الفصل الرابع عشر مخلّع كفرناحوم: غفران وشفاء

الفصل الرابع عشر
مخلّع كفرناحوم: غفران وشفاء
2: 1-12

كان الفصل الأول من إنجيل مرقس صعوداً إحتفالياً، صعود الإنتصار. فخلال العماد، تلقّى يسوع شهادة الآب وعون الروح. وفي البرّية، تغلّب على إبليس وجاءت الملائكة تخدمه. ثم هناك أربعة تلاميذ تركوا كل شيء وتبعوه، وكرازته التي تعلن بشارة (إنجيل) مجيء الملكوت، وعجائبه الساطعة التي تجتذب إليه الجموع. كل شيء يسير في خطّه الصحيح، وما من سحابة تلوح في الأفق.
غير أن شفاء مخلّع كفرناحوم يشكّل منعطفاً خطيراً. بعد اليوم، لن يكون ليسوع معجبون فقط، سيكون له خصوم وأعداء. ويبدأ القتال. يبدأ أولاً على مستوى المجادلات في خمسة أخبار متتابعة نقرأها في 2: 1-6:3.
أول هذه الأخبار هو شفاء مخلّع كفرناحوم. وهو يبدو على الشكل التالي:
* آ 1- 2: مقدّمة دوّنها الإنجيلي.
* آ 3- 5 أ: خبر الشفاء.
* آ 5 ب- 10: خبر الغفران.

1- المقدمة (آ 1- 2)
بدأ مرقس فشدّد على حضور جمع غفير. "تجمّع منهم عدد كبير ملأ المكان حتى عند الباب". إن شهرة يسوع جذبت إليه الجموع، وهذه الشهرة قد وصلت إلى الذروة. حتى الآن بدا يسوع كمجترح معجزات. يأتي إليه الناس ولا يخافون. ينتظرون منه حسنات مادية زمنية. وما يحصلون عليه لا يلزمهم في شيء.
ما هو الوقت الذي مضى بين بداية حياة يسوع العلنية وهذا الحدث؟ لا نجد جواباً في الأناجيل. والعبارة التي بها يبدأ مرقس خبره هي: "وبعد بضعة أيام". هي لا تعلمنا بشيء. أما لوقا فأشار إلى حضور "الفريسيين وعلماء الشريعة الذي جاؤوا من كل الجليل، من اليهودية وأورشليم" (لو 5: 17). ولكن يجب أن نتجنّب استنتاج كل خلاصة كرونولجية، لأن مقدّمة لوقا هي توسّع في معطيات مر 1: 5: "وكانوا يخرجون إليه من جميع بلاد اليهودية وأورشليم".
أين حصل الحدث؟ تبقى معلوماتنا ضئيلة. تفترض آ 4 أنه حصل في بيت. وتوضح آ 1: في كفرناحوم، "في البيت". ما هو هذا البيت؟ ليس بيتاً من البيوت، بل بيتاً معروفاً. هو بيت سمعان واندراوس المذكور في الفصل السابق (1: 29). هو البيت الذي أقام فيه يسوع بعد أن ترك الناصرة.
وقد يكون الإنجيلي قد أعطى هذا البيت بعداً رمزياً: هو الموضع الذي فيه يسوع يعلّم ويغفر الخطايا. وسيكون فيما بعد الموضع الذي فيه يجتمع أولئك الذين "يعملون مشيئة الله" فيشكّلون عائلة يسوع الروحية (3: 20- 35). ويُذكر البيت في 7: 17 حين يسأله تلاميذه عن مغزى المثل، وفي 9: 28 حين يسأله التلاميذ عن عجزهم أمام الروح النجس. أما يكون البيت هو الكنيسة مع وجود بطرس والإثني عشر. وسيدّل على الكنيسة أيضاً القاربُ الذي منه انطلقت دعوة سمعان بطرس في لو 5: 1- 11 (رج مت 8: 23- 27: الأمواج تهاجم القارب أي الكنيسة). لقد أراد مرقس أن يقول بشكل همسة ما قاله متّى بوضوح في 16: 17-19: "أنت صخر وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي" (رج مت 9: 8: "أعطى الله البشر، أي الكنيسة، هذا السلطان، سلطان غفران الخطايا").
واحتشدت الجموع حين عرفت بمجيء يسوع. فعلّمهم "الكلمة"، الكلمة التي ما بعدها كلمة، بشارة الإنجيل. إن هذه الطريقة في استعمال لفظة "كلمة" بدون مضاف إليه، للدلالة على الإنجيل، ليست أمراً عادياً. فهي خاصة بمرقس (على مستوى الإنجيليين). نجدها مراراً في تفسير مثل الزارع (4: 14- 20)، ومرة واحدة في الإجمالة التي تختتم خطبة الأمثال (4: 33: يكلّمهم الكلمة). أما في سفر الأعمال، فنجدها مراراً (أع 4: 4، 17: 11). فالكلمة شخص حي (مشخصنة): لها خدّام (أع 6: 4؛ 20: 24). هي تنمو كما ينمو إنسان (أع 6: 7: وكانت الكلمة تنمو؛ 19: 20؛ رج لو 1: 80؛ 2: 40) تنمو كحبّة من الحنطة (رج مر 4: 14- 20).
ويستعمل بولس أيضاً لفظة "الكلمة" بشكل مطلق (1 تس 1: 6: قبلتم الكلمة؛ 2 تم 4: 2: إكرز بالكلمة). غير أنه يزيد المضاف إليه ليحدّد معناها: كلمة الله (1 تس 2: 13؛ رج 2 كور 2: 17؛ روم 9: 6؛ أف 6: 17). كلمة المسيح (روم 10: 17؛ كو 3: 16)، كلمة الحق، كلمة المصالحة، كلمة الحياة. وحين يريد بولس أن يصوّر قدرتها الداخلية، يستعمل بالأحرى لفظة "إنجيل" (روم 1: 16: أنا لا أستحيي بالإنجيل). وفي كو 1: 6 يستعيد الصورة الإنجيلية: "الكلمة تثمر وتنمو" مثل حبة الحنطة.

2- الشفاء (آ 3- 5 آ، 11- 12)
حين روى مرقس شفاء المخلّع، لم يوجز مقاله. أما متّى فقدم خبره ملخصاً وجعله في رسمة سريعة. لقد احتفظ مرقس بعدد كبير من التفاصيل التصويرية التي تدلّ على أن "الكاتب" هو شاهد عيان.
ألغى متّى سلسلة من الإشارات تجعل نص مرقس حيّاً جداً. الجمع محتشد بحيث يستحيل الإقتراب من الباب مع مخلّع محمول على فراش. ولكن الحاملين صعدوا إلى السطح على السلّم الذي موضعه خارج البيت. ونقبوا السقف. أي: رفعوا الغطاء عن الفتحة الموجودة في وسط البيت. ودلّوا المريض بدون صعوبة. كان ضيف الشرف يجلس تحت الفتحة فتنيره الشمس. هناك جلس يسوع. وحين دلّوا الكسيح كان أمام يسوع.
لم يحتفظ متّى من هذا المشهد إلا بالكلام عن إيمان الناس. من هم هؤلاء الناس؟ هذا ما لا يقوله متّى. ويجب أن نعود إلى مرقس لنعرف أنه يعني أربعة رجال (العدد 4 مهم. هو عدد التلاميذ الأربعة الذين دعاهم يسوع. يمثّلون الكون بأقطاره الأربعة. يحملون هذا العالم الكسيح ليشفيه يسوع ويغفر له خطاياه).
يستعيد لوقا عناصر مرقس، ولكنه لا يذكر عدد الناس الذين حملوا الكسيح. ثم إنه كيّف الخبر مع بناء البيت اليوناني: أنزلوا المخلّع بين القرميدات.
"رأى يسوع إيمانهم". الإيمان شرط للمعجزة. هذه فكرة عزيزة على قلب مرقس، وهو يعود إليها مراراً: في ختام رسالة يسوع في الناصرة، لا يترّدد في أن يقول: "لم يقدر أن يصنع أية معجزة هناك بسبب قلّة إيمانهم" (6: 5-6). تأكيد قاس جداً. وسيخفّف متّى من حدّته: "ما صنع هناك كثيراً من المعجزات لعدم إيمانهم" (مت 13: 85). لو قال متّى مثل مرقس، لجعل قدرة المسيح على المحكّ!
وتفرّد مرقس أيضاً فاحتفظ لنا بالحوار بين يسوع ووالد المصاب بداء الصرع، وهو حوار تعليمي غني حول العلاقة بين الإيمان والعجائب (9: 21-24). قال يسوع: "إن كنت قادراً أن تؤمن، فكل شيء ممكن للمؤمن". فصاح الوالد في الحال: "إني أؤمن! فأعن قلّة إيماني"!
هذا لا يعني أن الإنجيل الثاني تفرّد في الإشارة إلى دور الإيمان في الحصول على المعجزات (رج مت 8: 13: ليكن لك على قدر إيمانك؛ 9: 22، 28-29؛ 15: 28) أو على غفران الخطايا (رج لو 7: 48- 50؛ أع 10: 43؛ 13: 38). ولكنه شدّد عليه في بعض الظروف بشكل خاص.
وينتهي خبر شفاء مخلّع كفرناحوم بشكل يوافق الرسمة المعروفة لأخبار المعجزات. تعجّب الذين شاهدوا الشفاء ومجدّوا الله قائلين: "ما رأينا مثل هذا قط". هذه الدهشة هي الخطوة الأولى نحو الإيمان. هذا ما يشير إليه مرقس مرتين. ان سير يسوع على المياه ملأ التلاميذ دهشاً "لأنهم لم يفهموا معجزة الأرغفة، فكانت قلوبهم عمياء" (6: 52). ثم، حين تكلّم يسوع عن التجرّد وأنبأ بآلامه، كان التلاميذ منذهلين، فلم يفهموا شيئاً (10: 32-33). فلا بدّ من مسيرة داخلية طويلة ونور إلهي لكي ينتقل الإنسان من الدهشة إلى الإيمان (8: 27- 29؛ 9: 22- 24). وسيبيّن لوقا بشكل أوضح من مرقس المسافة التي تفصل الدهشة عن الإيمان. مثلاً نقرأ في لو 2: 17-18 عن موقف الحاضرين المليء بالدهشة وموقف مريم المتأمّل. وفي أع 2: 7، 12، 37: إحتار الحاضرون وتعجّبوا... كانوا حائرين مذهولين... وفي النهاية: إنصرعت قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا علينا أن نصنع؟
حين نقرأ نصّ مرقس نجد أن موضوع دهشة الناس وشكرهم هو شفاء المخلّع (الكسيح)، ويبقى القارىء عند هذا المستوى فينسى غفران الخطايا. لهذا يحوّل متى نهاية مرقس فيلفت انتباهنا إلى معنى الحدث. أراد مرقس أن يبيّن أن الناس لم يفموا الآيات التي صنعها يسوع. أما متّى، فشدّد على دور الكنيسة في غفران الخطايا: "أعطى الله الناس مثل هذا السلطان".

3- سلطان غفران الخطايا (آ 5 ب- 10)
أ- غفرت خطاياك
تدهشنا كلمة يسوع حين نقرأها في نص مرقس: "يا ابني (يا ابن) غُفرت (تُركت) لك خطاياك". وكان الكتبة جالسين. فبحثوا عن معنى هذا الكلام الذي بدا كاللغز بالنسبة إليهم.
لعب الكتبة دوراً هاماً عند مرقس. يُذكرون هنا أكثر مما يذكرون في سائر الأناجيل. ويظهرون في كل قسم على أنهم هم الذين يوجّهون المقاومة ضد شخص يسوع وتعليمه. تعمّقوا في الكتب المقدسة فاكتشفوا بسرعة المبادىء التي على ضوئها سيحكمون على يسوع: الله وحده يستطيع أن يغفر الخطايا (مبدأ معرفوف عند اليهود، لهذا لم يذكره متّى).
الخطيئة هي إساءة إلى الله. هتف داود بعد زناه مع بتشابع: "خطئت إلى الرب" (2 صم 12: 13 ب). فاكتفى النبي ناتان بأن يعلن أن الله غفر خطيئة داود. ليس ناتان هو الذي يغفر الخطيئة. واذا عدنا إلى كلمة يسوع للمخلّع من الوجهة الفيلولوجية، نجد أنها تعني ما عنت كلمة ناتان لداود. لم يقل يسوع: "أنا أغفر لك خطاياك". بل "خطاياك قد غفرت" (مغفورة). هذه هي صيغة المجهول. لا يذكر نائب الفاعل. ونحن نعرف أن العالم اليهودي في زمن يسوع قد تحاشى التلفّظ باسم الله إكراماً وإجلالاً. لهذا استعملوا صيغة المجهول. أو استعارات. مثل السماء (لو 15: 7: خطئت إلى السماء، أي إلى الله. ملكوت السماء أو ملكوت الله). القدرة (مر 14: 62: عن يمين القدرة أي عن يمين الله). ملائكة الله (لو 15: 10: يكون الفرح عند ملائكة الله، أي الله). ملاك الرب (لو 2: 9). المبارك (مر 14: 61: المسيح، ابن المبارك أي ابن الله).
إذن، كان على الكتبة أن يفهموا جملة يسوع كما يلي: غفر الله خطاياك. ولكن من الواضح أن كلمة يسوع تذهب إلى أبعد من هذا. لأن يسوع طالب حالاً بسلطان غفران الخطايا: "سأريكم أن ابن الإنسان له سلطان (اكسوسيا) على الأرض ليغفر الخطايا" (آ 9).
ب- سلطان غفران الخطايا
هناك أقوال نبوية عديدة تعد المؤمنين بغفران خطاياهم للأزمنة الاسكاتولوجية. قال هو 14: 3: "إغفر لنا كل خطايانا وتقبلنا برضاك". وفي مي 7: 18-19: "من مثلك ينسى ذنوبنا ويعفو عن كل معاصينا، نحن بقية ميراثك، لأنك يا رب تحبّ الرحمة ولا تحفظ إلى الأبد غضبك. الرب يرجع ويرحمنا، ويستر لنا ذنوبنا، وفي أعماق البحر يطرح جميع خطايانا". وفي إر 31: 34: "سأغفر ذنوبهم ولن أذكر خطاياهم من بعد". هذا ما يقوله الرب في ارميا. ويقول في حز 16: 36 لأورشليم: "أغفر لك جميع ما فعلت". كما يقول في أش 43: 25: "أنا أنا الماحي معاصيك (يا شعبي)، وخطاياك لا أذكرها لأجلي".
ولكننا لا نجد في العهد القديم نصاً واحداً ينسب الى المسيح سلطان غفران الخطايا. لا شك في أن أناشيد عبد الله تربط بين "عبد يهوه" وخطايا البشر. فعبد الله يحمل عقاب هذه الخطايا، يكفّر عنها بموته (أش 53). ولكن لا يُقال أن له السلطان ليغفرها. وحين يشفي يسوع المخلّع، لا يلمّح إلى هذه النبوءة في جداله مع الكتبة. فيسوع يستند إلى نبوءة مسيحانية أخرى، بحيث لا نستطيع أن نفهم كلماته دون العودة إليها. أما النص فهو قول دانيال العظيم حول ابن الإنسان (دا 7: 13- 14). فيسوع يسمّي نفسه للمرة الأولى "ابن الإنسان" في هذا الجدال، في كفرناحوم (آ 10). أما في متّى فنجد لقب ابن الإنسان في مت 8: 20 (لطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له موضع يسند إليه رأسه).
يصوّر دانيال ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء. إقترب من عرش الله ونال سلطاناً على كل أمم الأرض.
قال دانيال: "ورأيت في منامي ذلك الليل، فإذا بمثل ابن إنسان آتياً على سحاب السماء، فأسرع إلى الشيخ الطاعن في السنّ. فقُرِّب إلى أمامه وأعطي سلطاناً ومجداً وملكاً حتى تعبده الشعوب من كل أمة ولسان ويكون سلطانه سلطاناً أبدياً لا يزول، وملكه لا يتعدّاه الزمن" (دا 13:7-14).
نلاحظ أن كلمة "سلطان" ترد ثلاثة مرات في هاتين الآيتين. فالسلطان الذي ناله ابن الإنسان هو سلطان الديان الإسكاتولوجي، ديّان آخر الأزمنة. أورد يسوع نبوءة دانيال حين أعلن عودته كديّان في نهاية الأزمنة. أولاً، في الخطبة حول دمار الهيكل (13: 26 وز؛ رج مت 16: 26؛ 25: 31). ثانياً، في كلامه أمام المجلس الأعلى (14: 62). وصنع السنهدرين مثل كتبة كفرناحوم: حسبوا كلام يسوع كلام تجديف وحكموا عليه بالموت. هناك رباط وثيق بين جدال كفرناحوم ومحاكمة أورشليم: فالصراع الذي بدأ في كفرناحوم انتهى في أورشليم.
إذا كان يسوع قد أشار أمام الكتبة إلى قول دانيال، فلأنه رأى فيه إعلاناً خفياً عن سلطان يمتلكه بأن يغفر الخطايا: فالدينونة الاسكاتولوجية ستكون قبل كل شيء دينونة دينية. وستدلّ على الخطايا. والديّان هو ابن الإنسان الذي يمسك سلطان الحلّ والربط (رج مت 16: 19؛ 18: 18). وسيكون لابن الإنسان في اليوم الأخير السلطان بأن يحكم على الخطأة أن يغفر الخطايا. إنطلق يسوع من هذه النبوءة فأكّد أنه يمتلك منذ الآن هذا السلطان.
إن سلطان ابن الإنسان يتحدّد كسلطان أعطي للديّان السامي. وهذا السلطان يمتدّ الى جميع أمم الأرض فيكلّفه بأن يدين الكون كله. وبفضل هذا السلطان المحدّد طالب يسوع بحقّه بأن يغفر الخطايا. منذ الآن هو يمتلك السلطة السامية التي تجعله يرأس محكمة الدينونة الأخيرة. وها هو يستبق الحكم الذي يتلفّظ به في آخر الأزمنة. وإن أراد أن يستبق، فهو لا يفعل ليدين ويحكم، بل ليغفر ويحلّ من الخطايا. لم يأتِ زمن الحساب. بل سيسبقه زمن النعمة والرحمة.
وإذ يمتلك يسوع منذ الآن سلطان غفران الخطايا، فهو يمتلكه على الأرض. وها قد بدأ يمارسه وهو الذي جاء من أجل الخطأة لا من أجل الأصحّاء.

4- امتداد الخبر الإنجيلي
أ- معجزة وآية
إن معجزة شفاء المقعد تحيط بقول يسوع حول غفران الخطايا، وتتقبّل منه بُعداً كبيراً. لم نعد فقط أمام إحسان كبير ناله هذا البائس، ولا أمام سلطان هذا النبي وصانع المعجزات، ولا أمام برهان بأن يسوع هو المسيح. بل نحن أمام آية (وعلامة) تدل على أكثر من هذا.
أكّد بعض الشرّاح أن الجدال ألّف فيما بعد داخل الكنيسة ليلقي الضوء على المدلول العميق للمعجزة. واعتبر آخرون أن يسوع تلفّظ حقاً بهذه الكلمات قبل أن يجترح المعجزة، فربطوا المعجزة بالجدال. ولكن مهما كانت الفرضية، فالتعليم الذي نستخلصه من هذا النصر يبقى هو هو. فهدف الخبر الأولى ليس الشفاء، بل غفران الخطايا: فيسوع له سلطان غفران الخطايا.
هذا ما فهمه متّى، فحوّل خاتمة مرقس ليلفت الإنتباه إلى هذه الفكرة. بل ذهب أبعد من ذلك. فما اكتفى بأن يجعل الترتيب أكثر منطقياً. ما اكتفى بأن يلغي دهشة الشهود. ما اكتفى أن يتحدّث عن ردّة فعلهم أمام مغفرة الخطايا. بل طرح هذا الغفران الذي منحه يسوع للمخلّع، والذي يمنحه البشر (في صيغة الجمع) داخل الكنيسة. ففي وضع المخلّع، إستشف متّى أن سلطان غفران الخطايا بيد يسوع نفسه الآن، قد انتقل إلى البشر: "ما تربطونه في الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما تحلّونه في الأرض يكون محلولاً في السماء" (مت 18:18).
أما الإنجيل الرابع فقد انطلق في خطّ آخر. لقد اكتشف في هذا المرض رمزاً إلى وضع الخاطىء الذي لا يستطيع أن يقوم بعمل يتوافق "والحياة الأبدية". لقد رأى يوحنا في يسوع المخلّص الذي يستطيع أن يشفي الإنسان من هذا الوضع، إما بكلمته القديرة وإما في حوض العماد. "إذهب واغتسل... فذهب واغتسل" (يو 9: 7).
وقد يكون مرقس رأى الرمز عينه في هذا المرض، في هذا المريض الذي يحتاج إلى يسوع ليسنده. وإذا كان لشفاء المخلّع قيمة في نظره، فبسبب السلطان العلوي الضروري لكي يتم الشفاء، ومن خلال الشفاء غفران الخطايا.
ب- سرّ شخص يسوع
في كفرناحوم، بدأ يسوع يكشف سر شخصه للذين يتمّيزون بُعد الآيات. لم يفهموا كلّهم. فلا بدّ من نور علوي "لنعرف" يسوع حقاً. "ما من أحد يعرف الإبن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الإبن ومن شاء الإبن أن يظهره له" (مت 11: 27).
أورد مرقس سلسلة من الآيات كشفت بشكل تدريجي سلطات يسوع الإلهية. فشفاء المتشيطن بدت برهاناً على حقّ يسوع بأن يتكلّم بسلطان (1: 21-27). وشفاء الرجل صاحب اليد اليابسة (3: 1-6) وُضع هنا ليدل على أن يسوع هو سيّد الشريعة. قال: "إبن الإنسان هو رب السبت أيضاً" (2: 28). ومعجزة شفاء المخلّع تتسجّل في هذا الإطار.
لقد أسند التقليد إلى آيات وعجائب أقوالَ يسوع السماوية. وهذه الأقوال الكبرى حرّكت الجدال، ثم بُغض الفريسيين ورؤساء الكهنة. لم تصدمهم معجزات يسوع، بل ما تعنيه هذه المعجزات: إنها تدلّ على سرّ شخص يسوع.
إن شفاء المخلّع يقع على مفترق في لحمة الإنجيل الثاني. لقد بدأت طريق يسوع تتوجّه إلى الآلام. وقد جعل هذه الطريق تتدرّج من الحيرة والدهشة إلى البغض: "خرج الفريسيون وتشاوروا مع الهيرودسيين ليقتلوا يسوع" (6:3).
وأراد لوقا أن يدلي على هذا الإتجاه منذ بداية رسالة يسوع العلنية، منذ خبر زيارته إلى الناصرة (4: 28- 30): غضب الحاضرون على يسوع. فقاموا وأخرجوه خارج المدينة (سيموت يسوع خارج مدينة أورشليم) وجاؤوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه ليلقوه منها. هكذا صوّر لوقا مسبقاً الحكم على يسوع وموته.
أما متّى فانطلق من خبر المجوس، وقتل أطفال بيت لحم، فرسم أحداث الجلجلة. وفي مرقس بدأت رسالة يسوع في خمسة جدالات (2: 1- 2: 6). وستنتهي في خمسة أخرى (11: 27- 12: 37).
إن التعليم الذي شكك الكتبة والفريسيين بعنفه، صار للمسيحيين عنصراً هاماً من إيمانهم بالمسيح، رأوا في مغفرة الخطايا عمل المسيح الأسمى. وفي هذا السبيل قال القديس بولس: "إن الآب نجانا (إنتزعنا) من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب الذي لنا فيه الفداء ومغفرة الخطايا" (كو 1: 13- 14).

خاتمة
والنتيجة: كلهم تعجّبوا. كلهم خطفوا من ذواتهم. مجّدوا الله وتعرّفوا إلى حقيقة كلمة يسوع. شاهدوا ظهور الله في كلام إنسان، في عمل إنسان. فحضور الله الخلاصي قد أدرك البشرية حقاً، لأن إنساناً مثلنا، هو يسوع المسيح، يتصرّف بسلطان الله ويوقظ النفوس والأجساد. تعجّبوا من فاعلية كلمة يسوع. وسوف يؤمنون بشخص يسوع الذي دلّت عليه كلمته الفاعلة في مريض شفاه وخاطىء غفر له خطاياه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM