الفصل الثامن والثلاثون
شفاء أصمّ منعقد اللسان
7: 31- 37
من أراد أن يستخرج بعض الفائدة المباشرة من هذا النصّ يخيب أمله. فإذا وضعنا جانباً بعض الأسماء الجغرافية التي تفرض علينا أن نعود إلى الخريطة (آ 301)، لا عبارة صعبة تعيق قراءتنا الأولى، وتتبّعنا لمسيرة المشهد. يظن القارىء أنه فهم، غير أنه يبقى في شعور غريب. هذا المريض الذي لا يذكر اسمه قد جيء به إلى يسوع (من جاء به؟) هو يتقبّل بشكل إنفعالي ما يصنعه له يسوع باهتمام، كما لو أن فعلاته وعبارته الأرامية تتفوّق على اتصاله الشخصي بالإنسان. لا حوار أبداً. ولا إشارة البتة إلى أهمية الإيمان. والدور الذي لعبه "الريق" (البصاق) يبدو غريباً. ولماذا صنع يسوع ما صنع في السر، بعيداً عن الجمع (آ 33)؟ ولماذا فرض الصمت، وهل يُعقل أن يصمت من فكّت عقدة لسانه (آ 36- 37)؟.
لن نندهش إذا جهل الناس هذا النص وأهملته الفقاهة (التعليم المسيحي). فمتى ولوقا لا يذكرانه. ويحاول "الواعظ" أن يكتشف موضوعاً تقوياً: نظرة يسوع إلى السماء وتنهّده: يسوع يصلّي. أو إعجاب الحاضرين في النهاية (آ 37) يكون نقطة انطلاق لاعتبارات حول صمم بعض المسيحيين وبكمهم.
إذا أردنا أن نفهم هذا النص، نحدّد موقع النصّ في زمانه فنكتشف قيمته بالنسبة إلينا. وبما أن مرقس يتفرّد بإيراد هذا الخبر، نكتشفه داخل المجموعة التي هو جزء منها، يعني إنجيل القديس مرقس.
1- مرقس والتقليد
لم يكن مرقس أول من روى شفاء الأصم المنعقد اللسان (الألكن). فحين دوّنه، كان أمامه نموذج معروف لدى العالم اليهودي والعالم اليوناني: وعادة، يدلّ خبر الشفاء كيف أن المريض يتّصل بمجترح المعجزة (آ 32). وكيف تتمّ مسيرة المعالجة (آ 33- 34) وما هي نتيجتها (آ 35) كما لاحظها ونشرها الحاضرون (آ 37). ولكن هناك عنصراً لا يدخل عادة في هذا الفن الأدبي: هو الأمر بالصمت بعد المعجزة (آ 36). هذه سمة خاصة بمرقس (1: 44؛ 43:5؛ 8: 26) يجب أن نقدر أبعادها.
ويدهشنا الإهتمام الزائد بتفاصيل فعلات يسوع وحركاته (آ 33- 34) في خبر شفاء إنجيلي. عادة، تكفي كلمة ترافقها حركة باليد. غير أننا نجد في أخبار الشفاء في العالم الهلنستي مكانة كبيرة لتقنية المعالجة: هرب من نظرات الفضوليين، كلمات تلفظ في لغة غريبة، بصاق، نظرة إلى السماء، تنفد عميق، إستعمال اليدين. هذا ما نجده في ممارسة "الشفّائين" كما نقرأه في اصطلاحات فن أدبي يروي مثل هذه "المعجزات"!
حين نقرّ بهذا الواقع، لن نعجب حين نرى مرقس يصوّر يسوع بشكل قريب من عادات محيطه أو عصره. بل نعجب أن لا تكون هذه الطريقة ممثّلة في الأناجيل إلاّ في خبرين، وفي خبرين خاصين بمرقس هما: شفاء الاصم الألكن وشفاء الأعمى (23:8- 25). ما هي وظيفة هذين الخبرين في إنجيل مرقس؟ وتبدو المسألة مطروحة في التعارض بين التحديدات الجغرافية (آ 31) وعدم الإهتمام بالموضع الذي يتمّ فيه المشهد. من الواضح أن آ 31 تريد أن تقحم في السياق الإخباري (رج 7: 24) تقليداً لا يرتبط ارتباطاً دقيقاً بمكان من الأمكنة. هذه الملاحظة تساعدنا على تمييز الخبر نقرأه في ذاته، وعلى الدور الذي نُسب له في بناء الإنجيل الثاني.
هناك قراءتان ممكنتان للنصّ. الأولى تستلهم نموذجاً إخبارياً معروفاً فتدرك هنا صدى لخبر تقليدي. الثانية تحاول أن تفهم هذا التقليد على ضوء الإنجيل الثاني.
2- خبر شفاء مسيحاني
إن توازن عناصر الخبر يبرز عمل يسوع (آ 33- 34) وأبعاده. وفي النهاية، هناك نشيد إحتفالي بشكل مديح (371). لا يحسب النص حساباً لشخصية المريض، ولا لنوعية أو لعدد الذين جاؤوا بالمريض إلى يسوع (آ 32).
أ- المعالجة (آ 33- 34)
تكيّفت طريقة تصرّف يسوع مع ممارسات عصره. فإن انزعجنا من صورته "كشافٍ"، فهو لم يزعج الراوي الذي أدرك معنى هذه الممارسات. فالتدخّلات العلوية تتمّ في السرّ، بمعزل عن الأنظار "الدنيوية": أخذ يسوع الأصم الألكن على حدة، بعيداً عن الشعب، قبل أن يقوم بعمله السري (رج 1 مل 19:17: أخذ إيليا الصبي الميت من أمه وذهب وحده إلى العلية. وهكذا صنع اليشاع، 2 مل 4: 4، 33؛ رج مر 37:5، 40؛ 23:8؛ أع 9: 40). ولمس حواس المريض، لا لأنه لا يستطيع أن يدلّ بطريقة أخرى غير هذه الحركة على إرادته بشفاء هذا الأصمّ (سوف يكلّمه أيضاً)، بل لأن هذه اللمسات كانت تعتبر مقدمة للشفاء. وضع أصابعه في أذنَيْ المريض وكأنه يريد أن يفتحهما. وجعل البصاق على اللسان "المنعقد" (آ 35: إنحلّت عقدة لسانه)، والبصاق هو دواء الطب الشعبي الذي حُمّل هنا قوة خاصة. هناك شواهد في المخطوطات القديمة تقول إن يسوع بل أصابعه بالريق قبل أن يلمس أذنَي الأصم. أما عن استعصال الريق (البصاق) فراجع شفاء أعمى بيت صيدا (23:8) والأعمى منذ مولده في يو 6:9.
ويتقدّم العمل مع النظر إلى السماء. قد يفهم هذا على أنه فعلة صلاة وابتهال (مز 121: 1؛ 123: 1؛ لو 18: 13؛ يو 17: 1؛ أع 7: 55).
وفي خبر معجزة، هو يدلّ على الينبوع الذي منه ينتظر يسوع ويستمدّ سلطانه. لا يعبّر التنهّد عن شعورنا بالشفقة تجاه المريض، بل يدلّ على حركة عميقة من النداء إلى قدرة الله مع الوعي بأننا أمام مقاومة عنيفة يجب أن نتغلّب عليها (8: 12؛ روم 8: 22- 27؛ 2 كور 5: 2- 4). عنذ ذاك تلفّظ يسوع بالكلمة الحاسمة: "إنفتح". ترد الكلمة في اللغة الأرامية، شأنها شأن كل الكلمات الهامة في حياة يسوع (14: 36: أبا، أيها الآب). ولكن في خبر معجزة في اللغة اليونانية، تذكّرنا هذه الكلمة بالعبارات السرّية لدى الشفائين الذين يقابل الراوي يسوع بهم أو يعارضه (5: 41). وفعلت الكلمة فعلها: إنفتحت أننا الأصمّ. إنحلّت عقدة لسانه. كان هذا الإنسان منغلقاً على ذاته، فصار بإمكانه أن يتصل بالناس الذين حوله.
ب- ردة الفعل عند الحاضرين (آ 37)
بُهت الناس وتعجّبوا. هذه الإشارة التي نجدها عادة بعد خبر المعجزة، تكمّل كل ما يشير الى الصفة الالهية لدى يسوع الإنسان بالنسبة إلى السامع أو إلى القارىء. ما يحرّك الدهشة هو شيء غير عادي، وهذا الغير عادي يدلّ على عمل الله الذي تظهر قوّته في يسوع. فالخبر يهتمّ بشخص يسوع كما يهتمّ بأعماله.
وجاء هتاف الناس فوسّع أبعاد الخبر، واحتفل بكمال عمل يسوع وتواصله: "لقد أحسن في كل ما صنع: إنه يجعل الصمّ يسمعون والبكم يتكلّمون". إن هذه العبارة ترتدي أسلوباً ليتورجياً وتدلّ على عمل يمتدّ في الزمان ولم يحدث فقط مرة واحدة. وهي تتذكر نصاً نبوياً لأشعيا، فتدلّ على أنها كانت صدى لتأمّل ومديح في بعض الجماعات المسيحية التي تتذكّر إنتصارات يسوع.
هذا هو نص أشعيا (35: 3- 6). ولكن خبر مرقس يفترض أنه كان يقرأ في اليونانية، في نص السبعينية الذي يختلف بعض الشيء عن النص العبري. "تشدّدوا، أيتها الأيدي المسترخية والركب الواهنة. تشجّعوا أيها القلوب الفزعة. تشدّدوا ولا تخافوا. ها هو إلهكم آتٍ للعدل وسيحكم لكم. سيأتي ويخلّصكم. حينئذ تتفتح عيون العميان وآذان الصمّ تسمع. حينئذ يقفز الأعرج كالغزال ولسان الأبكم (موغيلالوس نقرأه فقط في مرقس وفي أشعيا. هذا يعني عودة مرقس إلى أشعيا) يترنّم".
لقد عرف المسيحيون الأوّلون نبوءة أشعيا هذه (رج أيضاً أش 18:29؛ 3:32- 4). ونحن نجدها في خلفيّة جواب يسوع إلى موفدَيْ يوحنا المعمدان، وذلك حسب تقليد قديم أورده متى (11: 4- 5) ولوقا (7: 22): "إذهبا وأعلما يوحنا بما سمعتما ورأيتما: العميان يبصرون، والعرج يمشون... الصم يسمعون". إن ضمّ العميان إلى الصم قد يفسّر الموازاة الغريبة على مستوى العبارات والبنية في خبرَيْ شفاء الأصم الألكن وأعمى بيت صيدا (8: 22- 26). لقد رأت الكرازة الأولى في معجزات يسوع علامة على أن الوعد قد تمّ. وقدرة الله التي ظهرت في يسوع تدلّ من جهة على مصداقيته كإنسان يمتلك سلطات إستثنائية (أع 22:2). وتدلّ من جهة أخرى على أن ساعة أمانة الله ومجيئه، ساعة الثقة والشجاعة هي هنا. فالذي انتظروه آتياً قد جاء. وعمل يسوع بدأ يرسم منذ الآن صورة الخليقة الجديدة.
هذا ما يشير إليه هتاف الجموع: "لقد أحسن في كل ما صنع" (صنع كل شيء حسناً). هذه الكلمات تعود إلى سفر التكوين. فأعمال يسوع تستحقّ المديح الذي يليق بأعمال الله خلال الخليقة الأولى: "ورأى الله كل ما صنعه، فإذا هو حسن جداً" (تك 1: 31؛ رج سي 16:39). فالسموات الجديدة والأرض الجديدة تدشّنت بإعادة الإنسان إلى الكمال الذي أراده الله له منذ الإبتداء.
2- علامة شفاء التلاميذ
على ضوء الإنجيل الثاني والمواضيع التي يعبّر عنها، يدعونا هذا الخبر إلى قراءة ثانية تتطلّع إلى تفاصيل أهملناها في القراءة الأولى. بعد المعجزة، حاول يسوع أن يفرض الصمت، ولكنه لم يُفلح (آ 36). هذه الإشارة تعود مراراً في إنجيل مرقس، وتتيح لنا أن نكتشف تفسيراً جديداً للمعطى التقليدي، بالنظر إلى سرّ يسوع كما ينقله الإنجيلي إلينا. ثم إن موضع الخبر في مسيرة الإنجيل يبدو بشكل تفسير وتأمّل: فشفاء الاصم الألكن وشفاء الأعمى يردان ساعة يلوم يسوع تلاميذه لأنهم لا يفهمون، ويكثر من اتّصالاته مع العالم الوثني.
أ- يسوع، المسيح الخفي
أولاً: وحي يسوع وسرّه
منع يسوع الناس من التكلّم عن المعجزة بمناسبة شفاء الأبرص (1: 44: أياك أن تخبر أحداً بشيء)، وإقامة ابنة يائيرس (5: 43: أوصاهم بشدّة أن لا يعلم أحد بشيء)، وشفاء الاصمّ الألكن (36:7: أوصاهم أن لا يخبروا أحداً) وشفاء أعمى بيت صيدا (8: 26. قال له: لا تدخل القرية). في المرة الأولى (1: 45: ولكن الرجل أخذ يذيع الخبر وينشره في كل مكان) والمرة الثالثة (36:7: كل ما أكثر من توصيتهم، أكثروا من إذاعة الخبر) لم يراعِ الناس الأمر بالصمت. وهكذا ظهرت شعبية يسوع بشكل بارز: لم يستطيعوا أن يحفظوا السرّ الذي طلبه. وفي المرة الثانية (ابنة يائيرس) والمرة الرابعة (أعمى بيت صيدا) لم يقل لنا مرقس إن كان الناس راعوا أمر يسوع أم تجاوزوه. قد نقول: ليس من المعقول أن والدي ابنة يائيرس سكتا ولم يخبرا عن قيامة ابنتهما. وهل يمكن السكوت؟ ولكن "المعقول" ليس دائماً قاعدة عامّة عند مرقس. فهو يهتمّ بأن يدلي على شاهرة يسوع الناتجة عن معجزاته (32:1- 33؛ 7:3- 12؛ 53:6-56؛ 9: 15؛ 46:10)، كما يلاحظ أربع مرّات إرادة يسوع بأن يخفي المعجزة. لماذا هذه الأربع مرّات فقط؟
فهم مرقس هذه الأخبار ودوّنها على ضوء سرّ يسوع كما أعلنه الإنجيل بعد الفصح والقيامة (1: 1: المسيح وابن الله). لقد كان يسوع منذ حياته كإنسان مائت (عائش على هذه الأرض) المسيح وابن الله. ولكن هذا لا يمكن أن يُنشر، لا يجب أن يُعلم. وإلاّ لما استطاع يسوع أن يتمّ عمله حتى الصليب. وبدون الصليب لن يعرف الناس هويّته الحقيقية. لهذا فرض الصمت على هذين اللقبين (1: 24، 34: ابن الله، عرفته؛ 3: 11: أنت ابن الله؛ 8: 30: أنت المسيح؛ 7:9- 9: ابني الحبيب) حتى الآلام والقيامة (9:9: لا يخبرون أحداً بما رأوا إلاّ متى قام ابن الانسان؛ 14: 61- 62؛ 39:15). إذا كان يسوع قد فرض الصمت على هذه المعجزات، فلأن مرقس اعتبرها أنها تكشف الحجاب عن شخصه. إنها أعمال المسيح المذكورة في مت 11: 5: "العميان يبصرون، البرص يطهرون، الصمّ يسمعون، الموتى يقومون". ومع أن الناس لم يراعوا الأمر بالصمت، فمع ذلك لم يلج أحد إلى سرّ يسوع الشخصي.
إن إشاعة سرّ يسوع وحفظ هذا السرّ يتعارضان في مرقس دون أن يلامسا الموضوع عينه. كان على يسوع أن يُعلن بالكلمة اقتراب ملكوت الله (1: 15) وتدمير مملكة إبليس (1: 12- 13، 23- 27، 34؛ 3: 11، 22-27). بيد أن سر ملكوت الله ظلّ خفياً (4: 10- 1). حرّك يسوع الجموع بقوة تعليمه وأعماله، ولكن هويته الدقيقة لا يمكن أن تُكشف قبل الوقت. فحياته العلنية كانت الحياة الخفية لابن الله وسط البشر. مقابل هذا، يجب أن يُنشر المجد الخفي للمصلوب والقائم من الموت، يُنشر في الأمم بواسطة الإنجيل. "فما من خفي إلاّ سيظهر، وما من مكتوم إلاّ سيُعلن" (22:4). هذا القول يعني سر ملكوت الله، كما يعني سر يسوع. وبطريقة المفارقة، يرى مرقس (كما يرى بولس) أن الصليب هو الذي يكشف سرّ حكمة الله وهويّة ابنه (33:8؛ 15: 39؛ 1 كور 1: 24- 25؛ 7:2- 8).
ثانياً: مرحلة شفاء الأصم
إن شفاء الأصمّ الألكن يشكّل مرحلة نحو هذا الوحي. فبعد المعجزة، يتوضّح تعجّب الحاضرين بسؤال يُطرح بعض المرات: "ما هذا" (27:1)؟ أو بشكل يدلّ على اتصال شخصي. بعد تسكين العاصفة طرح التلاميذ هذا السؤال: "فمن هو هذا" (4: 41)؟ أما هنا، فنجد للمرة الأولى في مرقس جواباً يعبّر عنه لا بصيغة الاستفهام بل بصيغة التأكيد: "لقد أحسن في ما فعل...". ما فعله كان حسناً! ولكننا لم نزل حتى الآن أمام أعمال يسوع، لا أمام هويته. فبعد شفاء أعمى بيت صيدا، سيُعطي بطرس باسم التلاميذ أول جواب حول شخص يسوع: "أنت هو المسيح" (29:8) ولكن يجب أن يبقى هذا الجواب خفياً إلى أن يكون ابن الإنسان قد أتمّ إرادة الله عبر الموت والقيامة (8: 30- 31). فالإيمان المسيحي يرى في المصلوب ابن الله. هذا ما يجب أن لا ننساه، كما يقول مرقس، حين يكشف شخص يسوع من خلال أعماله. فنحن لا نعرف يسوع حقاً إلاّ إذا تبعناه في طريق الصليب (8: 31- 38؛ 9: 30- 32؛ 10: 32-34؛ 10: 47-48، 52).
ب- يسوع المجهول لدى تلاميذه
نقرأ شفاء الأصمّ الألكن في سلسلة من الأحداث تتجاوب بعضها مع بعض بشكل ملحّ، فتدلّ على أنها لم تُوضع هنا بطريق الصدف. ففي ف 8، سيُروى شفاء الأعمى مع عبارات مشابهة، وحسب إطار إخباري مماثل، مع العودة إلى نبوءة أشعيا نفسها. وهذا الشفاء سبق تعرّفَ التلاميذ إلى يسوع على أنه المسيح. كما أن شفاء الأصم الألكن ينتهي في التعرف إلى علامات أزمنة الخلاص. ثم إن المعجزتين تنتهيان بسلسلتين متوازيتين نجد فيهما كليهما: تكثير الأرغفة لإشباع الجموع (6: 30- 44؛ 8: 1- 9)، عبور البحيرة (6: 45- 53؛ 8: 10). جدال مع الخصوم (7: 1- 51؛ 8: 11- 13)، مناقشة مع التلاميذ (17:7- 22؛ 14:8- 21).
وطوال هذه المتتالية الكبيرة، ينكشف سرّ يسوع ويختفي في الوقت ذاته ساعة يزداد عدم الفهم عند التلاميذ (6: 52؛ 18:7؛ 17:8- 21). هم سينالون التوبيخ الذي وُجّه إلى الفريسيين وإلى الذين "هم في الخارج": "قلوبكم عمياء (لا ترى. محجّرة لا تحسّ). لكم عيون ولا تبصرون! لكم آذان ولا تسمعون" (8: 17- 18؛ رج 3: 5؛ 4: 11- 12)! لقد أصيبوا بالمرض الذي أصاب الشعب المختار بحسب أشعيا (6: 9- 10) وارميا (5: 21) وحزقيال (12: 2). ولن يُشفى اسرائيل من هذا المرض إلاّ حين مجيء الله (أش 18:29؛ 3:32- 4؛ 36: 5- 6؛ 7:42، 16، 18- 19؛ 8:43).
في إطار سفر أشعيا، الصمّ والعميان والبكم هم صورة عن شعب لا يسمع كلمة الله أو لا يفهمها، لا يرى آيات قدرته، فيكتفي بأن يردّد كلمات اللوم والمكر (أش 3:32- 6). هكذا يبدو تلاميذ يسوع حسب مرقس. ففي تقليد المعجزات، تحوّلت صور أشعيا إلى علامات حقيقية عن الخلاص المسيحاني. وهذه الآيات التي لم تخسر شيئاً من واقعيتها، ستجد مع مرقس رمزية الصور النبوية. فكما شفى يسوع الأصم الألكن والأعمى، فهو يريد، بل هو يستطيع أن يفتح آذان التلاميذ، ويحلّ عقد ألسنتهم، ويفتح عيونهم. والطريقة التي بها تفضّل الأخبار فعلات يسوع في حواس المرضى توافق تنديده المتكرّر وكلماته القاسية لتلاميذ لا يفهمون. وقبل دخوله إلى أورشليم من أجل الآلام، سيأتي أعمى آخر (ابن طيما). شفاه يسوع، فسار وراءه في الطريق (10: 25). هكذا يرتسم أمامنا نموذج التلميذ الذي يدعوه يسوع لكي يتبعه (33:8- 34).
ففي بنية إنجيل مرقس، يبدو شفاء الأصم الألكن موازياً لشفاء أعمى بيت صيدا، وكلاهما غنيّ بالرموز عينها. ففي العالم البيبلي، القلب الذي يفهم يرتبط بالأذن كما يرتبط بالعينين (تث 3:29؛ أش 9:6- 10؛ إر 5: 21؛ 7: 24). فالأذن هي قناة الوحى، والعين هي قناة المعرفة. قد تُغلق الأذن كما يُغلق القلب على كلمة الله، فيصبحان غير مختونين كما يقول إرميا (6: 10؛ 9: 25). غير أن الله يستطيع أن يعطي الإنسان "قلباً وآذاناً تسمع" (ب 21: 31) أو بالأحرى "قلباً يسمع" (1 مل 9:3، أي يفهم ويطيع). "حفرتَ لي أذنين". هذا ما قاله لله إنسانٌ فهم إرادة ربه. أما عبد يهوه (عبد الله) فلم يكن مثل إسرائيل. كانت أذنه مفتوحة: "لم يتمرّد ولم يرتدّ عن ربه" (أش 50: 5؛ رج 8:18). وإن كرازة مرقس توجّه في هذا الخط شفاء الأخرس الألكن، وتدلّ على حامل الوحي الإلهي الذي يستطيع أن يفتح قلوب المؤمنين على يسوع.
في هذه المعجزة، إنفتحت الأذنان قبل أن تحلّ عقدة اللسان، فأخذ "يتكلّم بطلاقة". لا يهتمّ مرقس فقط بولادة الإيمان في قلب التلاميذ، بل بالتعبير الصحيح عن هذا الإيمان. فهناك طرق كثيرة نقول فيها من هو يسوع (نعبّر عن هويّة يسوع) (6: 14- 16؛ 27:8- 30). إن تلك التي تسبق اعتراف الإيمان المسيحي، تظهر للمرة الأولى على الصليب (15: 39؛ رج 1: 1). حتى الآن، إقترب التلاميذ من هذا الاعتراف، ولكنهم لم يصلوا إليه (4: 40- 41؛ 48:6- 52؛ 29:8- 30). وكيف يقدرون الوصول مع قلب مغلق؟ أما يعرفون أن "الفم يتكلّم ممّا في القلب" (لو 6: 45).
قال إر 28:7 بلسان الرب: "قل لهم: أنتم الأقة التي لا تسمع صوت الرب إلهها ولا تقبل التأديب (الدرس، العبرة)؛ ذهب الحق وانقطع عن افواههم". ونحن نجد نموذج التلميذ في "العابد" (الخادم) الذي جعله الرب قادراً أن يسمع وأن يتكلّم. "الرب أعطاني لسان التلاميذ. أوقظ سلطان الكلمة. صباحاً فصباحاً ينبّه أذني لأصغي إصغاء التلاميذ" (كما يصغي التلاميذ، أش 50: 4).
تبقى كلمة (فم) التلاميذ معقودة ما دامت آذانهم غير مفتوحة. وفي شفاء الأصم الألكن، يستطيع المؤمن أن يعرف خلال تنشئته (التي لا تنتهي أبداً) إذا كان المسيح قد أدركه إلى الأعماق. فالسماع والأصغاء يقودان إلى تفهّم متدرج لسرّ يسوع، وإلى إمكانية إعلانه. ولن ندهش إذا كانت ليتورجية التنشئة المسيحية قد استلهمت خبرَيْ مرقس هذين. لمس على الحواس، إستعمال البصاق، "افاتا". كل هذا اتخذ في رتبة العماد القديمة المعنى الذي تحدّث عنه مرقس. فمن تعلّق بخطى يسوع لكي يتبعه، يعرف أنه قد نجّاه مما يعلقه على فهم ضيّق للوجود (33:8)، وأنه قد فكّ عقدة لسانه من أجل كلمة معطاة، كلمة أثبت من كل التزام بشري.
ج- تجاوز الحدود
حين سار يسوع بتلاميذه نحو التعرّف التام إلى هويته، هيّأ (حسب مرقس) حاملي الإنجيل المعدّ لجميع الأمم (13: 10؛ 9:14). فالمتتالية التي يقع فيها شفاء الأصم الأخرس تبدأ بإرسال الإثني عشر (8:6). إن دعوة "الرسل" (6: 30) تدشّن سلسلة أحداث تبيّن أن التلاميذ لم يفهموا أعمال يسوع وأقواله. بيد أن هذه الأحداث تتعاقب خلال تنقّلات يسوع. أولاً، من ضفة إلى أخرى على "بحر الجليل" (6: 30- 23:7). ثم إلى مناطق صور وصيدا (24:7). بعد هذا عاد إلى صور "عبر صيدا" نحو بحر الجليل خلال أرض الدكابوليس (أي: المدن العشر. ديانة وثنية وحضارة هلينية) (7: 31). هنا يقحم مرقس خبر الأخرس الأصمّ. إن هذه الإشارات الطوبوغرافية، رغم دقتها، لا تتيح لنا أن نرسم مسيرة يسوع خلاله سفره. فهي تتداخل مع ملاحظات تكشف هدفاً تعليمياً.
عارض مرقس بين الموقف المعادي الذي وقفه الفريسيون والكتبة الذين جاؤوا من أورشليم (7: 1- 23) وبين إيمان وثنية، أصلها من سورية- فينيقية (25:7- 30). واستنتج من هذا الخبر التقليدي سفر يسوع إلى بلاد صور وصيدا. قد يكون الخبر حُفظ في الجماعات المسيحية العائشة في هذه المنطقة ذات الأكثرية الوثنية. وما هو جدير بالملاحظة هو أن هذه المنطقة دخلت منذ 8:3 (سمع كثير... من صور وصيدا فأقبلوا إليه) في النطاق الجغرافي الذي فيه "رعدت" كرازة يسوع العلنية. واحتفظ مرقس أيضاً بتقاليد تتيح له أن يمدّ حقل عمل يسوع حتى الدكابوليس. لقد ظلّت جغرافية مرقس "تقريبية: وسَّع "أرض الجراسيّين" حتى الضفة الشرقية للبحيرة (تبعد جرش 50 كلم عن البحيرة. فيبدو من الصعب أن تكون بلاد الجراسيّين امتدت إلى هنا. تحدّث متى عن جدارا التي تبعد 10 كلم تقريباً عن البحيرة). ثم إن "الموضع" الذي شفى فيه الأصم الألكن (في مكان ما من الدكابوليس)، وذاك الذي اجترح فيه معجزة تكثير الخبز الثانية (8: 1- 10) يتسجّلان في هذا المدى الوسيع الذي لا حدود له.
هنا يستطيع يسوع بأن يلتقي أناساً لا نستطيع أن نقول إنهم يهود. وسيتبعه خلال ثلاثة أيام، جمع من الناس "جاء بعضهم من البعيد" (رج يش 9: 6، 9؛ أش 60: 4. أي: هم وثنيون) (8: 2- 3). ومهما يكن من أمر الموضع الذي فيه نجد "دلمانوثا" (لم يُعثر بعد عليه) (8: 10)، فمن الواضح أن التعارض بين ضفتيّ البحيرة، وتوالي العبور بشكل معاكس، كل هذا يبرز تعارضاً بين مدَيين لنشاط يسوع: ذلك الذي ينغلق على كلمته. إنه مدى الفريسيين (8: 10- 13). وذلك الذي يفتحه يسوع أمامه في جليل يفيض فيمتدّ إلى صور وصيدا والمدن العشر وقيصرية فيلبس (27:8). بعد القيامة سيكون اللقاء في الجليل مع التلاميذ (14: 28؛ 7:16) لا في أورشليم. في هذه المنطقة التي عرفت مزيجاً من السكان، واعتبرتها سلطات أورشليم ذات إيمان مشكوك به، في هذه المنطقة "رعد" الإنجيل الذي كرز به يسوع: ومن الإنجيل سينطلق الإنجيل بعد أن كلّف به التلاميذ ليحملوه إلى جميع الأمم (13: 10؛ 14: 9).
لهذا، إهتمّ مرقس بأن يجعل الاعتراف بأعمال الله في أعمال يسوع (37:7) يقع في قلب المدن العشر. وبأن يكون إعتراف بطرس المسيحاني على الطريق التي تقود يسوع إلى قرى قيصرية فيلبس (27:8). هكذا نجد استباقاً لإيمان الجماعات التي وُلدت من الرسالة إلى الوثنيين، وتعبيراً قبل الأوان عمّا سيقوله قائد المئة عند الصليب (39:15). إن السرّ الذي يؤثّر على المعجزة وعلى الاعتراف الإيماني الأول، يتطلّع إلى الظهور العلني بعد الفصح ويدلّ على القيمة الاستباقية لهذه الأخبار. وبعبارة أخرى، إن خبر شفاء الأصم الألكن يدلّ على أننا أمام قراءة (ثانية) مسيحية للنص، على ضوء الإنجيل الفصحي (أي بعد القيامة) في جماعة وُلدت في أرض الرسالة لدى الوثنيين.
من مفارقات الإيمان المسيحي أنه وُجّه إلى جميع البشر، فتغذّى "أولاً" (27:7) من كلمة قدّمت إلى شعب إسرائيل. وكما أن ابن الله أجبر على "الإختفاء" (يعيش خفياً) في يسوع الناصري، هكذا استعدّ الإنجيل في كرازة الجليل قبل أن يصبح الإنجيل للأمم. وكما ان الوحي الفصحي (بعد القيامة) لابن الله يكشف سرّ الإنسان القدير بالأعمال والأقوال، يكشف سرّ يسوع، كذلك تفسّر الرسالة الشاملة أنه ظهر في منطقة منفتحة إمّحت فيها التفرقة بين اليهود والوثنيين. فالأصم الألكن، وأعمى بيت صيدا، والسورية الفينيقيّة يجبرون المؤمن على أن يتجاوز حدوداً بُنيت بين البشر، ويدلّونه على ذاك الذي جاء نوراً وكلمة في صمت العزلة والليل.
إن نبوءة أش 35 وخبر مرقس يستنيران بضوء الخبرة المسيحية ويؤثّر الواحد على الآخر. فأشعيا أعلن مجيء الله ليضع حداً للعمى والصمم والبكم والتجمد في شعب من الشعوب. وحين شفى يسوع المرضى، دلّ على أن فيه تحقّق مجيء الله هذا، وأعلن بإلحاح أنه يجب علينا أن نستعدّ لهذا المجيء. وحين ذكر مرقس حياة يسوع على ضوء أشعيا (وكذلك فعلت الجماعة المسيحية التي فيها وُلد الإنجيل الثاني)، تذكّر أيضاً المسيرة الطويلة التي يجب أن يقطعها التلميذ عبر الأزمات والجهادات، ليتعرّف إلى يسوع، ليقول من هو يسوع اليوم وغداً، ولجميع البشر. وهكذا صار الأصم الأخرس وأعمى بيت صيدا نموذجين للتلميذ الذي ما زال منغلقاً على كلمة المسيح ونوره، غير قادر على التعبير عن إيمانه تعبيراً صحيحاً. وقاد يسوع تلاميذه على طريق الآلام الذي هو طريق الإستنارة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتبعوه (10: 32؛ 14: 51- 54). قادهم عبر الجليل وأوصلهم إلى حدوده. ولكن تعليم الفريسيين وهيرودس مع ما فيه من إنغلاق (8: 15) منعهم من التعرّف إلى شمولية الإنجيل. وحين ندّد مرقس بتأخّر التلاميذ على مستوى الإيمان، أشار أيضاً إلى الدواء: إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعوّض هذا التأخير، فيسوع يستطيع أن يفتح الآذان والعيون، أن يحل عقد الألسنة، أن يحطم الجدران التي ترتفع دوماً لتقاوم انتشار الإنجيل.
ويستطيع خبر مرقس أيضاً أن يوجّه تفكير المسيحيين اليوم. فالليتورجيا العمادية تدلّ على أن غناه هو هو ولا يزول. فالمعمودية لا تنتهي بعد أن ننتهي من ممارسة طقوسها. فإيمان كل إنسان يبقى متأخراً عن النور. فهل يظنّ انه دخل بشكل نهائي في سرّ يسوع، أنه سمعه كما يجب، أنه تحدّث عنه بعبارات صحيحة؟ ان الخاصانية التي تُولد دوماً تدلّ على عكس ذلك.
فهل نستسلم للحزن لأننا لا نستطيع أن نسمع، أن نرى، أن نتكلّم؟ بل إن مرقس يدعونا لكي نتطلّع إلى يسوع. فالإيمان لا يستخرج نوره من قلب الإنسان، فالنور يأتي من المسيح. وحين نسلّم أمرنا له، نقرّ بالتحرير الذي منحنا إياه ونحاول أن نتقبّل ذاك الذي يعدنا به، فنسير إلى النصر عبر الطريق الذي يفتحه أمامنا عبر شكوكنا ومخاوفنا