الفصل الرابع والاربعون القطب المركزي الملكوت في قلب الإنسان

الفصل الرابع والاربعون
القطب المركزي
الملكوت في قلب الإنسان
8: 27- 9: 13

1- قلب الإنجيل
مع اعتراف بطرس في الطريق الذي يقود إلى نواحي قيصرية فيلبس، ندرك ذروة إنجيل مرقس. وقبل أن نواصل مسيرتنا على خطى يسوع، لا بدّ من وقفة قصيرة لكي نستجمع المراحل التي سرنا فيها لكي نكتشف بُعد الوحي الذي تتضمنه. وهذه الوقفة ليست اعتباطية: فالانجيلي نفسه يدعونا إليها من خلال طريقته الشخصية في تدوين القسم المركزي من إنجيله. لقد سبق وشدّدنا على الدور الذي تلعبه الاجمالات حول يسوع في بداية هذه المراحل الثلاث (1: 14- 15؛ 3: 7- 12؛ 6: 6-7). وإذ ربطت هذه "الوصلات" التدوينية المراحل بعضها ببعض، ركّزت الانتباه على شخص يسوع، وذكّرتنا بأعماله السابقة وفتحتنا على أعماله التالية. هذه الأخيرة تبدأ بانطلاقة متدرّجة للتلاميذ: دعوة الرفاق الأربعة الأولين (1: 16- 20)، تعيين الاثني عشر (3: 13- 19)، إيفاد الرسل (8:6-13).
غير أن الإجمالة التي تبدأ بها المرحلة الرابعة تتّخذ شكلاً خاصاً: فإنباء يسوع بموته المقبل يشكّل منعطفاً في حياته، كما في حياة تلاميذه، وفي حياة كل من يلتزم بالسير وراءه. وقد عرف بطرس باسم رفاقه في معلمه "المسيح". وهكذا وصلنا إلى القسم الأولى من وحي يسوع كما قدّمه مرقس في بداية انجيله (1: 1): "بدء انجيل يسوع الذي هو المسيح".
وإذ تكلّم يسوع الآن عن ابن الإنسان وهو لقب أعطاه لنفسه مرتين في المراحل الثلاث الأولى ليدلّ على سلطانه لمغفرة الخطايا (2: 10) وعلى سيادته على السبت (2: 28)، إذ تكلّم هكذا، رسم برنامج الألم والموت (8: 31؛ رج 9: 12)، وقدّم لتلاميذه صليباً يحملونه (8: 34). وسيتحدّد موقع هذه النظرة في حقيقة مخطّط الله، لأن صوت الآب استعاد المبادرة، كما في العماد، فدلّ على "الابن الحبيب" (9: 7؛ رج 1: 11)، على "ابن الإنسان" الذي هو ابن الله (15: 39). تلك هي الألقاب التي تسيطر على القسم الثاني من الإنجيل وذلك بالتوافق مع الآية الأولى في انجيل مرقس: "بدء انجيل يسوع الذي هو المسيح وابن الله" (1:1).
إذن، إرتسم اتجاه حاسم في مسيرة الإنجيل فحدّدت قطباً حوله تتوزّع لوحتا الإنجيل. إن هذه الاجمالة التي سنقرأها الآن، ستشكّل القطب المركزي الذي فيه ينكشف مصير يسوع، ومصير الإنسان بعد أن ارتبطا ارتباطاً وثيقاً.
إستعمل مرقس المتتالية التقليدية التي استعادها متّى (16: 13- 17: 13) وأوجزها لوقا (9: 18- 36): اعتراف بطرس (8: 27- 30)، الانباء الأول بالآلام (8: 31- 33)، التجلي (9: 2، 8)، سؤال حول إيليا (9: 9-13). وبنى نصّه بشكل يستجمع كل العناصر، وأبرز النقطة الأساسية في قلب الإنجيل، أي المعنى الذي يعطيه يسوع للحياة البشرية. هذا البناء يجد ارتكازه في المرحلة الثالثة وفي المرحلة الرابعة، وهو يفرض علينا أن نحلّله لنكتشف التعليم الذي يحمله إلينا. فنتساءل عن الطريقة التي بها رأى مرقس المسيح (كرستولوجيا) والكنيسة (اكليزيولوجيا). فنكتشف مدلول، "السرّ المسيحاني" الذي طلب يسوع إلى تلاميذه أن يحفظوه في بداية المتتالية وفي نهايتها (8: 30؛ 9: 9).

2- تقديم النصّ
نقسم هذا النصّ إلى ست وحدات أدبية تنتمي كلها إلى التقليد الازائي. ربطها متّى بتكوين الإيمان المتدرّج في الجماعة الكنسيّة (مت 14-17). ولوقا بتأليف فيه يصبح سرّ يسوع داخلياً في الصلاة، ساعة يستعد للصعود إلى أورشليم مع تلاميذه (9: 31- 51). أما مرقس فجعلها في صياغة خاصة نكتشف فيها على التوالي: سؤال يسوع حول رأي الناس فيه. اعلان بطرس مع أمر بالصمت حول "المسيح". تعليم يسوع الذي ردّ عليه بطرس بعنف. كرازة حول معنى حياة يسوع. تجلّي يسوع، وما قاله بطرس على الجبل. إعلان الآب وأمر يسوع بالصمت حول ما شاهدوا. سؤال من التلاميذ حول ما يقوله الكتبة عن إيليا.
مقاطع سبعة سوف نتوقف عندها سريعاً.
أ- من هو يسوع
إن نشاط يسوع طرح سؤالاً على الناس. فأجابوا حسب آمالهم وتصوّراتهم الشخصيّة. هو يوحنا المعمدان، إيليا... إكتشفوا فيه شخصاً قديراً في القول والعمل، شخصاً يرتبط بانتظارهم المسيحاني. تصوّروا المستقبل على صورة الماضي، وما استطاعوا أن ينفتحوا على الجديد الذي يحمله وحي يسوع.
ب- أنت هو المسيح
لا يكفي أن نورد آراء الآخرين. فقد طلب يسوع من كل واحد أن يحدّد موقعه بالنسبة إليه. وتحدّث بطرس باسم التلاميذ، فاكتشف في يسوع تمام انتظار اسرائيل. فيسوع، في نظر بطرس، ليس المنادي بالحقبة المسيحانية وحسب. إنه ذاك الذي يحقّقها. ولكن ما هي فكرته عن المسيح؟ الشافي، طارد الشياطين، المعلّم، المنتصر.
ج- وحي ابن الإنسان
بعد اعلان بطرس، طفق يسوع يعلّم التلاميذ. إن تصورهم للمسيح غير كافٍ. لهذا يعطيهم تعليماً بشكل "بداية" جديدة. تكلّم عن آلامه، عن رذله بيد الشعب، عن موته قتلاً... مع وعد بالقيامة لم يدركوا بعده. ولكن بطرس رفضت هذا التعليم. هو لم يتحمّل فكرة مسيح "يجب" عليه أن يتألم ويموت.
د- معنى حياة الإنسان
ودعا يسوع الجموع مع تلاميذه، ولكن أية جموع؟ هل نسي مرقس أن يسوع هو وحده مع تلاميذه في أرض وثنية. في الواقع، إن التعليم الذي بدأ يسوع يكشفه يعني كل إنسان. لهذا يجب أن يسمعوه جميعاً، فلا ينحصر في مجموعة ضيّقة تحيط بيسوع. "من أراد أن يتبعني". نحن أمام نداء نتخذ قرارنا تجاهه. فالدعوة إلى التلمذة ليست امتيازاً محفوظاً لبعض الاشخاص.
هـ- التجلي
نحن أمام "تيوفانيا" تدلّ على أن ما قاله يسوع عن مصير ابن الإنسان، يدلّ على أصله الالهي. هذا الوحي الذي وصل إلى ثلاثة تلاميذ، يبدو بشكل رؤيا: جاء ايليا وموسى بجانب يسوع، فمثّلا الشريعة والانبياء، وذكّرا بمسيرة الوحي الالهي عبر تاريخ العهد.
و- هذا هو النبي الوحيد
الله نفسه هو الذي أعطى معنى الحدث. تكلّم في السحاب فأسمع صوته كما في العماد. ولم يتوجّه في هذه المرة إلى يسوع وحده (1: 11)، بل إلى التلاميذ الحاضرين هنا. يجب أن نسمع ليسوع وننفتح على تعليمه. ولكن أي تعليم سوى ذاك المتعلّق بآلام ابن الإنسان وقيامته. كانت الرؤية عابرة. وسكت الصوت السماوي. فيبقى على التلاميذ أن يسمعوا صوت يسوع وسط الحياة اليومية، وسط النداء والمقاومة، وسط الصعوبات والتجارب...
ز- من هو ايليا
وإذ كانوا سائرين في الطريق سأل التلاميذ معلّمهم، لا بشكل مباشر عن القيامة، بل عن عودة إيليا الذي يسبق المسيح ويقيم العدل والسلام في العالم. لقد رأوا على الجبل النبي العظيم بجانب يسوع. فلماذ لم ينزل من الجبل ليقوم بعمله كالسابق؟

3- من النصّ إلى يسوع
ما هو الدور الذي لعبه مرقس في صياغة هذه المتتالية؟ هل وجد مرقس هذه العناصر متفرقة، أم كانت قد تكوّنت في وحدة أدبية سنجد آثارها عند متى ولوقا؟
أ- تكوين النصّ
أولاً: الوحدة الأدبية الأولى (8: 27- 33)
إن الوحدة الادبية الأولى تتضمن اعتراف بطرس على طريق قيصرية فيلبس والانباء الأول بالآلام. ظنّ بعض الشرّاح أدن الارتباط بين الحدثين سابق لعمل مرقس التدويني. غير أن السؤال المطروح هو: هل قام يسوع نفسه بهذا الرباط ليصحّح التصوّرات المسيحية لدى التلاميذ، أم هي الكنيسة الأولى التي سعت إلى تنقية كل التباس في شخص مؤسسها، وذلك على ضوء آلام المسيح وقيامته؟ لقد شدّد مرقس على البعد الكرستولوجي للمقطع، لا ليدلّ على تعارض بين لقبين ليسوع المسيح، إبن الإنسان، ابر ليجعلنا ندرك ادراكاً أفضل ايمان التلاميذ تجاه سرّ يسوع الذي يذهلهم. إذن، يبدو أن يسوع نفسه أراد أن ينيرهم حول الطابع المحيّر للرسالة التي أوكل بها.
في النهاية، تبدو نظرة مرقس أمانة لتاريخ يسوع، وإن نسبنا إلى الإنجيلي تنظيم المتتالية وصياغة بعض الأمور الخاصة مثل التوصية بالصمت. فإن كان مرقس قد أعاد قراءة (مع الكنيسة الأولى) مسيرة يسوع التاريخية على ضوء القيامة، مبرزاً اللافهم عند التلاميذ، فلأنهم رأوا أعماله وأقواله، فطلب منهم أن يتجاوزوا ما فهموا أو أحسّوا به، وأن يسلّموا ذواتهم إلى شخصه وإلى سرّه.
لا شك في أن هناك اهتمامات كرستولوجية واكليزيولوجية: هذا ما يدلّ عليه وضع الجماعات المسيحية الأولى، لا سئما تلك التي بشّرها مرقس. فلقب "المسيح" الذي أعطاه الإيمان المسيحي ليسوع كان قد صار "اسم علم". وعبارة ابن الله التي وُلدت في محيط يهودي، كانت قد ضاعت علاقتها مع سفر دانيال. غير أنها ذكّرت التلاميذ بالطريقة التي بها دلّ يسوع على نفسه ورسالته، كما دلّ على آلامه وموته. فالمسيحيون الذين يرفضون الاسم، شأنهم شأن بطرس، قد أفهمهم مرقس ما في محاولتهم من أمور أرضية وشيطانية لا تتوافق مع أفكار الله.
ثانياً: الوحدة الادبية الثانية (8: 34- 9: 1)
أما التعليم الذي وجّهه يسوع إلى الجموع وإلى التلاميذ حوله معنى الحياة، فهو يشكّل الوحدة الادبية الثانية. ونحن نقابله مع متّى ولوقا. كان القولان الأولان (8: 34- 35) مجموعين في ينبوع مرقس. وهذا ما يدلّ عليه التوازي في مت 10: 38-39. وتربط آ 36-37 (تدوين مرقسي) هذين القولين الأولين مع آيتين دمجهما الإنجيلي ليتحدّث عن مجيء يسوع كالدّيان الاسكاتولوجي (كما في مت 10: 32-33؛ لو 8:12-9)
ما هو معنى هذه الصياغة؟ قال مرقس إن المسيح الذي أعلنه الإيمان المسيحي هو ابن الإنسان، أي ابن الله الذي أخذ حالتنا البشرية وواجه الآلام والموت قبل أن يبلغ إلى القيامة. وهكذا شدّد على الطابع المتعالي لابن الإنسان: هو ديّان ورجاء كل حياة بشرية. سيأتي في نهاية الأزمنة، ولكنه منذ الآن حاضر في القلوب، لأن ملكوت الله اقترب.
وهكذا بدا تأليف مرقس كتعبير عن الإيمان الكرستولوجي: يسوع هو المسيح. لقد تألّم حقاً. رذله المسؤولون الرسميون في شعبه. مات وبعد ثلاثة أيام قام. وسيأتي في المجد ليدين الأحياء والأموات. إن هذا الإيمان يلزم الكنيسة (كما يلزم كل إنسان) لتخاطر بحياتها من أجله ومن أجل الإنجيل، وتقتدي به فتدلّ على أن الذي سيأتي في مجد أبيه هو ذاك الذي يجيء بملكوت الله على الأرض.
ثالثاً: الوحدة الادبية الثالثة (9: 2- 13)
تكرسّت الوحدة الأدبية الثالثة لخبر التجلي مع الجدال حول ايليا فبدت حاضرة في ينبوع مرقس. ولكن اختلف الشرّاح حول تكوين هذا المقطع في التقليد القبل إزائي. هناك من حاول أن ينزع عن الخبر السطر والصور. يظنون أننا أمام تقديم لسرّ القيامة. جعلته الكرازة الأولى في وقت مؤزّم من رسالة يسوع على الأرض، وتوسّعت فيه بطريقة جليانية لتؤكّد التجذّر التاريخي للايمان بالبنوّة الالهية للقائم من الموت. وأسند آخرون هذا الخبر على خبرة حقيقية عاشها التلاميذ حميماً مع معلّمهم قبل الفصح والقيامة. ونحن نجد عنه رسمة سريعة في خبرة شخصية لدى يو 12: 27-28، وفي تذكّر للمخلّص في 2 بط 1: 16-18.
في أي حال، لا نستطيع أن نتناسى التعليم اللاهوتي الذي تضمنّه هذا المقطع قبل أن يدخل في التقليد الأزائي. ونحن نكتشف فيه مواضيع مسيحانية من العالم اليهودي الذي يرجو الاحتفال بملك الرب في عيد المظال الاسكاتولوجي (زك 14: 16- 21)، أو ينتظر موسى الجديد الذي يقود مسيرة الخروج النهائية (إر 16: 14- 15؛ أش 40: 3- 11؛ 63: 7-19). إن الاشارات الجليانية التي توسّع فيها متّى مثل: بياض الثياب ولمعان الوجه (مت 17: 2؛ رج دا 10: 6؛ 12: 3؛ مت 13: 40- 43؛ رؤ 1: 12- 16). ظهور موسى وايليا. الرؤية السماوية وصوت الوحي. كل هذا يدلّ على غنى التفكير المسيحي الاولاني حول سرّ شفافية بشرية يسوع، يدلّ على بنوله الالهية، وذلك خلاله حياته الأرضية التي كانت شبه مخفيّة.
ومهما يكن من أمر المسيرة الدقيقة التي سارها التقليد السابق لمرقس، كل شيء يشير إلى أنها وصلت إلى مرقس في خبر يتألف من ثلاث مراحل: تحوّل يسوع وظهور موسى وايليا، طرح بطرس الغريب، الصوت الذي تكلّم في الغمام.
يقوم التعليم الأساسي في كرازة حول تمجيد (وارتفاع) يسوع القائم من الموت بيد الآب. وقد استلهمت خطب أع التتويج المسيحاني في مز 2 و110، فتحدّثت عن هذا الموضوع (أع 2: 29-36؛ 4: 24- 31؛ 13: 32-37). حين جمع مرقس هذا الخبر مع النبذة القصيرة كن الجدال حول ايليا، توسّع فيه وذكر لا فهم التلاميذ والصمت الذي فرضه يسوع. وهكذا دلّ على الحقيقة الحاضرة منذ الآن لملكوت الله الذي يأتي بقوة (9: 1) في شخص يسوع الناصري الذاهب إلى الموت (8: 31). ويُدعى المؤمن، شأنه شأن بطرس والتلاميذ الأولين، لكي يرى مجد ابن الإنسان (8: 38) وبنوّته الالهية (9: 7) تحت أعراض بشريته المتألمة.
بعد هذا، لا نعود نستحي (8: 38) من مسيح يموت مرذولاً. لأن هذه هي مشيئة الآب السماوي تجاه ابنه الحبيب (9: 7). فمن سمعه وتبعه (8: 34) في هذه الطريق المحيّرة وجد، على مثال يوحنا (8: 28؛ 9: 13)، الباب إلى ملكوت الله. ولا نستطيع أن نكتشف البعد الحقيقي لهذا التعليم، إلا على ضوء الفصح والقيامة (9: 9). غير أن هذا الضوء قد أطلّ في أفق وجود المعلم في الجليل، فاستشفّته عيون التلاميذ من بعيد.
هنا نكتشف النظرة الرعائية الخاصة بمرقس الذي (من جهة ثانية) يبدو متحفظاً جداً حين يصوّر القيامة في صباح اليوم الأول (الأحد) من الأسبوع (16: 1-8). ففي قلب انجيله، توسّع في سرّ القيامة في هدف كرازي بدا منذ الآن واضحاً للقارىء. لم يكن ربما من الضرورة أن يقدّم خبراً مفضلاً عن الخبرة الفصحية، لو كان القطب المركزي في خطبته الإنجيلية قد توسّع فيها: تدرّجُ التلاميذ في مسيرة الإيمان بيسوع (8: 27-30). كشف بفم يسوع لبعد الألم في رسالة ابن الإنسان رغم مقاومة أخطائه (8: 31-33). تعميق نظرة الإيمان في خبرة ما زالت عابرة، حيث نستبق القيامة، لأن الله يعطي المؤمن نظرته الخاصة إلى الإبن (9: 2- 10) ويعلّمه كيف يقرأ الكتب المقدسة كلها في هذا الضياء الصحيح (9: 11-13).
وبمختصر الكلام، إذا كان مرقس قد فضل أن يبرز هذا كله في قلب انجيله، فلأنه اهتم بالمدلول الحالي بالنسبة إلى الجماعات الكنسية، لحياة يسوع، إبن الله، وموته وقيامته. هذه هي النتائج التي وصلت إليها الابحاث حول تاريخ التقليد وتدوين هذا المقطع. ونزيد أيضاً ما يحمله التحليل البنيوي لتأليف مرقس الأدبي.
ب- بنية النصّ
نستعيد هنا في هذا التحليل الأدبي للبنية، الإشارات المكانية والزمانية والعناصر المتعلّقة بالاشخاص في هذا الخبر. فإن 8: 27- 33 و9: 2-13 تبدآن بإشارة تدلّ على اتجاه (نحو قرى قيصرية فيلبس، 8: 27. نحو جبل عالٍ ، 9: 2). إذا تفحصنا هذين المقطعين، وجدنا فيهما أموراً متوازية، بينما يستعمل المقطع المركزي (8: 34- 9: 1) لغة مختلفة. وإن تسلسل الأحداث يتم هنا وهناك بتوازٍ معاكس وسط تضمين كبير يقدّم موضوعه الرئيسي العلاقة بين إيليا ويوحنا المعمدان (8: 28- 9: 13).
ماذا نكتشف؟
- حواراً (سؤال/ جواب) بين يسوع وتلاميذه حيث يدخل إيليا (أ= 8: 27-28؛ أأ= 9: 11-13).
- تصريحاً حول يسوع، أطلقه بطرس ثم الصوت السماوي، وتبعته توصية بالصمت (ب= 8: 29- 30؛ ب ب= 9: 7- 10).
- تعليماً ليسوع حول شخصه: في الأقوال (الانباء بالآلام)، في الأعمال (التجلي) مع ردّة فعل غير موفّقة من قبل بطرس (ج= 8: 31- 33؛ ج ج= 9: 2- 6).
- المحور (د). بناه مرقس حسب رسمة التقابل الدائري (8: 34 و9: 1؛ 8: 35 و8: 38؛ 8: 36-37)، فأبرز سلطة يسوع الحاسمة على حياة كل إنسان. هو لا يستطيع أن يخلّص ذاته بذاته.
ونبدأ بالنواة المحورية (د). جاءت المسيرة على خطى يسوع جواباً علي نداء جذري، فافترضت قراراً حراً: "من أراد". عليه أن لا يريد أن يخلّص نفسه بقواه الشخصية. الحياة والخلاص يرتبطان بالنسبة إلى الإنسان في إطار الدينونة النهائية. وعلى هذا الضوء يتحدّد معنى الخيار البشري الآني تجاه ابن الإنسان في الثقة بملكوت الله الذي يأتي. فالحياة الحاضرة هي منذ الآن حقل عمل نكتشف فيه مجيء ابن الإنسان في قلب المؤمن بقوة قيامته.
ونتوقّف على النصوص التي تحيط بهذه النواة. نكتشف تدرجاً في المعنى وتوازيات أدبية واضحة. نرى التدرجّ في سلطة الذي يتكلّم وسلطان ما يقوله. وهكذا اعتبر الناس أن يسوع هو ايليا أو نبي من الأنبياء (أ). ثم أعلن بطرس باسم التلاميذ أن يسوع هو المسيح (ب). واخيراً علّم يسوع نفسه حول مصير ابن الإنسان المتألّم (ج). وبعد النواة المركزية (د)، كشفت السماء عن يسوع وشهد له العهد القديم (ج ج). ثم اخبر صوت الآب أن يسوع هو ابنه الحبيب (ب ب). وحدّد الكتاب المقدس (وقد أعاد يسوع قراءته) موقع السابق الحقيقي وآلام هذا السابق بالنسبة إلى آلام يسوع (أ أ).
وهكذا نكتشف التوازيات: في أ وأأ: نجد خطأ البشر حول سرّ يسوع، وبالتاي الفجوات في تفسير الكتبة للكتب المقدسة. كل هذا، يدلّ على أن ماضي اسرائيل الذي تسجل في التوراة وتأسّس عليها لا يعطي كامل معناه بدون يسوع. في ب وب ب، عرف بطرس مسيحانية يسوع، وأكّد الآب البنوّة الالهية: غير أن الإنسان ليس مستعدّاً لتقبّل الحقيقة الكاملة ما زال غريباً عن القيامة. لذلك عليه أن يحفظ الصمت في الوقت الحاضر. في ج وج ج: أعلن يسوع "النبي" عمله الخلاصي بموته وقيامته، وأكّد الآب أن تلك هي رسالة حبيبه من أجل مصيره البشري كما في حياة الذين يسمعون له.
كل هذه العناصر المسجّلة في حرفية النصّ، تدلّ على هدف لاهوتي يساعدنا التدوين المرقسي على تحديده بشكل واضح.
إن محور النواة الكرازية يجعلنا في سياق كنسي، لأن مرقس يضمّ الجموع إلى التلاميذ ليسمعوا وحي يسوع عن حياة كل إنسان. ومثّل بطرسُ المعمّدَ الجديد في الكنيسة الأولى وفي كنيستنا اليوم: كل مؤمن مدعو لأن يسير مسيرة الإيمان عينها. تعرّفٌ إلى المسيح. تجاوزُ (من أجله) الثورة على الألم حتى مجابهة الاضطهادات التي نتحمّلها من أجل الكرازة بالإنجيل. خيارٌ جذري يتّخذه المؤمن منذ هذه الحياة فيحدّد مصيره. دخول في حياة حميمية مع المعلّم، وموت عن الذات يساعدنا مسبقاً على المشاركة في القيامة. تفسير جديد للكتب المقدسة يتيح لنا أن نستكشف آيات حضور القائم من الموت في حياة كل واحد منا. تلك هي المراحل في كل تنشئة مسيحية.

4- التعليم الذي نكتشفه في النصّ
هذا المقطع هو شميلة الخبرة المسيحية، وهو يقدّم لنا إشارات تطبع انجيل مرقس بطابعها. سؤالا يسوع هو في المحور والقلب: فكل إنسان يسمع نداء على طرق العالم، يطلقه في يوم من الأيام ذاك الذي يُدعى المسيح. أن يتجرّأ إنسان فيوجّه نداء إلى شبان عصره البارحة واليوم وغداً، هذا ما يدلّ على أنه يعتبر نفسه على مستوى الكون. وأن تعلن الكنيسة نفسها حاملة هذا النداء ومسؤولة عن هذه الرسالة، هذا ما يراه عدد من الناس تجاوزاً لحدودها. هذا الوضع لا يختلف عن ذاك الذي عرفه مرقس. إذن، لا بدّ من أن نبيّن أن الإنجيل ليس سراباً وخيالاً، وليس ايديولوجية تجعلنا غريبين عن ذاتنا وعن العالم. لهذا كان من الضروري أن نبرز الطابع الفريد لشخص يسوع، والتحوّل العميق الذي تمّ في البشرية بفضل ظهوره في الجليل على أيام هيرودس.
يرى مرقس أن الكرستولجيا والاكليزيولوجيا مرتبطتان ارتباطاً لا يحلّ. ونقول الشيء عينه عن الاكليزيولوجيا والاسكاتولوجيا. إذا كان يسوع سمّي المسيح لأنه يُتمّ رجاء اسرائيل، فهو أيضاً إبن الإنسان، هو إنسان بين الناس يسير في طريق من الألم يقاسم فيها وضع البشر. وهو يختلف عن جميع الناس لأنه إبن الله. فكل الذي يسمعون بعد اليوم كلمته، ويسمعون شهادة حياته، يُدعون إلى السير على خطاه والالتزام بأن يعيشوا ما عاشه، وما يزال يعيشه اليوم في كل مؤمن وهو القائم من الموت. وهكذا يتحدّد مصير كل انسان. فلا قيمة لحياته، وهي أثمن ما عنده، ولا معنى إلا في قرار يتخذه بأن يكون تلميذاً ليسوع، بأن يتنكّر لكل شيء لينال منه التحرّر الكامل. فحين نقدّم جواباً على سؤال يسوع (من أنا في رأيكم؟)، نؤكّد على هويتنا ونقرّر وجهة حياتنا.
مندْ مجيء يسوع إلى الجليل (1: 14) بدأ يعلن انجيل الله كما تجلّى في شخصه ساعة عماده في الأردن: "أنت هو ابني الحبيب. عنك رضيت" (1: 11). نحن هنا أمام علاقة فريدة مع الله. لقد أعلم مرقس قارئه بهذا الأمر. ولكن الأرواح النجسة وحدها عرفت أن عمق قداسته يجعل الناس على المحك. غير أن يسوع يمنعهم من الكلام (1: 34؛ 3: 11). والمنع نفسه يصيب التلاميذ بعد اعتراف بطرس (8: 30)، لأن لقب المسيح قد يعني تسمية خارجية في فم الذين يتلفّظون بها. ومع التجلّي ونداء الآب إلى التلاميذ ليستمعوا إلى ابنه، دعي هؤلاء التلاميذ الى اكتشاف بنوّته الالهية في مسيرة حياته البشرية الذاهبة إلى الموت. فأعماله بما فيها من قدرة (1: 40-45؛ 2: 1- 12؛ 3: 1-6؛ 4: 35- 5: 43؛ 6: 53- 56؛ 7: 24- 37؛ 8: 22- 26) وأقواله بما فيها من سلطان (1: 22-27)، قد دلّت بما فيه الكفاية على الحدّ الذي فيه تحوّلت البشرية بمجيء ابن الله. هل نحتاج أيضاً إلى آيات أخرى (8: 11- 12)؟ إن موت يسوع واعتراف قائد المئة (15: 39) وبلاغ القيامة سوف تزيل كل التباس.
إذا أردنا أن "نتعرّف إلى بنوّة يسوع الإلهية، وجب علينا" أن نكتشف لماذا "خُفّف" الوحي المتعلق بهذه البنوّة. هنا نلامس ما سمّي "السر المسيحانى" الخاصق بانجيل مرقس. في الواقع قد لا تكون هذ العبارة كافية، لأن يسوع لا يطلب حفظ "السرّ" حول الواقع المسيحاني لشخصه، بقدر ما يطلب التعمّق في "سرّ لاهوته". لهذا يجدر بنا أن نتكلم بالاحرى عن "سرّ يغلّفه الصمت" (روم 16: 25) الذي ظهر في يسوع بهذا الشكل.
سنستعيد بطريقة موجزة التوصيات بالصمت التي فرضها يسوع على مدّ إنجيل مرض. بعد اعتراف بطرس، سيحلّ محلها تدخّلات التلاميذ التي تدل على عدم فهمهم لرسالة يسوع الفدائية.
كان مجيئه إلى أورشليم تفجيراً لعمل الله في تاريخ البشر. كما دلّنا هذا المجيء على اهتمام يسوع بالتخفيف من صدى أعماله وسط الشعب، وإلحاحه بأن يبقى بعيدا عن الجموع. وهكذا نجد نفوسنا أمام تعارض حول موقفه.
أثار الارواح النجسة فقالوا ما قالوا، ولكنه فرض عليهم الصمت (1: 34؛ 3: 11). طهّر الأبرص ولكنه طلب منه أن لا يتحدّث عن شفائه (1: 44-45). وجاءت التوصية ذاتها إلى والدَي ابنة يائيرس (5: 43). ولكن من يستطيع أن يمنع انتشار الخبر؟
أما في الأرض الوثنية، فيتبدّل تصرّف يسوع. فهو يرسل المجنون (المتشيطن: فيه شيطان) الذي شفي، ليعلن على الجراسيين المعادين رحمة الرب تجاهه (5: 19-20). وفي بلاد صور، ما استطاع ان يتخفى رغم "همّه بألاّ يدري به أحد" (7: 24). وفي دكابوليس (المدن العشر)، أخذ الأصم المنعقد اللسان على انفراد وشفاه (7: 26)، وكأنه يريد أن يتفلّت من الحماس الذي أثاره هو بأعماله (7: 37). وبعد شفاء أعمى بيت صيدا، منعه من الدخول إلى القرية (8: 26).
ومن جهة ثانية، لا يشير مرقس إلى ردّة الفعل لدى الجموع بعد معجزتي تكثير الأرغفة (6: 43- 44؛ 8: 8-9)، بينما يتحدّث يوحنا في هذا الموضع نفسه عن مظاهرة ذات طابع مسيحاني (يو 6: 14). فلماذا أخفى يسوع هذا الوحي ساعة كان "ينشره" بشكل حرّ وسخي؟
لقد أراد مرقس بهذا التعارض أن يعبّر عن لطف الله الذي يجعلنا نراه، ويتخفّى في الوقت عينه في شخص يسوع. فهو لا يفرض نفسه أبداً. إنه لا يرفض الألقاب التي تعطى له، ولكنه يدافع عن نفسه لئلا "تسيطر" عليهم عبارات حاسمة ولو كانت مؤسّسة في اللاهوت. في الحقيقة، لا نستطيع أن نتكلّم عن الله، إلاّ من خلال ما يكشفه هو لنا في موت ابنه وقيامته. لهذا، حين نزل يسوع من جبل التجلّي، جعل حداً لهذه التوصية بالصمت: "حين يقوم ابن الإنسان من بين الأموات" (9: 9). حين يدرك الوحي كماله في القيامة، حينئذ نستطيع أن نتكلّم عن ابن الله. فالروح القدس الذي نزل على يسوع في العماد (1: 10) يعطي النطق للذين يعلنون الإنجيل (13: 11) ويكفل مضمون كرازتهم.
وهناك وازع آخر لإعلان ملكوت الله، هو عدم فهم التلاميذ. مع أنهم عيّنوا كمسؤولين عن التعليم، واعطوا سلطة، وأنعم عليهم بسرّ الملكوت. فمرقس يعرف أن الكلمة توضع في الأرض كالزرع، وأن الأرض من ذاتها تنمي الثمر وتحمله. وهو يعرف أن الإنجيل الذي يعلنه في الكنيسة هو كلمة الله للعالم. ولكنه يعرف أيضاً أن هذه الكلمة يرافقها ثقل العمى وقساوة القلب لدى الإنسان: هذه الكلمة الخاضعة لعدد من الظروف، التي تُلفظ وتُقبل بدون فائدة، هي وحي ملكوت الله الخفي والمميّز، والذي لا ندركه إلاّ بإيمان مهدّد. إذا كانت كلمة الله تعلن للعالم، فهي تفتح طريقها بقدرة الله ونعمته عبر لاإيمان التلاميذ وقساوة قلوبهم. هنا نلامس نواة تعليم مرقس في قلب الإنجيل وهي: إن سرّ ابن الله ينكشف للانسان لا حين يلغي ذاته، بل حين يمدّ قوته وسط اللافهم والمقاومة لدى البشر.
استعيدت التوصيات بالصمت واللافهم عند التلاميذ في أعمال رحمة الله. فالله الذي لا يدركه الإنسان، قد صار قريباً في شخص يسوع. وهو يدلّنا على ضيق نظرتنا البشرية وعلى عمى عيوننا. ولكنه يخلصنا بهذ الطريقة: حين يكشف الله لإنسان ضعفه الجذري في تخليص نفسه بقواه الخاصّة، يجعله يربح حياته من خلال تعارضاته وخطيئته. فالالتباس ما زال في كنيسة مرقس وفي كنيستنا: هناك تصادم بين اعتراف الإيمان والاتجاهات الشيطانية (إذهب خلفي يا شيطان). يعاند الإنسان فيريد أن يخلّص حياته أو يخسرها، أو يحاول أن يحدّد اللحظة التي لا تدرك والتي فيها يظهر له يسوع كصفاء الله. ولكن في كنيسة مرقس كما في كنيستنا، ما زال ابن الإنسان يواصل مسيرته حاملا على عاتقه كل آلام الناس، وذلّهم وموتهم، لكي يصل فيض القيامة إلى جميع البشر.

الخاتمة
سرّ الإيمان المسيحي هو سرّ الله الذي صار ملموساً لدى الإنسان. حين كشف عن نفسه كما هو في طبيعة ابنه البشرية، لم يستبعد السرّ عن انظارنا ولا عن أصابعنا المتشوّقة إلى إدراكه. بل هو "غطّسنا" في هذا السرّ الذي هو قياس حياتنا ونورها. وإذا كانت مسألة معنى وجودنا تؤلمنا، فلأننا صُنعنا من أجل الله. فكل المحرّرين الذين نحلم بهم، وكل المسحاء الذين "نفبركهم" يمّحون أو يشهدون لذاك الذي سلّمه الله بين أيدينا ليعلّمنا، ليشفينا، ليطرد الشياطين منا. ولكننا نتهرّب من تحرير بُني حسب نظرة الله.
إن عطية الله التي ظهرت في صفاء أعمال المسيح وأقواله، والتي تجعل من كل شيء مثلاً عن الملكوت، قد بدأ الإنسان يتقبلها: بدأ يحسّ بخيرها في جسده، في عقله، وحتى في أعماق قلبه. إنه يتقّبل هذه الكلمة التي تحرّر دون أن تفرض ذاتها، ولكنه ما يعتّم أن يصطدم بمتطلّباتها الجذرية. هو يبتلع هذا الخبر الذي يُشبع. ولكنه يرجع قبل أن يكتشف يد الذي أعطاه إياه. هو يحسّ في اعضائه، في لحمه ودمه، بنعمة الشفاء، ولكنه يسرع فيزيح الخبر خوفاً من أن يدرك القيمة الحقيقية للآية. لأنه سيمرض أيضاً، وسيكون كسيحاً وأعمى وأصمّ إن لم يدرك أن القيامة هي الجواب الوحيد لشقائنا. هو يشعر بالسلام حين تهرب الأرواح النجسة التي تقيّد ولكنه ما يعتّم أن يرجف أمام هذه الشياطين التي قد تعود بقوّة فتغرّبه عن ذاته. إن مجد الله الذي ندركه في حياة يسوع المتجلّي يبقى عابراً. فهو يدلّنا على ذاك الذي يأتي في مجد أبيه مع الملائكة القديسين، والذي يمنحنا مسبقاً أن نكتشف الملكوت وحضور الله الذي صار قريباً منا.
إن الخلاص الذي يهبه الله هو أكثر من تحرير من الموت والألم والشرّ. إنه عطية شخصية، عطية الله للإنسان بشكل تام ونهائي، بشكل لا رجوع عنه. وهذا الحاضر الذي لا حدود له هو يسوع نفسه: إنه في شخصه التعليم الذي يحمل. فيسوع الناصري، فالمسيح هو الله نفسه الذي صار حاضراً لإنسان. هو الإبن الوحيد للآب وله يجب أن نسمع. في هذا المعنى استطاع مرقس أن يردّد أن يسوع كان "يتكلّم بالكلمة" (2: 2؛ 4: 33؛ 8: 32)، فدلّ على انه كله "كلمة الله". غير أن الإنجيلي لا يعطينا تحديداً عن يسوع: إنه يصوّره وهو يعطينا الخلاص، راوياً ما فعله الرب من أجل الإنسان. وبعد هذا يتوضّح في الإنجيل التفكير حول شخصه. نحن ننطلق من خبرة الخلاص، من التحرير من الشرّ فنعترف بأن المسيح هو الله. والإيمان بلاهوت المسيح ليس فقط إعلاناً ميتافيزيقياً. إنه عيش في منظار خلاص جذري يصلني بالمسيح وفي المسيح.
وحين يدرك الإنسان جذرية خلاصه الآتية من الله، فهو يخاف. إنه مثل بطرس. لا يستطيع أن يقبل أن الله يعطي ذاته في التمزّق والألم، في التنكّر لكل ما يرغب فيه البشر: يجب أن نضع ثقتنا بالله لنسمع يسوع ينبىء بآلامه برباطة جأش ويدعو إلى اتباعه، يجب أن نسمع حقاً صوت الآب يطلب منّا أن نستمع إلى ابنه. وإذا كان هذا السماع هو بداية التوبة، فالدخول إلى الإيمان يتحقّق في السير على خطى يسوع الذي هو أيضاً عطية من الله. حين نعلن إيماننا، نتقبّل من الله بالمسيح معنى الحياة والعالم، ننال القوّة بأن نعيش ونموت. ويتمّ هذا التقبّل في الصمت: صمت الإنسان أمام الله الذي يقدّم ذاته ويمّحي. لهذا أوصى يسوع تلاميذه بأن لا يقولوا لأحد شيئاً: من السهل أن نعلن إيماننا بالكلام فقط. فهذا التقبّل نتحقّق منه في حياتنا الملموسة بما فيها من معارضات ومعاندات، من ضعف وعدم فهم. ومعجزة خلاص الله هي انه يصل إلينا عبر رفضنا، وحيث المسيح يقوم دوماً من الموت. إن رحمته لم تلغي الخطيئة: بل غفرتها.
وهكذا يجعلنا قلب انجيل مرقس أمام يسوع، ويطلق منا أن نتأمل في وجهه المتألم (في كل ألم بشري) وفي وجهه المتجلّي (وجه الإبن الحبيب). إن الله يجعل نفسه في خدمة الإنسان، فيأخذ واقع الوجود البشري بما فيه من قساوة ليجعله موضعاً ينكشف فيه سرّ الخلاص

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM