الفصل التاسع والثلاثون
خبز من أجل العالم الوثني
8: 1-10
وتبدأ حلقة جديدة مع تجمّع جديد للشعب (8: 1). متى تمّ هذا العمل؟ "في تلك الأيام". ملاحظة غامضة ذات رنة اسكاتولوجية ترافق خبر مجيء يسوع وعماده (1: 9). مرة ثانية، أحسّ يسوع بالشفقة تجاه الجموع الجائعة (8: 2؛ رج 6: 34). ومرة ثانية سوف يطعمها بواسطة تلاميذه. مرة أولى أطعم "الشعب اليهودي". ومرة ثانية أطعم "العالم الوثني". وبعد أن أطلق الجمع، جاء إلى نواحي دلمانوثا (8: 10).
1- توزيع الخبزات
إن إطار هذا الخبر الجديد (8: 1، بالين) لكسر الخبز (وتوزيعه) للجموع يبدو غامضاً. ولكن الإنجيلي الذي اهتم بذكر تحرّكات يسوع، جعلنا نشعر أننا لم نترك الدكابوليس، أي المدن العشر الوثنية. وقراءة هذا الحدث (8: 1-10) التي تشبه 6: 34-44 تجعلنا نحسن وكأننا أمام تكرار. هذا، على ما يبدو، يقابل هدف مرقس الذي يشدّد على بعض السمات المشتركة ليدلّ على أننا أمام واقع واحد. غير أننا نلاحظ أن يسوع نفسه هو الذي "يدعو تلاميذه" إليه (8: 1) كما في يوم تأسيس الإثني عشر (3: 13: ودعا إليه الذين أرادهم). وفي يوم إرسالهم (6: 7: دعا الإثني عشر). أرسلهم في ما مضى إلى العالم اليهودي، وها هو يرسلهم إلى العالم الوثني، فيسجّل هكذا الخبرة التي سيعيشونها في منظار تكوينهم الرسولي.
سلّم إليهم من جديد الشفقة التي يحسّ بها تجاه شعب "ليس لهم ما يأكلون". ونبّههم أن لهم معه "ثلاثة أيام". هذه العبارة تذكّرنا أولاً بعهد الجبعونيين مع يشوع، وسنعود إليه فيما بعد. يقول يش 9: 16: "وبعد أن عاهدوهم بثلاثة أيام، عرفوا (بنو إسرائيل) أن هؤلاء الناس جيران لهم وانهم ساكنون في وسطهم". أجل، العالم الوثني ليس ببعيد عن العالم اليهودي، ليس ببعيد عن الرسل. وكما جاء الجبعونيون من بعيد (أي: من العالم الوثني) إلى يشوع، هكذا جاء هؤلاء الناس من بعيد إلى يسوع. معه سيصبحون قريبين. وتذكّرنا عبارة "ثلاثة أيام" بإنباءات الآلام والقيامة (رج 8: 31؛ 9: 31؛ 10: 34).
وقال النص: "بعضهم جاء من بعيد". نحن هنا أولاً أمام تلميح إلى المنفيّين العائشين وسط الأمم (أش 57: 19: من شفتي تخرج ثمرة السلام، السلام للقريب والبعيد، للعائش في "فلسطين" وللعائش في خارجها). ثم أمام تلميح إلى الوثنيين أنفسهم. فالجبعونيون يقولون في يش 9: 6 إنهم جاؤوا من أرض بعيدة. وأشعيا (60: 4) يدعو الذين في البعيد لكي يجتمعوا ويأتوا. وبولس الرسول يحدّث الوثنيين فيقول لهم: كنتم بعيدين (عن الله، عن المسيح) فصرتم بدم المسيح قريبين. إن يسوع بشّر بالسلام القريبين (أي العالم اليهودي)، وبشّر البعيدين (أي العالم الوثني) وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما (أف 2: 12-18). كل هذا يدلّ على أن تكثير الأرغفة قد تمّ مع البعيدين، أي في العالم الوثني. بادر يسوع وكلّم تلاميذه عن هؤلاء الآتين، فجعلهم يعون مهمّتهم التي تتعدّى العالم اليهودي. وكما سيعطي يسوعُ خبزاً، لمن سماهم اليهود "الكلاب"، فيشفي إبن المرأة الكنعانية (7: 24- 30)، هكذا يجب على التلاميذ أن يفعلوا: أعطى يسوع الأرغفة لتلاميذه، فوزّعوها على الشعب (6:8).
وأعطى يسوع "تعليماته" للجمع، كما سبق وأعطاها لتلاميذه الذاهبين إلى الرسالة (6: 8). ولكننا لا نجد الجموع هنا تتمدّد على العشب الأخضر (نحن في البرّية، نحن قريبون من الفصح، كما يقولّ يو 6: 4، 10)، ولا تنظّم في مجموعات من مئة وخمسين (6: 40. فالعدد 5000 هو العدد المثالي لجماعة شعب الله في نهاية الأزمنة). لا ننسى أن جماعة البرية ترتبت بهذا الشكل (تث 1: 15). في 6: 51 نقرأ أن يسوع "بارك" كما يفعل اليهود قبل الطعام (اولوغيو). في 8: 6 نقرأ "شكر" (افخارستيو). بدأ يسوع فشكر على الخبز (8: 6). ثم بارك "بعض سمكات صغار" (8: 7). وهكذا انفصل الخبز عن السمك.
وتبدلّت الأرقام بين خبر تكثير الخبز في العالم اليهودي، وتكثير الخبز في العالم الوثني. في الأول: خمس أرغفة وسمكتان. هذا هو عدد الكمال: 7. وفي الثاني، هناك 7 أرغفة وبضع سمكات صغار. نجد في الخبر الأول 12 سلة (6: 43: عدد الرسل الإثني عشر الذين بدأوا فبشروا في أورشليم واليهودية والسامرة). وفي الخبر الثاني 7 قفف (عدد السبعة الذين اختارهم الرسل، ومنهم اسطفانس، فتجاوزوا العالم اليهودي). عدد الآكلين في 6: 44 هو خمسة آلاف. هذا هو عدد جماعة الله الكاملة بعد أن سمعت التعليم وتغذّت من خبز الله. وعدد الآكلين في 8: 9 هو أربعة آلاف. فالرقم 4 يدلّ على الكون بأقطاره الأربعة. والرقم 1000 هو عدد كبير جداً. وهكذا يكون الآكلون في تكثير الخبز الثاني عدداً كبيراً جداً جاء من أربعة أقطار الأرض.
إن هذا الخبر (8: 1- 10) يبدو في بنية قريبة من بنية 6: 34-44. والموضوعات المطروحة هي هي: شفقة على الجمع، حوار مع التلاميذ، خبز وسمكات في البرية، الكسر التي فضلت، عدد الآكلين. لا شك في أن هناك تفاصيل تجعل نصاً يختلف عن الآخر. وقد أشرنا إليها وحاولنا أن نكتشف بعض غناها.
ارتبط الخبران بتأسيس الافخارستيا. الأول في كنائس مسيحية جاءت من العالم اليهودي. والثاني في كنائس جاء مؤمنوها من العالم اليوناني. هذان الخبران يدخلان في سلسلتين تعليميّتين متوازيتين. فبعد كل خبر، نجد عبور البحيرة (6: 45- 56؛ 8: 10). وجدالاً مع الفريسيين (7: 1-23؛ 8: 11-13). ومناقشة حول الخبز (7: 24- 30؛ 8: 14- 21). وأخيراً خبر شفاء (7: 31- 37؛ 8: 22- 26). إن هذين الخبرين يشدّدان على العلامات التي تدل على رسالة يسوع وسلطته. على تصلّب الفريسيين في موقفهم. على عدم فهم عند التلاميذ: فاتهم مغزى معجزة الخبز وسلطة يسوع الذي يغذي شعبه. فاتهم تسلّط يسوع على البحيرة وعلى قوى الشر فيها (6: 52). كان الفريسيون عمياناً، وها هم التلاميذ لا يرون، فيوبّخهم يسوع كما وبّخ الذين من الخارج (8: 14- 21).
جُعل هذان الخبران في "كتاب الخبز"، فكانا جزءاً من هذه الوليمة المسيحانية العظيمة التي تقدّم للجماعات الآتية من القريب (اليهود) ومن البعيد (الوثنيون). فإذا أردنا أن نشترك فيها، لا نحتاج إلى غسل الأيدي، بل إلى تطهير القلب لكي نفهم أن الله صار قريباً من الإنسان في شخص يسوع، أنه يحنّ على خليقته الضعيفة فيعطيها خبز الكلمة وخبز الافخارستيا.
إن مائدة الملكوت ممدودة للجميع، حتى للوثنيين، شرط أن يقتربوا إلى الكلمة بقدرة الذي أحسن فيما صنع. وتعود قبائل إسرائيل الإثنتا عشرة إلى البرية لتشبع من خبز يتفوّق على المنّ. والعالم الوثني الذي يرمز إليه رقم 7 (8: 5، 8؛ رج 3: 7، 8؛ أع 6: 1 ي) صار هو أيضاً موضوع حنان الله، فاكتشف بعد ثلاثة أيام الآلام والقيامة، الخبز الذي يشبع والحضور الذي يجعل البعيد قريباً. وفي هذا التجمّع الشامل، كما في توزيع الخبز الافخارستي، سيكون للرسل دور يقومون به، ولا بدّ لهم أن يكتشفوه. ولهذا اخذهم يسوع معه.
2- يسوع يكشف عن شخصه لتلاميذه
ذكر مرقس خبر تكثير الأرغفة مرتين. فما هو التعليم الذي أراد أن ينقله إلى الكنيسة؟ هناك تعليم أول حول شخص يسوع نتوسّع فيه هنا. ويبقى تعليم ثانٍ حول الافخارستيا نعالجه في القسم الثالث.
أ- هدف يسوع
إن هدف يسوع هو أن يعرّف تلاميذه بنفسه. في هذا المجالس تشكل معجزات "مقال الخبز" ولا سيما تكثير الأرغفة والسير على المياه، حالات خاصة في إنجيل مرقس. إنها تجعل الإنجيل الثاني قريباً جداً من إنجيل يوحنا. ومن الغريب أننا لا نجد إلا هنا المعجزات المشتركة لحين الأناجيل الإزائية والإنجيل الرابع.
إذن، أراد يسوع أن يربّي تلاميذه. فعبّر عن هدفه بأشكال متنوّعة. فالجموع التي شبعت بقدرة يسوع وحنانه، تبدو منفعلة لا فاعلة. لا يقال شيء عن ردة الفعل عندها، لا قبل المعجزة ولا خلال المعجزة ولا بعد المعجزة. يبدو أنها هنا لتعطي يسوع مناسبة يمنح فيها درساً لتلاميذه الذين يحيطون به.
يشدّد الخبر بوضوح على الجهل لدى التلاميذ. هم لا يعرفون كيف يتجاوبون وحاجات الجموع. لا حلّ بيدهم. ولهذا يقرّون بعجزهم، فيتركون الأمور كلها في يد يسوع. دلّهم يسوع على حاجة الناس، فأجابوه: "كيف يستطيع أحد أن يشبع هؤلاء خبزاً، ههنا في البرية" (آ 4)؟ يدلّون على ضعفهم أولاً. وسؤالهم يجد جواباً سلبياً: لا يستطيع أحد. وتزداد الصعوبة أمام العدد الكبير. بل تصبح مستعصية لأن الناس هم في البرية. لو كان الناس بين القرى، لاستطاع التلاميذ أن يشتروا لهم خبزاً "بمئتي دينار" (يو 6: 7). لاستعدوا أن يضحوا. ولكن في هذه البرية!
ضياع وحيرة! ضعف إيمان، ضعف مبادرة. هذا هو وضع التلاميذ، وهذا هو وضع الكنيسة على مرّ العصور. وحده يسوع يستطيع أن يخلّص. أقرّ التلاميذ بأنهم لا يستطيعون، فاستعدوا ليتعلّموا من يسوع، ليسمعوا (ويروا) الدرس الذي سيعطيهم.
ودلّ يسوع أنه يبغي تربيتهم، فطلب منهم أن يعملوا. لم يتشاور معهم فقط (8: 2- 5)، بل تسلّم منهم الخبزات السبع والسمكات. ثم كلّفهم بأن يوزّعوا الطعام على الجمع. وأخيراً أرسلهم لكي يجمعوا الكسر (لا الفتات) التي فضلت. عمل الرسل كخدّام في ليتورجيا احتفالية. تلك كانت ليتورجية الشعب العبراني في البرية حيث يقيم في الأكواخ مع الله ويأكل من المنّ. وتلك ستكون ليتورجية الوليمة المسيحانية، حيث يهيّىء الله في جبله المقدس مأدبة فاخرة يعمّ فيها الفرح ويزول الموت وتُمسح الدموع (أش 25: 6-8؛ رج 55: 1- 2؛ 65: 13- 14).
لماذا دخل التلاميذ بشكل حميم إلى عمل ربنا يسوع؟ لأن هذا العمل يعنيهم هم بالدرجة الألى.
ب- موضوع وحي يسوع
ماذا أراد يسوع أن يوحي إلى تلاميذه؟ ما قاله لهم بفمه: "أشفق على هذا الجمع" (آ 2). بدا يسوع كالمحسن إلى الناس، كمرسل الرحمة الإلهية. جاء يعلن ديانة جديدة هي تعبير تام عن الحنان والمحبّة. إنه يشفق. وشفقته يعبّر عنها بشكل ناشط وفاعل. هي لا تبقى على مستوى العواطف والكلام. إنه يتجاوب مع حاجات الجموع الجائعة.
في خبر أول تكثير للأرغفة توجّهت شفقة يسوع أولاً إلى حالة الجموع المتروكة وشأنها: "خراف لا راعي لها" (6: 34). لا تعرف إلى من تسلّم أمرها بعد أن تخلّى عنها رعاتها. أما شفقة يسوع هنا فتذهب مباشرة إلى وضع مادي: "ليس لهم ما يأكلون" (8: 2).
الإختلاف بسيط جداً. ففي كلا الحالين، يسوع هو الملجأ الذي إليه تأتي الجموع لتشبع جوعها. لا حلّ لمشاكلها إلا مع يسوع. هذا ما يجب أن يفهمه التلاميذ: إنهم خدام ليسوع المحسن الحقيقي إلى البشرية.
نستطيع القول هنا كما بمناسبة سير بطرس على المياه، إن يسوع أراد أن يحرّك إيمان التلاميذ ويجتذبهم ليقوموا مع بطرس: "بالحقيقة، أنت ابن الله" (مت 14: 33). أراد يسوع أن يتجاوز المقولات اليهودية عن المسيح، والإطار الضيق لآمال معاصريه: لقد جاء يتمّ عملاً جديداً يدلّ على الله وسط البشر. وهو يعمل بشكل مباشر في العناصر، كما فعل حين سار على المياه. نحن أمام سلطان يحتفظ به العهد لله الذي هو الخالق. نذكر هنا خر 15: 8: "بنفخة أنفك تكوّمت المياه، وانتصبت أمواجها كالسدّ، ووقفت اللجج (تجمّدت) في قلب البحر". ومز 89: 10: "لك سلطان على هيجان البحر، فتهدّىء أمواجه عند ارتفاعها". ومز 65: 8: "الرب هو المهدّىء عجيج البحار" (رج مز 107: 29؛ مت 8: 26؛ لو 8: 24).
إذن، شاهد التلاميذ عملاً يفترض سلطة إلهية بكلى معنى الكلمة. لقد تجلّت سلطة الله الشخصية في المسيح. وبمختصر الكلام، إن التعليم على المعجزات هو أن قدرة الله تتجلّى في يسوع في خدمة رحمة ومحبة وإحسان تجاه الحاجات البشرية. أما السيطرة على البحر، فتدلّ على عمل الله ضدّ قوى الشرّ الحقيقية التي لا بدّ من لجمها. لهذا نرى يسوع يقف مراراً على الشاطىء في إنجيل مرقس: إنه يقف سوراً منيعاً ليدافع عن شعبه من هجمات الشرّ.
لا شك في أن القديس يوحنا يرى في مشهد تكثير الخبز تحقيقاً مسبقاً للإنتظار المسيحاني، للوليمة المسيحية. يجب أن ننظر إلى يسوع على أنه المسيح الذي يشبع شعبه، وهذا ما يدلّ عليه الحماس المسيحاني الذي "هيّج" الجموع (يو 6: 14- 15: أرادوا اختطافه وجعله ملكاً). وإذ يشدّد يوحنا على الموازاة بين يسوع وموسى، بين طعام يسوع والمنّ، بين وليمة يسوع والفصح، فهو يثبّت هذا التفسير الذي يتطابق كل المطابقة مع مجمل اللاهوت اليوحناوي. فيوحنا يبرز أكثر من مرقس، نبوءات العهد القديم، ويلقي نورها على أحداث حياة يسوع.
وفي هذا المنظار أيضاً توسّع يوحنا في موضوع الراعي والخراف المشتّتة (يو 10: 1 ي). أما مرقس (د: 34) فيشير هنا إلى نص حز 34: 5 (تبعثرت الخراف من غير راعٍ وصارت مأكلاً لكل وحوش البرّية) الذي هو نقطة انطلاق من أجل التأمل في صورة الراعي، ولكنه لا يستفيد منه ليصوغ حديثاً عن يسوع الذي هو الراعي الحقيقي الذي يطعم خرافه.
ج- التعارض بين يسوع والفريسيين
لا يتوقف مرقس عند نصوص العهد القديم والآمال المسيحانية في هذا المقطع. فاهتمامه يتوجّه في إطار آخر. فالمقال عن الخبز يتخذ تجاه الفريسيين، وبالتالي تجاه هيرودس، موقفاً سلبياً واضحاً لا مساومة فيه. ويتضمّن هذا القسم حرباً قاسية على تقاليدهم وتعاليمهم. لهذا، نضع خبرَي تكثير الأرغفة في هذا الإطار، لكي يبرز المعنى الذي يريد مرقس أن يتوقّف عنده.
فما هي العلاقة بين معجزة تكثير الأرغفة وتعليم الفريسيين؟ لا حاجة إلى البحث الطويل. فالنصّ واضح. بعد أن شاهد التلاميذ عمل قدرة ومحبّة، قال لهم يسوع: "إنتبهوا. إياكم وخمير الفريسيين وخمير هيرودس" (8: 15). فهمَ التلاميذ هذا التحذير في المعنى الحرفي. ظنّوا أن يسوع يمنعهم من أن يشتروا خبزاً لدى الفريسيين. لهذا تحيّروا، لأنهم لم يأخذوا معهم خبزاً في ذلك اليوم (8: 16). فذكّرهم يسوع بمعجزتيه: أليس هو الذي يعطي الخبز؟
إذن، هناك تعارض بين خبز الفريسيين وخبز يسوع. وهكذا نفهم أنه لا يجب أن نفسّر الخبز المكسور للجموع في معنى مادي صرف. ولكن ما هو خبز الفريسيين؟ سمّي باحتقار "خميراً" (الخمير هو مبدأ الفساد، رج 1 كور 5: 6-8). هذا الخبز يمثّل تعاليم وممارسات وتقاليد يلقّنها الفريسيون للناس، ويخضعون شعب الله لها. نحن أمام روح الشكليات، روح الرياء الذي يجعلهم يهتمون اهتماماً كبيراً بالأعمال الخارجية (مر 7: 1-23).
لماذا سمّى يسوع خبز الفريسيين "خميراً"؟ الخمير هو خبز رديء، هو ينبوع الشر، ولا يستعمل في الهيكل والممارسات الدينية (خصوصاً عيد الفصح). حين قال يسوع: "إياكم وخمير الفريسيين"، فهو يعني: إحذروا من خبز الفريسيين الرديء. وقد نكون هنا أمام صورة بلاغية فنحذر لا من خبز الفريسيين، بل من الفريسيين أنفسهم.
إن الخبزات التي كثّرها يسوع تحل محل خبز الفريسيين الرديء. فلا نفسّر هذا الكلام عن طريق الإستعارة. فالخبزات ليست فقط رمزاً إلى التعليم. فنحن أمام واقع واسع يضمّ في الوقت معاً التعليم والخبز، حتى الخبز المادي.
يقدّم الفريسيون تعليماً عقيماً وناشفاً، يقدّمون شبه تعليم. ويتركون شعب الله وحده. بل يثقّلون عليه بالفرائض ولا يغذّونه. وهكذا تنتج حالة شقاء أدبي، بل حالة شقاء مادي أيضاً.
أما يسوع فلم يحمل فرائض ولا تقاليد. جاء يحمل الخبز. جاء يهتمّ بالحاجات الحقيقية للشعب، ويحاول أن يلبّيها. لهذا، بدأ فأعطى الخبز المادي.
يس يسوع معلّماً عقيماً. بل هو يداوي الحاجات الحقيقية سواء كانت جسدية أم روحية. واختلافه عن الفريسيين يرتبط بالمسافة التي تفصل قدرة الله الخلاّقة والمحسنة عن أقوال البشر الضعيفة والباطلة. قدّم الفريسيون شروحاً ومجادلات، فقدّم لهم عمل الله. ونحن لا نلجأ إلى النظريات البشرية التي تضلّ الناس ولا تنتج شيئاً. بل نلجأ إلى يسوع الذي يخلّصنا بعمله الخلاّق.
3- يسوع يعلن الافخارستيا لتلاميذه
رأى التقليد المسيحي الأول في تكثير الأرغفة صورة مسبقة عن الافخارستيا. لقد شدّد الإزائيون ومرقس بشكل خاصّ على هذا المدلول النبوي. ولا شكّ في أن تلك كانت نيّة المعلّم. في هذا المجال سوف نتفحّص على التوالي ثلاث إشارات إيجابية في النصّ: عبارة ليتورجيا افخارستية، موضوع الخبز المكسور، موضوع تجميع الكسر: "رفعوا من الكسر الفاضلة سبع سلال" (8: 9).
أ- الليتورجيا الافخارستية
إذ أراد الإنجيلي أن يصوّر عمل يسوع الذي هو في أصل المعجزة، إستعمل عبارة ليتورجية عرفها التقليد الكنسي في الأجيال الأولى للمسيحية. وهذه العبارة هي التي لا نزال نستعملها اليوم: "أخذ يسوع خبزاً، وشكر، وكسر، وأعطى تلاميذه" (8: 6).
استعمل مرقس أربعة أفعال تصوّر العشاء الأخير حسب كل النسخات التي حفظها لنا العهد الجديد (مت 26: 26؛ مر 14: 22؛ لو 22: 19؛ 1 كور 10: 16؛ 11: 24). وهي العبارة التي تصوّر الافخارستيا التي احتفل بها يسوع مع تلميذَيْ عماوس بعد القيامة (لو 24: 30: أخذ الخبز وبارك وكسر وأعطاهما).
إن العبارة الافخارستية هي واضحة جداً، وكل مرة نجدها في كتابات المسيحية الأولى، نكتشف تلميحاً إلى سرّ الحياة، سرّ جسد المسيح
في إنجيل يوحنا، تعبّر الخطبة الافخارستية (يو 6: 25 ي) بشكل واضح عن الرباط الذي يجمع العلامة النبوية لتكثير الأرغفة مع تحقيقها الأسراري. وهكذا نجد تشابهاً جديداً بين الإنجيل الرابع ومقال الخبز.
ب- كسر الخبز
يشدّد الخبر بشكل خاص على فعل "كلاوو" (كسر) والاسم "كلاسماتا" (الكِسَر). وترتبط هاتان اللفظتان بالجذر الذي أعطى إيضاً "كلاسيس" أي كسر الخبز.
يهتمّ الإنجيلي اهتماماً خاصاً بالكسر (لا بالفتات) الباقية (آ 8-9). ففي الحوار الأخير مع التلاميذ، عاد يسوع أيضاً مرة أخرى إلى الكسر الباقية) 8: 19-20). وفي النهاية، اهتم الإنجيلي بالكسر أكثر من اهتمامه بعظمة المعجزة حيث تجلّت قدرة الله المدهشة.
إن المعنى السرّي لهذا الكسر له من القيمة ما يتفوّق على البرهان الخارجي والخارق لصلاة يسوع وقدرته. فمعجزة الافخارستيا تتجاوز تجاوزاً لا حدّ له المعجزة المادية التي شاهدها الرسل. ما تصوّره المعجزة مسبقاً هو أعجب ممّا تقدّمه لنظر الإنسان.
إن الموضوع المرتبط بكسر الخبز (والكسر) يقابل دوماً في الأدب المسيحي القديم سرّ الافخارستيا. ففي أع: 2: 42-46، يتحدّث لوقا عن "تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات". نحن هنا في جوّ مسيحي. فالصلوات صلوات مسيحية كما في أع 4: 23 ي. وتعليم الرسل هو ما سيصبح فيما بعد انجيل يسوع المسيح ابن الله. وكسر الخبز يدلّ على الافخارستيا. وهكذا نكون مع احتفال شبيه بقداساتنا مع عشاء المحبة. ويعود لوقا في النص عينه (آ 46) فيقول: "كانوا يكسرون الخبز في البيوت". كانت بعض البيوت "كنائس" ومكان اجتماع للمسيحيين الأولين. مثلاً بيت سمعان الدبّاغ في يافا (أع 9: 43). وبيت كورنيليوس في قيصرية (أع 10: 48). وبيت ليدية، بائعة الأرجوان، في فيلبي (أع 16: 15). ويميّز أع 2: 46 بين صلاة يشارك فيها المسيحيون اليهود في الهيكل، وبين عمل خاص بهم يقوم بطعام يتناولونه بفرح، وبكسر الخبز. وسيروي لنا لوقا أيضاً في سفر الأعمال حفلة افخارستيا في ترواس. "في يوم الأحد، اجتمعنا لكسر الخبز. فأخذ بولس يعظ الحاضرين" (أع 20: 7). وفي النهاية يقوله النص: "صعد بولس وكسر الخبز وأكل" (أع 20: 11). نحن هنا في بيت خاصّ، كما اعتاد المسيحيون أن يفعلوا في عليّة كما فعل يسوع نفسه (أع 1: 13؛ لو 22: 12).
إذن، نستطيع القول إن الحديث عن الكسر في إنجيل مرقس يوجّه أنظارنا إلى الافخارستيا التي صوّرها تكثير الأرغفة مسبقاً. ونلاحظ أنه في تكثر الخبزات الأول بقي 12 قفة. وفي التكثير الثاني 7 سلال. فالرقم 12 والرقم 7 يدلاّن على الملء والكمال. فهذا يعني أن الجموع أكلوا وشبعوا. وما بقي من هذه الخبزات، من هذه الكسر يكفي الكنيسة حتى نهاية الأزمنة. فالطعام الذي يعطيه يسوع لا يدوم ساعة بل إلى الأبد (يو 6: 52: يحيا إلى الأبد). ولا يطعم مجموعة واحدة ولو كانت خمسة آلاف أو أربعة آلاف. إنه يطعم البشرية كلها. فجسد يسوع طعام حقيقي، ودم يسوع شراب حقيقي (يو 6: 55).
ج- تجميع الكسر
هنا نعود إلى الكسر التي طلب يسوع أن تجمع في سلال (آ 8). لسنا هنا أمام موقف اقتصادي، بل موقف لاهوتي. فيسوع يريد أولاً أن تحفظ الكسر. وثانياً، أن تجمع.
أولاً: تحفظ الكسر
هنا نقرأ في 7: 27-28 حواراً بين يسوع والمرأة الكنعانية. قال لها يسوع: "دعي الأولاد أولاً يشبعون. إذ لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويطرح لصغار الكلاب". فأجابت وقالت له: "أجل، يا سيدي. ولكن صغار الكلاب تأكل تحت المائدة من فتات الأولاد".
نحن هنا في المقال عن الخبز. والعلاقة واضحة بين خبز يتحدّث عنه هذا المشهد ومعجزة تكثير الخبز. إن جواب هذه المرأة يبيّن أن خبز الرب لا يُحفظ فقط للشعب اليهودي. بل هو يُعطى أيضاً للشعوب الوثنية. فهم مدعوون أيضاً لكي يشاركوا في الوليمة المسيحانية وينعموا بخيرات الله.
ونعود إلى ما فعله الرسل بعد تكثير الأرغفة: جمعوا البقايا فدلّوا على أن الوثنيين هم أيضاً مدعوون للمشاركة في الافخارستيا. هذه الكسر هي معدّة للمسيحيين الآتين من العالم الوثني بواسطة بشارة الرسل. ولم نعد أمام خبز مادي، بل أمام خبز الحياة.
ثانياً: تجمع الكسر
ونعود إلى المقابلة مع اللاهوت اليوحناوي.
بالنسبة إلى يوحنا، إن الافخارستيا تحقق اتحاد التلاميذ بالمسيح القائم من الموت والذي هو ينبوع الحياة. ويقال لنا في مكان آخر إن المسيح القائم من الموت يجمع في شخصه البشر المشتّتين. "إن يسوع سيموت فدى الأمة، ولكن لا فدى الأمة فقط، بل ليجمع في الوحدة أبناء الله المشتتين" (يو 11: 52). حين كثّر يسوع الأرغفة، اهتم أولاً باليهود. وفي مرحلة ثانية، اهتم بالوثنيين. فكانت هذه الخبزات المادية رمزاً إلى الافخارستيا التي تجمع البشرية في وحدة المسيح القائم من الموت. والكسر المجموعة تدلّ على المسيحيين. هذا ما تقوله الديداكيه: كما أن هذا الخبز المكسور كان مشتتاً على الجبال وجُمع فصار واحداً، هكذا فلتُجمع كنيستك من أطراف الأرض في ملكوتك.
خاتمة
جرت معجزة تكثير الخبز الثانية في الدكابوليس. في أرض وثنية. والكلاب الصغار لن يكتفوا ببعض الفتات. إنهم يشاركون في وفرة الخيرات المسيحانية، بل في وفرة فوق وفرة تبقي وراءها سبع سلالة من الكسر. ثم إن أبناء الدكابوليس ظلوا مع يسوع ثلاثة أيام. لا شك في أنهم كانوا جائعين إلى الخبز. ولكنهم كانوا جائعين إلى شيء آخر. كانوا ينتظرون ليسمعوا كلام الله. لينالوا الخلاص بالإيمان كما نالته المرأة الكنعانية. كانوا ينتظرون رسلاً يحملون إليهم البشارة. ولهذا كان تأسيس السبعة في الكنيسة الأولى بداية الإنطلاق نحو العالم الوثني. بدأ مع اسطفانس وفيلبس والذين شتتهم الاضطهاد. ولكن مع بولس سيصل الإنجيل إلى جميع الأمم الوثنية، سيصل إلى أقاصي الأرض. لقد أرسل الخلاص فوصل إلى الوثنيين. وهم سيستمعون إليه (أع 28: 28).