الفصل الحادي والاربعون
خمير الفريسيين وخمير هيرودس
8: 14- 21
بدا الفريسيون عمياناً. وها هم التلاميذ أنفسهم وقد أصابهم العمى. سينالون التوبيخ عينه الذي تلقّاه أولئك الذين من الخارج، أي من خارج الملكوت. أترى أثّر عليهم خمير الفريسيين وما فيه من رياء وأنانية وكبرياء، فجعلهم مغلقين على كلام المسيح؟ أترى أثر فيهم خمير هيرودس وما فيه من مواربة للحصول على منافع سياسية أو على مراكز اجتماعية؟! الخمير هو ينبوع النجاسة والفساد. ويرمز لدى الرابانيين إلى الميول السيّئة عند الإنسان. كانت نوايا الفريسيين وهيرودس سيئة بالنسبة إلى يسوع فرفضوا أن يسيروا معه. هل يعاند الرسل نداءات يسوع فيشاركوا الفريسيين في نوايا قلوبهم السيّئة؟ أما آن الأوان لكي يفهموا؟
1- عمل الذاكرة عند الرسل
وكان انطلاق جديد في القارب وضع حداً لهذه المجادلة مع الفريسيين. لا يذكر مرقس التلاميذ. يجعل آ 13 في صيغة المفرد وكأن يسوع ذهب وحده إلى القارب. وضمير الجمع يعني الفريسيين كما يعني معظم التلاميذ. أترى يسوع أراد أن يعتزل حتى عن تلاميذه؟ "تركهم وعاد فركب السفينة".
وفي آ 14، نجد صيغة الجمع "نسوا". لا شكّ في أن الفعل يدلّ على التلاميذ الذين "نسوا". لا شكّ في أن الفعل يدلّ على التلاميذ الذين نسوا أن يأخذوا معهم خبزاً. التلاميذ هم هنا. في 6: 45، إضطرهم يسوع أن يركبوا السفينة. وفي 7: 17 يجتمعون معه في البيت (= في الكنيسة) بعيداً عن الجموع ليسألوه.
إن مسألة التموين تشغل بالهم. صعدوا إلى السفينة وليس معهم إلا رغيف واحد. صعد يسوع معهم كما فعل في 6: 51، وذلك بعد أن جاء إليهم ماشياً على المياه وكأنه على أرض يابسة. أخذوا معهم رغيفاً واحداً. أما يكفي؟ هل نسوا معجزتَيْ يسوع؟ ألا تعمل الذاكرة عندهم هناك رغيف واحد ومن خلال هذا الرغيف، هناك ذاك الذي يشبع الجموع.
وها هو يسوع يتابع عمل تكوين تلاميذه. بدأ يوقظهم حول الخطر الذي يشكّله خمير الفريسيين وخمير هيرودس. الاولون يضعون الفخاخ، يراقبون يسوع، يكلّمونه بمكر، يتآمرون عليه (2: 1- 3: 6؛ 7: 1-13؛ 8: 11-13). وهيرودس يدلّ على أهدافه السيّئة (6: 14 ي). لقد قتل يوحنا، وقد يستعدّ لقتل يسوع إذا رأى في ذلك منفعة له. وهكذا حذّر يسوع تلاميذه من الميول الشريرة التي يتضمنها هذا الخمير المضاعف. حذّرهم من هذا المناخ الذي يقيمون فيه إن عاندوا ولم يروا في شخصه الطابع الالهي، وفي رسالته البعد المسيحاني. هو يهتم بأن يفتحهم على هذه الرسالة ليشركهم فيها، وهم يهتمون بما يأكلون ويشربون ويتوقفون عند هذا الاهتمام. أين ملكوت الله الذي يطلبون (مت 6: 33)؟ هل نسوا أن الباقي كله يزاد لهم؟
حينئذ أيقظهم يسوع من غفلتهم وحرّكهم في العمق. استعاد على التوالي تنبيهات سبق فوجّهها إليهم. كان قد قال لهم بعد جداله حول التقاليد وتقديمه مثلاً عما ينجّس الإنسان: "وهكذا أنتم أيضاً بلا فهم" (بلا وعي) (7: 18)، شأنكم شأن الفريسيين؟ وتابع في الآية عينها: "أفلا تفهمون" (أفلا تدركون)؟ وبعد سير يسوع على المياه وتهدئة الامواج، قال مرقس موضحاً سبب دهشتهم (أو حيرتهم): "لم يفهموا شيئاً من أمر الارغفة، بل كانت قلوبهم عمياء" (قاسية لا تفهم ولا تلين، 6: 52). وها هو يقول لهم الآن الشيء عينه.
صار أولئك الذين "أعطي لهم سر الملكوت" مثل الذين من خارج: ينظرون فلا يرون، ويسمعون فلا يفهمون (آ 18؛ رج 4: 11- 12). لسنا هنا أمام شجب، بل أمام سؤال: ألكم عيون ولا ترون؟ بل أمام نداء ملّح إلى التوبة. إنه يذكّرنا بتوبيخات موسى للشعب: "أما أعطاكم الرب حتى الآن قلوباً لتعرفوا، وعيوناً لتروا، وآذاناً لتسمعوا "تث 29: 3"؟ إن جيل سفر التثنية مميّزون بالنسبة إلى جيل سفر الخروج. فقد تدّخل الله ليعطيهم قلباً جديداً وعينين جديدتين. ولكنهم ظلوا شعباً متمرّداً حسب أقوال الانبياء (إر 5: 21؛ حز 12: 2). كان شعب اسرائيل يتذكّر حسنات الله فيعود إلى ذاته، يعود إلى ربه ويخرج من بلادته (مز 77: 4، 6، 12-13؛ 105: 5). وهكذا يتذكّر التلاميذ كيف وزّع يسوع الخبز على الجموع فشبعوا، فيتذكّرون مسؤولياتهم. هم الذين جمعوا الكسر الباقية، فكيف يهتمّون بطعامهم. هل توقّف الله عن تأمين الطعام لشعبه؟ ثم إن مهمتهم تفرض عليهم أن يواصلوا عملهم فيوزّعوا الخبز الذي يعطيهم إياه يسوع. يوزعّونه على اليهود والوثنيين. هل نسوا شفقة يسوع وحنانه على "اليهود" (6: 34) كما على الوثنيين (8: 2)؟
2- دراسة أدبية
بدأ مرقس في 7: 17- 21 فحدّثنا عن عدم فهم لدى التلاميذ، وها هو الآن يقدّم لنا ذروة في عدم الفهم هذا قبل أن نصل إلى اعلان بطرس ليسوع: أنت المسيح. ففي 8: 14- 21، يبرز مرقس هؤلاء التلاميذ الذين عميت قلوبهم فما استطاعوا أن يدركوا ولا أن يفهموا، الذين لا يسمعون ولا يبصرون ولا يذكرون!
نحن هنا أمام نصّ دوّنه مرقس ولم يتسلّمه من التقليد، ما عدا ربما آ 15: "إنتبهوا، إياكم وخمير الفريسيين وخمير هيرودس".
تبدو آ 15 قولاً معزولاً في التقليد أقحمه مرقس هنا بسبب توارد الألفاظ: الخبز والخمر. ولأنه تحدّث عن الفريسيين في المقطوعة السابقة ونواياهم السيئّة تجاه يسوع. على كل حال، إن ولْي النصّ (آ 16 ي) لا يهتمّ لهذا القول. لم يعد من ذكر لهيرودس ولا للفريسبين.
إن آ 14 تفتتح الحوار الذي يلي (نستطيع أيضاً أن نجعل المقطوعة تبدأ في آ 13 الذي تكون في الوقت عينه خاتمة المقطوعة السابقة (آ 11- 13). ففي آ 14، عبارة "في القارب" ترتبط بالفعل: ركب القارب في آ 13. وقد تكون آ 13 أيضاً من تدوين مرقس. بعد العبور إلى دلمانوثا، والجدال مع الفريسيين الذي يحدّد مرقس موقعه على الشاطىء الغربي للبحيرة، إحتاج الكاتب إلى عبور جديد نحو العبر لكي يصل يسوع وتلاميذه إلى الشاطىء المقابل، في بيت صيدا.
نقرأ في آ 14: "نسي التلاميذ أن يأخذوا خبزاً". نجد هنا الكلمات التي وجدناها في 6: 41؛ 8: 6 و6: 38: خبز، أخذ، كان معه. لم يكن معهم إلا رغيف واحد. حين تكثير الأرغفة كان معهم خمس أو سبع خبزات. أما هنا فلا شيء تقريباً.
ونفهم آ 16 في امتداد آ 14 لا آ 15. إذن جدال التلاميذ لا يرجع إلى أنهم فسّروا تفسيراً خاطئاً قول آ 15 (عكس مت 16: 7). بما أنه كان هناك حديث عن الفريسيين في 7: 1-23 و8: 12-13 وعمّا في مواقفهم من كذب، كان من الطبيعي أن يحذّر يسوع تلاميذه من خميرهم، أي من تعليمهم. ولكن لماذا ذكر أيضاً خمير هيرودس؟ قال تايلور: كان يسوع قريباً من طبرية! إن خمير الفريسيين مع طلبهم آية يدلّ على عدم فهمهم لشخص يسوع. إنهم يشبهون التلاميذ في هذا المجال.
يرد فعل "تجادل" (ديالوغيزوماي) سبع مرات عند مرقس وبمناسبة "مجادلات" شجبها يسوع. مع الفريسيين أو الكتبة (2: 6، 8)، مع التلاميذ (11: 31، هنا وفي 9: 33). في هذ الآية الاخيرة (من تدوين مرقس) يتضمّن موضوع الجدال عدم فهم واضح لما قاله يسوع في الانباء الثاني للآلام (9: 32: لم يفهموا الكلمة). وهنا أيضاً: إذا كان التلاميذ تجادلوا فلأنهم لم يفهموا. وهذا ما يبيّنه ولْي الخبر. وترد الاداة "هوتي" فنفهمها في معنين.إما تجادولوا لأن لا خبز معهم. وإما: تجادلوا في أن لا خبز معهم.
في آ 17 نقرأ: "وإذ عرف قال لهم". رج مر 6: 38: وإذ عرفوا قالوا. قالت: لماذا تتجادلون لأن لا خبز معكم؟ أما أدركتم بعد وفهمتم؟ أتكون قلوبكم عمياء"؟ إستعاد سؤال يسوع الأول ألفاظ آ 16 حسب اسلوب معروف عند مرقس، لاسيّما حين يصوّر ردّة فعل الشخص أمام موقف ذُكر سابقاً. مثلاً في 2: 6: "وُجد بعض الكتبة يفكّرون في قلوبهم". ثم آ 8: "وعرف يسوع حالاً أنهم يفكّرون في نفوسهم فقال لهم: لماذا تفكّرون بهذا في قلوبكم"؟ وفي 2: 15: "وفريسيون عديدون وخطأة كانوا إلى المائدة (إتكأوا) مع يسوع وتلاميذه". ثم آ 16: "وكتبة وفريسيون رأوا أنه يأكل مع الخطأة والعشارين قالوا لتلاميذه: ماذا! هو يأكل مع العشارين والخطأة"! وفي 6: 35: "وإذ كانت الساعة قد فاتت، تقدّم إليه تلاميذه وقالوا له: المكان قفر والساعة فاتت". وفي 6: 48: "جاء إليهم ماشياً على البحر". وآ 49: "وإذ رأوه ماشياً على البحر". وفي 8: 16: "كانوا يتجادلون فيما بينهم لأن لا خبز معهم". وآ 17: "وإذ عرف قال لهم: لمذا تتجادلون لأن لا خبز معكم"؟ وهناك أمثلة اخرى عديدة (5: 38؛ 9: 33- 34) فيها يرد الأمر وتنفيذ الأمر (1: 42- 43؛ 2: 9، 11، 12؛ 3: 5؛ 6: 31- 32)، أو سؤال وجوابه (2: 19؛ 3: 33- 35؛ 9: 11- 13؛ 11: 28، 29، 33). هما وفي مناسبات أخرى (9؛ 38؛ 12: 41- 44؛ 15: 14؛ 3:6- 4).
فالأسئلة المطروحة على التلاميذ تقع في مستوى أعمق وتطرح على بساط البحث موقفهم الأساسي (رج 4: 13، 40؛ 7: 18). نجد هنا كما في 7: 14، 18 فعلين: أدرك، فهم. كما نجد ترافقاً بين عدم الفهم وعمى القلب كما في 6: 52: هناك عدم ادراك، عجز في القلب، قساوة وتصلّب. هذا ما يشير إليه توسيع آ 18. فنداء يسوع إلى تلاميذه ينبع من ردة فعل شبيهة بتلك التي نجدها في 3: 5 (جال نظره فيهم بغيظ، مغتماً لتصلّب قلوبهم). ليس هناك من برهان قاطع يتيح لنا أن ننسب إلى الإنجيلي كلمة "بوروسيس" (عمى، قساوة) ولا الجملة التي نجدها في هذا السياق. ولكن لا يُستبعد ان يكون الأنجيلي قد تحدّث عن الباعث الذي جعل الحاضرين "عمياناً". ففي سياق المعجزة المروية، نحن أمام نوايا سيئّة تجاه يسوع بدأت تظهر منذ بداية المقطوعة (كانوا يراقبونه، 3: 2). ما استطاعوا أن يعطوا جواباً. أو هم رفضوا بسبب قساوة قلوبهم. هذا ما جعلهم لا يفهمون، هذا ما خدّر عقولهم. ومن المعقول ان يكون هذا العمى (في 6: 52، و 8: 17) فقط عدم فهم موقت لدى شهود رأوا معجزة. إنه أكثر من ذلك. إنه يدلّ على عمى عام لدى السلطات اليهودية، وهذا العمى سيدفعها إلى قتله.
في 8: 17 ماثل يسوع مماثلة تامة بين التلاميذ وأناس قصيري النظر وسيئي النية حضروا شفاء الرجل الذي يده يابسة. فالكلمات التي وجّهها إليهم في آ 18 تتسجّل في المنطق عينه: "لكم عيون ولا تبصرون، لكم آذان ولا تسمعون". عاد مرقس هنا إلى إر 5: 21 أو حز 12: 2. ونحن نتذكّر مر 4: 11- 12 حول سامعي الامثال: "الذين في الخارج... ينظرون نظراً ولا يبصرون، يسمعون سماعاً ولا يفهمون (عاد مرقس إلى أش 6: 9 واوجزه مبرزاً العين والأذن والقلب).
إذن، في المقطع الذي ندرس (8: 14- 21)، هناك تماثل بين التلاميذ والذين "في الخارج" الذين يعطى لهم كل شيء بأمثال (بألغاز). نحن أمام ذات اللافهم الإجمالي. لهذا أشير إلى صمم التلاميذ الذين لهم آذان ولا يسمعون، مع أن المعجزات التي ذكرها يسوع ترتبط بالنظر (مقابل هذا نقرأ في 4: 11-12: يعطى كل شيء بأمثال، يعني بالسمع، لكي ينظروا فلا يروا). وبشكل اوضح هنا كما في 6: 52، و7: 18، بيّن مرقس، بما يقوم اللافهم والعمى والصمم عند التلاميذ: لم "تتذكروا، معجزتي تكثير الأرغفة. ذكرهم بها يسوع من خلال سؤالين. وتركّزت النظرة على عمل يسوع العجائبي (كسر الخبز، 8: 6. لا تذكر السمكات هنا. رج 6: 38؛ 8: 7. فيسوع يتكلّم فقط عن الخبز) وعلى الأعداد في المعجزتين. ذكّر يسوع أن خمسة أرغفة (6: 78، 41) كفت خسمة آلاف شخص (6: 44). وسبعة أرغفة (8: 5، 6) كانت كافية لأربعة آلاف (8: 9). وجاء سؤالان عن عدد القفف (6: 43) والسلال (8: 8) التي ملأوها. اجابوا: 12 و7.
هذا ما يجعلنا نفكّر أنهم تذكّروا جيّداً الواقع في ماديته ولاحظوا اتساعه الخارق حين ملأوا القفة والسلال بالكسر. ولكن إدراكهم توقّف هنا. هذا ما حدث لهم حين سمعوا الامثال (4: 13؛ 7: 18). لم يفهموا معناها ولا مضمونها. وهم ينسون الآن أن الذي كثّر الأرغفة مرتين أمام عيونهم يستطيع أن يفعل الشيء عينه بخبزة واحدة مع المجموعة التي ترافقه. إذن، هم لا يتجادلون فيما بينهم لأن لا زاد معهم. ثم يجب أن نعرف أن الإشارة إلى الأرقام في المعجزتين لا تتوخّى التشديد على قدرة يسوع العجائبية بقدر ما تتوخى جذب الانتباه إلى "سرّ" شخصيته التي تختفي وراء ظواهر ملغزة، وراء أعماله العجائبية التي تبدو ملغزة كالأمثال (لم يفهموا الأمثال ولم يفهموا هاتين المعجزتين. في النهاية لم يفهموا من هو يسوع).
إن لا فهم التلاميذ لا يتأتى من تشعّب الواقع الذي رأوه. وقول يسوع في 7: 15، ومعجزتا تكثير الأرغفة، كل هذا ليس بلغز. في نظر مرض، همل لا يفهمون يسوع بعد، ولا يستطيعون أن يفهموه. والسؤال الأخير في آ 21 التي تنهي المقطوعة يفهمنا إياه بوضوح: إن يسوع يعيد سؤاله: "أفلا تفهمون بعد"؟ لا جواب لدى التلاميذ. وصمتهم يدلّ على أن يسوع لم يستطع أن يخرجهم من بلادتهم الروحية رغم تذكر معجزتَي الأرغفة.
لا نقرأ هذا النصّ من الناحية السيكولوجية. فكلام مرقس هو كلام لاهوتي أو بالأحرى كرستولوجي. ففي نهاية القسم الأول (ف 1- 8) من الإنجيل الثاني، أراد مرقس أن يبرز اللافهم التام لدى التلاميذ وبالتالي الطابع السري لشخص يسوع الذي لم يدركه البشر.
3- تلاميذ لا يفهمون
إن التنبيه في آ 5 يأتي بشكل طبيعي بعد الجدال مع الفريسيين. نحن لا ندهش حين نرى المعلّم يستفيد من العبور في القارب لكي يستخلص العبرة من اللقاء الذي تمّ في آ 11-13 (طلب آية من السماء). إذن، لم تأت آ 15 صدفة وأتفاقاً. وفيها أكثر من علاقة بين "الخبز" و"الخمير". غير أننا نلاحظ أن النصّ لن يعود يتحدّث عن الخمير. وهكذا نستطيع أن نربط رباطاً مباشراً بين آ 14 وآ 16 فيكون لنا نصّ متماسك.
أ- الآية وأعمال القدرة
رأى متّى هذا الوضع، فجعل التلاميذ يردّون على كلمة معلّمهم (مت 16: 6-7) وإن كان ردّهم في غير محلّه. بل شدّد على هذا "التفسير الخاطىء" جاعلاً يسوع يفسّر ما يعنيه هذا الخمير، ويفصح عمّا أراد ان يقول (آ 11- 12). تلك هي مسألة أولى.
والمسألة الثانية. جُعلت هذه المقطوعة بين طلب آية (آ 11-13) وشفاء أعمى بيت صيدا (8: 22 ي)، وتضمنّت آ 18 بعلاقتها مع 4: 10- 13، فتوخّت أن تبرز عمى التلاميذ ولا فهمهم الروحي وعجزهم عن تمييز الآيات عن أعمال القدرة (كما في معجزتي الخبز). وما يلام عليه التلاميذ في الظاهر (في آ 19- 21)، ليس فقط عدم فهمهم، بل عدم ثقتهم: لمذا تتجادلون حول نقص في الطعام وأنتم قد جمعتم الكسر بعد المعجزتين العظيمتين؟ وهكذا نجد نفوسنا مرة أخرى أمام المعجزة كحدث (يدهش، يحيّر)، لا كواقع يحمل معنى. هذا ما حدث للتلاميذ بعد معجزة السير على المياه (6: 52).
إن لم نفكّر مطوّلاً بهذا المقطع المرقسي، وإن لم ندرسه بالنظر إلى ما يسبقه ويليه، فقد يقودنا إلى نظرة خاطئة تشبه تلك التي توجّهنا في قراءة مت 6: 25-34. نقرأها وننسى أن لا معنى لها إلاّ بالنظر إلى آ 33؛ (أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه) فنصل إلى عكس معناها: بدل أن نجد في اعمال القدرة (ديناميس) (كما في مر 8: 24 ي)، وفي تدخّل العناية (مت 5) باعثاً يدعونا إلى التجرّد عن حاجاتنا المادية لنتكرس لما هو جوهري ونطلب ملكوت الله وبرّه، ونبحث عن اية (سامايون) الملكوت في أعماله القدرة، نترك الطمأنينة البشرية تخدّرنا ولا تخرجنا من ذاتنا.
وحاول متّى هنا أيضاً أن "يصحّح" الأمور. لا شكّ في أنه ذكر المعجزتين وسمّى التلاميذ "اوليغوبستوي" (قليلي الإيمان، رج مت 8: 26؛ 14: 31). عمل هذا ليحضّهم على "الفهم" لا على الثقة. بما أنهم شاهدوا وفرة قدرة (ديناميس) الله التي تؤمّن حاجات البشر، فعليهم أن يتجرّدوا من همومهم، ويوجّهوا قلوبهم إلى كلمة معلّمهم فيكتشفوا معناها ولا يشوهوها حين يفهمونها عبر همومهم وانشغالاتهم.
هذا ما أراد مرقس أن يقوله أيضاً. غير أن نصّه موجز إلى حدود الإيجاز. وإن موقعه في هذا الجزء من الإنجيل لا يترك لنا أي شكّ فيما يتعلّق بهدفه الحقيقي. بل هناك نقطة تبدو أكثر وضوحاً ممّا عند متّى. في 8: 17-18، كان مرقس قاسياً بالنسبة إلى التلاميذ. أما متّى الذي أراد أن يوفّر الاثني عشر، فقد ألغى ما يوازي هاتين الآيتين. قال مت 16: 9: "أما فكرتم؟ أما تذكّرتم القفف الخمسة...". أما مر 8: 17-18 فقال: أفلا تعقلون؟ افلا تفهمون؟ أو تكون قلوبكم عمياء؟ ألكم عيون ولا تبصرون...؟ أجل لم يفهم التلاميذ معنى المعجزة.
ب- ما هو الخمير
نعود هنا إلى آ 15 التي تبدو منعزلة عند مرقس الذي لن يعود يتحدّث عن الخمير. من الممكن أن لا يكون في البدء لهذا القول أية علاقة بالحدث، وأنه أدخل بسبب موضوع "الخبز". أما متّى فقد أدخله في نصّه بشكل يلفت النظر. ولكن قد تكون آ 15 عنصراً جوهرياً في النصّ. بعد أن تطرّق مرقس إلى موضوع الخمير، يكون قد تركه ليصل إلى الفهم عند التلاميذ.
الخمير هو خمير الفريسيين عند مرقس الذي يمتز بين خمير وخمير، بين خمير الفريسيين وخمير هيرودس. إن هذه الاختلافات بين الانجيليين الثلاثة تعكس استعمال كل واحد منهم لهذه الالفاظ.
لم يحدّد مرقس ما يعنيه يسوع بالخمير، فحافظ، على ما يبدو، على القول في شكله الأصلي. وتحدّث لوقا (12: 1) عن الرياء، وهذا ما يتوافق مع هجومه على الفريسيين والكتبة (11: 37-54، يسبق حالا 12: 1). كما يتوافق مع حضّه على الاعتراف بيسوع (2: 2-12: من اعترف بي... من أنكرني...). وتحدّث متّى عن التعليم، تعليم الفريسيين والصادوقيين (16: 12). وهذا ما يتوافق مع الحدث السابق (طلب آية من السماء، 16: 1- 4) ويرتبط بأقوال الفريسيين حول الآيات، أو يرتبط بالنصّ بشكل عام. ولكن ما هي علاقة تعليم الفريسيين بتعليم الصادوقيين ليجمع متّى الفئتين معاً؟! مثل هذه الأقوال تصل بنا إلى توضيحات ترافق اتجاه كل انجيلي، أو إلى تكيّفات تتماشى مع القرائن التي وُضعت فيها كل مقطوعة.
لم يوضح مرقس ما عناه يسوع بالخمير. وهكذا تبدو كل الفرضيات ممكنة. وهذه الفرضيات تختلف إن جعلنا آ 15 جزءاً لا يتجزّأ من النصّ أو اعتبرناها أقحمت إقحاماً. جمع الفريسيين مع هيرودس (هو جمع يدهش) (رج 3: 6: تآمر عليه الفريسيون والهيرودسيون، 12: 13: الفريسيون وأتباع هيرودس) فبيّن أنهم أناس لا يجتمعون إلاّ للشرّ، لكي يضطهدوا يسوع وأخصّاءه (هذا ما نراه أيضاً في أع 12: 1 ي). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ميّز بين خمير وخمير، فدلّ على أن نوايا هيردودس غير نوايا الفريسين. أما بالنسبة إلى الأولى، فهناك اللاأخلاقية في حياته الخاصة كما في حياته السياسية. وهناك نواياه العدائية التي رأينا بعض آثارها في مقتل يوحنا المعمدان (6: 14-29): هو يقول ببساطة و"ضمير مرتاح": "يوحنا الذي أنا قطعت رأسه". أما بالنسبة إلى الفريسيين فنجدهم على مدّ الانجيل الثاني. فهم حاضرون منذ 2: 6 وشفاء المخلّع: يفكّرون في قلوبهم. في 2: 16، عبّروا عمّا في قلوبهم أمام الرسل حين رأوا يسوع يأكل مع الخطأة. في 2: 18 انتقدوا نقصاً عند التلاميذ (لا يصومون، هذا في نظرهم) فلاموا معلّمهم. وفي 2: 18 هاجموا يسوع مباشرة بسبب تلاميذه الذين يقتلعون سنبلاً ويأكلون. في مشهد الرجل الذي يده يابسة، تحدّث يسوع عن عمى (تصلّب) قلوبهم. هم لا يريدون أن ينظروا (3: 5): راقبوه، شكوه، وفي النهاية تآمروا عليه (6:3).
نوايا سيئة بالنسبة إلى يسوع. خطر بالنسبة إلى التلاميذ: الفريسيون والهيرودسيون يحملون الشرّ والفساد. هنا لا ننسى أننا قريبون من الإنباء الأول بالآلام. قد تنتقل العدوى إلى التلاميذ فيصبحون عمياناً وقساة القلوب (كرديا).