الفصل السادس والثلاثون
وصية الله وفرائض البشر
7: 1-23
تحتلّ هذه القطعة الكبيرة (7: 1-23) في داخل انجيل مرقس مكانة هامة جداً: فهذه المجموعة الثانية من خطب يسمع قد جعلها الإنجيلي حالاً بعد تصوير نشاط يسوع في أرض وثنية. فهذا النصّ الذي وصل إلى مرقس، قد أعاد مرقس كتابته وقدّمه كاعلان مبدأي سيطبّق يسوع متطلّباته في اعماله. الغى يسوع التمييز بين ما هو طاهر وما هو نجس. فالله لا يريد حواجز بين البشر. ليس هناك إلا حواجز يضعها البشر الذين تجاهلوا إرادة الله. فلا بدّ من هدمها واقتلاعها، لأن ملكوت الله قد اقترب (15:1).
إن جدال يسوع مع الفريسيين والذين يعتبرون نفوسهم المدافعين عن "تقليد الأقدمين" وعن شريعة موسى، هذا الجدال يجد مكانه في حركة التجمع التي دشّنها يسوع والتي فيها ألغيت الحدود التي تفصل بين الأبرار والخطأة (2: 15-17)، بين الانقياء والنجسين، وبالتالي بين اليهود والوثنيين (كما سنرى في بداية الرسالة المسيحية). إن خبر تجميع كل البشر باسم ملكوت الله، كما بدأه يسوع، ينعكس أيضاً في الوحدة النصوصية في مر 7: 1-23. هذه الوحدة تألفت من عدّة عناصر من التقليد. جُمعت في مراحل تاريخية متعاقبة حتى وصلت إلى مرقس الذي دوّن انجيله حوالي سنة 70 من أجل جماعة مسيحية يسيطر فيها العنصر الوثني.
إن هذا الجدال الطويل مع الفريسيين حول التقاليد، حول الطاهر والنجس، يتعارض مع نجاح يسوع لدى الجموع (نجد التعارض عينه في 2: 1-3: 6؛ 3: 10- 35؛ 6: 1-6)، ويجد مكانه قبل انطلاق يسوع إلى خارج الجليل (آ 24: إنطلق إلى نواحي صور وصيدا). سيعطينا يسوع فهماً جديداً لإرادة الله حول الطاهر والنجس، وهكذا يصبح الاتصال ممكناً بين اليهود والوثنيين في داخل الكنيسة. هذا ما فهمه بطرس قبل أن يذهب إلى بيت كورنيليوس الوثني (أع 10: 15: ما أعلنه الله طاهراً، فلا تدْعُه أنت نجساً).
1- النصّ الأدبي
في بداية هذا النصّ، جعلنا مرقس نشهد تجمّعاً حول يسوع (آ أ؛ رج 6: 30). ولكن هذا التجمّع يتألّف من الفريسيين وبعض الكتبة. فالاولون اختفوا ولم يعودوا يظهرون منذ القرار الذي اتخذوه بقتل يسوع بالإتفاق مع الهيرودسيين (3: 6). والكتبة كانوا قد بدأوا جدالاً حول بعل زبول في بداية المرحلة الثانية (3: 22). وها هم الآن يبدأون جدالاً جديداً يدخل فيه التلاميذ بسبب تصرّفهم "المشكّك". بعد هذا، يدعو يسوع الجموع إليه (آ 14) ليعطيهم مثلاً جديداً سيسأل التلاميذ عن معناه (آ 17) فيدلون مرة جديدة على أنهم لا يفهمون ما يقوله يسوع.
أ- من خلال الازائيين
نجد عند لوقا (11: 37- 41) نقلاً لهذا الحدث إلى إطار آخر. وموضوع الهجوم ليس التلاميذ بل يسوع نفسه (لم يغتسل قبل الأكل). نصّ لوقا قصير. فقد اعتبر الانجيلي الثالث أن مثل هذه الاسئلة التي عالجها متّى (15: 1-20) ومرقس لا تهمّ قرّاء كتابه بشكل خاصّ.
ونحن، هل نعتبر هذا النصّ وكأن الزمن قد تجاوزه؟ أنظنّ أيضاً أن مت 23 صار "عتيقاً" لأننا بعيدون عن إهمال الشريعة التي تطلب دفع العشر للنعنع والسذاب والكمّون؟ لا بدّ لنا من تمييز الروح فلا نبقى على مستوى الحرف.
إختلف متّى ومرقس عن لوقا، فتوسّعا طويلاً في حادث "الأيدي النجسة" (عير طاهرة، غير مغسولة). يمكن أن يكون النصّ الذي ندرس حاملاً تعاليم أعطيت في ظروف مختلفة. وهذا ما تستشّفه من عبارات تبدأ آ 9 (وقال لهم أيضاً)، آ 14 (ثم عاد فدعا الجمع وقالت لهم)، آ 17 (سأله تلاميذه عن المثل، فقاله لهم). ونستطيع أيضاً أن نرى في آ 18 ب، 23 (أفلا تفهمون أن كل ما يدخل الإنسان...) آثاراً لكرازة الكنيسة الأولى. فالاهتمام بتكوين مجموعة من عناصر تعود إلى تقاليد مختلفة، توافق أهمية المسائل التي شغلت الجماعات المسيحية في أيام مرقس. وذلك بسبب وجود وثنيين ويهود (يهتمّون بالطهارة الطقسية) داخل الجماعة الواحدة. هل يشاركون في الطعام الواحد؟ هل يجتمعون في المكان الواحد؛ أما هناك خطر بأن "يتنجّس" اليهودي بقرب الوثني؟ في هذه الحال، ما معنى التلمذة لاسم يسوع؟ وما معنى المعمودية الواحدة التي تلغي الفوارق بين يهودي ووثني، بين عبد وحرّ، بين رجل وأمرأة؟
أوُجد هذا النصّ قبل مرقس أم جُمع في أيام مرقس، فهو يعود بنا إلى المسيح، ولهذا فهو يعنينا. هنا لا ننسى أن الإنجيل وصل إلينا عبر كتابات دوّنها بشر. تسلّموها فنقلوا تعليم الخلاص في ظروف خاصة لم تكن الاهتمامات فيها هي هي. لا نجد في لوقا ما يوازي نصّ مرقس الذي توسّع طويلاً في هذه المواد التي وصلت إليه.
ولكن هل يعني هذا البناء (هذا التدوين) أننا لا نصل إلى انجيل يسوع؟ هل صارت الجماعات المسيحية حاجزاً بيننا وبين يسوع؟ كلا. إنها مرآة عما عاشه يسوع وعمله وقاله. ثم إذا كانت هذه الجماعات قد "خلقت" الإنجيل، فالإنجيل خلقها وهو يسمعنا صوت يسوع من خلال أصواتها واسئلتها وقلقها وإيمانها. يكفي هنا أن نتذكّر آ 5 (ما يخرج من الإنسان...) وما كلّف الكنيسة من جهود لكي تتقبّله (رج روم 12: 2- 3؛ 1 كور 8: 1-3؛ 10: 25-28؛ غل 2: 11-13، كو 2: 20- 22).
بدا متّى قريباً جداً من مرقس ما عدا الاعتراضة في مر 7: 2-5 التي فيها يفسّر مرقس لقرائه الوثنيين عوائد يهودية لا يفهمونها. وبعد أن شرح يسوع معنى المثل للجمع (مت 15: 10- 11؛ مر 7: 14-15)، زاد متّى (آ 12- 14) حواراً بين يسوع والتلاميذ حول تشكّك الفريسيين ممّا قاله يسوع: "هم عميان يقودون عمياناً" (مت 15: 14؛ رج لو 6: 39).
ب- بعض الملاحظات
الاولى: ذُكر الفريسيون والكتبة معاً. لقد اعتاد متّى أن يجعل هاتين الفئتين معاً في معارضتهما ليسوع (مت 5: 20؛ 12: 38؛ 23: 2-7). كان معظم الكتبة ينتمون إل حزب الفريسيين، لاسيّما بعد سقوط الهيكل (سنة 70) وزمن تدوين إنجيل مرقس.
الثانية: تقليد الشيوخ هو مجموعة من الفرائض الشفهية التي تعود إلى موسى، كما يقولون، فتكّمل الشريعة المكتوبة. كانت تفاسير في مدارس الرابانيين فتجمعت كتابة في المشناة في القرن الثاني ب. م. قبل أن تنتقل إلى التلمود. سمّاها مر 7: 8 "تقليد الناس" ومر 7: 9، 13 (رج مت 15: 3، 6): "تقليدكم". أما يوسيفوس فسمّاها: "تقليد الآباء".
الثالثة: غسل الايدي (حتى المعصم). نحن هنا أمام عادة طقوسية ترجع إلى ديانة بني اسرائيل القديمة. فحسب خر 30: 17- 21 (رج تث 21: 6)، يجب على الكهنة أن يغسلوا أيديهم قبل الخدمة الليتورجية. أخذ عالم الفتاوى هذه الفريضة وعمّمها بطريقة غير شرعية على "جميع اليهود"، أي على الشعب البسيط. وهكذا فرض الفريسيون على الشعب ممارسة الاغتسال الطقوسي قبل الطعام (فالطعام هو في نظرهم عمل ديني لأنه يبدأ بالمباركة) وبعده. أما أهل قمران فلم يكتفوا بغسل الأيدي، بل كانوا يغتسلون كلهم في أحواض وجدت في مغاورهم. لم يخضع يسوع لهذه الفريضة (لو 11: 38). ولكن الفريسيين لم يتجاسروا على مهاجمته، فاتهموا التلاميذ.
الرابعة: إن الديانة الطقوسية تريد أن تحاسب الديانة الروحية التي يعلنها يسوع. أجاب الرب معطياً المبادىء التي تتيح للشريعة القديمة أن تتحرّر من تقاليد الناس التي تخنقها، وأن تتفتّح في إنجيل الحرية. بدأ يسوع تعليمه عن الاغتسال (آ 1-9)، ثم عاد فتعمّق في مسألة عامة، هي مسألة الطاهر والنجس. بانتظار أن يعلن أن ديانة الشفتين يجب أن تتفتّح على ديانة القلب.
2- تقليد الشيوخ (7: 1-13)
لا نجد في بداية النصّ إشارة إلى الزمان أو المكان. إن نهاية آ 1 تتيح لنا أن نفترض أننا ما زلنا في الجليل. أما المواضيع التي ستطرح، وفن الخبر الادبي، كل هذا يجعلنا قريبين من 2: 13-3: 6.
أ- السؤال الحقيقي
ولكن يبدو أن الوضع مال إلى التصلّب. فالجدالات حول مؤاكلة الخطأة، حول الصوم والسبت (2: 13-28)، هي مناسبات يقدّم فيها يسوع أجوبة تختلف عمّا في 7: 6-13. كان هناك عودة إلى العقل السليم، وبعض المنطق وروح المداعبة (2: 17، 19، 21- 22: ليس الأصحّاء بحاجة إلى مريض؟ هل يصوم أهل العرس؟ هل يرقع ثوب بال برقعة جديدة؟). والعودة إلى العهد القديم ظلّت على المستوى التاريخي. العنصر الدارماتيكي حاضر (21: 20) والروح العدوانية حاضرة (2: 16، 21- 22). ولكن الهجوم ظلّ غير مباشر. أما مع ف 7، فالأمور اختلفت كلياً.
سألوا يسوع: لماذا بعض تلاميذه لا يتبعون "تقليد الشيوخ" (آ 5)؟ قد لا يكون يسوع هو الذي أعفاهم من الاغتسال قبل الطعام. فأصلهم الوضيع قد يكون جعلهم جاهلين لهذه الفريضة التي يشدّد عليها الفريسيون. ولكن محاوري يسوع دهشوا، لأن تلاميذ هذا "الرابي" يتصرّفون كما يتصرّف عامّة الشعب.
قيل مراراً إن يسوع لم يكن يجيب حقاً عن السؤال، بل ينتقل إلى الهجوم ويرفع مستوى الجدال. ولكن في الواقع، إن يسوع يجيب كاشفاً ما يعني السؤال في العمق. وهذا ما فعله هنا.
الموضوع هنا هو النجاسة (لا نتحدّث عن أوساخ الجسد). فما هي هذه النجاسة التي يخاف منها الفريسيون والتي تدفعهم لكي يكونوا أطهاراً ويطهّروا الأشياء التي يستعملونها؟ هناك اتصالات لا بدّ منها مع أشياء غير طاهرة (نجسة). وهذه الاشياء هي نجسة لأنها تخصّ اناساً "نجسين"، تخص الوثنيين أو الخطأة، أو قد يكونون لمسوها. وهكذا يحدّد الاهتمام بالطهارة حكم على القريب يدفعنا إلى الإنفصال عنه لانه نجس (كوينوس) وبالتالي خَطِر. وهذا الانفصال يتحقّق بالإغتسال، بغسل الآنية والاثاث والبيت...
بعد هذا، تبدو رغبة الفريسي في تجنّب النجاسة، التي هي خطيئة تفصل عن الله، تبدو الخطيئةَ العظمى التي تفصلنا عن الله وتطلب منا ان ننفصل عن القريب.
يظنّ الفريسي أنه يحتفظ من النجاسات لأنه يهتمّ بقداسة الله. في الواقع، هو يسيء إلى هذه القداسة لأنه يحتفظ من الإنسان النجس في نظره والمقدّس في نظر الله. في الواقع، هو يهتمّ بنفسه. هذا ما رآه يسوع الذي شدّد على الخطيئة ضد الوالدين (آ 10-13) بشكل خاص، والخطايا ضد القريب (آ 21- 22) بشكل عام مثل القتل والزنى والطمع... لا يعي الكتبة والفريسيون ما هو وراء سؤالهم، فلو وعوه لحدّدوا موقعهم الروحي الحقيقي. هم لا يتهرّبون من الأشياء النجسة، بل من الأشخاص. هذا هو السؤال الجوهري الذي يردّ عليه يسوع.
ب- تقليد الشيوخ وكلمة الله
ولكن هل "تقليد الشيوخ" هو حقاً في خدمة الله، في خدمة كلمته وشريعته؟ أم هو في خدمة الذين يتقبّلونه في حياتهم وينقلونه إلى الآخرين؟
إنطلق الكتبة والفريسيون من تقليد الشيوخ وهاجموا التلاميذ. أما يسوع فانطلق من الكتاب المقدس، من العهد القديم، فأورد نصوصه على دفعتين. في الايراد الأول، يقدّم بشكل غير مباشر حكماً عاماً على المدافعين عن التقليد. في الايراد الثاني إتخذ حالة محدّدة تحكم فيها الشريعة عليهم لأنهم تجاوزوها.
في إنجيل متّى، بدأ يسوع جوابه راداً السؤال إلى خصومه، قبل أن يعود إلى نصّ أشعيا (مت 15: 1-9) أما عند مرقس، فعاد يسوع حالاً إلى نصّ أشعيا (29: 13: أورده حسب السبعينة اليونانية)، فدخل في خطّ الانبياء الذين هاجموا رياء عبادة تهمل الحياة الخلقية (عا 5: 21- 27؛ أش 2: 10- 17؛ مي 6: 5- 8؛ إر 7: 1- 28؛ زك 7: 4-6). إن تقليد الانبياء يتجذر في الشريعة فيفترق عن فرائض صاغها الناس ونقلوها إلينا. وهكذا صار "تقليد الشيوخ" معارضاً "لوصية الله".
أورد مرقس أش 29: 13 حسب السبعينية التي تحوّل النصّ العبري: "هذا الشعب يتقرّب (كما يفعل خادم المذبح ليقرب قربانه) بفمه (مني)، وبشفتيه يكرمني. وأما قلبه فبعيد عني. مخافته مني وصيّة بشر تتلمذوا لها". إن النصّ الاصلي (العبري) يؤكّد أن مخافة الشعب للرب ليست إلا وصية بشرية وامثولة تعلّموها. أما السبعينية فنتحدث عن عدم جدوى إكرام (تيماوو= خاف، كرّم) الله وعبادته (سابوسماي= عبد) لانهم يعلّمون فرائض وتعاليم بشرية (يقول مرقس: تعاليم هي وصايا بشرية). هذا التعبير يصيب في الصميم أولئك الذين يعلّمون الشعب أموراً بشرية. بيد أن الاختلاف بين النصّ العبري والنصّ اليوناني لا يكوّن مشكلة حقيقية. فالنصّ العبري نفسه الذي نطبّقه على سلوك الكتبة والفريسيين أكثر منه على تعليمهم، يوافق سياق النصّ ويبزر اتهام الفريسيين بالرياء (آ 6).
والإيراد الثاني هو ايرادان. واحد يذكر وصية الاكرام الواجب للوالدين (تيماوو كما في آ 6): "أكرم أباك وأمك" (خر 20: 12). وآخر: حكم الموت ضدّ من يلعنهما: "من لعن أباه أو أمّه، فليُقتل قتلاً" (خر 21: 17، في اليونانية: آ 16).
إذن، نستطيع أن نقول للوهلة الأولى إن يسوع يعارض بين تقليد الشيوخ والشريعة المكتوبة. ويدلّ كيف أن خصومه يتجاوزون الشريعة ليبقوا متعلّقين (آ 3، 8) بتقاليدهم، ليحفظوها (آ 9) وليثبتوها (آ 9).
ج- التقليد والشريعة
إن التمييز بين التقليد الشفهي أو المكتوب (البشري) والشريعة المكتوبة (الهية)، هو معروف ولكنه ليس دائماً بواضح.
قد توصّل تقليد المجمع (أي: العالم اليهودي) إلى تشويه الكتاب المقدس ومناقضته. وهذا ما نكتشفه في آ 11- 12. ولكن هدف التقليد ليس تدمير النصّ الملهم بل محاولة قراءته قراءة بشرية. نريد أن نكون أمناء لشريعة الله، نحميها ضدّ أقل تشويه، نوضح معناها، نساعد الناس على ممارستها. هذا هو التقليد الحقيقي. ولكن عندما يصبح التقليد البشري سلطة توازي أو تتعدّى كلام الله، يصبح هذا التقليد مضراً للجماعة. وبتزايد الضرر عندما يصبح هذا التقليد مكتوباً (لا يعود شفهياً) في "أسفار" تزاحم الكتاب المقدس.
في هذه المرحلة يتمّ الانتقال من مشروع أمانة (للكتاب المقدس) إلى وضع خيانة (لا أمانة). إنطلق التقليد ليساعد البشر على فهم الكتاب المقدس ووضعه موضع العمل، فانتهى به الأمر إلى أن حلّ محلّه وشوّهه وعرّاه من سلطانه.
حين أراد يسوع أن يبيّن خطر تقليد الشيوخ، كما تحجّر في تعليمات الفريسيين. حين أراد ان يبيّن كيف أن هذا التقليد ألغى الشريعة وأفرغها من سلطانها، لجأ إلى الشريعة فيما يتعلّق بشريعة "القربان" (آ 9-13).
سار يسوع على خطى الانبياء فكشف رياء (هي المرة الوحيدة يستعمله مرقس كصفة. وسيستعمله كاسم في 12: 15. يبطن الإنسان غير ما يظهر. أما متّى فيستعمله 14 مرة: الكتبة والفريسيون المراؤون) التقاليد البشرية. ويتخذ مثلاً ملموساً: الممارسة اليهودية للقربان: ينذر الإنسان بأن يقدّم أمواله لصندوق الهيكل. وهكذا لا يستطيع أحد أن "يمسّ" أمواله هذا الرجل. وهكذا استفاد بعض الناس ليتهرّبوا "بشكل شرعي" من المتطلبات الأساسية في الوصايا العشر. وهكذا، فإن من نذر أن يعطي أمواله لصندوق الهيكل، يُعفى من واجب مساعدة والديه وتأمين ما هو ضروري لهما. ولقد وافق الكتبة (وكان منهم القضاة) على هذه الممارسة بما فيها من تحايل وكذب، وتركوا للإنسان ان يتمتّع بخيراته، واعفوه من واجب ممارسة التقوى البنوية. وانهى يسوع هجومه: "تبطلون كلام الله من أجل تقليدكم" (آ 13).
تجاه ممارسة "تكرّس" الاشياء وتجعلها في خانة "التحريم" (تابو)، يذهب يسوع مباشرة إلى قلب الشريعة التي هي سور يحمي حقّ الله وحقّ القريب. ومجرّد التذكير بوصية احترام الوالدين كان كافياً ليظهر ما في ممارسة القربان من عبث، بل من وجه بغيض.
2- الطاهر والنجّس
أجل، إن الموقف الديني الحقيقي يكون على مستوى القلب حيث نفهم الواقع، لا على مستوى الفم والشفتين، على مستوى الخطب والكلام، على مستوى تقليد الناس.
في هذا الخطّ تابع يسوع كلامه، فدعا الجمع ليقتربوا منهم وليسمعوا له أمثاله: ما يدخل في الفمّ، ما يخرج من الفمّ. وهنا نصل إلى الكلمة الأساسية حول الطاهر والنجّس.
أ- كلمة يسوع
إن المثل حول الطهارة كما تفوّه به يسوع ينتمي إلى أقدم ما في التقليد. وهو يبدو بشكل موازاة في درفتين متناسقتين: "ما من شيء يدخل الإنسان من الخارج ينجّسه. ولكن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجّس الإنسان" (آ 15)
اولاً: عناصر المثل
نستطيع ان نفهم القسم الثاني من المثل كما يفعل مرقس في 7: 19 ب: وسخ الإنسان. هذا هو معنى تث 23: 13- 15. أما القسم الأول من المثل فهو يعارض التوراة التي تعرف كل المعرفة الاشياء النجسة والتي تجعل الإنسان "نجساً" (لا 11- 15). إن هاتين العلاقتين المختلفتين مع التوراة (القسم الثاني مع، والأول ضد) تجعلاننا ندرك ان في هذا القول معنيين. وهذا الالتباس في المعنى يصدم القارىء.
"خارج" الإنسان و"داخله"، لفظتان لا تعودان فقط إلى الاطعمة التي ندخلها من الخارج إلى الداخل. بل هما تدلاّن أيضاً على مستويين انطروبولوجيين مختلفين: مستوى الدائرة ومستوى المركز، قلب الإنسان و"هامش" الإنسان. وإن هذا القول يتعلّق بمركز الإنسان، بـ "قلبه" كما تقول التوراة. وهذا ما يشدّد عليه سياق النصّ (آ 6) وتفسير القول (آ 21: من الداخل، من قلوب الناس، تخرج...). وحين نقرأ القسم الأول من القول (ما من شيء يدخل الإنسان) نفهم أنه يعني بشكل ضمني: مركز الإنسان وقلبه. لا شيء من الخارج ينجّسه. حتى الأطعمة "النجسة". إن هذه الملاحظة حول القسم الأول من المثل تطرح سؤالاً سيجيب عليه القسم الثاني: من أين يأتي ما ينجّس الإنسان؟
ثانياً: بعد المثل
إن مسألة "الطاهر" و"النجس" التي لعبت دوراً كبيراً في علاقة اليهود بعضهم ببعض، وفي انفصالهم عن الوثنيين، لا تزول فقط بمجرّد التمييز بين المستوى العبادي (شعائر العبادة) والمستوى الخلقي (الوصايا وغيرها). ففكرة النجاسة لا تنتج عن تقويم سطحي وتوسّع لاحق للتوارة (أي: الشريعة)، بل هي تعبّر عن خبرة الموت الوجودية التي تنتقل وتتحدّد دوماً في العصور القديمة. فموطن "الطاهر" هو في جوهره موطن الحياة الذي تمثلّه شعائر العبادة الحقة بشكل خاصّ. وموطن "النجس" هو موطن الموت الذي تمثلّه شعائر العبادة الوثنية.
وشرائع الطهارة في الشريعة، قد تطبّقت بصورة خاصة على الكهنة خلال ممارستهم خدمتهم الكهنوتية. ثم فهمها بطريقة شريعانية التيار الفريسي ووسّعها على الجماعة كلها.، ولكن فكرة النجاسة لم تكن من عالم العبث (وما هو عديم الفائدة) في العالم اليهودي، كما كان في العالم الوثني (ومنه الهلنستي). إذن، ليست كلمة يسوع، كما حفظها التقليد، معارضة عقلانية لفكرة النجاسة. فما يريد يسوع أن يبدّل بمثله من رأي لدى سامعيه، هو أكثر ثورة مما نظنّ، لأنه يقف على مستوى الافكار المعروفة. إن يسوع لا يعلن بلاغاً، ولا يتّخذ موقفاً من "الداخل" ضد "الخارج" (القلب هو مركز الشرّ) ولا يعارض شريعة العهد القديم وجهاً لوجه.
فما يفعله يسوع بكلمته السامية، هو أنه يدعو الإنسان إلى الخروج من وضعه الشرير من أجل التوبة، لا من أجل مجهود عقلي. و"اللغز" الذي قدّمه يسوع هو سهل. وهو لا يتطلّب عقلاً راجحاً، بل توبة جذرية. ليست المسيرة طويلة، ولكن لها نتائجها. إن يسوع يؤكّد أن قدرة الشرّ القاتلة (أي: النجاسة) تثقل كاهل الإنسان، ويبيّن لنا كيف تهدّدنا. هي لا تصيب الإنسان من الخارج بواسطة الأطعمة، بل هي تهاجم الإنسان من الداخل، ومني هناك تطلق هجماتها. إن كلام يسوع يشدّد على أن تأثير النجاسة يؤثر في الداخل، في القلب الذي هو مركز القرار في الإنسان. وهكذا يتقبّل جزء مهم (لم يُنس أبداً) من النظرة التوراتية إلى النجاسة، قيمة مطلقة. إن النجاسة الحقيقية الوحيدة، هي التي يقع فيها الإنسان حين يقرّر أن يعمل الشرّ بحرّية تامة.
وهكذا يمنح يسوع الإنسان بهذا الكلام السامي، حرية فوق العادة. وهذه الحرية تكون بحسب إرادة يسوع واعية لمسؤوليتها أمام الله وأمام الناس. لا تهتّم للامور الخارجية مثل الأطعمة (جميع الأطعمة هي نقية، آ 19) فتخرج من الإنسان ما هو نجس حقاً، ما يسيء إلى الإنسان ويقتله. وإلاّ صارت هي نجسة وآخرتها الموت.
ثالثاً: إطار المثل
إن الإطار الذي يحيط بكلام يسوع في آ 14 و16، يقابل الشكل النبوي للقول المأثور. فالوضع الذي يشير إليه اولاً هذا الإطار (ما عد مر 7: 1-13) ليس المناقشة العلمية ولا الجدال، بل كرازة يسوع التي تحزك الناس: "إسمعوا لي كلّكم وافهموا" (آ 14). هكذا اعتاد يسوع أن يطلق أمثلته أمام الجموع: "اسمعوا".
والدعوة إلى الإنتباه التي زيدت في آ 16 (من له أذنان سامعتان فليسمع) هو "لوجيون" (قولة) تائه جاء من مر 4: 23 وأقحم هنا، فشدّد على أن التعليم لا ينتظر. فلا بدّ من وضعه موضع العمل.
السماع والفهم ناقصان لدى القلوب القاسية (أش 6: 9؛ رج مر 4: 12) التي تفتّش عن ينبوع النجاسة حيث لا يوجد. وهكذا لا يسيرون مع إرادة الله، ولا يستعملون حريتهم استعمالها الصحيح، بل يجعلون قلوبهم بعيدة عن الله (أش 29: 13؛ مر 7: 6).
هكذا يرى يسوع وضع البشر الذين يريد أن يؤثّر فيهم. ويشدّد الانجيلي على هذا الشعور حين يتحدّث عن اخصّاء يسوع الحميمين، عن تلاميذه، على أنهم "بلا فهم" (7: 18)، على أنهم "لا يعقلون ولا يفهمون" (8: 17). هذا ليس تشاؤماً من قبل يسوع. إنه واقعية. فهو "يعرف ما في الإنسان" كما قال يوحنا (2: 25).
ب- تفاسير قول يسوع في الكنيسة الأولى
إن مسألة الطهارة على مستوى الأطعمة، قد لعبت دوراً كبيراً في الكنيسة الأولى (غل 2: 11- 14): على مستوى المشاركة في المائدة. على مستوى المشاركة في "كسر الخبز" بين المسيحيين الآتين من العالم اليهودي، وأولئك الآتين من العالم الوثني. فحين شدّد المسيحيون المتهوّدون على المحافظة على طهارة الأطعمة، أبعدوا "النجسين" أي المسيحيين الامميين (من الأمم الوثنية) الذين اعتادوا إن يأكلوا من جميع الأطعمة. إمتنع اليهود عن مشاركة "الآخرين"، وشكّكوا في انتمائهم الكامل إلى الجماعة. وهكذا كانت النجاسة "المادية" عنصر انقسام خطير، لاسيّما وأن الكنيسة اكدت تجذّرها في شريعة العهد القديم ودورها في جماعة مسيحية فيها المتهوّدون والامميون.
كان على كلام يسوع أن يبرهن على سلطانه في هذه الحالة. وقد نال تفاسير عديدة في الكنيسة الأولى. أما نحن فنكتفي بمثلين يرتبطان بالنصّ الذي ندرس (خصوصاً آ 18- 20، 21-23) هنا نقرأ 1 كور 6: 13: "الطعام للبطن، والبطن للطعام، والله سيقضي على الاثنين معاً". ونقرأ روم 14: 20: "لا تهدم عمل الله من أجل الطعام. كل شيء طاهر، ولكنه يصبح سوءاً للإنسان إذا صار بما يأكله حجر عثرة" (لأخيه).
أولاً: التفسير الأول لكلام يسوع (آ 18- 20)
قد جُعل هذا التفسير في إطار تعليم خاصّ موجّه إلى التلاميذ (رج 4: 10- 12)، وهو إطار يدلّ على مشكلة خاصة بالجماعة. إن التفسير يستعيد الموازاة المتناقضة في آ 18 ب (ألا تعرفون أن ما يدخل الإنسان من الخارج لا ينجّسه؟) وآ 20 (ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجّسه) ويفسّر الشقّ الأول بشكل صريح (آ 19 أ): إن الطعام لا يدخل إلى القلب (مركز الفهم والارادة والقرار)، بل يذهب إلى البطن ومن هناك إلى المرحاض. وفهم تقليد الكنيسة الأولى النتيجية التي يتضمّنها مثل يسوع: وهكذا أعلن أن جميع الأطعمة هي طاهرة (آ 19 ب؛ رج روم 14: 20؛ أع 10: 15: "ما طهّره الله، فلا تنجّسه أنت، أي ما جعله الله طاهراً، لا تجعله أنت نجساً).
ولكن أهتم ما في كلام يسوع، أي متطلّبة طهارة القلب، ظلّ بعيداً عن القارىء. فكلمة يسوع لا تذكر إلا نجاسة الأطعمة، وتعلن كل الأطعمة طاهرة، دون أن تدلّ على القلب الذي هو المركز الحقيقي والخطر للنجاسة التي تهدّد الإنسان. لهذا، كان من الضروري أن يبرز تفسير ثانٍ يعود إلى يسوع نفسه، كما يقول عدد من الشرّاح.
ثانياً: التفسير الثاني لكلام يسوع (آ 21- 22)
نستطيع أن نقرأ هذه الآيات (آ 21-23) حالاً بعد قول يسوع المأثور. "ما من شيء يدخل الإنسان من الخارج ينجّسه. ولكن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجّس الإنسان" (7: 15). بهذه الطريقة تبرز قوّة كلمة يسوع. إن هذا التفسير يذكر بصورة واضحة "القلب" كالموضع الذي منه تهدّد النجاسةُ الإنسان، وتحمل إليه الموت وتضع التفرقة بين البشر. قلب الإنسان الذي لم يطهَّر، هو موضع الرذائل التي تسبّب له الهلاك. القلب هو مخزن يحوي الكثير: "الإنسان الصالح من الكنز الصالح في قلبه يخرج ما هو صالح، والإنسان الشرّير من الكنز الشرير في قلبه يخرج ما هو شرّير. لأن الفم ينطق من فيض القلب" (لو 6: 45).
إذا تبعنا خطّ كلمة يسوع، نرى أن التفسير لا يقدّر "كنوز" القلب الشرّير. فالأفكار السيئة ونتائجها تظهر بشكل لائحة طويلة من الرذائل (في شكل تقليدي). هناك "الافكار الرديئة" (آ 21 أ) و"الاشياء الرديئة". اثنا عشر اسماً. ستة في صيغة الجمع، وستة في صيغة المفرد. وكلّها تدلّ على ما يجعل الإنسان نجساً: الفجور (في الجمع)، السرقة (الجمع)، القتل (الجمع)، الزنى (الجمع)، الطمع (الجمع)، الخبث (بأنواعه، الجمع). ثم في صيغة المفرد: المكر، العهارة، الحسد، الاغتياب، الكبرياء والحماقة (بأنواعها). كل سلسلة تنتهي برذيلة "معّممة". أما هدف الرذائل المذكورة، فهو أن يبيّن بطريقة مخيفة ما يحمل قلبُ الإنسان من شرّ.
وقد جعلت "الحماقة" (أي ضياع العقل) في نهاية السلسلتين: إنها ينبوع كل شرِّ، لانها تجعلنا نقدّر الواقع (بما أنه واقع أمام الله) بطريقة خاطئة (نعلّق اهتماماً مفرطاً على النجاسة الخارجية مثلاً). فالإنسان الأحمق والجاهل هو الذي لا يعرف الله، الذي ينسى الله ويهزأ به (مز 10: 3- 4؛ 14: 1)، هو الإنسان الأعمى وصاحب القلب القاسي. كل هذا يلقي ضوءاً جديداً على نداء يسوع بأن نسمع ونفهم (آ 14-18).
إن مقابلة لائحة الرذائل وإطارها مع القول العددي في أم 6: 16-19 الذي هو نموذجها الممكن، يتيح لنا أن ننطلق من هذا التفسير الثاني للمثل (آ 5) إلى يسوع نفسه. ولكن، إن كانت الجماعة قد فسّرت بهذا الشكل مثل يسوع، فهذا يعني أنها فهمته فهماً صائباً: القلب الشرّير هو الذي يحمل إلى البشر التفرقة والموت. وهو عكس القلب المرتد إلى الله. أما الاطعمة فلا تفصل الإنسان عن الله، والإنسان عن الإنسان. ما يفصل البشر بعضهم عن بعض هو القلب الرديء. وما يوحدّهم هو القلب الجديد الذي يخلقه الله فيهم، أكانوا يهوداً أم وثنيين، عبيداً ام أسياداً، اغنياء أم فقراء.
4- تقليد الشيوخ ووصية الله
أ- العبادة والأخلاق
إن 7: 1- 8 يربط مسألة "الطاهر والنجس" بالعبادة لله (آ 6- 7). ففكر الإنسان وعمله، وتقسيم البشر وتجميعهم، كل هذا لا يجد موقعه في مجال اخلاقي مستقل عن "شعائر العبادة". ولكن اللوحة الثانية في الشريعة الموسوية التي تلمّح إليها لائحة الرذائل في آ 21-23، ليست موضوعة بجانب اللوحة الأولى التي يذكّرنا بها الأيراد النبوي (آ 6 ب- 7).
عندما تصبح عبادة الله نشاطاً مستقلاً، يصبح الناس "مرائين" (آ 6 أ). يصبحون "خارجيين" ويهتمّون بـ "الخارج". حينئذ يعاينون خطر النجاسة الهائل حيث لا يكون في الحقيقة نجاسة. هؤلاء يستسلمون بسهولة للنجاسة. لأنهم ليسوا محميين. فالسور (الذي وُضع حول الشريعة) الذي يمثّل "تقليد الشيوخ"، لا يمكن أن يكون حماية فاعلة حين لا تأتي الهجمات من "الخارج". هذا تأكيد جوهري في النصّ كما نقرأه في تدوينه الحالي، وهذا التأكيد يبرز بشكل واضح.
والرباط بين قسمَيْ النصّ تؤمنه الكلمة العاكفة "نجس" وفعل "سار" (آ 5). نحن أمام سلوك بحسب وصية الله. فيسوع يرى أن "تقليد الشيوخ" لا يدلّ على الطريق الصحيح، لأنه لا يرى موضع الاخطار الحقيقية التي تهدّد الإنسان. فالوصية الإلهية هي التي تُري الإنسان وتعلّمه السلوك الذي يرضي الله. هذا ما يقوله يسوع عائداً إلى النبي أشعيا. لا نستطيع أن نحوّل كذباً وصية الله إلى فريضة بشرية تفرض على الناس كحمل ثقيل وتخنق حرّيتهم.
ب- الشريعانية الفريسية
إن يسوع في نصّ مرقس، يعارض وصية الله بتقليد الناس (آ 8)، ويعطي مثلاً عن هذا التعارض بممارسة "القربان" (آ 9-13). بيد أن "لتقاليد الشيوخ" في نظر الفريسيين القيمة عينها التي للشريعة. ولقد ظنّ الفريسيون أنهم يستطيعون بهذه التقاليد أن يمنعوا الناس من التعدّي على الشريعة، ويقدّسوا الأمة كلها كما لو كان الجميع "كهنة". سعوا إلى هذا الهدف فارضين على المؤمنين ممارسة أصغر الفرائض ممارسة دقيقة. واليهود الذين لا يخضعون يُسّمون "سفالة لا يعرفون الناموس" (يو 7: 49). وكانوا يفتخرون لأنهم يتجاوزون الشريعة. وهكذا صارت "تقاليد الشيوخ" (كانت فرائض الشريعة جزءاً منها) مبدأ تفرقة. ولكن شريعة الله تقود إلى البر، إلى الحياة بحسب ارادة الله، إلى تجميع شعب الله.
إن الفريسيين والكتبة الذين يطبّقون في حياتهم اليومية فرائض الطهارة المطلوبة من الكهنة، يلومون تلاميذ يسوع لأنهم لا يتبعون "تقليد الشيوخ" ويأكلون بأيدٍ نجسة. فبرهانهم هو أن الايدي النجسة تنجّس الطعام وبالتالي تنجّس الإنسان.
ظنّ مرقس أن عليه أن يقدّم شرحاً لهذه العادات (الغريبة) على قرّائه المسيحيين الآتين من العالم الوثني (الهلنستي): أدخل هذا الشرح في اعتراضة (آ 3- 4) وضعها بين ملاحظة الفريسيين والكتبة وبين السؤال اللائم الذي طرحوه. إن الانجيلي يضخّم الامور حين ينسب "إلى جميع اليهود" ممارسة خاصة بالفريسيين، ويتحدّث (بطريقة فيها بعض الاحتقار) إلى سائر العادات التقليدية مثل "غسل كؤوس وجرار وقصاع نحاس" (آ 4).
قد يكون استلهم شرحه من قول آخر ليسوع أورده متّى ولوقا: "الويل لكم، أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنكم تطفرون الكأس والاناء. وأما في الداخل فأنتم مملوءون خطفاً وشراً. أيها الفريسي الأعمى! طهّر اولاً داخل الكأس والاناء، فيصبح الخارج طاهراً أيضاً" (مت 25:23-26؛ رج لو 11: 39- 40).
كان مرض قاسياً، ولكنه وصل إلى النتيجة المرتجاة: فالحالة الخاصة التي كانت في أساس الجدال (أكل الطعام بأيدٍ غير مغسولة)، إتخذت قيمة عامة. والسؤال الذي طرحه الكتبة والفريسيون قد عُولج في العمق. فالموقف تجاه الشريعة الذي يظهر في "تقليد الشيوخ" والذي اسمه الشريعانية الفتاوية (جمع فتاوى) قد نُزع القناع عنه. هو قداسة كاذبة. هو رياء. إن تقليد الروح الشريعاني (تعلّق مفرط بالشريعة) يبقى في الخارج، يبقى عند النجاسة المادية.
في نظر يسوع وفي نظر الكنيسة كل شريعة هي مشجوبة بفم النبي أشعيا الذي يدين عبادة خارجية لا قلب فيها. فالعبادة الخارجية قد تُصلي حرباً بين وصيّة الله وخلاص البشر. ولكن وصية الله أعطيت لخلاص البشر. وهذا ما يفهمه الإنسان الذي لا يجعل قلبه بعيداً عن الله. أما تفوّق يسوع (كما نكتشفه هنا بشكل غير مباشر) فمبنيّ على قرب قلبه من الله.
خاتمة
نقلت الجماعة نصوصاً مثل مر 7: 1-23، لأنها شعرت بالخطر يهدّد تقواها الكاذبة. فالانجيلي يرى أن أهمية التقليد تكمن في تدمير الحواجز التي تعارض الشريعة، وفي تقبّل وصية الله. وهذا ما يصل بالجماعة إلى الوحدة بين اليهود واليونانيين، يصل بها إلى العبادة "بالروح والحق" (يو 4: 23). إن فرائض الناس تفرّق بين الناس وتفصلهم عن الله. أما وصية الله التي أجملها يسوع وبسّطها (2 1: 28-33) فهي توحّد البشر بعضهم ببعض، وهكذا تضمّهم إلى الله