الفصل الثاني والأربعون
شفاء أعمى بيت صيدا
8: 22-26
وذهب التلاميذ إلى بيت صيدا، على حدود الجليل والمدن العشر. إلى هناك كان يسوع قد أرسلهم مع بحر مائج ورياح معاكسة (6: 45 ي). أعادهم يسوع إلى بداية خبرتهم لكي يكتشفوا هدف المعلّم. هنا سيشهدون شفاء. وهذا الشفاء مع شفاء الأصمّ المعقود اللسان، سيُفهمانهم معنى حياتهم. فالنبي يحتاج إلى أذنين ليسمع وإلى فم ليتكلّم. وهو يحتاج أيضاً إلى عينين لكي "يرى" الله. هذا ما فهمناه في شفاء الأصمّ الألكن (7: 31-37). وهذا ما سنحاول أن نفهمه في شفاء أعمى بيت صيدا (8: 22-26).
1- وضع الخبر
أ- الخبر في سياقه المباشر
حين أدخل مرقس خبر شفاء أعمى بيت صيدا في سياق إنجيله، لجأ إلى وسائل اعتاد عليها الإنجيل الثاني وإن بدت لنا مصطنعة.
أولاً: كلمة عاكفة: "قرية". نجدها في آ 23 (خارج القرية)، في آ 26 (قال له: لا تدخل إلى القرية). ونجدها في المقطع اللاحق في صيغة الجمع مع اعتراف ايمان بطرس (8: 27: وخرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية). تلعب هذه اللفظة دور الإتصال بين المقطوعة التي ندرس والمقطوعة التالية.
ثانياً: تقارب في اللفظ بين فعلين مستعملين، ومعنى الواحد يعاكس الآخر. إلا أن التقارب في الأصل اليوناني واضح. وهذا أيضاً ما يساعد مرقس على الجمع بين المقطوعتين. في آ 26، نقرأ فعل "دخل": لا تدخل القرية (ايسالتن). وفي آ 27، نقرأ فعل "خرج": وخرج يسوع (اكسالتن).
ثالثاً: نحن في متتالية سفر يجعل حدث بيت صيدا يلتصق بأحداث سابقة جرت في منطقة دلمانوثا (8: 10-13 أ). كما يلتصق بعبور بحيرة طبريا (8: 14- 21) وما حدث في منطقة قيصرية فيلبس (8: 27 ي).
هي وسائل شكلية وخارجية. غير إن هناك عناصر في السياق تتيح لنا التحدّث عن ترتيب متوازٍ يساعدنا على إدراك فكرة الإنجيلي الذي أدخل هنا خبر شفاء الأعمى. نشير هنا إلى أن مرقس تفرّد بذكر هذا الحدث، كما تفرّد بذكر شفاء الأخرس المعقود اللسان (7: 31-37).
* طالب الفريسيون بآية من السماء (8: 11)، فقابل هذه المطالبة أولُ وحي للسر الفصحي أوصله يسوع إلى تلاميذه (8: 31- 32): "أخذ يعلّمهم أنه ينبغي لابن البشر أن يتألّم كثيراً...".
* وجّه يسوع إلى أخصّائه توبيخاً لأنه ينقصهم الفهم الروحي (8: 14- 21: لكم عيون ولا تبصرون، لكم آذان ولا تسمعون). فقابل هذا التوبيخ إعلانُ إيمان بطرس والتلاميذ بأن معلّمهم هو المسيح (8: 27-30). هذه هي الحقيقة. ولكن يسوع أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد عنه شيئاً.
إن قلب هاتين المقابلتين (أو: التوازيين) هو خبر شفاء الأعمى الذي استعاد نظره. سننطلق من هذا الخبر لنكتشف النور (وسبب ترتيب) لهذه المجموعة المؤلّفة من أربع مقطوعات: آية من السماء (8: 10 أ-13). الانباء الأول بالآلام (8: 31- 32). لا فهم روحي عند التلاميذ (8: 14- 21). إعلان إيمان بالمسيح (8: 27- 30). وفي الوسط، خبر شفاء أعمى بيت صيدا (8: 22-26).
مهما يكن من أمر هذا الترتيب المتوازي، يجب أن لا ننسى العلاقات الأساسية بين هذه المقطوعات. إن عدة تفاصيل هن توبيخ يسوع لأخصّائه على انفراد (8: 14- 21) تتقابل مع التوسيع المركزي للمعجزة: إن هتاف الملل في آ 17 (أفلا تفهمون بعد؟) يعود في آ 21 (أفلا تفهمون بعد؟) حسب اسلوب التضمين المعروف. وفي آ 18 قال يسوع لتلاميذه بوضوح: "ألكم عيون ولا تبصرون وآذان ولا تسمعون"؟ ولكنه كان قد حضّهم في آ 15 على أن يفتحوا عيونهم، أن ينظروا. مثل هذه اللمسات تدعونا لكي نقرأ خبر شفاء أعمى بيت صيدا، وهو واقع ملموس وتاريخي، على مستوى آخر من المدلول. هناك شفاء جسدي تمّ مع انسان من الناس. يبقى الشفاء الثاني الذي سيجعل التلاميذ يفهمون معنى مسيرة يسوع.
في هذا الإطار من العمى الروحي، تجعلنا المعجزة في خطّ الفعلات النبوية في العهد القديم، فنرى فيها علامة تعبّر عن سلطة يسوع وعن نيّته بأن يفتح عيون رسله على الواقع الذي يفلت منهم حتى الآن. فكما أن شفاء الأصمّ الألكن (7: 32 ي) عبّر عن قدرة المعلّم لكي يفتح الآذان الداخلية، ويحلّ عقدة لسان مرسلي الملكوت في المستقبل، كذلك كان شفاء الأعمى. في هذه الحالة، يكون إعلان إيمان الرسل (8: 27- 30) وأول كلام حميم قاله يسوع حول سرّ آلامه وموته (8: 31- 32)، يكون هنا في موقعه الصحيح.
ب- موضع الخبر في إنجيل مرقس
وها نحن نحاول أن نضع الخبر لا في السياق المباشر، بل في ترتيب الكتاب كلّه. إنه يحتلّ موقعاً مميزاً، في النقطة التي تصل القسم الأول (ف 1-8) مع القسم الثاني (ف 9-16) من الإنجيل.
نجد في المقطع الذي ندرس صدى خافتاً لشريعة السرّ المسيحاني التي فرضها يسوع على الناس وعلى تلاميذه، لأنهم أساؤوا فهم هذه المسيحانية. يقول النصّ: "صرف (أرسل) يسوع (الأعمى المعافى) إلى بيته، وقال له: لا تدخل حتى إلى القرية" (8: 26). لا يقول لنا النص ما فعله هذا الأعمى. هل تجاوز مناخ السرّ فيما يتعلّق بهوية يسوع الحقيقية، كما نجده في بداية إنجيل مرقس. نقرأ في 1: 34: "لم يدع الشياطين يتكلّمون، لأنهم عرفوه". وفي آ 44، إنتهر يسوع الأبرص وقال له: "إياك أن تقول لأحد شيئاً". (رج 3: 12؛ 5: 45؛ 7: 36؛ 30:8).
إذن، يدخل هذا الصدى حين أطلق يسوع الأعمى المعافى، وقبل إعلان بطرس والتلاميذ الذين عرفوا أن يسوع هو المسيح، وقبل إنباء يسوع الأول بآلامه (8: 27- 33). بيد أن هذين الحدثين الأخيرين يدشّنان حقبة جديدة من الوحي، حقبة تتحرّر أكثر فأكثر من شروط السرّ: ففي القسم الثاني من الإنجيل يحدّد تجلّي سرّ شخص يسوع معنى كلمة "إنجيل": فالمسيح هو نفسه مضمون التعليم الذي سلم إلى الرسل. إنه مفتاح السرّ المسيحاني.
وعلى مثال عينَي أعمى بيت صيدا اللتين فتحهما المعلّم بيده وريقه (آ 23)، بدأت عيون التلاميذ ترى بعض الشيء (رؤية غير واضحة، آ 24) من النور المسيحاني الذي نشره يسوع مجترح المعجزات.
2- خبر معجزة
أ- أقسام خبر المعجزة
يتّفق الشرّاح عادة على اكتشاف ثلاثة أقسام مميّزة في كل خبر معجزة. فكأننا أمام رسمة نموذجية: يكرّس القسم الأول لتصوير الظروف. ويهتمّ القسم الثاني برواية المعجزة بحصر المعنى. ويتحدّث القسم الثالث عن النتيجة التي حصلت في "المريض" وفي الحاضرين.
والخبر الذي ندرس، يتبع هذه الطريقة في التأليف الأدبي:
* آ 22. تصوّر ظروف المكان (في بيت صيدا). تذكر الأشخاص (يسوع، التلاميذ، الأعلى). تحدّد طلب الشفاء (طلبوا إليه أن يلمسه. قد نكون وهنا أمام أناس حملوا الأعمى، كما حمل الأربعة مخلّع كفرناحوم، 2: 3).
* آ 23- 25 أ. تروي خبر المعجزة.
* آ 25 ب-26. تلاحظان النتيجة في الأعمى: أبصر وعاد يرى كل شيء جلياً. وتوردان توصية يسوع الأخيرة: لا تدخل حتى إلى القوية.
ب- الميزات العادية
ويبيّن الشرّاح الميزات العادية في كل خبر معجزة. لا نجد هنا نواميس مطلقة.
* يصوّر المرض بالتفصيل: مدّته، بشاعته، عجز الأطبّاء، تردّد في إمكانية الشفاء. مثلاً، النازفة: عجز الأطباء. إبنة يائيرس: ضحك الناس. مخلّع يو 5: 38 سنة.
* يطلب الإيمان. أتؤمن أنني إستطيع ذلك. أو يلاحظ يسوخ وجود الإيمان. مع النازفة: إيمانك خلّصك. مع المرأة الكنعانية: عظيم إيمانك أيتها المرأة. مع المخلّع: رأى يسوع إيمانهم.
* ويورد الإنجيلي تدخّل يسوع. هناك كلمة. بعض المرات فعلة: لمسَ الأبرص. لمست النازفة طرف ثوبه. وضعَ يده على ابنة يائيرس.
* وتأتي النتيجة حالاً. قال للضابط الروماني: إبنك حي. قال للكنعانية: ليكن لك كما تشائين. فخرج الشيطان حالاً من ابنتها.
* وأخيراً ردة الفعل عند الحاضرين: الذهول والتعجب. المديح أو إعلان الخبر. ما أحسن ما فعل.
ج- عودة إلى خبر مرقس
لا نجد أن هذه الملاحظات العامة قد تحققت كلها في شفاء أعمى بيت صيدا.
* لا نعرف شيئاً عن الأعمى: لا إسمه (رج 10: 46: ابن طيما)، لا مدة مرضه (5: 25: 12 سنة)، ولا حالته النفسية (5: 26-27): أمل أو يأس.
* ظل الأعمى منفعلاً. هل تجاوب مع عمل يسوع؟ ما هو إيمانه؟ هناك شرّاح رأوا في شفائه المتدرجّ إشارة إلى ضعف إيمانه.
* لم يكن تدخّل يسوع بسيطاً: عمل بشكل متعب. تنهّد. أعاد الكرة مرتين.
* شُفي الأعمى على مرحلتين، لا حالاً. في المرة الأولى، قال: أرى الناس. ولكني أبصرهم كأشجار تمشي! في المرة الثاني، عاد يبصر جلياً.
* لا يشير النصّ إلى ردة فعل الأعمى الذي تعافى، ولا أصدقائه الذين جاؤوا به، ولا التلاميذ الذين يرافقون يسوع. هل نستطيع أن نفهم أن إعلانهم عن يسوع أنه المسيح هو امتداد لشفاء الأعمى، الذي هو دلالة على أن يسوع هو الآتي.
كل هذه الإهمالات أو التبدّلات تفرض علينا أن نرى حرية مرقس بالنسبة إلى الرسمة المعروفة في خبر الأشفية. وإذ عمل ما عمل، أما يودّ أن يعطي خبره مدلولاً آخر أعمق من تفسير بسيط للمعجزة؟ أما نكتشف في هذا الخروج عن قاعدة التأليف الأدبي، ما لاحظناه حول اقحام هذا الحدث في سياق المتتالية وفي تصميم الإنجيل وهو أننا أمام قراءة رمزية لمعجزة أولانية؟ هذا ما سوف نكتشفه في التفسير.
3- تفسير النص
أ- ظروف المعجزة (آ 22)
تتضمّن آ 22 أربعة أفعال تدل على عمل نقوم به. ثلاثة من هذه الأفعال هي في الحاضر التاريخي. هذا التكويم للأفعال خاص بمرقس وهو يعطي حيويّة لخبره.
أولاً: قدّموا إليه أعمى...
كان العميان كثيرين في الشرق القديم. أعمى منذ مولده (يو 9: 1 ي). أعمى بسبب الشيخوخة. أعمى بسبب مرض زادته حرارة الشمس أو الغبار أو الأوساخ. يتحمّل الأعمى مرضه كعقاب إلهي تسبّبه خطيئة فردية أو عائلية (2 صم 3: 9، 28 ي). هنا نتذكّر سؤال التلاميذ ليسوع: "من أخطأ هو أم والداه حتى وُلد أعمى".
وهذا الأصل الملتبس (سبب مادي أو أدبي) للعمى، شأنه شأن سائر الأمراض، يفسّر لماذا طلبت الشريعة من المؤمنين أن يعاملوا المرضى بحنان: "لا تلعنوا الأصمّ. لا تضعوا حجر عثرة أمام الأعمى" (لا 19: 14). ويقول تث 27: 18: "ملعون من يضلّ أعمى عن الطريق". ولكنها تحفّظت في ما يخصّ الخاطىء الذي ينال العقاب لئلا تظهر وكأنها تتبرّأ من عمل الرب (لا 21: 18): "من كان فيه عيب (الأعمى، الأعرج...) لا يقترب ليقدّم طعام إلهه". وهناك تقليد راباني يعود إلى رابي اليعازر يمنع الزيارة إلى مرضى العيون.
ومن العمى الجسدي الذي يعتبر نتيجة الخطيئة، إلى العمى الروحي، المسافة قصيرة. ولهذا كثرت النصوص التي تتحدّث عن العمى في المعنى المجازي. قال يسوع لتلاميذه: لكم عيون ولا تبصرون (8: 18) فعاد إلى العهد القديم. قال موسى لبني إسرائيل: "رأت عيونكم المحن والعجائب والمعجزات العظيمة ولم يعطكم الرب قلوباً لتعرفوا وعيوناً لتبصروا وآذاناً لتسمعوا" (تث 29: 2-3). هم بحاجة إلى قلب جديد ونظر جديد، فيعرفون أنّ كل هذا هو عمل الله، وحينئذ يؤمنون به (خر 14: 31). ونقرأ في ارميا (5: 21) تنبيهاً إلى شعب أورشليم الذي ترك إلهه. "إسمعوا هذا الكلام أيها الحمقى، أيها الشعب الذين فقدوا الحسّ، الذين لهم عيون ولا يبصرون وآذان ولا يسمعون" (رج حز 12: 2؛ أش 6: 9). هذا هو وضع التلاميذ وهم يحتاجون إلى معجزة شبيهة بمعجزة أعمى بيت صيدا.
مع أعمى بيت صيدا نحن أمام عمى طبيعي، جسدي. ولكن إذا قابلناه مع أعمى أريحا (10: 46) الذي يُروى شفاؤه بحسب القواعد التي ذكرناها أعلاه، يلفت انتباهَنا غياب كل عنصر ملموس وشخصي عند الأعمى الأول. أما صورة الأعمى الثاني فمرسومة بألوان موحية. وهكذا نكون أمام إشارة أخرى تدلّ على الإنتقال (في قراءة ثانية) من الحادث التاريخي إلى النمط العام، من عمى الجسد إلى العمى الروحي. لهذا يقول النصّ: قدّموا إليه أعمى، وتوسّلوا إليه. محيطه يحمله إلى يسوع. إيمان الذين يحملونه سيفعل كما فعل إيمان الأربعة (يمثّلون التلاميذ الأربعة الأولين) الذين حملوا المخلّع إلى يسوع.
ثانياً:... وتوسّلوا إليه أن يلمسه
وضع اليد هو فعل رمزي يرد مراراً في الكتاب المقدس. يُمارس على الضحايا التي تقدّم ذبائح. يمارس مع الأشخاص فيدلّ على بركة ليتورجية من أجل شفاء المرضى أو نقل وظيفة إلى شخص آخر.
عبّر مرقس عن هذه الفعلة بفعل "لمس" الذي استعمله ما يقارب عشر مرات في إنجيله: إن يسوع يشفي حين يلمس أو يترك الآخرين يلمسونه. مدّ يده ولمس الأبرص (1: 41). أخذ بيد الصبية فقامت (5: 41). كان المرضى يحاولون أن يلمسوه ليشفوا (3: 10؛ 6: 56). والنازفة لمست طرف ثوبه "فانقطع نزف دمها في الحال" (5: 28- 29). نجد فعل "لمس" في "الإجمالات" العديدة التي قد يكون مرقس دوّنها، أو ربّما أخذها من التقليد وأقحمها في إنجيله. نحن هنا أمام فعلة اعتاد يسوع أن يقوم بها. وبعد العنصرة سيقتدي به الرسل (مر 16: 19؛ أع 9: 12، 17).
ويشير مرقس إلى الرباط بين "اللمس" الجسدي، وانتقال قوة شفاء تخرج من كيان يسوع. ما إن لمست النازفة ثوب يسوع خلسة، حتى شعر يسوع بقوة خرجت منه (مر 5: 30؛ رج لو 6: 19). هذا الطقس الشفائي باللمس الجسدي ينتمي إلى تدبير تجسّد يسوع في تاريخ البشر. ولكن يبدو أن القيامة ستلغي هذا الطقس (يو 20: 17: لا تمسكيني) على حساب التدبير الأسراري.
إن الذين جاؤوا بالأعمى إلى يسوع يعبّرون عن الإيمان بهذه القوة الشافية المتأتية عن اللمس. فنحن نجد في عملهم الميزة الثانية لأخبار الأشفية (رأى يسوع إيمانهم) مع فارق بسيط وهو أننا أمام إيمان أصدقاء الأعمى، لا أمام إيمانه هو. ثم إن إنجيل مرقس أعطانا مثلاً يحل فيه الناس محلّ المريض: الأخرس الألكن في أرض المدن العشر (7: 32). هل يعني هذا أن العالم الوثني يحتاج إلى من يأخذه إلى يسوع، أو بالأحرى العالم الخاطىء. هذا ما حدث للأصم الألكن: سألوه أن يضع يده عليه. وللأعمى (7: 32) ابن طيما الذي نادوه ليذهب إلى يسوع (10: 49). ولكن قد يكون الآخرون حاجزاً لا جسراً. هكذا انتهر الناس الأعمى. ولكنه تجاوز الحاجز وأوصل صوته إلى يسوع.
هنا نستطيع أن نقابل بين خبري شفاء هذين العليلين فنرى نقاط تقارب عديدة:
مر 7: 32- 33 مر 8: 22- 23
فقدّموا إليه أصم فقدّموا إليه أعمى
منعقد اللسان
وطلبوا اليه وطلبوا اليه
أن يضع يده عليه. أن يلمسه.
فأخذه على حدة فأخذ بيد الأعمى
بمعزل عن الجمع. واقتاده إلى خارج القرية...
هنا نقدّم ثلاث ملاحظات على مستوى الوعظ والإرشاد. الأولى: نستطيع أن ننتقل من العمى الجسدي لدى عليل بيت صيدا إلى عمانا الروحي، نحن تلاميذ المسيح. إن عيوننا تحتاج لكي تنفتح فترى "الإبن، نور العينين" (طو 11: 14). الثاني: من نالوا موهبة الإيمان في الجماعة، عليهم أن يلعبوا دوراً مماثلاً للذي لعبه أصدقاء الأعمى أو الأصم الألكن ليحملوا إلى الرب الأخ التي لم تنفتح بعد عيناه على نور الإيمان. الثالثة: إن الإتصال المسيحي والخلاصي مع المسيح، يتمّ بعد الآن في قبول أسرار العهد الجديد.
ب- المعجزة (آ 23- 25 أ)
صوّر الكاتب المعجزة بأسلوبه الشيّق (رج 5: 8- 13؛ 7: 32- 35): هناك تفاصيل ترسم أمامنا طبع يسوع البشري. وخصوصاً حركاته البسيطة التي تكشف في الوقت ذاته قدرته المسيحانية وحنانه العميق.
أولاً: الحركة الأولى
الحركة الأولى: أخذ الأعمى بيده ليقوده في مشيته المتردّدة، هذا على مستوى الجسد. وكل واحد يستطيع أن يقوم بهذا العمل. وعلى مستوى الروح، نحن أمام بداية مسيرة هذا الأعمى تقوده يد يسوع. ثم إن يسوع أراد أن يبتعد عن الضجّة والدعاية، أراد أن يحتفظ بالسرّ المسيحاني، فذهب إلى خارج القرية. يقول عنه النبي: "لا يخاصم ولا يصيح، وفي الشوارع لا يسمع أحد صوته" (أش 42: 1- 4؛ رج مت 18:12-19).
إذا كان هدف هذا الشفاء هو تربية إيمان التلاميذ، نفهم أن يكون قد تمّ "في خارج القرية". فمرقس يميّز عادة بين تعليم يُعطى للتلاميذ على حدة وتعليم يُعطى للجموع. وبموازاة هذا التعليم الحميم الذي يُعطى لمجموعة مميّزة، هناك أمثولة تشكلها فعلة نبوية ستعطى لخير شهود المعجزة وحدهم. تحقق شفاء الأخرس الألكن في الجو نفسه من العزلة وتنشئة التلاميذ (7: 32- 35) ففسّر بشكل مماثل: هناك أراد يسوع أن يفتح الآذان ويحلّ عقدة اللسان عند المرسلين في المستقبل. وفي معجزة الأعمى، سيفتح عيون التلاميذ فيرون طريق الآلام كما رآها ابن طيما وسار فيها وراء المسيح.
ثانياً: الحركة الثانية
الحركة الثانية التي قام بها مجترح المعجزات، هي أنه وضع من ريقه على عيني الأعمى. هذا ما يدهش نظرتنا اليوم. لا شك في أننا نفكّر بطوبيا الشاب الذي وضع مرارة السمكة على عيني أبيه طوبيت ليشفيه (طو 11: 8). ثم إنهم كانوا ينسبون إلى الريق قوة شافية من أجل العيون (رج يو 9: 6). هكذا فعل يسوع مع الأصمّ الألكن (7: 33: تفل ولمس لسانه بريقه). وهذا ما يفعله الآن مع الأعمى. نشير هنا إلى أن التقليد الراباني يمنع استعمال الريق كدواء في يوم السبت.
لا تدلّ فعلة يسوع فقط على اهتمام مليء بالحنان، بل على إرادة عازمة كما في إقامة ابنة يائيرس (5: 37-40). وبدا يسوع وكأنه لا يستطيع أن يلمس المريض ويفعل فيه، إلا إذا ابتعد به عن الجمع، إلا اذا اقتلعه من عالمه اليومي: هكذا سيأخذ تلاميذه على انفراد (4: 34؛ 6: 31- 32) ويفتح لهم عيونهم وآذانهم. وجاء وضع اليد فعبّر عن قدرة تستطيع أن تحوّل الإنسان كله من الداخل كما من الخارج.
ثالثاً: الحركة الثالثة
الحركة الثالثة هي وضع اليد. وضع يسوع يديه مرة أولى، وسأل الأعمى: "هل ترى شيئاً" (آ 23)؟ فسرّ يوحنا فم الذهب هذا السؤال غير العادي الذي وجَّهه يسوع إلى الأعمى، على أنه يدلّ على نية يسوع بأن يوصل إيمان الأعمى إلى كماله. بيد أنه يبدو لنا من خلال إطار النص الحالي، أن هذا السؤال يتوجّه إلى التلاميذ أكثر منه إلى العليل نفسه: نحن أمام إستباق رمزي للسؤال المباشر الذي سيطرحه يسوع فيما بعد على الرسل: "من أنا في رأي الناس" (8: 27)؟ تساءل الشرّاح عن سبب هذا الشفاء في زمنين (طريقة واحدة في الإنجيل كله). فاكتشف عدد كبير منهم أسلوباً تربوياً يتوخّى تربية إيمان التلاميذ.
أجل، تمّ الشفاء في زمنين. سأل يسوع الأعمى، فرفع الأعمى نظره (أنابلابساس) إلى السماء (6: 41؛ 7: 34 مع الأصم الألكن). بدأ الأعمى يبصر الناس وكأنهم اشجار تمشي. وكان اتصال آخر، أعاد الأعمى إلى "كمال" عينيه. هذا ما حدث أيضاً مع صاحب اليد اليابسة (3: 5: عادت اليد صحيحة كالأخرى). وضع يسوع يديه مرة ثانية على عيني الأعمى، فرأى كل شيء جلياً. وصار يرى عن بعد. هكذا يجب أن يكون إيمان التلاميذ.
كان مرقس قاسياً حين تحدّث عن لافهم الرسل، عن عماهم الروحي. وهو لا يتردّد في التشديد على المعلّم الذي عيل صبره من تباطئهم لكي "يروا" الطرق التي يتيهون فيها قبل أن يؤمنوا. حين يسألهم المسيح في 8: 27-29 ليعرف رأيهم حول هويته، فهو يفعل في زمنين: كلّمهم مرة أولى حول ما يقول الناس عنه، فأعلنوا آراء الناس التي تدور حولهم. وأجبرهم يسوع مرة ثانية ليعلنوا رأيهم الشخصي. حينئذ اعترفوا بفم بطرس: "أنت المسيح". يحق لنا أن نتساءل إذا كانت المرحلة الأولى من شفاء الأعمى (آ 24: أرى الناس كأشجار تمشي) لا توافق موافقة رمزية جواب التلاميذ الأول مع ما فيه من تعقيد، من لفّ ودوران (آ 28). في هذه الفرضية، يدلّ شفاء الأعمى الكامل (آ 25) على اعتراف إيمان بطرس الذي يشهد على أن التلاميذ أدركوا السرّ إدراكاً نهائياً.
ونقدّم هنا أيضاً ثلاث ملاحظات. الأولى: إن العبور من العمى الروحي إلى رؤية الإيمان الواضحة تفترض مسيرة حقيقية: نعي أننا لا نرى. نرغب في النور. نتقبّل الرب الآتي... هذه المراحل المتدرّجة في الشفاء تدعونا إلى الصبر. الثانية: إن يسوع وحده يستطيع أن يربّي نظرنا لكي يمزّق سرّ شخصه العميق، وتوسّعات ملكوته الخفية، وأحداث التاريخ وقلب البشر. الثالثة: على كل واحد منا أن يقدّم جواباً لسؤال يوجّهه إليه يسوع اليوم بصوت كنيسته، بعلامات الأزمنة، وإيحاءات الروح القدس الداخلية.
ج- النتيجة الحاصلة (آ 25 ب- 26)
"وأخذ الأعمى يرى رؤية كاملة، وأعيد (تركيب عينيه). كان يرى بوضوح من بعيد". هذا الأسلوب المفخَّم يبرز النجاح الكامل لما عمله يسوع. ذاك الذي كان أعمى هو ينعم منذ الآن بملء استعمال عينيه. أعيد إلى وضع طبيعي، شأنه شأن جميع الناس. وهكذا بدا شهادة حية عن عمل البناء المسيحاني. هذه العودة تذكّرنا بتلك التي بها وعد الله النبي (إر 15: 19). أو وعد بها إسرائيل (إر 16: 15؛ 23: 28، 24: 6؛ 50: 19). إنها صورة عن إعادة البناء النهائي التي سيقوم بها إيليا في نهاية الأزمنة (مر 9: 12؛ رج ملا 3: 24).
نلاحظ التعارض بين هذا الشفاء المتدرّج (أعمى بيت صيدا) والشفاء السريع لابن طيما: "في الحال إستعاد النظر" (10: 52). عارض الإنجيلي بين صعوبة الشفاء الأول وسرعة الشفاء الثاني فدلّ بصورة رمزية على أن التعليم الذي أعطاه يسوع في 8: 31- 10: 45 قد فتح عيون التلاميذ. رأوا مثل طيما، وساروا مع يسوع في الطريق، طريق أورشليم. طريق الآلام والقيامة.
وفي النهاية أرسل يسوع (آ 26، ابوستالو) الرجل إلى بيته. هكذا أرسل المخلّع (2: 11) ومجنون الجراسيين (5: 19). هذا الإرسال هو مهمة رسولية على مثال مهمّة الرسل. كما أرسل يسوع مجنون الجراسيين لكي يخبر بما عمل الرب له، هكذا سيفعل مع أعمى بيت صيدا. فالنعمة الي يعطيها الله ليست دعوة إلى الأنانية والتمتّع بما وهبه الله لنا. النعمة هي إرسال إلى الآخرين، هي رسالة نحملها كما حملت النسوة بشرى القيامة في أحد الفصح. إذهبن وأخبرن. هكذا سيفعل أعمى بيت صيدا وكل واحد منا