الفصل الأربعون
آية من السماء
8: 11- 13
ها هم الفريسيون يعودون إلى يسوع بنواياهم السيّئة. جاؤوا يطلبون آية من السماء تؤكّد صدق هذا الرابي الجديد. جاؤوا لكي يجرّبوه. ولكن هذا المعلّم ليس كسائر المعلّمين، وأجوبته هي من عالم آخر. ولكن الفريسيين عُرفوا بعمى قلوبهم، بقساوة قلوبهم. هم يطلبون آية على مثال الشيطان في التجارب (أن يصير هذا الحجر خبزاً، إنزل من على جناح الهيكل). هم على مثال هيرودس الذي ينتظر أن يصنع يسوع أمامه معجزة من المعجزات (لو 9:23). أمّا يسوع فلم يجبه. هم سيعودون مع الناس على الصليب ويطلبون منه أن يصنع آية، أن ينزل "ليؤمنوا به"! ولكن آية يسوع أن تكون نزولاً عن الصليب بشكل ينير النظر ولا يحرّك القلوب. ستكون قيامته آية الآيات التي لولاها كان إيماننا باطلاً.
1- وجاء الفريسيون
بعد تكثير الأرغفة الثاني (8: 1- 10) ذهب يسوع مع تلاميذه إلى نواحي دلمانوثا. أين تقع على الخارطة؟ لا أحد يعرف. ونقول الشيء عينه عن "تخوم مغدان" التي يتحدّث عنها النص الموازي في مت 15: 39.
ذهب مع التلاميذ. فمن الأهمية بمكان أن يحضر التلاميذ الجدال التالي.
أعاد الفريسيون هجومهم على يسوع مباشرة. أرادوا أن "يجرّبوه". أن يمتحنوه. فطلبوا آية من السماء (آ 11). قال الرب في تث 20:18- 22: "أي نبي تكلم باسمي كلاماً زائداً لم آمره به، أو تكلّم باسم آلهة أخر، فجزاؤه القتل. وإن قلتم في قلوبكم: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلّم به الرب؟ فأجيبكم: إن النبي الذي تكلّم باسم الرب ولم يحدث كلامه بصدق، فذلك الكلام لم يتكلّم به الرب، بل زاد فيه النبي على الحقيقة، فلا تخافوا منه". هكذا يتميّز النبي الحقيقي من النبي الكاذب. هنا نرى حالاً أن هذا المعيار لا يكفي. فمضمون التعليم مهمّ، وكذلك تماسكه مع عمل الله وكلمته. أما الفريسيون فيريدون أن يروا.
"تنهّد يسوع" كما في شفاء الأصمّ الألكن (34:7). أهو تنهّد الألم وخيبة الأمل؟ بعد ثلاث معجزات هم يحتاجون بعد إلى آية! أما يشبعون؟ أما هم ينتظرون أن "يقع" فيهجمون عليه هجمة واحدة؟ رفض يسوع أن يعطي "هذا الجيل" آية سوى تلك التي يصنعها دوماً أمام عيون الشعب.
ترد عبارة "هذا الجيل" بعض المرات مع صفات مثل "الشرير والفاسق" (38:8؛ رج مت 12: 39، 45؛ 16: 4). بمعنى أنه عابد أوثان، أو "غير المؤمن، الكافر" (9: 19؛ رج مت 17: 17). هذا الجيل يدلّ في العهد القديم على شعب اسرائيل الذي خان الميثاق وامتحن الله على مدّ تاريخه وطالب دوماً بآيات تدلّ على قدرته. نقرأ في تث 32: 5: "ما هم إلاّ فساد في نظره. بسبب فسادهم لم يعودوا أبناءه. إنهم جيل معوج وملتوٍ". وفي 32: 20: "قال: أحجب وجهي عنهم وأرى ماذا تكون آخرتهم لأنهم جيل متقلّب" (رج أش 1: 2). في مز 8:78 نقرأ: "جيل عقوق متمرد، جيل لم يستقم قلبه ولا كان روحه أميناً لله". وفي مز 10:95: "أربعين سنة أبغضت هذا الجيل وقلت فيهم: هم شعب قلوبهم في ضلال". وقد يكون لعبارة هذا الجيل معنى حسن، فتدلّ على جيل الذين يطلبون الرب (مز 24: 2).
تتوجّه هذه العبارة إلى مجموعة الفريسيين ومن خلالهم إلى كل الذين توقّفوا عند الظواهر مثل أهل بلدة يسوع (6: 3)، فلم يستطيعوا أن يدركوا هويته الحقيقية
لم يتكلّم مرقس عن "آية يونان" كما فعل مت 39:12- 41؛ 16: 4 ولو 11: 29- 32. وهذا أمر سنعود إليه. طلبت الفريسيون آية لا جدال في أصلها الديني، آية تدلّ على شرعية عمل يسوع في نظر خصومه. فكان رفض المعلّم قاطعاً. وستأتي آية القيامة في وقتها فتلبيّ كل الطلبات وكل التساؤلات. إنها آية الآيات وكلّ آية تهيئها. فلا يبقى للجمع إلاّ أن يتقبلوا المعجزات التي يضعها يسوع فتدلّ على قدرة الله التي تعمل في يده.
أراد معارضو يسوع أن يسجنوه في مقولاتهم الفكرية وفي أطر رغباتهم. أرادوا أن يضعوا حدوداً وشروطاً لعمل الله، وإلاّ لا يكون هذا العمل عمل الله. رفض يسوع هذا الحق لهم فدلّ عن طريق المفارقة على هويته الحقيقية التي لا يستطيع البشر أن يقبضوا عليها. أراد أهل الناصرة أن "يمسكوه"، أما هو فاجتاز فيما بينهم وتابع طريقه التي تقود إلى الموت والقيامة (لو 4: 30).
ونعود الآن إلى دراسة النص من الناحية الأدبية واللغوية. ونربط ما قاله مرقس بما يوازيه في متّى ولوقا.
رغم عدد المعجزات المعلنة التي أوردها مرقس، فالإنجيلي يقدّم لنا يسوع كشخص يريد أن يبقى خفياً. هذا ما يسمّى "السرّ المسيحاني". هناك نصوص ترتبط بهذا الموضوع ومنها رفض يسوع بأن يعطي الفريسيين "آية" (8: 11- 13)، وتحذير من "الآيات والمعجزات" التي يقدّمها المسحاء الكذبة (13: 21- 23).
2- لا آية لهذا الجيل (8: 11- 13)
وضع مرقس هذا الحدث مباشرة بعد تكثير الأرغفة الثاني (8: 1- 10). جاء الفريسيون (لسنا ندري لماذا) وطلبوا من يسوع "آية آتية من المساء". وزاد مرقس: "ليجرّبوه". هذا التحديد لنص آ 11 لا يساعد على فهم المعنى الأولاني لكلمة يسوع في آ 12. لأنه قد صيغ، على ما يبدو، إنطلاقاً من هذا القول ثم صحِّح من جديد بيد مرقس. وهكذا تكون العبارة "طلبوا آية" مأخوذة من آ 12.
أ- طلبوا آية
يبدو أن هذه العبارة (طلبوا آية) لا تعود إلى مرقس، بل كانت جزءاً لمقدمة سردية تسبق القول الإنجيلي (ما بال هذا الجيل يطلب آية؟). فإذا عدنا إلى المعين، نجد أن القول وجد فيه، ومنه انتقل إلى الأناجيل. إن مت 38:12 (يا معلم، نريد منك اية) ولو 11: 16 (وكان آخرون يسألونه آية من السماء إمتحانا له)، 29 (جيل شرير يطلب آية) تقدّم عناصر تميّزها عن مر 8: 11= مت 16: 11. إذا أخذنا بعين الاعتبار التصحيحات التي قام بها متّى ولوقا، نستطيع أن نكوّن فكرة عن مقدمة القول في المعين بشكل "طلب آية". ولكن هذا الطلب (عكس مر 8: 11) لا يشير إلى آية آتية من السماء، ولا يتضمّن امتحاناً ليسوع. فنصّ مت 38:12 لا يتكلّم عن هذا ولا ذاك. في لو 16:11، يبدو أن عبارة "من السماء" (رج 3: 22؛ 11: 13؛ 20: 4، 5) ولفظة "امتحن" قد تأثرتا بنص مر 11:8.
وهناك أمثلة أخرى أثّر فيها مرقس على لوقا في إطار أقوال تعود إلى المعين. نذكر أيضاً مر 1: 5 ولو 7:3؛ مر 3: 10- 1 ولو 7: 21؛ مر 7: 5 ولو 11: 38. وإن مر 10: 21 ساعد على التعبير عن نص لو 12: 38 بشكل يختلف عمّا في مت 16: 19. وقد أثّر مرقس على لوقا في نصوص لا ترتبط بالمعين: مر 2: 5- 7 ولو 48:7- 49؛ مر 5: 34؛ 10: 52 ولو 7: 50؛ 19:17.
ولكن إذا كانت مقدمة المعين إلى القول في لو 16:11 قد صحّحت حسب مر 8: 11، فإن مت 38:12 قد طُبع بالتدوين المتاوي: مثلاً، ذكر الكتبة والفريسيين (رج مت 5: 20؛ 15: 1؛ 15: 1...)، اللجوء إلى الخطبة المباشرة، إستعمال فعل أراد (تامو) (أكثر تواتراً في متى منه في مرقس ولوقا).
في لو 16:11 استعمل لوقا لفظة "آخرين"، لأنه في آ 15 أشار إلى مجموعة أولى (بعضهم) اتهمت يسوع بأنه يطرد الشياطين ببعل زبول، رئيس الشياطين. فهذا يعني أن محاوري يسوع في المعين لم يكونوا محدَّدين فيما يتعلّق باتهامه بتحالف مع بعل زبول (15:11) ولا فيما يتعلّق بطلب آية (16:11). أما مرقس ومتى فقد أوضحا أن الحديث يدور على خصوم يسوع: "الكتبة الذين نزلوا من أورشليم" (مر 3: 22). "الفريسيون" (مت 12: 24). "الفريسيودن" (مر 8: 11). "بعض الكتبة والفريسيين" (مت 12: 38). "الفريسيون والصادوقيون" (مت 16: 1. زيد "الصادوقيون" بالنظر إلى كلمات يسوع في آ 6، 11، 12).
يبدو أن المقدّمة إلى القول كانت في الأصل كما يلي: "بعضهم طلب آية منه". إستبق لو 11 :16 الجملة التي ترتبط مع آ 29 ب- 32 لكي يجمع تحت مقدمة واحدة (آ 15- 16) الجدالين اللذين لم يكونا مرتبطين في المعين (لو 11:14-23= مت 22:12- 30؛ لو 11: 29ب- 32 = مت 39:12 ب- 32). فهو قبل السلسلة الأولى من الأقوال، ألّف انتقالة قصيرة: "شرع يقول للجموع المحتشدة" (11: 29 أ). تُذكر "الجموع" في 14:11. وتجمّع الشعب حول يسوع هو موضوع يستعمله لوقا (مثل مرقس) مراراً (لو 5: 1، 15؛ 17:6؛ 7: 11، 12؛ 12: 1؛ 14: 25).
ونعود إلى مر 8: 11- 13. إن مرقس يضمّ "الفريسيين" مع "الكتبة"، ويعتبرهم أول خصوم ليسوع (مر 16:2، 24؛ 6:3؛ 7: 1، 3، 5؛ 9: 11؛ 10: 2؛ 13:12). والإشارة إلى حضورهم هنا ونيّتهم بأن يمتحنوا يسوع، ترجع إلى الإنجيلي الذي استعملها كمقدمة لقول آ 12. فهذا القول لا يتحدّث عن الفريسيين بل عن "هذا الجيل" (غافيا). نحن هنا أمام النص الأولاني، حيث لا نجد عبارة "من السماء" في النصوص الموازية في مت 39:12؛ 16: 4؛ لو 11: 19. إن عبارة من السماء، قد أخذها مرقس من مت 16: 1 ولو 16:11 وأضافها هنا. من المحتمل أن يكون مرقس تسلّم أقوال يسوع من تقليد يختلف عن المعين، ومنها القول في آ 12. غير أنه ألّف بنفسه الإطار السردي الذي قد ترتبط به أيضاً بداية آ 12.
ب- سوى آية يونان
حين نقابل مرقس مع ما يوازيه في مت 39:12؛ 4:16؛ لو 29:11، يطرح سؤال: لماذا ألغى مرقس عبارة يسوع: "سوى آية يونان"؟ ألأنه لم يفهمها هو أو قرّاؤه؟ ألأنه لم يعرفها لأنها لا تمثّل تقليداً سابقاً للمعين؛ إن التعبير الخاص بنص مر 12:8 يبدأ بأداة الشرط (إن أعطيت آية لهذا الجيل، كذا في اليونانية). وهذا ما يدلّ على أن الجملة كانت في الأصل شرطية تبعتها جملة رئيسية تتحدّث عن آية يونان (رج عب 3: 11؛ 3:4، 5؛ رج مز 94: 11: لن يدخلوا راحتي. حسب السبعينية صارت أداة الشرط في معنى النفي).
إن ارتباط مر 12:8 بنصّ مت 39:12 ولو 29:11 يجعلنا نفهم لماذا ألغى مرقس "آية يونان" التي وجدت في القول الأولاني. فالجماعة المسيحية الأولى انتظرت تحقيق "آية يونان" بعودة القائم من الموت. أما مرقس فاعتبر أن أقوال يسوع وأعماله هي أبيفانيا الله في التاريخ والبرهان الكافي لمسيحانية يسوع. وحين أسقط التلميح إلى "آية يونان" أبرز بشكل أقوى رفض يسوع القاطع إزاء طلبهم معجزة تختلف عن التي سبق واجترحها وتدعوهم إلى الإيمان بمسيحانيته.
إن التنازل حول "آية يونان" يُفهم إنطلاقاً من مقاطع أخرى في المعين. وبحسب هذه المقاطع كان يجب على هذا الجيل أن يقرّ بمسيحانية يسوع التي شهدت لها المعجزات، لو كان مستعداً إستعداداً أفضل (لو 18:7- 23= مت 11: 2- 6؛ لو 7: 31- 35= مت 16:11-19؛ لو 10 :13- 15= مت 20:11- 24؛ لو 11: 31- 32= مت 12: 41- 42). وهناك تقارب بين لا 12: 40 ومت 27: 62- 66؛ 28: 4- 11، 15 على مستوى التدوين المتّاوي. يعتبر الإنجيل الأول أن يسوع تجاوب مع طلب خصومه فأعلن لهم أن إقامته في القبر لن تدوم أكثر من "ثلاثة أيام وثلاث ليالي" (12: 40؛ رج 63:27)، ولكن هؤلاء لن يقبلوا بالآية التي ستُعطى لهم. سيرفضون أن يؤمنوا بأنها ستتحقّق، ويحاولون أن يبرهنوا على أن يسوع أضلَّ الناس (27: 62- 66). ثم يعاندون فينكرون يقين القيامة (28: 4، 11- 15).
ج- الآية والمعجزة
هنا نحاول أن نحيط بلفظة "سامايون" عند مرقس. إنها تقابل "أوت" في العبرية وتدلّ على علامة تؤكّد صدق صانعها بشكل لا يقبل الشكّ. هنا نعود إلى تث 2:13- 3: "إذا قام فيما بينكم متنبىء أو حالم فوعدكم بمعجزة أو عجيبة..." إن النبي يرفق تعليمه بعلامة عجائبية تؤكد الأصل الإلهي لأقواله. هكذا كانْ موسى (خر 4: 10- 31) وإيليا (1 مل 18: 36- 39) وأشعيا (أش 7: 14). ونعود أيضاً إلى 1 صم 30:2- 34 (علامة تثبت ما أقول)؛ 10: 1 ي؛ 2 مل 20: 1 ي؛ أش 7: 10 ي. إن الآية تدلّ على صدق قول النبي. وفي العهد الجديد هناك نصّ (يو 18:2: أية آية ترينا فتفعل هكذا؟) يتطلب من موقف يسوع سماحاً خاصاً من الله. وقد يكون مر 8: 11- 12 قد ارتبط في الأصل بسياق من الخط عينه يشير إلى كلمة أو فعلة غريبة قام بها يسوع فطالب الناس بآية من عند الله تؤكّد صدقها.
هناك تمييز بين "ديناميس" الذي يستعمل عادة للحديث عن معجزات يسوع (مر 6: 522)، وبين "سامايون". فالآية المطلوبة هنا من يسوع، ستؤكد صدقه لا على أنه نبي من الأنبياء، بل على أنه النبي الاسكاتولوجي. والحال أن في نظرة مرقس، ليس لعجائب يسوع مثل هذه الوظيفة. والآية ستكون من طبيعة أخرى. ويبدو التعارض لافتاً حين يحدّد مرقس موقع "الآية" حالاً بعد ثلاثة أخبار معجزات (7: 24- 8: 10: المرأة الكنعانية، الأصم المنعقد اللسان، تكثير السبعة أرغفة). ثم إنه يتكلّم عن "آية من السماء". لسنا في هذه الحال أمام معجزة "من العيار الثقيل"، ولا أمام عجيبة كونية من النوع الجلياني المدهش، بل أمام علامة يدلّ أصلها الإلهي بلا شكّ على شرعية نشاط يسوع في نظر معارضيه. ولكن يسوع لا يستطيع إلاّ أن يرفض طلبهم، لأنه (حسب مرقس) لا يريد الآن أن يُعرف على أنه "مرسل الله". وبقدر ما طلب منه الفريسيون آية واضحة، وبقدر ما أرادوا أن يخرجوه من "وضعه الخفي" قبل الأوان، يشكّل طلبهم في نظر يسوع تجربة وامتحاناً (رج مر 29:15 - 32: إن نزل يسوع عن الصليب، إجترح معجزة تدل على أنه "المسيح" في نظر خصومه). وهكذا تشدّد عبارة "هذا الجيل" على عمى (قساوة) الفريسيين وكذب موقفهم.
ورفض يسوع بأن يعطيهم آية، يدلّ أيضاً (في إنجيل مرقس) على أن المعجزات ليست مطلوبة من يسوع لكي يكشف كشفاً واضحاً عن مسيحانيته. فإذا كانت هذه العجائب تشهد على قدرته، فليس ذلك لأنها توافق إنتظار الفرّيسيين، بل لأن يسوع يصنعها كما يشاء وساعة يشاء. وحين رفض يسوع علامة تدلّ على صدق رسالته، دلّنا على شخصيته الحقيقية عن طريق المفارقة: إنه ذاك الذي يريد أن يكونه، ولا يسمح أن تفرض عليه شخصية يكسبها لكي يرضي الآخرين.
د- تحذير من الأنبياء الكذبة (13: 21- 23)
إن تحذير يسوع يتّخذ كل معناه في إطار إعلان النهاية: "سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويأتون بالآيات والخوارق لكي يضلّوا المختارين، لو أمكن" (آ 22). فداخل الخطبة الاسكاتولوجية، تشكل آ 21- 22 تكراراً لما في آ 5- 6. هنا أيضاً يحذّر يسوع من "الكثيرين" الذين يأتون تحت اسم المسيح و"يضلّون الكثيرين". تشكل آ 5- 6 بداية الخطبة. أما آ 21- 23 فتكوّن مقطعاً محدّداً بوضوح.
إن التقابل بين مجموعتي الآيات يدلّ على تدخّل الإنجيلى. لقد ألّف آ 21 منطلقاً من آ 6 ومعبّراً عن مضمونها بشكل إرشادي. أما آ 22 فترتبط مع آ 6 بحيث تلاحقت الآيتان في المرجع الذي أخذ منه لوقا. إن نسبة "الآيات والخوارق" إلى الأنبياء الكذبة تعود إلى تث 13: 2- 4 (الذي أوردناه). هكذا تظهر شرعية نبي يريد أن يثبت صفته كمرسل الله. وقد حاول المواهبيون في الجماعة المسيحية الأولى أن يقوموا بمثل هذه "الخوارق" في المنظار عينه. ولكن مثل هذه الخيرات تمثّل خطراً لحقيقة التعليم المسيحي. وهذا ما يشهد له تحفّظ بولس أمام أحداث مماثلة في كورنتوس (1 كور 1: 22؛ 2 كور 12: 12) والتنبيهات التي نقرأها في مت 15:7؛ 24: 11؛ مر 12:13 ضد "الأنبياء الكذبة. في نظر مرقس نحن أمام أفراد يستغلّون المناخ الجلياني في أيامهم (حوالي سنة 70؛ رج أع 6:13؛ 1 يو 4: 1؛ 2 بط 2: 1). سعوا أن يتماهوا (أنا هو المسيح) مع المسيح الذي انتظر المؤمنون عودته. واتموا في هذا الهدف الآيات والخوارق (2 تم 2: 9: معجزة كاذبة في إطار جلياني)، فأحدثوا القلاقل في الجماعة ومالوا بها عن الانتظار الحقيقي لابن الانسان (مر 26:13- 27؛ 14: 62).
يجب أن ندرك في إطار إنجيل مرقس التعارض بين "الآيات والخوارق" التي يجترحها أنبياء كذبة، وبين معجزات يسوع. فهو لا يصنع عجائب لكي بظهر كرامة سامية، بل لأنه ابن الله (1: 21- 11؛ 3: 11؛ 5: 7؛ 9: 7؛ 15: 39). وليست "الآيات والخوارق" هي التي تدلّ عليه، بل العجائب التي يصنعها على الأرض والتي يختلف أولئك الذين في الخارج في تقديرها (3: 22- 30).
في 8: 11 ي، رفض يسوع طلبهم "آية من السماء". وشدّد مرقس في 13: 22، على أن "الآيات والخوارق" ترتبط بالأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة، لا بيسوع (رج أع 2: 22: أيّده الله بالعجائب والمعجزات والآيات).
3- مسألة الآيات
إن أهمية مسألة الآيات تفكر وجود هذا الحدث في أطر مختلفة ومع توسيعات متنوّعة. في لا 38:12 وفي لو 11: 16 جاء الطلب بشكل منطقي: إذا كانت معجزات يسوع لا تأتي من بعل زبول، فيجب أن تأتي من الله. إذن، على يسوع أن يبرهن عن ذلك فيعطي آية (مت 12: 22- 24، 38؛ لو 11: 14-16).
إن موضع الحدث عند مرقس (وقد تبعه مت 16: 1- 4) قد ألهمه إهتمام لاهوتي. فهو في مكانه حيث يجب أن يكون بين تكثير الأرغفة والمقطوعتين عن عدم فهم التلاميذ وشفاء أعمى بين صيدا. كانت الآية (سامايون) قد أعطيت بشكل سري في البرية في وليمة اشبعت أربعة آلاف. لم يكتشفها الناس كما لم يكتشفوا غيرها. ربما كان الفريسيون غائبين. هذا ما لا يهتمّ له مرقس. فقد يكونون سمعوا بها. والتلاميذ أيضاً لم يكتشفوها، فهم لا وعي لهم وقلوبهم عمياء (14:8- 26).
نحن هنا قريبون جداً من الإنجيل الرابع. نلاحظ أن الجموع التي أكلت في البارحة طلبت من يسوع علامة مثل الفريسيين في النص الذي ندرس (يو 6: 30). ثم إن الحدث حول الأزمة التي حصلت لدى التلاميذ (يو 6: 60- 66) يتبع الجدال مع الجموع. والاعتبارات حول عدم فهمهم يتبع عند مرقس الجدال مع الفريسيين (كان الجمع في يوحنا، فصار الفريسيين أي خصوم يسوع. لهذا يسمّي يوحنا "اليهود" أولئك الذين رفضوه). وكل هذا يجد نهايته في الإنجيليين باعتراف بطرس (مر 27:8- 30؛ يو 68:6- 69).
طلب الفريسيون من يسوع آية آتية من السماء. هذا الطلب يُفهم في حدّ ذاته. فالناس كلهم ينتظرونه في ذلك الزمان. وكانوا يميّزون تمييزاً واضحاً بين المعجزات والقوى الفائقة الطبيعة وإن كانت أرضيّة، التي تحدث فتدلّ على الله دلالة واضحة. مثلاً، كانوا يطلبون من رابي آية لتبرر تقديم رأي لاهوتي غير تقليدي يقترحه. وكانوا يعتقدون خاصة أن المسيح سيظهر ويبرهن عن مسيحانيّته بهذا الشكل. عليه أن يتصرّف مثل موسى جديد (خر 7- 12)، مثل إيليا جديد (1 مل 18: 38)، فيدلّ على قدرة أعظم من قدرتهما ويعطي آيات أسطع من آياتهما. مثلاً روى يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن شخصاً اسمه "توداس" (رج أع 5: 36. لا يتوافق التاريخ. ولكن تبقى الفكرة) وعد تبّاعه بأن يعبر الأردن كما على اليابسة على ما حدث في أيام يشوع. وظنوا أيضاً أن المسيح يظهر على شرفة الهيكل في نور فائق الطبيعة. قال بولس الرسول: "اليهود يطلبون الآيات" (1 كور 1: 22). وحسب العهد القديم، حين يأتي "يوم الرب" ستدلّ عليه الآيات (يوء2: 10؛ 3:3؛ 4: 15- 16؛ أش 13: 10؛ عا 9:8؛ حب 3:3- 12). وهذا ما تثبته الفصول الجليانية (التي تكشف عن نهاية الأزمنة) في الأناجيل الإزائية (مر 13 وز).
إذن، ليس الفريسيون أو الصادوقيون (مت 16: 1) ولا الكتبة (مت 12: 1) الذين طلبوا وحدهم آية، بل الناس عامة والجموع كما قالت لو 11: 16، 29.
طلب الفريسيون آية لكي يؤمنوا. ولكن الإيمان هو الذي يتيح لهم أن ينتقلوا من أعمال القدرة إلى الآيات. ولنا في ذلك مثل واضح في شفاء البوص العشرة (لو 17: 11- 19). آمن هؤلاء الرجال فنالوا الشفاء وذهبوا إلى الكهنة ليروا أنفسهم. ولكن قيل لواحد فقط: "إيمانك خلّصك" (آ 19). لقد تحوّل فيه العمل العجيب إلى آية. لقد رأى في يسوع أكثر مما رآه الآخرون. لم يبقَ معه على مستوى "ديناميس".
لن يعطي يسوع آية كتلك التي تطلب منه، لأن الإنجيل الذي يقدّمه لا يتوخّى أن يعطي الإنسان طمأنينة تغلقه على ذاته. فهو يريد أن يخسر حياته من أجل الله والآخرين. إذن لن يكون هناك آية إلاّ كلمة الملكوت. وستكون قيامة الأموات آية الآيات التي لو عرف الغني أن يقرأها، لكان مع لعازر في حضن ابراهيم (لو 16: 30- 31).