الفصل الخامس والعشرون
تسكين العاصمة
4: 35- 41
خبر العاصفة خبر واضح ومليء بالمعاني. ولكن إن أردنا أن ندرك كل غناه الروحي واللاهوتي فنحن نحتاج إلى الشروح. من الضروري هنا، أكثر مما في مقطوعات أخرى، أن نكتشف عالم التصوّرات والأفكار التي يتضمن هذا الخبر. بعد هذا نحاول أن نتبيّن التلميحات البيبلية التي تحيط به وتنيره. وفي مرحلة أخيرة نستطيع أن ندرك التقديم الأدبي واللاهوتي في إنجيل القديس مرقس.
1- موضوع البحر في العالم السامي
يقع المشهد على بحيرة، على بحيرة بسيطة، بحيرة صغيرة وضيّقة. والمقطع الذي ندرس يحدّثنا عن البحر! هل نحن أمام خطأ فادح من قبل الإنجيليين؟ هل جهلوا إلى هذا الحدّ طوبوغرافية بحيرة الجليل، أم راحوا يضخّمون الأمور بطريقة تجعل الناس يهزأون بهم؟ ويعارض لوقا متى ومرقس فيتكلّم فقط عن "البحيرة" وعن "الماء". لقد استبعد كل ذكر للبحر. هكذا أراد لوقا أن يصحّح ويقوّم التقليد الإنجيلي. يبدو أن لوقا لم يتشرّب، شأنه شأن مرقس ومتى، غنى التصوّرات السامية، فكيّف خبره مع روح قرّائه اليونان وخضع للعقلية الهلنستية (الحضارة اليونانية). وإذا كان مرقس قد احتفظ بموضوع البحر مع كل غناه، لا بدّ لنا في دراستنا هذا المقطع، أن ندخل في هذا العالم من التصوّرات السامية، إلى مجمل المدلولات الحسية والعقلية والرمزية والروحية التي تعطي هذه الكلمة (البحر) لوناً خاصاً في العقلية اليهودية.
في العقلية العبرية، كل مساحة مياه، سواء كانت بحراً أم بحيرة، تسمّى بالتسمية عينها. إذن، من الطبيعي أن نطبّق على البحيرة اللفظة التي بها نسمّي البحر عادة. ثم إننا نجد في كل مخيّلة سامية تصورات قديمة خاصة بالحضارة التي عاشت فيها هذه الشعوب. وهذا ما نعرفه بواسطة الكوسموغونيات (ولادة الكون) البابلية والفينيقية، ونجد له آثاراً أدبية في التوراة. لا شكّ في أن الكتاب الملهم ظلّ بعيداً عن السطر (فكرة في صورة) الوثنية. في هذا الإطار نقرأ نشيد الخلق في تك 1، ولا سيما آ 21 التي تتحدّث عن خلق التنانين البحرية (خلق الله الحيتان الضخمة. كانت مؤلّهة عند بعض الشعوب).
ولكن إذا أردنا أن نفهم كل التلميحات البيبلية إلى البحر الذي هو الغمر العظيم بتنانيه الهائلة، نعود إلى هذه الكوسموغونيات القديمة التي تصوّر الخواء الأولاني بشكل مياه تغمر كل شيء، وتصوّر عمل الخلق بشكل صراع الآلهة ضدّ الوحوش التي خرجت من البحر فصارت جزءاً من قوّته. حينئذٍ ندرك أهمية ومدلول المياه المذكورة في تك 1: 2: توه وبوه، أي تيامات، وهو اسم البحر عند البابليين بصفته شخصاً فاعلاً. ونفهم عمل الله الخلاّق الذي يمارس سلطانه على البحر (تك 1 :6- 10: لتجتمع المياه. الله يأمرها وهو سيّدها. يبعد الفوضى عن الكون). ونستشفّ المعنى الديني للوحوش البحرية التي تذكر باسم لاويتان. نقرأ في أش 27: 1: "في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لاويتان الحية الهاربة (أو: المدهشة، أو: المؤذية)، لاويتان الحية الملتوية، ويقتل التنين الذي في البحر". لاويتان هو لوتان في أناشيد أوغاريت (القرن الرابع عشر ق. م.). والتنين يبدو بشكل حيّة هائلة (عا 3:9). ونقرأ في مز 73: 13- 14: "شققت البحر (يم في الميتولوجيات هو إله) بقدرتك (أي: أخضعته)، وكسرت رؤوس التنانين على المياه. أنت رضضت رؤوس لويتان، وجعلته (كالسمكة) مأكلاً لحيتان البحر".
وما قلناه عن لاويتان نقوله عن رهب ذاك التنين الاسطوري (أش 7:30؛ 9:51- 10). وهنا نفهم قساوة سفر الرؤيا على البحر الذي يوازي الموت والجحيم (أي: مثوى الاموات). فهو سيزول ليترك المكان للخليقة الجديدة. "وألقى البحر الأموات الذين فيه، وألقى الموت والجحيم الأموات الذين فيهما... ورأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد زالتا. والبحر لا يكون من بعد" (رؤ 13:20-1:21).
إذن من بداية البيبليا إلى نهايتها، يمثّل البحر كالخواء الذي تخرج منه، القوى المعادية لله والإنسان. فإذا أراد الله أن يخلق أو يعيد خلق العالم، عليه أولاً أن يتغلّب على هذا العنصر ويسيطر عليه. وهذه الغلبة تتعدّى كل قوى البشر. فقوّة الله الخلاّقة وحدها تستطيع أن تفرض "قانونها" على الأمواج الهائلة وتخلّص البشر من العاصفة. "أمر فثارت ريح عاصفة وهيّجت أمواج البحر، فكانت تعلو إلى السماء وتهبط بهم إلى الأعماق، فترجّحت حياتهم في الخطر. ترنّحوا ومالوا كالسكارى، وكل حكمتهم ذهبت عبثاً. فصرخوا إلى الرب في ضيقهم، فأنقذهم من سوء حالهم. هدّأ الزوبعة فسكنت وسكتت أمواج البحر. ففرحوا حين سكنت وهداهم إلى ميناء أرادوها" (مز 107: 25- 30).
أمام هذا الضيق وهذه الصلاة لدى شعب يخاف من البحر، نكتشف الخوف من القوى المعادية للإنسان، والثقة التامة بالله الخالق والمخلّص.
هذه الملاحظات كانت ضرورية لنفهم ما يثيره موضوع البحر من صور وأفكار وعواطف في قلب الإنجيليين. وهكذا لن يعود خبر العاصفة المهدّأة خبراً بين الأخبار يروي إحدى عجائب يسوع. بل هو يتقبّل مدلولاً خاصاً. لقد شدّد مرقس حسب عادته ثلاث مرات على اتّساع العاصفة، على الهدوء والخوف، فأبرز عظمة هذا الحدث غير العادي. لا شكّ في أن فعلة المسيح هذه دخلت في قلب الرسل والإنجيليين ففهموها ورووها كدلالة على قدرة الله التي تخلق وتستعيد عمل الخلق. فالحرب ضدّ الخواء، ضدّ البحر والغمر العظيم، والإنتصار على قوى الشرّ اللاجئة إلى المياه، كل هذا ينتمي إلى عمل الله الخالق والفادي. هنا نكتشف المسيح الخالق، ذاك الذي هو الابن الذي جاء يفتقد كرمة أبيه (12: 1- 12)، والمسيح الذي يتصرّف كسيّد مطلق في هيكل الكون (15:11- 17)، وصورة الله غير المنظور الذي به وفيه خُلق كل شيء (كو 1 :15 ي)، والكلمة (لوغوس) الذي به كان كل شيء (يو 1: 1 ي). هنا نكتشف أيضاً ابن الله ومخلّص الخليقة كلها (15:16): فهو بفعلة محدودة ولا شك، ولكنها فاعلة ونبوية، يأمر بسلطانٍ الرياحَ والبحر. فبهذا العمل الخلاصي أعلن وهيّأ ودشّن الحرب الحاسمة التي يشنّها على قوى الشرّ والموت. في هذا المنظار نفهم كيف أن المسيح توجّه إلى البحر بذات الكلمات التي استعملها لكي يحارب الشياطين (25:1). ونفهم أيضاً دهشة الرسل أمام هذه الفعلة التي تشكّل بالنسبة إليهم تيوفانيا (ظهور الله) حقيقية.
2- آية يونان
هناك مشابهات عديدة بين خبر العاصفة وبداية سفر يونان. ولهذا سوف نقرأ هذه الآيات التي تدلّنا على التقارب بين الاثنين: "نزل يونان فوجد سفينة سائرة إلى ترشيش... فنزل فيها. فحرّك الرب ريحاً شديدة على البحر فثارت زوبعة عظيمة كادت تحطّم السفينة، فخاف الملاّحون وصرخوا، كل واحد إلى إلهه... أما يونان فنزل إلى جوف السفينة واضطجع واستغرق في النوم. فاقترب منه القبطان وقال له: ما بالك مستغرقاً في النوم؟ قم ادعُ إلهك لعلّه يفكّر فينا فلا نهلك... خاف الملاّحون خوفاً عظيماً... كان البحر يزداد هياجاً... فصرخوا إلى الرب وقالوا: أيها الرب، لا تهلكنا بسبب هذا الرجل... ثم حملوا يونان وألقوه في البحر، فوقف البحر عن هياجه. فخاف الرجال الرب خوفاً عظيماً" (يون 1: 3-16).
لا شكّ في أننا حين نروي خبر عاصفة نستعمل ذات الكلمات. ولكن التقاربات بين سفر يونان والخبر الإنجيلي هي عديدة جداً بحيث يبدو من الصعب أن نرجع كل شيء إلى مجرّد صدفة. نحسّ أن الإنجيليين رووا خبر تهدئة العاصفة وهم يفكّرون في يونان. وهذا الشعور يصبح واقعاً حين نتذكّر أن التقاليد الإنجيلية عرفت مقابلة واضحة بين يسوع ويونان: "فكما بقي يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالي، كذلك يبقى ابن الانسان في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ (مت 39:12- 40؛ رج 4:16؛ لو 11 :30).
وهكذا يعيدنا النصّ بهذه التلميحات إلى صراع المسيح ضدّ قوى الموت. ويرى الإنجيلي، عبر هذا الخبر، العاصفة الكبرى التي تهدّد يوم الجمعة العظيمة، بأن تبتلع يسوع الذي نام في الموت، والرسل الذين صار إيمانهم كنار كادت تنطفىء!
3- إيمان بالمسيح سيّد العاصفة
والآن نستطيع بواسطة مقابلات منيرة بين متى ومرقس، أن ندرس قرائن النص في الإنجيل الثاني ونحلّل غناه الأدبي واللاهوتي.
أ- قرائن النص
قبل أن يروي متى خبر تهدئة العاصفة، فهو يصوّر الموقف المتردّد لدى تلاميذ عديدين لا يستطيعون أن يوافقوا حياتهم مع متطلّبات المسيح (مت 8: 19- 22). إن هذا السياق المباشر والعبارات العديدة (مثلا، تبع) المشتركة بين المقطعين، تظهر بوضوح أن متى أراد أن يعطينا هنا تعليماً عن إيمان التلميذ: حين يتبع يسوع عبر العاصفة، فهو يضع فيه كامل ثقته.
إننا لا نجد هذا الإطار المتاوي الواضح والمعبّر عند مرقس بشكل مباشر. ولكن إذا أردنا أن نفهم كل مدلول هذا الحدث في الإنجيل الثاني، يجب علينا أن نحدّد موقعه في القسم الأول من إنجيل مرقس (14:1- 30:8). فهذا القسم يتركّز على سؤالا يجب أن يطرحه كل إنسان على يسوع: "من أنت"؟ ويهدف هذا القسم إلى أن يكشف سرّ يسوع من خلال رسالته. وهو يجد ذروته في اعتراف بطرس بالمسيح (27:8- 30) قبل أن يعرف إنطلاقة جديدة مع شك الآلام (8: 31- 33: وبدأ يعلّمهم أن ابن الانسان يجب أن يتألم كثيراً). غير أن هذا الاعتراف تهيّئه المقطوعة التي ندرس (تهدئة العاصفة) والتي تشكّل قطعة أساسية في كشف يسوع عن نفسه. فهتاف التلاميذ في 4: 41 (من هذا؟ حتى الريح والبحر يطيعانه) يفسّر لا كتساؤل بسيط، بل كإعجاب ودهشة أمام سر يسوع الذي يتصرّف بقدرته الإلهية.
غير أن هذا القسم الأول من إنجيل مرقس ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول (1: 14- 3: 7) يصوّر يسوع الذي يسعى إلى إظهار رسالته الحقيقية أمام الجموع. في الجزء الثاني (3: 8- 6: 6 أ) "صنع" يسوع تلاميذه ليمدّوا رسالته إلى البعيد. في الجزء الثالث (6: 6 ب- 8: 30) أطعم يسوع الجموع الكبيرة، وكان موت يوحنا المعمدان مقدّمة لموته. أما المقطوعة التي ندرس فهي في الجزء الثاني: إن التعليم بالأمثال الذي يسبق تهدئة العاصفة يضع حداً فاصلاً بين الذين هم في الخارج فيبقى كل شيء لهم لغزاً (سراً) وبين الذين هم في الداخل، أي التلاميذ الذين يقدّم إليهم المعلّم تفسير أمثاله ويفتحهم على سرّه. وفي خبر العاصفة الذي يبدو "مثلاً" به يعلّم يسوع تلاميذه من خلال عمله (هناك لقب "معلّم" في آ 38. قال الرسل ليسوع: "يا معلّم")، يشبه التلميذ الحقيقي الأرض الطيّبة التي تتقبّل الزرع وتنفتح بشوق على وحي السرّ. بالإضافة إلى ذلك، على التلميذ أن يتبع المعلّم بإيمان، وذلك عبر الأخطار التي يرمز إليها البحر والريح.
ب- تحليل المقطوعة
أولاً: خوف من العبور
ما يلفت انتباهنا في الآيات الأولى من هذا الخبر، هو تكديس العبارات والصور التي تخلق مناخاً من الضيق والخوف (هناك أزمة في القلوب). فعبارة "في ذلك اليوم" ليست عبارة حيادية. بل هي تدلّ على يوم الرب (في التوراة) مع كل الكوارث والمحن التي تسبق إنتصار الله في نهاية الأزمنة. "عند المساء". هي ساعة الظلمة، والدعوة للعبور إلى الشاطىء الآخر. هو العبور إلى العالم الوثني. لا نبقى في العالم اليهودي مهما كانت الصعوبات التي تعيق هذا العبور.
وفي آ 37: العاصفة تهب. الأمواج تضرب السفينة (القارب) التي تمتلىء ماء. نحن في مناخ المحنة والخطر. ولكننا لسنا أمام حادث عادي: فالمشهد يحصل على البحر، على الغمر الأولاني الذي تلجأ إليه قوى الشرّ. وها هي تتحرّك لتبتلع ابن الله والرجال الذين جاؤوا معه، تبتلع ابن الله الذي جاء يخلّص العالم. وتقف بوجه هؤلاء الذاهبين إلى العالم الوثني ليحملوا إليه الإنجيل.
حين نعرف إلى أيّ حدّ تغذّت مقاطع الإنجيل خلالا الكرازة الأولى وتأثّرت بأخبار الآلام والقيامة، نرى في هذا المشهد العاصفة الحقيقية التي هبّت على يسوع والتلاميذ يوم الجمعة العظيمة. وإذا عدنا إلى نفوسنا، هناك عاصفة نواجهها كل يوم حين نواجه محن الحياة. وحين يأتي المساء فتهدّد قوى الموت بابتلاعنا وجرفنا إلى الغمر العظيم، نصرخ إلى الرب، ولا نخاف العبور إلى الشاطىء المقابل.
ثانياً: رقاد المسيح وموت الله
ساعة كان القارب والراكبون فيه في خطر، كان يسوع نائماً. هناك نظرة أولى إلى يسوع الذي يستطيع أن ينام وسط العاصفة. هناك التعب، وهناك بنية رجل يتحدّى صعوبات الحياة. ولكن النظرة الثانية هي أعمق بكثير. فنوم المسيح هو صورة عن موته، ورمز إلى غيابه بالجسد (بعد قيامته وصعوده، سيكون يسوع غائباً بالجسد عن كنيسته).
إن التوراة تتكلّم مراراً عن الموت بلغة الرقاد. مثلاً، إبتهل المرتّل إلى الله فقال له: "أنر عيني فلا أنام نومة الموت" (مز 13: 4). ونقرأ في دا 12: 2: "كثير من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون... للحياة الأبدية" (يستيقظون، يقومون من الموت). ويستعيد العهد الجديد هذه الإستعارة. فيتحدّث بولس عن الذين "رقدوا (ماتوا) في، يسوع" (1 تس 4: 14). ويقابل بين الأحياء والراقدين (آ 15)، بين الساهرين والنائمين (5: 10) أي بين الأحياء والموتى (رج أف 5: 14؛ يو 11: 11- 14؛ مر 5: 39- 41). وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الناحية، نجد نفوسنا مرة أخرى أمام آلام المسيح وموته.
بيد أن موضوع الرقاد (النوم) يُستعمل في التوراة أيضاً ليدلّ على لامبالاة الله وغيابه الظاهر. مثلاً، يحاول المرتّل الذي أحسّ نفسه متروكاً، أن يوقظ الله: "أفق. لماذا تنام يا رب؟ إنهض. لا تخذلنا إلى الأبد" (مز 44: 24). وفي مكان آخر يلمّح النبي إلى الخروج من مصر (يصوّره بصور كوسموغونية) فيربط بين قدرة الله الخلاّقة (وخصوصاً انتصاره على المياه، على الغمر الأولاني وتنانينه البحرية) وعمله الخلاصي في وقت الخروج و"استيقاظه" الآن (بعد أن كان نائماً): "إستفيقي! إلبسي الجبروت يا ذراع الرب. إستفيقي كما في القديم، كما في غابر الأجيال. أنتِ التي قطعتِ رهب وطعنت التنين طعناً. أنت التي جفّفت البحر، مياه الغمر العظيم، فجعلت أعماقه طريقاً ليعبر فيه المفتدون" (أش 51: 9- 10).
إذن نلاحظ أن لاهوت "رقاد الله" (أو: موت الله) يعود إلى العهد القديم. نحن هنا أمام موقف يوافق وضع البشر في كل مكان: فالإنسان الديني هو ضعيف، جاهل، مهدّد من كل جهة. يدعو الرب. ولكن يخيب أمله حين لا يتجلّى الله في الأسباب الطبيعية. حينئذ يظنّ أن الله نائم. وبعد أن ينتقل من سراب إلى سراب يطرد من قلبه كل عاطفة دينية ويحصر نفسه في هذه الأرض.
ولكن بدل هذا السراب وهذه الآمال الخائبة وهذه الحلول المحدودة هناك طريق أكيدة ولكنها صعبة. طريق يقدّمها الكتاب المقدس وخصوصاً هذه المقطوعة التي ندرس. حين نتبع حركة وحي الله، لا بدّ من أن ننقّي موقفنا لنقود إلى الإيمان المسيحيَّ الحقيقي. ننظر مثلاً إلى موسى: أراد أن يسجن نفسه داخل المقولات الحسية. فطلب من الله أن يريه مجده. طلب بجرأة دينية تكشف عن توق الإنسان العميق إلى الله. فجاءه الجواب: "لا تستطيع أن ترى وجهي. فالإنسان لا يستطيع أن يراني ويبقى على قيد الحياة" (خر 33: 20). ولكن الرب حمى موسى بيده، وقَبِل أن يمرّ أمامه. قال له: "ثم أزيح يدي فتنظر ظهري. أما وجهي فلا تراه" (خر 33: 23).
شعب إسرائيل هو مثل موسى. أراد من الله أن يخلّصه، أن يتدخّل بشكل بشري. وسيحتاج إلى خبرات ومحن عديدة لكي يفهم أن الخروج الحقيقي، الخلاص الحقيقي، ليس عبور البحر الأحمر، بل العبور إلى الله. وسيفهم الرسل في العاصفة أن العبور الحقيقي إلى الشاطىء المقابل هو موت المسيح المتروك وحده (ظاهراً) بين الأرض والسماء. وهناك عبور سيعيشونه حين يعرفون الإضطهاد الذي أشار إليه مرقس مراراً حين دوّن إنجيله.
في هذه الظروف، هل نحسب الله غائباً، نائماً، مائتاً؟ كلاّ ثم كلاّ. هو حاضر وفاعل أكثر من أي شيء وأي شخص في العالم. وحضوره عميق جداً، ونحن لا ندركه إن لم يتحوّل إندفاعنا إلى إيمان بعد أن يتنقّى في كل مراحله. ولا نتحدّث عن أي إيمان، بل عن إيمان يتجذّر في المسيح، أي يتقبّل الموت ليبلغ إلى القيامة. وبكلمة أخرى، إن الخلاص الذي نؤمن به لا يجعلنا نفلت قبل الوقت من المحن التي تلازم وضعنا البشري. بل يجعلنا عبر العالم وعبر حرّيتنا نتعلّق بالله ونستسلم له. الله ليس ميتاً. ولكن يجيب أن "نميت" (ننقي) فكرتنا عنه وعن عمله. لقد مات كلمة الله المتجسّد، ولكنه قام. إختفى من عالمنا المحسوس ولكنه يفعل الآن بكل قوة الروح. في هذا المنظار نفهم المدلول اللاهوتي لرقاد المسيح.
ثالثاً: إيمان بالمسيح الذي مات وقام
هناك صرخة الرسل الذين أيقظوا يسوع: "يا معلّم، أما يهمّك أننا نهلك" (آ 38)؟ قد نفهم هذه الصراخة لوماً جريئاً وعتاباً محباً. ولكن يجب أن نفسّرها "قلة إيمان". خاف التلاميذ: فيسوع النائم لا يستطيع أن يخلّصهم! بل أكثر من ذلك: لم يفهموا أن الخلاص الذي يحمله المسيح، لا يلغي المخاطر والعواصف، بل يمرّ حتماً عبر الآلام والموت.
عند متى، صرخ التلاميذ: "يا ربّ، خلّصنا. فقد هلكنا" (8: 25). هذا التعبير القريب من دعائنا "كيرياليسن" (أي: يا رب إرحم) ويعكس تأثيراً ليتورجياً يعطي هذه الصرخة بُعداً شاملاً وحالياً. ولكن صلاة الرسل (وصلاتنا الآن) قد تفسرّ في شكلين مختلفين: إما تعبّر عن ثقة تامة بالمسيح المخلّص. وإما تدلّ على قلق واضطراب، على رغبة بالنجاة دون مرور في المحنة.، يبدو أن مرقس يتوقّف عند الشكل الثاني: فالمسيح يوجّه توبيخاً إلى تلاميذه. هذا يدلّ على أن اتكالهم عليه كان ضعيفاً.
وهذا التوبيخ قاس جدّاً عند مرقس: "أما عندكم إيمان بعد" (آ 40)؟ (أين إيمانكم؟). يعبّر متى ولوقا عن هذا اللوم بشكل يختلف بعض الشيء عما في مرقس، وبطريقة أقلّ قساوة. قال لو 8: 25: "أين هو إيمانكم"؟ فدلّ على أن هذا الإيمان موجود ولكنه لا يعرف كيف يظهر. وقال مت 8: 26: "يا قليلي الإيمان"! وهذا يعني أن للرسل بعض الإيمان (عند مرقس: لا إيمان عندهم!).
إذا قابلنا مرقس مع متى ولوقا، نرى قساوة كلمة يسوع. ولكن هناك أوقاتاً في حياة الرسل استحقوا فيها مثل هذا التوبيخ: أما هربوا وشكّوا حين أوقف المسيح وحُكم عليه بالموت؟ وكان ارتيابهم عميقاً جداً بحيث رفضوا أن يصدّقوا أول الشهود على ظهورات المسيح القائم من الموت. حين صوّر لوقا (24: 21-24) موقف تلميذي عمّاوس بما فيه من إرتياب وخيبة أمل، دلّ في الوقت عينه على الحالة السائدة بين الرسل. ونهاية مرقس (16: 9- 20) ستشدّد على شكّ الرسل وحيرتهم وضياعهم: كرّر مرتين أن أول الشهود للقيامة حملوا البشرى إلى الرسل، ولكن الرسل لم يصدّقوا أحداً. حينئذ ظهر المسيح نفسه "ولامهم على قلّة إيمانهم (على لا إيمانهم) وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يصدّقوا الذين شاهدوه بعدما قام" (16: 14). إذا كان مرقس قد فكّر في لا إيمان الرسل حين أورد حدث تسكين العاصفة، حينئذ نفهم أن يكون وضع في فم المسيح توبيخاً قاسياً بسبب قلّة إيمانهم.
وعبر هذا الحدث نستشفّ عاصفة كبرى، هي عاصفة الآلام التي ضربت قارب الجماعة الرسولية (الصغير)، هي حيرة الرسل حين رقد المسيح رقاد الموت. ولكن تجاه قوى الخواء، تجاه الشرّ والموت الذي يدلّ عليه البحر، تجاه كل هذا، قام يسوع بقدرته الإلهية. نحن ننتقل معه في القارب إذ يهاجمنا خطر الموت والغرق. وحين ينهض المسيح من نومه ويسكت العدو، يخلّصنا كلنا معه. ولكن عبر هذه الآية العجائبية، يجب أن نرى كيف يتحقّق خلاصنا.
نتيقّن هنا أولاً أننا مخلّصون، لأن مصيرنا مرتبط بمصير المسيح. ونعرف ثانياً ضرورة الانتقال روحياً وحقيقياً عبر عاطفة الموت لنصل إلى الخلاص.
خاتمة: المسيح والإيمان الحقيقي
وهكذا نكتشف إتجاهين في هذه المقطوعة التي درسناها. الأول كرستولوجي. استعمل مرقس الخلفية البيبلية، وصوّر يسوع الذي يحقّق آية يونان في أعماق الغمر ويهدىء البحر بقدرته الخلاّقة، فقدّم لنا موت المسيح ومجده الفصحي. والثاني هو ضرورة الإيمان. في جزء مخصّص لتربية التلاميذ، بدا الرسل يقاذفهم الشك ويوبّخهم يسوع.
شدّد متى على الوجهة الكرستولوجية. تحدّث عن العاصفة فسماها "سايسموس" ولكنه استعمل هذه الكلمة ليصوّر أحداث النهاية (مت 24: 7) ولا سيما موت المسيح (مت 27: 54) وقيامته (مت 28: 2). وحين صوّر يسوع ناهضاً استعمل فعل "اغايرو" الذي يدلّ أيضاً على قيامة المسيح (أع 13: 22، 23، 30، 38؛ أف 5: 14). وشدّد أيضاً على تربية إيمان التلاميذ الذين دعوا ليتبعوا يسوع عبر العاصفة. فمن خلال عاصفة على بحيرة الجليل، وبعد موت يسوع وقيامته، هناك عاصفة أخرى هي الاضطهادات الأولى التي يعرفها المسيحيون.
إن اتّباع يسوع في العاصفة، اليوم وغداً، يعني أن نتبعه في موته وقيامته. من خلال قدرة الله الخلاقة والتلميحات إلى يونان ونهاية الخبر، نكتشف شخص المسيح ورسالته. ولكن تمجيد يسوع كالمخلّص والرب يبدو كشهادة إيمان الرسل. ويشكّل في الوقت عينه دعوة إلى الإيمان المسيحي الذي يمرّ بالصليب والقيامة