الفصل الثالث والأربعون
اعتراف بطرس والانباء الأول بالآلام
8: 27- 35
إن اعتراف بطرس، والانباء الأول بالآلام والقيامة، والأقوال حول الشروط الواجبة على من يتبع يسوع، كل هذا ينتمي إلى التقليد الإزائي المثلّث. أي نجده في متى ومرقس ولوقا.
يبدو نصّ لوقا (9: 18-27) الموازي قصيراً، وهو يرتبط بلا شك بنصّ مرقس. ونص متى (16: 13-28) هو موضوع جدال. يعتبر بعض الشرّاح أن جواب يسوع الطويل (16: 17- 19) على اعتراف لبطرس، إنتمى في البداية إلى سياق نص مرقس. فالتطويبة (طوبى لك، يا سمعان بن يونا) والوعد بالأولوية (أنت صخر) قد زادهما متى على نصّ مرقس، مهما كان مرجع هذا النصّ. إذن، لا نتوقّف هنا عند النسخة المتاوية.
1- إطار النصّ
تحتل هذه المقطوعة (8: 27-33) المركز الرئيسي في إنجيل مرقس. إنها تشكّل وصلة بين قسمين كبيرين. في القسم الأول (1: 14-8: 26) كشف يسوع عن نفسه على أنه شخص "متفوّق" وسرّي. بسبب عجائبه العديدة وأقواله التي يتفوّه بها بسلطان، بُهتت الجموع. والتلاميذ لم يفهموا. وكلهم واجهوا السؤال الحرج: "من هو هذا الذي يعمل كل هذه الأشياء" (1: 27؛ 2: 7؛ 4: 41؛ 6: 2)؟ ومع ذلك، ففي تلك الحقبة حافظ يسوع بإرادته على السرّ المسيحاني. لم يكشف عن سرّه، عن هويّته. وهذا التوتّر بين سؤال يطرحه الناس، وسرّ يحافظ عليه يسوع، قد وجد له حلاً مؤقتاً في إعتراف بطرس بيسوع: أنت المسيح. وهكذا أدرك التلاميذ بواسطة بطرس وللمرة الأولى، سرّ معلّمهم الحقيقي: إنه المسيح. إن هذا الإعتراف يختتم القسم الأول من الإنجيل، ويشكّل ذروته.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، دلّ مر 8: 27-33 أيضاً على وقت حاسم يشرف على القسم الثاني من إنجيل مرقس (8: 27-16: 8). أولاً، يتبدّل الإطار الجغرافي: لم يعد الجليل حقل عمل يسوع في حياته العلنية، بل صارت أورشليم المركز الحقيقي (10: 1، 52). لا شكّ في أنّ يسوع سيعود إلى الجليل، ولكنه لا يريد أن يعرف به أحد. إنطلق من شمال الجليل، فعبر الجليل (9: 30) واليهودية وبيرية (10: 1) متوجّهاً إلى أورشليم (10: 32). وتحوّل أيضاً مضمون تعليم المعلّم: فيسوع يتكلّم للمرة الأولى عن آلامه. والجزء الأول من القسم الثاني (8: 27- 10: 52) يُبنى حول ثلاثة إنباءات بالآلام (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 33- 34). وأخيراً يتخذ التعبير عن هذا التعليم شكلاً آخر: للمرّة الأولى يتحدّث يسوع إلى تلاميذه "بوضوح". قبل ذلك، كانت كلماته سرّية. وكان الشرح يتمّ على انفراد للتلاميذ. غير أن هذا الشرح لم يكن ليُفهم بسهولة أكثر من خطبه التي يلقيها على الجموع "بالأمثال" (4: 10- 20؛ 7: 17-23).
وسيبدو فيما بعد واضحاً أن هذه التحوّلات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتدبير السرّ المسيحاني، وهو موضوع رئيسي في إنجيل مرقس. وهكذا نستطيع القول مع بعض الشرّاح: كل إنجيل مرقس ينتظم في قسمين كبيرين متكاملين: القسم الأول (1: 14- 8: 26) يعرض واقع السرّ (المسيحاني) في وجوهه المختلفة. والثاني (8: 27- 15: 39) يكشف هذا السر ويفسّره.
إذن، إن كان اعتراف بطرس والانباء الأول بالآلام يحتلاّن مركزاً أساسياً في مرقس، فنحن ننتظر أن نرى وصلات تضمّ هذا النص إلى الإطار الذي يسبقه (8: 22- 26) والذي يتبعه (8: 34- 9: 13). فمن الواضح أن خبر اعتراف بطرس وحدث التجلّي يستنيران الواحد بالآخر.
هنا نلخّص الجزء الذي يضمّ هذين الخبرين (الإعتراف، التجلّي) فيبدو في بنية دائرية.
أ- قال الناس إن يسوع هو إيليا أو أحد الأنبياء (8: 27-28).
ب- أجاب بطرس باسم التلاميذ: يسوع هو المسيح (8: 29- 30).
ج- علّم يسوع نفسُه أدن على إبن الإنسان أن يموت ويقوم (8: 31- 33).
د- قسم كرازي مبني بشكل دائري (8: 34- 9: 1).
ج ج- تجلّى يسوع، والعهد القديم شهد له (9: 2-6).
ب ب- كشف الآب للتلاميذ أن يسوع هو ابنه الحبيب (9: 7-10).
أ أ- أعاد يسوع قراءة الكتب المقدّسة فحدّد موقع السابق الحقيقي (11:9-13).
2- تحليل النصّ
أن يكون مر 8: 27-33 في قلب المجموعة، يجعلنا ننسب هذه المقطوعة (أو قسماً كبيراً منها) إلى عمل مرقس التدويني. لا شك في أنه أدخل عناصر تعليمية. وكانت محاولات نقدية عديدة لكي تحدّد العناصر التقليدية والعناصر التدوينية. ولكن مثل هذه المحاولات تبقى على مستوى الفرضيات، لا سيما وأننا لا نملك عنصر المقابلة. وتحليل دقيق لهذه المقطوعة (8: 27-33) قد يدلّ على أن مجمل معطياتها (إن لم يكن كلها) قد يعود إلى عمل تدويني قام به الإنجيلي. وهكذا نتساءل: هل عرفت هذه المقطوعة، كوحدة أدبية، وجوداً قبل مرقس؟ وربّما يكون الجواب: كلا.
أ- الإعتراف المسيحاني (8: 27- 29)
حدّد مرقس موقع الحدث بالقرب من قيصرية فيلبس، وهي مدينة واقعة في شمالي بحر الجليل، وهي لا تبعد عن ينابيع الأردن، في الجنوب الغربي لجبل حرمون (رج 9: 2). نحسّ للوهلة الأولى وكأننا أمام تذكّر تاريخي محدّد. ولكن في نظر مرقس، لهذا الموضع مدلول لاهوتي أيضاً. فبعد 8: 27، ترك يسوع حقل عمله السابق أي الجليل. وللمرة الأولى عُرف أنه المسيح، وذلك بالقرب من مدينة وثنية. ففي أرض يهودية، لن يتمّ هذا الوحي إلا في نهاية حياته: إن يسوع أكّد بقوة على كرامته المسيحانية أمام قيافا (14: 61- 62): "قال قيافا: هل أنت إبن (الله) المبارك؟ أجابه يسوع؛ أنا هو. وسترون ابن الإنسان جالساً عن يمين الله القدير، وآتياً مع سحاب السماء"!
في هذه المرة لم يأتِ السؤال عن هويته من الناس أو من تلاميذه، بل من يسوع نفسه. هذا لا يعني أنه يجهل ما يقوله الناس فيه. ولكن بما أن الوقت المميّز للوحي قد حلّ، إتخذ المبادرة ووجّه الحوار. وطرح السؤال الأول: "من أنا في نظر الناس" (على حدّ قول الناس)؟ كان الجواب سهلاً بالنسبة إلى التلاميذ. فالناس قد كوّنوا حكمهم عن يسوع (6: 14- 16): ليس شخصاً عادياً يشبه سائر الأشخاص. فسلوكه الخارق جعل الناس يفكّرون بيوحنا المعمدان الذي قام من بين الأموات. يفكّرون بايليا السابق الذي "يأتي" في نهاية الأزمنة. يفكّرون بأحد الأنبياء القدماء. مقابلات فيها كثير من المديح، ولكنها لا تشكّل في نظر مرقس جواباً كافياً. فليس من مقولة توراتية تستطيع أن تعبّر عن هوية يسوع، عن ملء شخصه. هو أعظم من نبي، وهذا ما سيدلّ عليه ولْي الحوار. أما مسألة السابق فستجد حلاً لها في 9: 11-13: لقد سبق وجاء إيليا في شخص يوحنا المعمدان.
لا يناقش يسوع أحكام الناس وآراءهم حول شخصه. ولكنه الآن يتوجّه مباشرة إلى التلاميذ. هذا يعني أنه يعتبر أنهم لا يقبلون بما تقوله الجموع في شأنه. أنهم كوّنوا فكرتهم الخاصة. وما يقوله بطرس باسم التلاميذ يتجاوز إلى حد بعيد رأي الجموع: فهو كتلميذ مختار قد نال وحي كرامة يسوع المسيحانية. ويرى مرقس أن هذه الصفة تعبّر كل التعبير عن هوية يسوع العميقة، مع أن بطرس، على ما يبدو، لا يفهم فهماً تاماً معناها الحقيقي. هذا ما يدلّ عليه ولْي الخبر.
يبدو أن مرقس (8: 27-29) استعاد نصّ 6: 14-16 بشكل توازٍ تناقضي. أورد هيرودس عدداً من الآراء الشعبية حول يسوع. عبّر عنها بطريقته الخاصة وانتهى إلى القول إن يسوع هو يوحنا المعمدان الذي قام من الموت (لم يتعدَّ العهد القديم الذي يختتمه يوحنا المعمدان). أما بطرس فانتقل من سؤال يسوع ليرى فيه المسيح. وهكذا يعارض مرقس بين جواب خاطىء (أو أقلّه ناقص) مع جواب صحيح (أقله في تعبيره الخارجي).
لا شكّ في أن مرقس رأى موازاة بين خبر اعتراف بطرس وخبر شفاء أعمى بيت صيدا الذي رواه في 8: 22-26. هو لا يعارض معارضة جذرية بين آراء الناس وموقف بطرس. بل يريد أن يبيّن النمو المتصاعد في معرفة سر يسوع: ما يقوله الناس عن يسوع ليس خطأً كله. بل هو غير كافٍ. ونقول الشيء عينه عن بداية شفاء الأعمى. فهو في البداية يرى الناس كأشجار تمشي. رواية ناقصة. وهكذا نقول عن الناس: إستشفوا بشكل غامض تعالي شخص يسوع. وكما توصّل الأعمى إلى الرؤية الواضحة بفضل سلطان يسوع العجائبي، هكذا اكتشف التلاميذ كرامة يسوع المسيحانية. فهذه الكرامة اختفت بالنسبة إليهم وراء المعجزات العديدة وطرد الشياطين، وجعلتهم يتساءلون. وها هم الآن قد وصلوا. إن اعتراف بطرس صحيح وهو يتوافق مع اعتراف الكنيسة التي إليها يكتب مرقس إنجيله. هذا ما نكتشفه حين نعلم كيف لجأ إلى لقب المسيح في بناء إنجيله.
إذن، يعبّر اعتراف بطرس أفضل تعبير عن يقين أساسي في المسيحية الأولى: فالسلوك السرّي لدى يسوع الناصري، لا يفهم إلا على ضوء الإيمان الذي يرى في هذا الرجل المسيح. هذا ما يعبّر عنه بقوة إسم "يسوع المسيح"، يسوع الذي هو المسيح. وهكذا أعطي لشخص تاريخي، شخص يعيش في الزمان والمكان، أعطي لقباً اسكاتولوجياً، فأكّد مرقس بشكل خاص أن هذا الرجل هو المسيح. لقد اعتدنا أن نتلفّظ بهذا الإسم، بحيث لم نعد نفهم مدلول لفظة "المسيح". ومع ذلك نحن أمام تأكيد قوي لم تسمع به أذن من قبل: ما يترجّاه الإنسان لنهاية الأزمنة (أي: التحقيق النهائي لكل شيء)، قد صار واقعاً وحقيقة في يومنا الحاضر. ولا نستطيع أن نفهم البعد الكامل لهذا التأكيد إلا على ضوء الفكر الاسكاتولوجي اليهودي الذي يشكّل الأرض الخصبة التي فيها وُلدت أولى الإعترافات الكرستولوجية (تتحدّث عن يسوع المسيح).
ب- وصية يسوع والانباء الأول بالآلام (8: 30- 33)
أوصى يسوع تلاميذه أن لا يقولوا لأحد عنه شيئاً. منعهم أن يقولوا أنه هو المسيح. نحن أمام ردة فعل غريبة من قبل يسوع. هذا لا يعني أنه لم يوافق على اعتراف بطرس. فالأمر بالصمت يوافق بالأحرى موضوع السرّ المسيحاني الذي هو موضوع أساسي في إنجيل مرقس. إن الإنجيلي يعرف كامل المعرفة أن يسوع هو المسيح. وهو لهذا دوّن إنجيله، ليقول لنا: يسوع هو المسيح وابن الله (1: 1:). فالمعجزات العديدة وأعمال طرد الشيطان التي رُويت في القسم الأول من الإنجيل دلّت دلالة ساطعة على هذه المسيحانية. فكل أعمال قدرة يسوع، وكل أقواله التي ألقيت بسلطان، دلّت بما فيه الكفاية أن الحرب الاسكاتولوجية بين ملكوت الله وملكوت إبليس قد بدأت. وفي الوقت عينه، أرانا مرقس بإلحاح كيف أن يسوع سهر لكي يبقى هذا الظهور سرياً. لقد اعتاد أن يمنع الناس من أن يكشفوا العجائب التي تدلّ على هويته (1: 25، 34، 44- 45؛ 3: 11-13؛ 5: 7، 10، 43؛ 7: 36-37). أما هنا (8: 30). فالمنع يعني بشكل واضح مسيحانيته. لماذا؟
في هذا الخبر الذي ندرس، أعطى يسوع "بصراحة" (آ 32) وللمرة الأولى والوحيدة، السبب الذي لأجله يجب أن تبقى مسيحانيته سرّية: بسبب ضرورة الآلام حسب قصد الله. فقبل أن يتجلّى مجدُ يسوع المسيحاني تجلياً كاملا، يجب أن تحصل آلامه كما أرادها الله. المسيح هو غير ما ينتظره الناس عامة واليهود خاصة. ليس فقط ملكاً قديراً. إنه أيضاً إبن الإنسان الوديع والمتألّم. ومع أنه الممثّل النهائي لله، فهو لا يتصرّف بروح التفوّق، بل يعيش رسالته وسط البشر، ويأخذ على عاتقه أحلك وجهات الوجود البشري: التخلّي، الألم، الذلّ مع ما فيه من ظلم. وفي النهاية، الموت الذي هو أكبر عدوّ لإنسان.
في الواقع، إن اعتراف بطرس بالمسيح يبقى محض عبارة شكلية، كما لعدد كبير من المسيحيين في أيامنا. العبارة صحيحة في شكلها الخارجي. ولكن أن تتضمّن كرامة المسيح أيضاً الألم والذلّ، هذا ما لا يقبل به الرسل. لهذا لا يستطيعون بعد أن يعرّفوا الناس بمسيحانية يسوع (ليسوا على قدر المهمة بعد). ولن يستطيعوا ذلك إلا بعد القيامة، حين تكون الآلام قد حصلت ومهرها الله بخاتمه (9: 9).
لا نستطيع أن نتفحّص هنا المسألة المتشعّبة لنعرف هل إنباءات الآلام قد قالها يسوع حقاً بفمه وبأي قدر (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 32-34)، أو أن الجماعة الأولى، أو مرقس، إنطلقوا ممّا حدث ليسوع وجعلوه كأنه نبوءة عمّا سيحدث له. حتى ولو تحقّقت الفرضية الثانية (كما يظنّ بعض الشرّاح)، فهذه الإنباءات تعكس نظرة يسوع نفسه. إذا عدنا إلى التاريخ، وجدنا أنه من المعقول أن يسوع فكر في ردّة فعل كرازته وما لها من تأثير على الفريسيين والكتبة، فننظر مسبقاً إلى النهاية المأساوية لحياته العلنية. واجه بكل وعي الرؤساء اليهود. فسّر تفسيراً دينياً أنه سيتألّم لكي يتمّ مشيئة الله. وفي النهاية، إستند إلى إيمان العهد القديم فعبّر بطريقة أو بأخرى أن الله لا يتركه يرى الفساد (مز 16: 20). في هذه الحالة نستطيع القول إن يسوع أنبأ بآلامه، وإن مرقس استعمل مواد أخذها من التقليد وجعلها في إنجيله إنباءات. غير أن هذا لا ينفي أن مرقس توسّع في التقليد وزاد عليه تفاصيل دقيقة تتوافق مع خبر الآلام، وأنه أعطى هذا التقليد شكله الحالي وجعله في قلب لاهوته.
تحدّث بطرس باسم التلاميذ، وكانت ردّة الفعل عنده عنيفة ضد الانباء بالآلام (آ 32 ب). أخذ يسوع على انفراد وكأنه يريد أن يجعله تحت حمايته. ونظر من فوق إلى معلمه فعامله كما لو كان شخصاً ضعيفاً يحتاج إلى من يشجّعه. وحاول أن ينتزع من "رأسه" أفكاراً غير معقولة حول الآلام. ولكن يسوع التفت بنفسه إلى التلاميذ، وفي الوقت عينه أعاد الحالة إلى وضعها الصحيح (آ 33). ليس المعلّم هو الذي يتبع التلميذ، بل على التلميذ أن يتبع المعلّم. إن يسوع لا يقبل أية مساومة في هذا المجال أو في غيره. فإن كان التلاميذ لا يريدون أن يتبعوه حتى الصليب، لن يبقى له إلا أن يعيدهم إلى أشغالهم الماضية. وردّة الفعل الثابتة لدى يسوع دلّت على جدّية إختلافه في الرأي مع بطرس وتلاميذه.
فإن حاولوا أن يميلوا به عن هذه المسيرة، كانوا وكأنهم يدفعونه إلى التمرّد على مشيئة الله التي هي القاعدة الوحيدة لسلوكه. مثل هذا "التحريض" لا يمكن أن يكون إلا عمل الشيطان الذي سبق له وقام بمحاولة في هذا المجال في بداية حياة يسوع العلنية (1: 12-13؛ رج مت 4: 10). وإذ يتصرّف التلاميذ على هذا الشكل، فهم يمنعون مجيء ملكوت الله. بالإضافة إلى ذلك، هم يكشفون أنهم إن تبعوا يسوع سيكون مصيرهم مصيره. وهذا ما شكّكهم وشكّل لهم حجر عثار. وجاءت ردّة فعل بطرس فأوضحت يقينهم الداخلي: ما يحدّد أفكارهم ورغباتهم هو مقاييس العالم لا مقاييس الله. هم لا يفكّرون بأمور الله، بل بأمور العالم، ويجعلون نفوسهم بجانب إبليس لا بجانب يسوع. أجل، لقد صار التلاميذ- يا للتناقض- صوتاً يتكلّم باسم أكبر عدوّ لله!
إذن، توجّه توبيخ يسوع إلى بطرس، لا كشخص فرد، بل كممثّل للتلاميذ (آ 33) بقدر ما بقي إيمانهم بالمسيح غير كافٍ. وتوجّه أيضاً إلى كل الذين يريدون أن يتبعوا يسوع (آ 34). فمنذ بداية القسم الثاني من إنجيل مرقس، طُرح بوضوح خط فاصل. لقد أخذ يسوع على نفسه أن يسير في طريق الآلام والموت فيتمّ هكذا مشيئة الله. لهذا، سيرفض التلاميذ حتى النهاية أن يروا فيه المسيح (مع ما فيه من عظمة ومجد دنيوي). وصار موقفهم واضحاً جداً في خبر الآلام: هناك يهوذا الذي خانه فأسلمه إلى رؤساء الكهنة (14: 10- 11). وهناك بطرس الذي أنكره فقال إنه لا يعرف هذا الرجل (14: 66- 72). وفي بستان الزيتون، نام بطرس ويعقوب ويوحنا، مع ما في هذا النيام من تعارض مع السهر المطلوب، ومن رموز إلى الموت (14: 32- 42). وأخيراً هرب التلاميذ كلهم وتركوا يسوع وحده (14: 50). في هذا المجال، لم يكن التلاميذ أفضل من الناس العاديين.
ج- الشروط المطلوبة لاتباع يسوع (8: 34- 35)
كان المشهد السابق مشهداً خاصاً بالتلاميذ عقهم يفهمون أهمية الآلام في مسيرة المسيح إلى المجد. أما هنا فنجد أقوالاً حول الشروط المفروضة لكي نتبع يسوع. هي لا تتوجّه فقط إلى التلاميذ (وهذا كان الوضع على المستوى الأولاني للتقليد)، بل إلى الجمع. لقد أراد مرقس أن يكيّف أقوالاً تقليدية من أجل المسيحيين الذي إليهم يكتب إنجيله. فإن آ 32-33 تجعلاننا نكتشف المحيط الحياتي الذي به ترتبط 8: 27- 33 ولاهوت السرّ المسيحاني.
توجّه إلى مسيحيين يقلقهم وضعُ الاضطهاد الذي يعيشونه. ظنّ بعضهم أنه يستطيع أن ينجو من الأخطار ومن الموت. يكفي أن ينكر المسيح. أن لا يعلن أن يسوع هو المسيح. وكانت ردّة الفعل قاسية عند مرقس: من أراد أن يكون تلميذ المسيح يسعى إلى التشبّه به. فالمسيح الذي به نعترف، لم يتجلّ فقط خلال حياته على الأرض ككائن سماوي يتمتعّ بالقدرة والمجد. بل تجلّى أيضاً كإنسان سار بكل وعي في طريق الآلام حسب مشيئة الله. لهذا لا يستطيع المسيحي أن يهرب من الآلام التي تفرضها عليه شهادته للمسيح. لا يستطيع أن ينكر حالته كتلميذ للمسيح.
إن 8: 34-9: 1 تشكّل وحدة تامة. وسنعود إليها. أما هنا، فنكتفي بتفسير آ 34-35 كامتداد لإنباء يسوع بآلامه.
تعدّد آ 34 الشروط المطلوبة لكي نتبع يسوع، لكي نكون تلاميذ يسوع. أولاً، ننكر ذواتنا. وهذا يعني: نبغض ذواتنا (رج لو 14: 26؛ يو 12: 26). ويتحدّد موقع هذا الإنكار (وهذا التجرّد) في امتداد المتطلّبة الجذرية التي يقدّمها يسوع دوماً للذي يدعوه ليتبعه: أن يترك كل شيء. من تخلّى عن نفسه كان وكأنه يخاطر بحياته.
والشرط الثاني: نحمل الصليب. وهذا يعني بشكل حرفي أن نحمل أداة عذابنا حتى موضع تنفيذ الحكم بالإعدام. إن هذا السير إلى العذاب يشكّل أعظم ذلّ وأعظم احتقار. وهو يعني أن يُستبعد التلميذُ من العالم ومن الحياة مع الناس. وفعل "تبع" الذي نقرأه مرة ثانية في نهاية الآية، يفهم "كمجيء وراء". ويمتد مع عبارة "حمل صليبه". بعد هذا، "حمل صليبه" و"تبع" يسوع يدلاّن على مسيرة على خطى يسوع الذاهب إلى آلامه. هذا ما نفهمه في إطار النصّ (8: 31- 33).
في هذا المنظار، نحن أمام مشاركة في آلام يسوع. حسب مر 8: 34، إذا أراد الواحد أن يصير تلميذ المسيح، عليه أن يكون مستعداً أن يتحمل العار معه والموت، أن يكون مستعداً للاستشهاد إذا طُلب منه ذلك. إن هذه المتطلبة التي تعبّر عنها آ 34 تريد تبريراً. هل يذهب التلميذ، هل يذهب المسيحي الى النهاية فيضحّي بحياته؟ أما يجب عليه أولاً أن يسعى إلى تخليص حياته؟
سنجد الجواب في آ 35: من أراد هنا، أن يخلّص حياته من التهديدات الخارجية، يخسرها رغم كل شيء. وكانت عبارة "بسبب الإنجيل." خاصة بمرقس. الإنجيل هو البشرى التي تعني يسوع المسيح كما أعلنتها الجماعة المسيحية، وشهدت لها بأعمالها وأقوالها. وهكذا يحدّد مرقس أن المسيحي يشهد بكل حياته (وقد يبذل دمه إذا لزم الأمر) ليسوع، أنه يشهد لإنجيل يسوع كما أعلن لقرّاء مرقس في كرازة الكنيسة. وهكذا نكتشف هنا أول إعلان لهذه المتطلبة: "نعطي حياتنا من أجل الإيمان".
خاتمة
إن الحياة المسيحية تشارك ما في شخص المسيح من مفارقة. فالمسيح لم يدرك مجده المسيحاني إلاّ بعبوره في الآلام والموت كما أرادها الله. فالذلّ العميق الذي عرفه وجوده البشري هو الذي أظهر عظمته كابن الله. فمني اعتبر أنه يحمل الإسم "المسيحي" وجب عليه أن يعيش المفارقة المسيحية: من خلّص حياته خسرها. ومن خسرها من أجل المسيح خلّصها