقّ والبرّ والشريعة، شخصيًّا. هو معصوم في ذهنه، لا يخطأ في إرادته. أخيرًا، هو الله. والذي يأمر هو مجرَّد خليقة أغنتها النعمة الإلهيَّة بعطاءاتها، ولكنَّها بعدُ معرَّضة لأن تُخطئ في ألف شيء. يوسف يأمر طاعة للشريعة التي كوَّنته ربَّ بيت. ويأمر بتواضع عارفًا كلَّ معرفة أنَّه أدنى بكثير من الذي يطيع. يأمر باعتداد كامل ووداعة عذبة. يأمر وهو يشعر بإعجاب دينيّ تحرّكه فيه رؤيةُ يسوع الخاضع لأوامره. يأمر يسوع وهذه السلطة التي يمارسها على ملك الملوك تجعل بأشواط وأشواط فوق يوسف القديم الذي صار الموكَّل على مصرَ كلِّها. فابن يعقوب كان رأى في حلم نبويّ، الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا راكعين عند قدميه في ركعة سجود (تك 37: 9). تمَّت هذه النبوءة. مرَّة أولى حين رأى يوسف أباه وأمَّه وإخوته الأحد عشر منحنين أمام عظمته الرفيعة وطالبين الخبز بتواضع. ولكنَّها تحت شكل أكثر عظمة في يوسف خطّيب مريم حين يسوع، شمس البرّ، ومريم التي قابلوها مرارًا بالقمر الذي يعكس على ليالينا نورَ الشمس المخفَّف، وجميعُ الذين من اليهود كانوا ينتظرون فداء إسرائيل عند قدميه في عواطف الاحترام والطاعة الواجبة لرئيس أسمى جميع عيل الكون.

أي مثل من أجل هؤلاء الوالدين الذين لا يعرفون بعدُ أن يأمروا، والذين يقولون لطفلهم في درس أوَّل: "تذكَّر، يا ابني العزيز، أنَّ الناس هم متساوون كلُّهم. إذًا، أنتَ مساوٍ لأبيك وأمّك اللذين يكونان أفضل صديقين لك، أحكم مستشارين لك ولكن لا يكونان رئيسين عليك. وكعلامة هذه المساواة الكاملة التي أقامتها الطبيعة، ينبغي أن تكلّم حتَّى جدَّيك كما تكلّم رفاقك. فقط، حين أغضب عليك لكي أعاقبك أجعل مسافة بيني وبينك!..." هكذا استسلم ملوك الأسرة بين يدَي من علَّم الأباطرة والملوك أن يركعوا أمام الثورة (الفرنسيَّة). وهكذا صار الأطفال الذين لا يخضعون مواطنين لا يمكن أن يُحكموا.

في هذه الفوضى، لا يمكن أن يربو الطفل. ولا يمكن أن يربو إلاَّ بقاعدة تحاول أن تصحّح ميوله الشرّيرة. بل هو يُحدَر باندفاع أهوائه التي لا يلجها شيء. وفي أيّ حُكم دُعيَ أن يعيش يصبح غير قابل للعيش في المجتمع، لأنَّه إذا لم يتربَّ على الطاعة منذ سنواته الأولى، ساعة هي ضروريَّة، عذبة، سهلة، لن يستطيع أن يخضع لها فيما بعد.

4

التربية التي مارسها يوسف مملوءة عناية. ففطنته الساهرة تجاه كثرة أعدائه وتكالبهم. لا تضعف أبدًا وقد تبدو لنا مفرطة لو لم يكن الله أعلن أنَّه على حقّ. مثلاً، قال له الملاك: "عُدْ إلى إسرائيل لأنَّ الذين طلبوا أن يقتلوا يسوع ماتوا، فرأى يوسف أنَّ واجبه أن يطيع ولكن إذ علم أنَّ ابنَ قاتل الأبرياء يملك في اليهوديَّة مكان أبيه، خاف، تردَّد، سأل، وبالتالي نال من السماء جوابًا يبرّر عنايته ويرسله إلى الجليل. أين هم الوالدون الذين يسهرون بمثل هذه العناية على الوديعة حين تكون الفتاة في مدرسة داخليَّة والصبيّ في المعهد! ولكن كيف تتدبَّر نظرتهم؟ هذا ما يعتبرونه نافلاً إن هم بحثوا عنه. ويستعدُّون دومًا ليطمئنوا نفوسهم حين ينبّهون إلى الأخطار على إيمان أولادهم وعلى أخلاقهم. يكفيهم أنَّ هيرودس مات، ولا يهمُّهم أن يكون له من يخلفه أم لا. يا للإهمال التعيس! كلُّ يوم يهلك آلاف وربوات النفوس.

ونضيف أخيرًا في هذا النهج العجيب من التربية، أنَّ يوسف ومريم متَّفقان دومًا. ويظهر هذا التعاطف الكامل في كلِّ أسرار طفولة يسوع، وينكشف في كلمات مريم: "أنا وأبوك كنَّا نطلبك متألّمين." (لو 2: 49). توافق ضروريّ لأنَّه إذا الولد وجد في ملاطفات أمّه حكمًا على قساوة أبيه العادلة، وإذ أمّه لا توافق ما يأمره أبوه، أو إذا أبوه هزئ بدروس الأخلاق الدينيَّة التي تعطيها أمُّه التقيَّة، تسيطر الفوضى في البيت وتصبح التربية كلُّها مستحيلة. وأسفاه! كم من الأسر هي هنا!

 

5

وحين صار يسوع ابن اثني عشر عامًا ودعاه أبوه السماويّ أن يُبرز في الهيكل، وسط العلماء، الحكمة الإلهيَّة الكامنة فيه، عرف يوسف أنَّ السلطة الأبويَّة الصادرة من الله لا يمكن في أيِّ حال أن تعارض سلطة الله. عندئذٍ توقَّف عن إعطاء الأوامر وأطاع ذاك "الذي تصدر منه كلُّ أبوَّة على الأرض وفي السماء" (أف 3: 15). إذًا، ترك ليسوع كلَّ الحرّيَّة التي تتطلّبها رسالةٌ نالها من فوق. لم يعد يتكلَّم، بل سمع عابدًا كلمة الله الذي يكشف في أورشليم وفي العالم هذا السرّ الذي لبث مجهولاً حتَّى ذلك الوقت: هذا الولد ابن الاثني عشر عامًا، الذي دُعيَ في الماضي بفم مريم ابن  يوسف (لو 2: 48) يبقَ له أبٌ وسط البشر، وهو فقط الابن الوحيد للآب السماويّ.

وهذا أيضًا درسٌ يعطي للوالدين الذين يلهمهم تطرُّف في سلطتهم يستحقُّ الشفقة، فيعارضون دعوة أولادهم إلى الحياة الكهنوتيَّة أو الرهبانيَّة أو يضايقونهم في تتميم واجباتهم الدينيَّة. هو تعدٍّ على حقّ الله على مخلوقاته، وحقّ يسوع المسيح والكنيسة على جميع الناس الذين صاروا أولادًا لهم بالمعموديَّة، وعلى حقّ هؤلاء الأولاد بأن يطيعوا، حقًّا، الله في كلِّ شيء وخصوصًا في اختيار حالة يعيشونها. هذا لا يعني أبدًا أنَّ الإنسان يحبُّ أولاده، بل يعني أنَّه يضحّي بهم لأنانيَّته، يعني أن يعطيهم الشقاء في هذا الزمن وفي الأبديَّة، يعني أن يهيّئ لنفسه خيبات أمل قاسية وربَّما ندامة لا شفاء منها.

 

صلاة

يا يوسف البارّ! يا أسعد الآباء في الأسرة. باسم سعادة لا تساويها سعادة وجدتَها حين وجدتَ في تتميم مهمَّتك السامية، نتوسَّل إليه: تعالَ إلى معونة جميع الذين نالوا من السماء أولادًا لكي يربُّوهم، كن بجانبهم، أحمهم في رسالتهم الصعبة، اسهر معهم على الوديعة التي سُلِّمت إليهم، اطلب لهم الأنوار والمساعدات والقوى التي يحتاجون إليها، وخصوصًا موهبة هذه السلطة الوادعة والقويَّة، الثابتة والمعتدلة المؤسَّسة على حقّ الله، والتي لا تتعدَّى أبدًا على مجاله، الذي هو الدافع الضروريّ لكلّ تربية صالحة. ويا مريم العذراء! يا أسعد الأمَّهات، اطلبي لجميع الذين لهم بيت يسوسونه التوافق التامّ الذي ساد بينك وبين يوسف والذي أمَّن السعادة للعائلة المقدَّسة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM