الفصل الرابع والعشرون
مثلان عن الملكوت
4: 26- 34
يتضمّن فصل الأمثال (4: 1-34) قسمين كبيرين: قسم يرد فيه مثل الزارع (آ 3-8) مع تفسيره (آ 14- 20). وقسم يرد فيه مثل الزرع الذي ينمو وحده (آ 26- 29) ومثل حبة الخردل (آ 30- 32). بالإضافة إلى هذا، نجد إعلاناً حول هدف الأمثال (آ 11- 12) ومثلين صغيرين (السراج، الكيل) يتحدّثان عن مسؤولية السامعين (آ 21- 25). وفي النهاية نجد خاتمة تدلّنا كيف استعمل يسوع أسلوب الأمثال في تعليمه (آ 33- 34). إن هذه الأقسام الصغيرة المتكاملة تدلّ على الطريقة التي بها نظر الإنجيلي إلى الأمثال.
نتساءل: ماذا أراد يسوع أن يقول لنا في هذين المثلين؟ ثم نفهمهما في إطار رسالة يسوع. وننتهي عند نظرة القديس مرقس حين أورد مثل الزرع الذي ينمو (آ 26-39) ومثل حبة الخردل (آ 30- 32).
1- الزرع الذي ينمو وحده
أ- الخبر
ونبدأ بعبارة المقدمة: هكذا هو ملكوت الله: مثل رجل. إذا عدنا إلى لغة الرابانيين، نفهم أن المثل لا يقابل الملكوت برجل، بإنسان. إنه يقدّم حقيقة ترتبط بالملكوت بواسطة خبر يلعب فيه هذا الرجل دوراً هاماً. في مثل هذه الأمثال، تقدّم نهايةُ الخبر صورةً تشير بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الملكوت. وفي الحالة التي ندرس، يشبه مجيءُ الملكوت ما يحدث في زمن الحصاد (آ 29).
إن البذار (الزرع) المذكورة في آ 26 تشكّل مقدّمة بسيطة. لهذا لا نتوقف عندها. فالانتباه يتركّز كله على حقبة نموّ الزرع (نموّ القمح) (آ 27-28). ويطيل الكاتب حديثه عن المراحل المختلفة (العشب، السنبل، القمح). غير أن الإهتمام يتعلّق بتصرف الزارع أكثر منه بالنموّ المتدرّج. فبعد أن قام بعمل الزراعة، عاد إلى حياته العادية: "نام في الليل، قام في النهار". ليس مجبراً أن يهتمّ بالقمح. فهو ينمو وهو "لا يدري كيف"، دون أن يهتمّ له. فالأرض تعمل عملها. فهي من ذاتها تثمر (تخرج الثمر). ويشدّد النصّ: خلال وقت النمو لا يعمل الفلاّح شيئاً في حقله. كل شيء يسير دون أن تحتاج الأرض إليه.
ويتبدّل الوضع فجأة في آ 29. "ولكن حين ينضج القمح". ثم تأتي أداة: "في الحال . فبعد فترة طويلة لم يفعل فيها الفلاّح شيئاً، ها هو يتدخّل حالاً في وقت الحصاد. يبقى الإنتباه مركّزاً على الفلاّح، على التحوّل الذي تمّ عنده: لم يفعل شيئاً خلال النموّ. ولكنه سيتدخّل وقت الحصاد.
ب- تطبيق المثل
إذا أردنا أن نفهم إلى أين يقودنا الخبر، ننطلق من الإشارة الأخيرة التي تبدو شفّافة. نقرأ كلمات الخاتمة: "يُعمل المنجل حالاً لأن الحصاد هو هنا" (قد جاء أوانه). نجد في هذه الكلمات إيراداً ضمنياً من يوء 4: 13: "أعملوا المنجل فالحصاد هنا" (نضج). نحن في مقطع معروف يعلن فيه النبي الحكم الذي يعلنه الله في وادي يوشافاط ضدّ الأمم الوثنية (يوء 4: 12- 16). ويلمّح رؤ 14: 14- 16 إلى هذا النصّ أيضاً: "خذ منجلك واحصد لأن ساعة الحصاد جاءت، لأن حصاد الأرض نضج. فألقى الجالس على السحابة منجله على الأرض فحصد الأرض". يكفي ما أوردناه الآن. ساعة الحصاد التي تتكلّم عنها نهاية المثل هي الدينونة العامة في نهاية الأزمنة. وتدخّل الفلاّح في ذاك الوقت يشير إلى تدخّل الله في نهاية الأزمنة (الاسكاتولوجيا).
وننتقل الآن إلى الفترة الطويلة التي تسبق الحصاد والتي فيها لا يهتمّ الفلاّح بحقله. فانطلاقاً مما رأينا، سيساعدنا تصرّف الفلاح على فهم تصرّف الله. ونجد تأكيداً على ذلك حين نعرف أننا أمام مثل من أمثال الملكوت: كما أن مجيء ملكوت الله لا يمكن أن يكون إلا عمل الله، فالشخص الرئيسي في هذه الأمثال يعطينا صورة طبيعية عن الطريقة التي بها يتصرّف الله لكي يقيم ملكوته.
إذن، يفترض مثل الزرع الذي ينمو وحده، أن يسبق تدخّلُ الله ساعةَ الدينونة. هي حقبةٌ فيها يترك الله الأمور تسير مسارها، فنحسّ وكأنه لا يبالي بما يحدث في حقل هذا العالم. فالأهمية المعطاة لهذا الوقت الذي فيه ينعدم النشاط (في المثل)، تجعلنا نفكّر أن ما قاله يسوع يتلاقى واهتمامات سامعيه. فالوضع الذي يفترضه هذا المثل نجده في مقاطع عديدة من الإنجيل، وخصوصاً ذاك المقطع الذي فيه يندهش يوحنا المعمدان من تصرّف يسوع (مت 11: 2-6). أعلن يسوع أن مجيء ملكوت الله صار قريباً. والناس يعرفون كلهم أن إقامة الملكوت تبدأ بدينونة تقتلع من أرض اسرائيل كل الخطأة، لأنهم لا يستحقّون أن يشاركوا في خيرات الملكوت. إذن، إن كان الله قد قرّر إقامة ملكوته على الأرض (كما قال يسوع)، لماذا لم نرَ بعد شيئاً من الدينونة الرهيبة التي تهيّىء الطريق لهذا الملكوت؟
وإذ أراد يسوع أن يجيب على هذه الصعوبة، لجأ إلى مقابلة. الله يفعل مثل الفلاّح الذي لا يتدخّل في حقله قبل ساعة الحصاد. ولكن لا نخطىء: فهذه الحقبة من رسالة يسوع التي فيها يبدو الله وكأنه يهمل العمل الذي بدأه، هي تلك التي تسبق الحصاد الاسكاتولوجي. فحين فسَّر يسوع لسامعيه "جمود" (لا يفعل شيئاً) الله الذي يدهشهم ويشكّكهم، فهو يدعوهم في الوقت عينه لئلاّ يرتابوا في أن المرحلة الحالية، مرحلة رسالته على الأرض، تشكل الحقبة الأخيرة في تاريخ الخلاص. وهذه الحقبة تسبق بشكل مباشر تدخّل الله النهائي لكي يمارس الدينونة ويقيم ملكه بشكل نهائي.
إن التعارض الذي يقابل صغر الزمن الحاضر مع الطابع الكبير للأحداث الاسكاتولوجية، لا يختلف عن التعارض الذي يقابل جمود الفلاّح خلال نموّ الحنطة مع التدخّل المفاجىء في زمن الحصاد. وهذا التعارض هو تعارض بين زمنين متعاقبين. وخطورة الساعة التي نعيشها في تاريخ الخلاص تأتي من العلاقة التي توحّد رسالة يسوع بأحداث النهاية. هذا يعني أن المصير النهائي لكل إنسان يرتبط بموقف يتخذه من رسالة يسوع.
2- حبّة الخردل
أ- الخبر
وصل إلينا هذا المثل في شكلين مختلفين. شكل يمثّله مرقس، وآخر يمثّله لو 13: 18- 19. أما نصّ مت 13: 32، فهو على ما يبدو حصيلة الدمج بين الشكلين. أما الإختلاف الجوهري فيعود إلى طريقة مرقس في استعمال الفن التصويري: هو يتحدّث عن الطريقة التي بها تحصل الأمور بشكل عادي. أما لوقا فاستعمل الفن الإخباري: روى ما حصل مرة من المرات لإنسان رمى في بستانه حبة خردل.
إن الحكم على أسبقية شكل على آخر يرتبط بالفكرة التي نكوّنها عن العلاقة بين هذا المثل ومثل الخمير في مت 13: 33 ولو 13: 20- 21. يبدو مثل الخمير بشكل خبر. إذا كان المثلان قد ضمّا منذ البداية، وجب أن يكون لهما الشكل الإخباري الواحد. وإذا كانا قد تقاربا خلال مسيرة التقليد، فهذا يعني أن الشكل الإخباري في مثل الخمير قد أثَّر على مثل حبّة الخردل. يبدو أن الفرضية الأولى توافق بشكل أفضل عوائد يسوع التربوية. كان يعطي صورتين متكاملتين ليفسّر فكره. هنا صورة رجل يضع في الأرض حبة خردل، وهناك صورة إمرأة تضع في العجين كمية من الخمير. إذن، نقوله إن نصّ لوقا سابق لنصّ مرقس.
وتبيّن بنية المثل اختلافاً آخر مهماً. إن مرقس يشدّد على التعارض بين حبة الخردل في البداية (أصغر كل ما في الأرض من حبوب) والنهاية (صارت أكبر من جميع البقول، ثم أفرعت أغصاناً كبيرة). واستعمال صيغ الفعل يبرز التعارض أيضاً: تحدّث النص عن الزرع في صيغة الماضي: حين زُرعت (آ 31، 32). وعن النموّ في صيغة الحاضر (تصير أكبر النبات، تمدّ). أما عند لوقا، فالأفعال كلها هي في صيغة الماضي. والخبر يتبع حركة مستقيمة، فيشدّد على ضرورة المسيرة التي تحوّل الحبة إلى شجرة.
في هذا المجال نختار مرقس. فنصّه يبرّر إختيار حبة الخردل: أصغر جميع الحبوب. إن صغر هذا البذرة صار مثلاً عند اليهود. في هذا السبيل نقرأ في مت 17: 20: "لو كان فيكم إيمان مقدار حبة خردل..." (رج 17: 6). لا شيء أصغر منها. إذن، نحن في جوّ يهودي وفلسطيني. وهذا ما يدلّ على أن الصغر في البداية قد يصبح كبيراً في النهاية.
والبنية التعارضية في نصّ مرقس يؤمّن تقارباً وثيقاً بين هذا المثل وأمثال أخرى: مثل الزرع الذي ينمو وحده. مثل الزارع. وهكذا نرى أن هذه البنية توافق مسألة طُرحت مراراً على يسوع خلاله رسالته العلنية، فحاولت أن ينير سامعيه في شأنها. أما بنية لوقا التي تهمل التعارض، وتهتم بنمو النبتة العجيب، فهي تتوافق مع النموّ المسيحي في نهاية العصر الرسولي.
ب- تطبيق المثل
الإشارة الأخيرة هي التي توجّه التفسير. إذ أراد مرقس أن يعطي صورة عن قامة نبتة الخردل العالية، أرانا "طيور السماء التي تعشّش في ظلّها" (أو: في أغصانها، حسب متى ولوقا). هذا التعبير يذكّرنا بحلم نبوخذنصّر في دا 4. نحن أمام شجرة باسقة: "تحتها تستظلّ وحوش البرّية، وفي أغصانها تقيم طيور السماء" (آ 9)، وتابع دانيال: "هذه الشجرة التي تحتها تقيم وحوش البرّية، وفي أغصانها تسكن طيور السماء" (آ 18)، تمثّل الملك نبوخذنصّر نفسه.
الصورة تقليدية، ونحن نجدها مثلاً في حز 31: 6. يصوّر النبيُّ فرعون، ملك مصر، بشكل أرزة عالية: "في أغصانها عشّشت كل طيور السماء، وتحت فروعها ولدت كل وحوش البرّية، وفي ظلّها سكنت جميع الأمم العظيمة". الملك القدير يؤمّن الطمأنينة لعبيده، فيأتون يستظلّون في ظلّه (قض 9: 15). "يعيشون تحت ظلّه" (مر 41: 20؛ با 1: 12).
إن الشجرة التي تؤمّن ملجأ للعصافير، تدل على ملك يحمي عبيده بسلطانه. وتظهر الصورة مرة أخرى في 17: 22-23 في وعد بناء يعلن المجد المقبل المحفوظ للشعب المختار. يزرعه الله على جبل إسرائيل العالي "فيطلع أغصاناً ويثمر ويصير أرزاً رائعاً، فيأوي تحته كل طائر. ويرتاح في ظلّ أغصانه كل حيوان مجنّح". لا يشدّد النص هنا على الملك، بقدر ما يشدّد على حالة الإزدهار التي ترافق ملكوت الله في نهاية الأزمنة. وهذا ما تشير إليه نهاية المثل الإنجيلي إذا أخذنا بعين الإعتبار مقدّمة المثل والإطار العام لكرازة يسوع: فالشجرة التي يلجأ إليها عصافير السماء تمثّل الوضع الذي سيسود حين يقيم الله ملكوته على الأرض.
قد تبدو نبتة الخردل صغيرة لكي تدل على عظمة ملكوت الله. إذا كان يسوع قد اختارها، فلأنه أراد أن يشدّد على صغر الملكوت في نقطة الإنطلاق. فساعة بدأت المسيرة التي ستؤول إلى مجيء الملكوت المجيد، نحس كأننا أمام حدث صغير جداً، حدث نكاد لا نراه. هذا هو شعور سامعي هذا المثل. أية علاقة بين صغر رسالة يسوع التي تجري أمام عيونهم والقدرة العظيمة التي نفكّر بها ساعة تدشين ملكوت الله. فالتعارض في المثل بين حبة الخردل الصغيرة والشجرة التي خرجت منها، يوافق التعارض بين صغر رسالة يسوع و"الإنقلابات الكبيرة" التي تهيّىء الدرب لمجيء ملكوت الله.
الكبير يخرج من الصغير. ورسالة يسوع هي المرحلة الأولى في تدخّل الله من أجل إقامة ملكه على الأرض. فليعرف السامعون أن الله يعمل وقد بدأ تدخّله الحاسم الذي يصل بنا إلى الظهور التام لملكه. والتعرّف إلى المدلول الحقيقي لرسالة يسوع يعني أن نعي أن الموقف الذي نتخذه من هذه الرسالة، هو قبول أو رفض لسلطة الله في نهاية العالم. بهذا الموقف يرتبط مصير كل واحد منّا في العالم المقبل. من هنا أهمية الساعة التي نعيش فيها. وهكذا نجد في هذا المثل (حبة الخردل) التعليم الذي وجدناه في مثل الزرع الذي ينمو وحده.
3- نظرة القديس مرقس
أ- المثلان
لا نجد مثل الزرع الذي ينمو وحده إلا عند مرقس. ولهذا لا نستطيع مقابلته مع أي نصّ موازٍ. وتفحّص النص لا يتيح لنا أن نكتشف أي تصحيح يدل على تفسير شخصي. وإذا عدنا إلى مثل حبة الخردل، نجد أن نص لوقا سابق لنصّ مرقس. ما الذي حصل من تبدّل في الإنجيل الثاني؟ إختفى الرجل الذي وضع الزرع في الأرض. وتركّز الإنتباه حصراً على الزرع. قد يكون مرقس نظّم المثل على هذا الشكل، وقد يكون وصل إليه من التقليد.
لم نعرف الشيء الكثير من النص. ماذا سيعطينا السياق؟ إن المثلين اللذين درسناهما هما امتداد لمثل الزارع مع تفسيره الموسّع. لم يؤلّف مرقس هذا التفسير، بل تسلّمه من التقليد. ولكنه أعاد كتابة آ 17 حول المسيحيين الذين لا عمق فيهم، بل هم لا يثبتون إذا حدث ضيق أو اضطهاد. ويحدّد مرقس: "إضطهاد من أجل الكلمة". وقد أدخل مرقس تفاصيل مشابهة في 8: 35 (من يخسر حياته) و 10: 29 فدلّ على أنه يهتمّ بالخطر الذي تسبّبه الإضطهادات للمسيحيين فلا يثبتون. ويمكننا أن نتساءل عن آ 19 التي تورد سلسلة من العقبات في طريق الأمانة. هذه الإشارات تتيح لنا أن نفترض أن مرقس قرأ الأمثال مفكّراً في وضع الكنيسة ساعة كان يدوّن إنجيله.
وإن مجموعة آ 14- 20 توجّهنا في الخطّ عينه. فالزرع هو "الكلمة". هذه الطريقة في تسمية التعليم الإنجيلي توافق بشكل خاص زمن الرسل. نحن بشكل مباشر أمام الكلمة التي هي موضوع كرازة الكنيسة. فهي التي تجد الفشل بسبب استعدادات غير كافة عند الذين يسمعونها.
ونعود إلى مثلَي الزرع الذي ينمو وحده، ومثل حبة الخردل. لاحظنا أنهما يشدّدان على أهمية الزمن الحاضر بالنسبة إلى سامعي يسوع. وهما تدعوانهم لكي يروا في رسالة يسوع بداية تدخّل الله في نهاية الزمن. في خطّ هذه الملاحظات، يبدو من السهل أن نعي تحوّل النص في خطّ الفقاهة المسيحية وفي منظار القديس مرقس. سنرى في الأمثال تعليماً عن الزمن الحاضر. ولكن هذا الزمن لم يعد زمن رسالة يسوع العلنية، بل زمن حياة الكنيسة وكرازتها.
في هذا المنظار يتّضح أن زمن نموّ الزرع هو زمن الكنيسة الذي نعيش فيه. فالزرع الذي بذرَه المسيح ينمو الآن في غياب الزارع الذي سيعود في وقت الحصاد. والحبة الصغيرة التي وضعها المسيح في الأرض تنمو الآن لتصبح شجرة عظيمة، وتشهد عظمتها على قوّة التعليم الذي حمله يسوع إلى العالم.
ويجب أن نأخذ بعين الإعتبار مثلَي السراج والكيل (آ 21- 25) اللذين جعلهما مرقس بين تفسير مثل الزارع وبين المثلين اللذين ندرسهما. ففي السياق الحالي، تشدّد هذه الآيات على واجب التلاميذ أن ينقلوا التعليم الذي سُلِّم إليهم. وفي إطار هذه المسؤولية الإرسالية، يزيد مثلا الزرع الذي ينمو وحده وحبة الخردل أمثولةَ الثقة والإتكال على الله: فالكلمة التي حملها الرسل ستنمو بدون شكّ وستعطي ثمراً عجيباً. وهكذا يصحّح هذان المثلان ما تركه تفسير مثل الزارع من تشديد على فشل الكلمة في أن تحمل ثمراً. ولكن هذا الفشل لا يمنع الكلمة من أن تظهر فاعليتها التي لا تُقاوَم. وهذا اليقين هو الذي يشجّع الكارزين بالكلمة فلا ييأسون ولا يتراخون.
ب- التعليم بالأمثال
للوهلة الأولى، لا تطرح خاتمة خطبة الأمثال (آ 33- 34) أية مشكلة. فيسوع يعلن الكلمة للناس، للجمع المذكور في آ 1-2. وهو يتحدّث بالأمثال على قدر فهم كل واحد منهم. إذن، تبدو الأمثال في نظر يسوع وسيلة تجعل السامعين يفهمون كلامه بسهولة. ثم، هو يعطي تفسيراً لاحقاً لجماعة التلاميذ المذكورين في آ 10. أما يبدو هذا واضحاً؟
لا تبدو المشكلة بهذا الوضوح حين نعرف أن مرقس أراد أن ينهي كلامه في الموضوع الذي تطرّق إليه في آ 10-12 (مغزى الأمثال). فيسوع لا يتكلّم بدون أمثال (آ 34) للجمع، للذين هم من الخارج (آ 11). "كل شيء يصل إليهم بأمثال" (آ 11). "وفي الخلوة" (آ 34)، وعلى انفراد (آ 10) يفسّر لتلاميذه الأخصّاء كل شيء (آ 34). من هم تلاميذه؟ هم الذين يحيطيون به مع الإثني عشر (آ 10). هم الذين أعطي لهم سرّ ملكوت الله (آ 11). وعلى ضوء الشروح التي أعطاها مرقس عن هدف الأمثال، يتّخذ التشديد في آ 34 كل معناه: الأمثال هي لغة ملغزة (مثل الشيفرة). لا يفهمها إلا التلاميذ الذين أعطي لهم أن يفهموها. أما الشعب الذي لم يرد يسوع أن يكلّمه لغة واضحة، فلا يستطيع أن يدرك المعنى الحقيقي لتعليمه. إن سرّ ملكوت الله لم يُعطَ للذين هم في الخارج. لهذا لم يكلّمهم يسوع إلا بالأمثال.
هذه الخاتمة تجعلنا إذن أمام ما سمي: نظرية الأمثال، التي هي جزء من نظرية السرّ المسيحاني عند مرقس. كيف نتصوّر فكرة مرقس؟ حين دوّن مرقس إنجيله، جاء واقع فرض نفسه عليه فشكّكه: إن الشعب اليهودي بمجمله لم يقبل الإنجيل. كيف نفسّر هذا الفشل؟ أما فشل مخطّط الله؟ هل نرى في هذا الوضع شهادة على أن رسالة يسوع لم تكن من الله؟ إعتراض عنيف. وقد وجد له مرقس جواباً لاهوتياً في نص أش 6: 9- 10 كما يورده مر 4: 12. ففي رسالة يسوع تمّ الترتيب الإلهي الذي عبّر عنه النبي: طلب منه أن يكلّم الشعب بحيث ينظرون بعيونهم ولا يرون ويسمعون بآذانهم ولا يفهمون.
إذن، وجب على مرسل الله أن يتكلّم بشكل لا يُفهَم: هذا هو قصد الله الذي أراد أن يعمل من رسالة يسوع دينونة ضد شعب أعمى وقاسي القلب. ولكن كيف نرى في هذا القول برنامج رسالة يسوع؟ لقد وجد مرقس الحلّ في استعمال يسوع للأمثال: إن يسوع يتكلّم بالأمثال للجموع أو لخصومه الذين لا ينتظر منهم أن يفهموه. فالمثل يبدو في نظر مرقس وسيلة تجعل التعليم فوق إدراك الناس، تخفي معناه الحقيقي وراء الصور. إن التفسير ضروري لكي نفهم. ولكن لا يُعطى تفسير إلا للتلاميذ. هل نحن في عالم الباطنية؟ كلا. فالتلاميذ قد تقبّلوا وحياً لكي يخبروا به، لكي يكرزوا به على السطوح (4: 21-25).
خاتمة
إن مؤلّف مرقس يغرز جذوره في أوضاع عصره ومشاكله. وقد فكّر الإنجيلي بالكرازة المسيحية وبالمهمّة الملقاة على عاتق المسؤولين عن حمل الكلمة. فكّر بهم حين دوّن الأمثال التي ترمز إلى الكلمة من خلال الزرع. وحاول أن يجد تفسيراً لاهوتياً لفشل رسالة يسوع لدى الشعب اليهودي فقدّم تعليمه بالأمثال. فشاهدُ الكلمة ليس ذاك الذي يكرّر بطريقة آلية ما سمعه من فم معلّمه. بل ذاك الذي يبحث عن جواب لحاجات عصره وللناس الذين يعيشون في أيامه