الفصل الخامس عشر دعوة لاوي: نداء إلى التوبة والإيمان

الفصل الخامس عشر
دعوة لاوي: نداء إلى التوبة والإيمان
13:2-17

هل يستطيع خبر دعوة لاوي أن يساعدنا على فهم دعوة كل مسيحي فهماً أفضل؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال، نلاحظ أن تصوير هذا النداء لا ينحصر في آ 13- 14. فالوليمة التي تلي هاتين الآيتين هي جزء من المقطوعة كما نقرأها الآن. ففي نظر الإزائيين الثلاثة، بدعوة لاوي هي فقط مرحلة أولى لحركة ستوسّع هذا النداء ليصل أولاً إلى عدد كبير من الخطأة والعشّارين (2: 25- 16 وز)، ثم إلى جميع الخطأة (مر 17:2 وز). هذه هي المجموعة التي سوف ندرسها.

1- السير على خطى يسوع
إن هذا المقطع الذي يعيد الخبر إلى دعوة خاصة قد ألّف في هذا المنظار ليصوّر نداء يوجّه إلى كل إنسان، وخصوصاً كل إنسان خاطىء حتى يعيش حياة اتحاد مع المسيح المخلّص. ومقابلة قصيرة مع سائر أخبار "الدعوة" خصوصاً عند مرقس، تثبّتنا في هذا التفسير.
فالتقليد المسيحي الأولاني لم يتوخَّ أن يصوّر في أخبار "الدعوة" هذه، ظروفاً فردية أو سيكولوجية. بل أراد أن يبرز مركّبات "السير على خطى" يسوع. هي مركّبات تتعدى الزمن. هي مركّبات لاهوتية وإرشادية. والعلامات التي تميّز كل "مسيرة على خطى" يسوع، يجب أن تبرز في الأخبار النموذجية التي تتعلّق بالتلاميذ الأوّلين: يسوع يدعو. والذي يُدعى يقبل في الإيمان متطلّبة يسوع كنداء من الله، يدلّ على إيمانه بطاعته، ويبرهن عنه في التخلّي عن كل الرباطات الأرضية التي يمكن أن تكون عائقاً في مسيرة غير مشروطة على خطى يسوع أو في تتميم مهمته.
حين نقابل بين الإزائيين وإنجيل يوحنا، خصوصاً في ما يتعلّق بالتلاميذ الأولين (مر 1: 16- 20 وز؛ يو 1: 35- 51) نرى أن يوحنا يقدّم الأمور بشكل أكثر معقولية، ويبرز للمسيحيين الجدد أهمية الشهادة (التي تكون واسطة) لنقل الإيمان. أما الإزائيون فلا يأخذون بعين الاعتبار المعقولية السيكولوجية، فيصوّرون تدخّل يسوع بشكل مفاجىء و"عنيف"؛ لا استعدادات، لا مقدّمات، لا اعتبارات لصفات سابقة ولا تشديدّ على عدم الاستحقاق بكل شيء يبدأ مع مبادرة المسيح. فما على الإنسان إلاّ أن يطيع ويسلّم أمره ليتبع ربّه. وفي أخبار أخرى تعاكس ما يحدث هنا، نجد الفشل عادة، حين يحاول الإنسان بقواه الخاصة أن يضع يده على الخلاص ويتبع المسيح. "قال ليسوع إنسان في الطريق: اتبعك حيث تمضي". أجابه يسوع: "للثعالب أوجرة..." (لو 9: 57-60). وهناك مثل الشاب الغني (مر 10: 17- 27 وز). وساعة اعتدّ بطرس بقواه وأراد أن يتبع يسوع، كان جواب يسوع: سوف تنكرني (مر 14: 29- 31 وز).
هذه الناحية من الدعوة التي تأتي بشكل مفاجىء من الوجهة اللاهوتية، نجدها في مقطوعة دعوة لاوي. وهي تساعدنا على تجاوز الإطار الخاص الذي قد نحصر فيه الخبر. ثم، إننا نستطيع أن نتساءل: إلى أين بلغ نداء لاوي؟ هل قدّم هذا النداء بشكل واضح كدعوة لمصير خاص أو كدعوة إلى الحياة المسيحية؟ الخبر واضح: يجب أن نمرّ من "المرض" إلى "الصحة" (2: 17). يجب أن نتبع المسيح (آ 14) ونشاركه في طعامه (آ 17). كل هذا يصوّر الارتداد والإيمان والحياة المسيحية. ثم، حين بدأ مرقس المقطوعة بإجمالة فيها يعلّم يسوع الجموع (آ 13)، فقد أراد أن يبيّن أن هذا النداء، وهذه الوليمة، وقول يسوع تعتبر معاً تعليماً يتوجّه إلى الجموع.
سيشدّد متّى أيضاً على صفة التعليم هذه بشكل آخر: فعنده يسمّى يسوع "المعلّم". وهو يقول لمحاوريه: "فاذهبوا إذن وتعلّموا" (مت 9: 11- 12). وإذ أبرز الإنجيل الأول هذه الوجهة، أراد أن يربط بين شفاء المخلع والمقطع الذي ندرس (مت 13:9). فبعد أن امتدح متّى الله الذي بالمسيح سلّم إلى البشر خدمة (سلطان) غفران الخطايا (مت 8:9)، قدّم لنا أحد هؤلاء الناس (مت 9:9: أبصر إنساناً. واسم متّى الذي يعطى لهذا العشار يردّنا إلى لائحة الرسل في 3:10). ولكن هذا الرسول (الذي أعطي له أن يحلّ على الأرض، رج مت 18:18)، شأنه شأن كل مسيحي، قد دُعي أولاً إلى الغفران والخلاص. وبهذا، إن هذا "الإنسان" يمثّل كل إنسان.

2- تصوير النداء بحصر المعنى
أ- النص الإزائي
مت 9:9 مر 13:2-14 لو 5 :27-28
وعاد فخرج وخرج بعد ذلك
إلى شاطىء البحر
فأقبل اليه الجمع
كله وكان يعلّمهم
ويسوع و و
مجتاز من هناك فيما هو مجتاز
أبصر أبصر شاهد
إنساناً لاوي بن حلفى عشاراً اسمه لاوي
جالساً الى مائدة جالساً إلى مائدة جالساً إلى مائدة
الجباية الجباية الجباية
اسمه متّى
فقال له: اتبعني! فقال له: اتبعني! فقال له: اتبعني!
و و فترك كل شيء،
قام وتبعه قام وتبعه وقام وتبعه.
هناك ثلاث مراحل: شخص فرد، كثير من العشارين والخاطئين، الخاطئون بشكل عام. هذه الطريقة قد أرادها الإنجيليون، وهي تنتج عن عمل تدويني استفاد من مواد متنوّعة لكي يصل إلى هدف معيّن. فهناك إشارات تساعدنا على اكتشاف ثلاثة عناصر قديمة ومستقلة في هذا الخبر: 2: 14؛ 16:2- 17 أ؛ 17:2 ب. نحن هنا أمام إمكانية معقولة وبراهينها ليست قويّة. أما ما هو مقنع فالبرهان الذي بحسبه يبدو خبر مرقس أقدم من خبر متّى ولوقا داخل التقليد الإزائي.
هي طريقة بسيطة وشعبية وفاعلة. لسنا أمام صورة فوتوغرافية، بل أمام فكر رمزي يستند إلى تذكّرات ويعبّر عن ذاته بالصور. مثلاً، هناك تعارض واضح بين موقف لاوي الجالس، المقيّد بمكتبه، المربوط بخيراته، وبين الحركة التي تطرحه خارج حدوده الخاصة لتجعله في خطى يسوع. إن الصورة مكيّفة أكثر من خطبة طويلة لتعبّر عن العمق الحياتي واللامحدود، عن فكرة لاهوتية تحتانية. إن حركة لاوي تتضمّن على مستوى النظر أن نترك كل شيء ليس المسيح. هذه الفكرة الحاضرة عند مرقس ومتّى، قد شدّد عليها لوقا وأوضحها: "ترك كل شيء".
وبين العناصر المشتركة بين الإزائيين الثلاثة، نشير إلى نظرة المسيح (وإن لم تكن المفردات هي هي) الذي يتطلّع إلى لاوي ويختاره. لا شكّ في أنه كان هناك ربما عشّارون (موظفون) غيره. أما يسوع فأبصر لاوي. حطّ نظره على لاوي.
هذه الفكرة ليست باهتة. فهي تطبّق على يسوع موضوع نظر الله في العهد القديم. حين يتناسى الله في ساعة إهمال، حين يغضب على شعبه، تسير الأمور بالنسبة الى الشعب من سيء إلى أسوأ. ولكن يكفي أن يوجّه الله نظره إلى شعبه لكي يشعر شعبه أنه محبوب ومختار ومخلص. مثلاً في مز 10: 11: "قال في قلبه: الله نسي. لقد حجب وجهه فهو لا يرى شيئاً". وفي 2 مل 20: 5: "هكذا قال الرب: سمعت صلاتك، رأيت دموعك وأنا سأشفيك".
هكذا نظر يسوع إلى لاوي. وهو سينظر إلى الشاب الغني فتدلّ نظرته على حبّ خاصّ له (10: 21). وكان قد سبق له وأبصر سمعان واندراوس، يعقوب ويوحنا. قال لهم كما قال للاوي: اتبعوني (1: 16- 20).
ب- عناصر خاصة
أولاً: مرور يسوع
حسب مرقس (2: 14) ومتّى (9:9)، إن المسيح الذي أبصر لاوي ودعاه هو مسيح يمرّ (كان مجتازاً؛ رج 1: 16؛ يو 9: 1). لماذا حافظ التقليد على هذه الإشارة البسيطة والتي لا لون لها خلال تكوين الخبر وانتقاله إلى مرقس؟ هل أراد الكاتب أن يحدّد موقع المشهد؟ فالعشّارون يقيمون بصورة خاصة في "نقاط المرور" (أو: العبور). ونلاحظ على هامش الإنجيل اهتمام الكتابات الغنوصية (أنجيل توما 42. قال يسوع: كن ماراً) بموضوع المرور. ولكننا لا نعرف المدلول الذي أعطوه لهذه اللفظة، وهل هناك من تواصل بين الاناجيل والأدب الغنوصي؟ وقد نرى هنا تلميحاً إلى مرور الله في بعض التيوفانيات. مثلاً، خر 33: 19- 22. قال الرب لموسى: "حين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخر وأغطّيك بيدي حتى أمرّ". و1 مل 19: 11: قال الرب لإيليا: "قف على الجبل أمامي". ثم مرّ الربّ (رج خر 23:12: ويمرّ الرب). قد لا تكون المفردات هي هي، ولكننا نستطيع أن نقرّب بين هذه النصوص. حينئذ نكون أمام ظهور يسوع على مثال ظهور الرب (أبيفانيا).
ثانياً: نظر المسيح
على من يتوقّف نظر المسيح؟ هنا نجد اختلافات تميّز الإزائيين الواحد عن الآخر. فالمسيح في مرقس يبصر شخصاً محدّداً هو لاوي بن حلفى. والمسيح في متّى يرى إنساناً. لا شك في أن لهذا الانسان مهنة وإسماً. ولكننا منذ الآن في الطريق نحو التعميم: البشرية هي مدعوّة هنا لتتبع المسيح، لتشاركه في وليمته، وربما لتتقبّل منه سلطان غفران الخطايا (مت 9: 8). والمسيح في لوقا يلاحظ، يشاهد عشاراً أي خاطئاً. هذا العنصر ليس بغائب في متّى ومرقس. ولكن لوقا شدّد عليه بشكل خاص. لكل إنجيلي منظاره الخاص الذي يقابل إتجاهاً عميقاً وعاماً. شدّد مرقس على اسمه. ومتّى على انه إنسان يمثل الانسانية. ولوقا على مهنته.
ثالثاً: هدف النداء
في خبر يرد في صيغة الماضي، يلفت انتباهنا فعل في صيغة الحاضر. لن نتوقّف عند فعل "قال" الذي يستعمل مراراً في الحاضر. ولكن اختلف متّى ومرقس عن لوقا، فركّزا خبرهما الصغير على كلمة يسوع مع فعل قال في الحاضر: "إتبعني". هذا هو العنصر المهمّ في الجملة. وهذا النداء الموجّه إلى لاوي هو حاضر دائماً وهو ينادي الآن كل إنسان يسمع الإنجيل. في الجملة التالية، يعود الفعل إلى صيغة (وإذ قام تبعه) تصوّر قرار الانسان الذي ينطلق.
أما لوقا الذي يستعمل صيغة الماضي ليتحدّث عن نداء المسيح، فهو يشدّد على "الحاضر" في هذا الخبر. بل يبرز شيئين: التخلّي عن كل شيء (يترك كل شيء)، مدى غير محدود لعمل صار حالة، صار جزءاً من الشخص. كان يتبعه بصورة مستمرة، متواصلة. صار تابعاً له. جعلنا متّى ومرقس أمام لاهوت النداء والقرار. وقدّم لنا لوقا لاهوت متطلّبات النداء.

3- وأكل المسيح مع الخطأة
أ- النصوص الموازية
مت 9: 10-13 مر 2: 15-17 لو 5 :29-332
وحصل (الماضي) وحصل (الآن) و
صنع له لاوي مأدبة عظيمة
أنه كان متكئاً انه اتكأ (الآن)
في البيت في بيته في بيته
وهوذا و وكان
جمهور
كثير من العشارين كثير من العشارين كثير من العشارين
والخاطئين والخاطئين وسواهم
جاؤوا
واتكأوا اتكأوا اتكأوا
مع يسوع وتلاميذه مع يسوع وتلاميذه معه.
لأن كثيرين منهم
كانوا يتبعونه
وإذ رأى ذلك و وتذمّر
الفريسيون الفريسيون
كتبة الفريستين وكتبتهم
رأوا أنه يأكل
مع الخاطئين والعشارين
قالوا قالوا
لتلاميذه لتلاميذه لدى تلاميذه
قائلين
لماذا معلّمكم لماذا لماذا
يأكل يأكل تأكلون
وتشربون
مع العشارين مع العشارين مع العشارين
والخاطئين؟ والخاطئين؟ والخاطئين؟
أما هو ويسوع ويسوع
فسمع، قال فسمع، قال لهم أجاب، قال لهم
الاصحّاء الاصحّاء المعافون
لا يحتاجون الى طبيب لا يحتاجون الى طبيب لا يحتاجون الى طبيب
بل المرضى بل المرضى بل المرضى
فاذهبوا إذن وتعلّموا:
أريد الرحمة
لا الذبيحة
فإني
ما أتيت لأدعو ما أتيت لأدعو ما أتيت لأدعو
الابرار بل الخطأة الابرار بل الخطأة الابرار بل الخطأة
الى التوبة
إن الرباط بين النداء والطعام يؤمّنه شخص العشار الذي يقدّم وليمة في بيته. هل نقص التماسك في الخبر؟ أخذ لاوي يتبع المسيح. وحالاً بعد هذه الصورة نجده من جديد في بيته الخاص. ويشدّد لوقا على التعارض بشكل أقوى: ترك لاوي كل شيء. وها هو يولم وليمة في بيته. إذا أردنا حلاً لهذه الصعوبة، لن نأخذ النصّ بشكل حرفي، ولا نوقّت كل حركة من حركات لاوي.
هذا "اللاتماسك" الصغير ليس بالشواذ في الأناجيل: حين تبع التلاميذ الأولون يسوع، تركوا كل شيء (لو 5: 11). ولكننا سنجدهم فيما بعد مرات عديدة في بيت هو بيت بطرس (مت 24:17- 25؛ مر 1: 29؛ 2: 1: 9: 33). والقوارب هي حاضرة دوماً ساعة يحتاج إليها الرسل (مر 3: 9؛ 4: 35- 36؛ 5: 1- 2، 18؛ 6: 32- 45؛ 8: 10، 13- 14؛ يو 3:21). ولا يبدو مستحيلاً بحسب تفسير لا يزال موضوع مناقشة (1 كور 9: 5) أن كيفا (بطرس) ورسل آخرين رافقتهم نساؤهم في رحلاتهم الرسولية. وفي سفر الاعمال، جاء تأكيد على المشاركة في جميع الخيرات (أع 2: 44- 45؛ 4: 32، 34- 35) فعارضه نصّ آخر (4:5).
نجد عند الإنجيليين، ولا سيما عند لوقا، إتجاهاً للتشديد على متطلّبات يسوع وعلى تعميمها: تعلّق سريع (مر 1: 18، 20= لو 5: 11؛ مر 2: 14؛ لو 52:9- 62)، التخلّي عن كل شيء (لو 5: 11؛ 28:5؛ 23:9؛ 14: 26؛ 14: 32)، نداء ومتطلبات تتوجّه لا إلى التلاميذ المهيّئين لمهمّة خاصّة وحسب. بل لكلّ إنسان يجتذبه الإيمان المسيحي (مت 7: 28؛ لو 6: 17؛ 7: 1؛ 9: 23؛ 14: 25- 27؛ مر 8: 34).
كيف نفسّر هذا الاتجاه الذي نجده في هذا النص الذي ندرس؟ كيف يجب أن نفهم أن المتطلّبات المطلقة تتوجّه إلى الجميع؟ هل تختفي الدعوات الخاصة أمام النداء العام إلى الإيمان؟
ما المطلوب من كل مسيحي؟ تعلّق مباشر وتامّ ومطلق (إلتصاق بالمسيح). يجب أن نفضّل المسيح على كل شيء وعلى كل شخص. هذا هو معنى مت 37:10 (فمن أحبّ أباه وأمه أكثر مني). فمن فكّر غير هذا التفكير، قدّم مسيحية من المستوى "الدنيء" بل لا معنى لتفكيره. وهذا الحب التفضيلى للمسيح يجب أن يكون عند كل مسيحي. ولكن ليس من الضروري دائماً أن نعبّر عنه بشكل ملموس وبخيار دراماتيكي. لا شك، في زمن الاضطهاد مثلاً، أن على المسيحي أن يترك خيراته إذا دعت الحاجة إلى ذلك، أن يترك أرضه ووطنه، أن يترك حياته ليبقى أميناً للمسيح.
ونستطيع أن نفهم أيضاً أن المسيحي الذي يُدفع إلى دعوة خاصة ويُدعى إلى بعض المهمات، قد يعبّر عن هذا الحبّ التفضيلي دون أن تكون هناك حاجة خارجية، حينئذ يعبّر عما يحسّ به سائر المؤمنين ويريدونه في أعماق قلوبهم، فيكون آية معبّرة تعبيراً خاصاً عن المتطلّبات التي ترافقه. وهذا، ربط الإنجيليون رباطاً وثيقاً بين دعوات خاصّة توجّه إلى التلاميذ والنداء العام إلى الإيمان. ففي هذه النظرة الموحّدة نستطيع أن نفهم المقطوعة التي ندرس: إن نداء لاوي هو خبر دعوة خاصة، ولكنه يصوّر من أجل قيمته التعليمية حول النداء إلى كل إنسان خاطىء، حول النداء إلى الإيمان المسيحي.
ب- طعام مع الخطأة
أولاً: مدلول الطعام
حين نحاول أن ندرك مدلول الطعام الذي أخذه يسوع مع الخطأة، يُطرح سؤال أول: هل يمكن أن نكتشف هنا تلميحات إلى العشاء الافخارستي؟ إذا تفحّصنا اللغة بتمعّن، لا نستطيع أن نسند هذه الفرضية. وبما أن لوقا زاد على فعلة الطعام فعلة الشراب (تأكلون وتشربون)، فهذا قد يوجّهنا إلى مناخ الافخارستيا ولكنه لا يكفي في الواقع. حين نطرح السؤال بهذا الشكل، يصبح بلا حلّ. لهذا نطرحه بطريقة أخرى. كل طعام مع المسيح يدلّ على اتحاد حميم بين المؤمن ومخلّصه. في هذا المعنى، كل طعام مع المسيح له في جوهره قيمة اسكاتولوجية. إنّه يعبّر ويستبق ويهيّىء المشاركة في الحياة التي ستتحقّق تحقّقاً كاملاً في عرس الحمل. إذن، نفهم كل طعام مع المسيح الأرضي على ضوء هذه الوليمة الاسكاتولوجية (رؤ 19: 7- 9).
هذا هو معنى أهمّ النصوص البيبلية التي تصوّر الطعام: أش 6:25؛ أم 9: 1- 18؛ مت 8: 11 (أقول لكم إن كثيرين يأتون من المشرق والمغرب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات)؛ مت 22: 2- 14؛ لو 14: 15- 24 (مثل المدعوين)؛ رج مت 29:26 رؤ 20:3-21.
إن لم نجد في نصّ دعوة لاوي تلميحات واضحة إلى الافخارستيا، إلاّ أننا نكتشف هنا بُعد خلاص واتحاد، بعد مشاركة حميمة بين المسيح والخطأة، جعل الفريسيّين يتشكّكون. وربما نحن.
ثانياً: العشارون والخطأة
هذا هو هدف الخبر. ونحن نرى بسهولة ما يشغل بال المدوّن الإنجيلي، ولا سيّما مرقس. إذا أراد أن يشدّد على شيء، فهو لا يحتاج إلى خطب كبيرة ليفسّر أهمية هذا الشيء. بل يكتفي بأن يستعمل التكرارات ليلفت الانتباه. وهنا عبارة "العشارين الخطأة" ترد ثلاث مرات في آيتين اثنتين كما أن هناك تشديداً على عددهم الكبير. ويؤكّد مرقس أيضاً على أنهم متكئون مع يسوع، يأكلون معه، يرافقونه: وهو يعبّر أربع مرّات عن هذه العلاقة.
في هذا الخبر الذي اعتدنا على قراءته، يجب أن تدهشنا وتصدمنا فعلة يسوع الذي يتعامل مع "رجال المال" الذين يخونون بلدهم و"يسرقون" الفقير والضعيف. إن ابن الله يتوجّه إلى الخطأة، بدلاً من أن يشجّع الذين يعيشون حسب شرائع العهد أو حسب ضميرهم. نكاد نقبل أن يشفق يسوع على بعض فئات من الخطأة هم في أغلب الأحيان ضحايا بريئة. أما هنا، فنحن أمام خطأة حقيقيين لا يشفق عليهم عالمنا الفريسي الحديث. أن يقبلهم يسوع في حياته الحميمة، هذا ما لا يُحتمل. كيف لا تستطيع مثل هذه الفعلة أن تشككنا وتؤلمنا؟ ولكن حين نلاحظ إلى أية درجة هذا الخبر يصدمنا بشكل طبيعي، في ذاك الوقت ندخل في فهمه. إن موقف المسيح الذي كان شيئاً جديداً في إسرائيل، لا يزال شيئاً جديداً بالنسبة إلينا، لأننا لم نزل بعيدين عن قبول الإنجيل.
نستطيع أن نلاحظ بسرعة الاختلافات القليلة التي نجدها بين إنجيل وإنجيل. كان اهتمام متّى ولوقا اهتماماً أدبياً، فتحاشيا التكرارات المرقسية بما فيها من تعبير عميق. فمرقس جعل على "المسرح" كتبة الفريسيّين. هذه التسمية ليست بعادية. حاول لوقا أن يميّز بين الكتبة والفريسيّين. أما متّى فأبقى على الفريسيّين. ونلاحظ أخيراً أن الفريسيّين، حسب متّى ومرقس، يعبّرون عن لومهم ويوجهونه إلى يسوع (لماذا يأكل المعلّم مع العشّارين؟). أما لوقا فيجعل اللوم يتوجّه إلى التلاميذ: "لماذا تأكلون وتشربون مع العشارين والخاطئين"؟ إن الإنجيل الثالث يجعلنا في مرحلة من التقليد حيث الجدال أدرك التلاميذ في الجماعة الأولى، لأنهم يخالطون الخطأة والوثنيين (أع 28:10؛ غل 2: 11- 21). ولكن في كلا الحالين، يسوع هو الذي يجيب.
ج- ما جئت لأدعو الأبرار
إن الخبر كله يجتذبنا إلى القول الأخير الذي يفهمنا موقف المسيح. "ليس الأصحاء هم الذين يحتاجون إلى طبيب، بل المرضى. ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة" (مر 2: 17). هذا التعبير المرقسي يتحمّل تفاسير عديدة. من هم هؤلاء الأبرار؟ أناس مخلّصون أم الفريسيون؟ لقد حاول متّى ولوقا أن يوضحا هذا القول. ندرس نظرتهما قل أن نعود إلى مرقس.
ونبدأ بتعبير لوقا: "ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخطأة إلى التوبة". إن التوضيح الذي حمله لوقا والذي قال فيه إن الخطأة مدعوّون إلى التوبة، يبعد كل تفسير "تحرّري" لهذا القول (لهذا لم يتكلّم لو 29:5 عن الخاطئين بل عن "العشارين وسواهم". لم يعودوا خاطئين لأنهم قبلوا نداء المسيح مع متطلّباته). نحسّ بنفوسنا وكأننا نسمع القديس بولس في الرسالة إلى رومة (6: 15): "فماذا إذن؟ أنخطأ لأننا في حكم النعمة لا في حكم الشريعة؟ كلا". لم يكن التوضيح بدون جدوى. ولكن من الواضح أن تفسير لوقا هذا لا يختلف في هذه النقطة عن تفسير مرقس ومتّى. بل هو يوضح ما تضمّنه التقليد الإزائي. وعكس ذلك يكون كلاماً لا أساس له، بل يصطدم بمجمل العهد الجديد (رج مر 1 :14- 15). يبقى أن لوقا يحبّ بصورة خاصة أن يشدّد على موضوع التوبة والارتداد.
من يمثّل هؤلاء الأبرار في نظر لوقا؟ أولئك الذين يظنون نفوسهم أبراراً، ولا يحسّون بأية حاجة إلى خلاص يحمله المسيح. أو أولئك الذين هم متحدون حقاً مع الله بعلاقة مستقيمة وحقيقية وصادقة؟ لا مجال للتردّد هنا: فكلمة "بار" عند لوقا تبدو دوماً في وجهها الصحيح. فإذا وضعنا هذا النص جانباً، نجد عشرة استعمالات لهذه اللفطة. في ثمان منها يدل الإنجيلي على أشخاص يُعتبرون أبراراً حقيقيين (يعتبرون قديسين) مثل والدي يوحنا المعمدان (لو 1: 6 كانا بارين؛ 1: 17) وسمعان الشيخ (لو 2: 25: كان هذا الرجل باراً تقياً) ويوسف الرامي (لو 23: 50) ويسوع نفسه في لسان قائد المئة (47:23: في الحقيقة كان هذا الرجل باراً؛ رج 12: 57؛ 14: 14). وهناك استعمالان للفظة "بار" يدلاّن على الفريسيين وأعداء يسوع. ولكن في هاتين الحالتين أوضح لوقا بصريح العبارة: "هم أناس يثقون من أنفسهم بأنهم أبرار" (18: 9). أو: "يتظاهرون بأنهم أبرار" (20: 20). إذن، لا شك ممكناً في النص الذي نقرأ: الأبرار، مثل الاصحاء، يمتلكون ملء الحياة. الأمور هي على ما يرام بالنسبة إليهم. أنهم مخلّصون منذ الآن. فعليهم أن يتركوا الحسد ويقبلوا أن يهتمّ المسيح بالخطأة. بل عليهم أن يساعدوه في اهتمامه.
وقدّم متّى تفسيراً مختلفاً. "فاذهبوا إذن وتعلّموا معنى هذه الكلمة. أريد الرحمة لا الذبيحة. فإني ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة". يبدو أن التعارض يقع بين برارة خارجية محضة، برارة شريعانية بما في هذه الكلمة من معنى سيّء (تعلّق أعمى بالشريعة ولو حجّرتنا وأغلقتنا على القريب)، والتقديس الحقيقي الذي يوافق القلب الصالح والمستقيم. قد نكون هنا أمام وسيلة تتيح لنا أن نفهم "الكمال" الذي يقدّمه إنجيل متّى: فعلى الذي يرغب في هذا الكمال الداخلي، أن يقبل أولاً (كما في هذا النص) بأن يدعوه المسيح، أي بأن يحرّره من الخطيئة، ويهبه الحياة. عليه أن يترك كل شيء ويسير على خطى المسيح في هذه الطريق طريق التقديس الحقيقي. ويمكن أن نكتشف أيضاً وراء خبر متّى مسألة عملية ولاهوتية طرحت على المرسلين الأولين: حين كانوا يتّصلون بالوثنيين كانوا "يتنجّسون" حسب الشريعة. هل نتجاوز هذا الوضع أم نتوقّف عنده؟ إذ أراد متّى أن يساعد المسيحيين المتهوّدين (ظلوا متعلّقين بالممارسات اليهودية) لكي يتجاوزوا هذه الأزمة التي تظهر في أع 10- 11 وفي غل 2: أي، إختار أن يقدّم المسيح كمثال لهم.
جاء نصّ مرقس موجزاً ومجموعاً، ولكنه ظلّ ملتبساً: "ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخطأة". هل يتوافق هذا التعارض بين الأبرار والخطأة، مع التعارض بين الفريسيّين والعشارين (الذين هم خطأة)؟ حينئذ تكون صفة "بار" مستعملة بشكل سخرية وتنطبق على الذين يحسبون نفوسهم أبراراً. أو يجب أن نفكّر بأن التعارض بين الأبرار والخطأة يتوافق مع التعارض بين الأصحّاء والمرضى، وذلك حسب المقابلة التي سبقت مباشرة؟ في هذه الحالة، يصبح موقف مرقس قريباً من موقف لوقا. قد يكون من المفيد أن نختار التفسير الأول فنرى بعض "السخرية" ضد الفريسيّين. ولكن البراهين الحاسمة غير موجودة. لهذا نفضّل أن لا نضخّم بُعد هذه اللفظة (بار) التي جُعلت هنا لتسند العبارة السرية "جئت" وتبرز الهدف الحقيقي "الخطأة".
هناك رباط بين هذه العبارة في التقليد الإزائي (جئت) وتأكيدات المسيح في يوحنا (مثلاً، 42:8: ما جئت من تلقاء ذاتي: 47:12: ما جئت لأدين العالم). ولكن ما هي الطبيعة الصحيحة لهذا الرباط؟ ما هي المراحل التي اتخذها معنى هذا الفعل؟ ما هو بُعد هذه العبارة في الخبر الذي ندرس؟ إن التأويل الحديث يرى أن الكرستولوجيا في مرقس هي أكثر تطوّراً مما يبدو للوهلة الأولى (رج 14: 62). حين نستند إلى هذا المفهوم العام لمرقس، وحين نأخذ بعين الاعتبار بعض النصوص الموازية (38:1) التي تسير في الخطّ عينه، نستطيع القول إن لهذه العبارة المرقسية معنى عميقاً يدلّ على أصل يسوع السرّي. إذا كان الأمر صحيحاً، فالمهم في مر 17:2 ليس التعارض بين الأبرار والخطأة، ليس البحث عن المعنى الحقيقي للفظة "أبرار"، بل الرباط بين مجيء المرسل الإلهي والخطأة. وان هذه المقطوعة عن نداء الخطأة تقع عند مرقس في ذروة مجموعة أخبار تظهر في خبرة يسوع من خلال نشاطه الرحيم: بعد أن صلّى أراد أن يمدّ نشاطه، لهذا خرج (1: 35- 38. خرج أيضاً من عند الآب). شفى أبرص يرمز مرضه إلى الخطيئة (1: 40- 45). ثم شفى المخلّع نفساً وجسداً (2: 1- 12)0 أخيراً دعا لاوي وخطأة آخرين (13:2- 17). حينئذ نستطيع أن نتحدّث عن الجديد الجذري الذي حمله يسوع (18:2- 22)، عن هذا النبيذ الجديد الذي سيجمع حول المسيح المدعوّين إلى الوليمة الاسكاتولوجية.
إذا نظرنا إلى هذا الجديد على نور الإيمان، أدهشنا وسيطر على مشاعرنا. نحن هنا في ذروة وحي يعني نشاط يسوع الخلاصي. إنه يستطيع أن يخلّص لأنه يأتي من الآب. وهو يخلّص حقاً كل إنسان خاطىء يقبل أن يسمع نداءه ويتبعه، مع كل ما يتطلّبه هذا النداء. في هذا النداء نحن أساساً أمام دعوة إلى الخلاص بالإيمان. ولهذا، كل دعوة خاصة تفهم في علاقتها مع هذا الندء. اتبعني، قال يسوع. فقام لاوي وتبعه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM