الفصل العاشر
يسوع والتلاميذ الأولون
1:14-20
نجد في هذا المقطع جزئين مختلفين: إجمالة حول كرازة يسوع الأولى (آ 14- 15). ثمّ، خبر نداء التلاميذ الأربعة (آ 16-20). سيستعيد متّى ترتيب مرقس مع بعض التحويلات. أما لوقا ففصل بين الجزئين وجعل نداء التلاميذ يتأخّر إلى الفصل الخامس. قرّب مرقس بين الجزئين فأظهر أن يسوع يعمل بواسطة تلاميذه، أنه يعمل مع تلاميذه.
1- يسوع والإنجيل (آ 14- 15)
تتضمّن الأناجيل الإزائية (وأعمال الرسل) إجمالات عديدة. إن هذه الملخّصات التي تتميّز بعبارات عامة وأفعال في صيغة الماضي، تلعب دورين اثنين. من جهة، هي تشكّل إنتقالة في الخبر، فتربط بين المقطوعات، وهذا ما يلقي ضوءاً على بنية الإنجيل. ومن جهة ثانية، تتيح هذه "التدوينات" الحرة للكاتب أن يعبرّ عن لاهوته، أن يقول لماذا اختار هذه المقطوعات ولماذا رتّبها كما رتّبها.
ولإجمالة مرقس الأولى أهمية كبيرة بسبب الطابع الاحتفالي، وبسب ب مرافقتها لدخول يسوع في الحياة العلنية. وهي تتألّف من شقين: آ 14 أ: تقدم لنا معلومات عن الزمان والمكان. آ 14 ب- 15: تشكّلان الإجمالة بحصر المعنى مع جدال حول كل تفصيل في هاتين الايتين. كيف نفهم عبارة "إنجيل الله"؟ هل الله هو موضوع الإنجيل؟ أو هل الإنجيل يأتي من الله؟ ما معنى كلمة "إنجيل" وعبارة "تمّ الزمان؟" كيف نترجم فعل "انغيكان"؟ صار قريباً، اقترب، وصل. وهناك من يقول: هو هنا. قد حضر.
أ- كرازة يسوع الأولى في مرقس
إذا ربطنا آ 14- 15 بما سبق أو بما يتبع، نحصل على ضوئين مختلفين في النصّ.
إعتاد الشرّاح أن يعتبروا "المثلّث" يوحنا المعمدان- العماد- التجربة كمقدّمة للإنجيل، وأن يعتبروا الإجمالة كبداية حياة يسوع العلنية. والمجموعة التي تقابل ما نقرأ الآن تشكّل تدشين رسالة يسوع مع بداية كرازته ودعوته التلاميذ. فهناك عدة نصوص موازية (3: 7- 12، 13؛ 6:6 ب، 7- 12) تقدّم المتتالية عينها: نشاط يسوع ورسالة التلاميذ. مثل هذه الطريقة في النظر إلى الأمور تبرز نقطة مهمة في إنجيل مرقس.
وهناك طريقة أخرى. هي أقل تواتراً وأقل طبعية، ولكن فائدتها تكمن في أنها تنير زوايا أخرى. تقوم هذه الطريقة بأن نربط الإجمالة بالمثلّث حينئذ تشكّل آ 16 بداية جديدة تلفت الانتباه الى "بحر الجليل" كموضع نشاط يسوع. هذا ما يذكّرنا به القسم الأول من الإنجيل (16:1؛ 13:2؛ 7:3؛ 4: 1؛ 35:4؛ 5: 21). واهتمام مرقس هذا ببحر الجليل ليس فقط اهتماماً جغرافياً. بل هو يرتدي مدلولاً دينياً نكتشفه في أخبار عديدة: الحدود بين العالم اليهودي والعالم الوثني. والبحر يرمز أيضاً إلى قوى الشّر التي يجب التغلّب عليها. ثم إن الربط بين آ 14- 15 وآ 1- 13 يجعلنا أمام مجموعة متماسكة تحيط بها لفظة إنجيل وكأنها إطار (آ 1، 15) حسب أسلوب التضمين. وهكذا يقدَّم الانجيل بشكل إجمالي ثم بشكل "مفصّل".
ب- بنية النص ومقابلة مع الازائيين
تقدّم آ 14- 15 باحتفال مهيب أولى الكلمات التي تلفّظ بها يسوع في الإنجيل الثاني. من هنا أهميتها. ففي متّى ولوقا، قد تكلّم يسوع قبل أن يدخل في الحياة العلنية: الحوار المثلّث مع إبليس (مت 4: 3- 10؛ لو 3:4- 12)، الذي أغفله مرقس (1: 12- 13) في خبر التجربة. وقبل هذا، أورد متّى في 3: 14- 15 حوار يسوع مع يوحنا المعمدان في مشهد المعمودية، ولو 48:2- 49 حوار يسوع مع أمه في الهيكل. لا شك في أن كلمات يسوع هذه تدلّ على لاهوت كل من متّى ولوقا، فتُعتبر موازية لما في مرقس. ولكن من الواضح أن الموازاة الحقيقية نجدها مع أول كلمة علينة تلفّظ بها يسوع حسب الازائيين الثلاثة. كيف يبدو نصّ متّى تجاه نصّ مرقس؟
متّى (4: 17) مرقس (1: 14- 15)
وبدأ يسوع يعلن: أعلن يسوع
إنجيل الله:
تم الزمان
توبوا اقترب ملكوت الله
فقد اقترب ملكوت السماوات توبوا
وآمنوا بالإنجيل
فالعبارة التي وضعها متّى على شفتي يسوع هي قصيرة وباهتة بالنسبة الى ما في مرقس. نجد فقط عنصرين مشتركين ومقلوبين: ملكوت الله، التوبة. ويحيط بهذه النواة المركزية لدى مرقس، عنصران آخران: تم الزمان، آمنوا بالإنجيل.
وفي داخل نصّ متّى نجد نقصاً ظاهراً في الأصالة: ففي الجملة القصيرة عنصران سبق وتلفّظ بهما يوحنا المعمدان. أما أصالة مرقس فتظهر حين يضع في فم يسوع كلمة "إنجيل". أما لوقا فقال في الآيات الموازية (4: 14- 15) بأن يسوع علّم، ولكنه لم يورد كلمة من كلماته. ولكن حالاً بعد حدث مجمع الناصرة (لو 16:4- 30) الذي هو خاص بلوقا، يقرأ يسوع مقطعاً شهيراً من أشعيا (61: 1- 2) يعتبره الإنجيلي برنامجاً كاملاً. ويستعمل لوقا فعل "أنجل" (بشّر. يفضل الفعل على الإسم "إنجيل"). نحن هنا أمام موازاة مع نصّ مرقس. وفي الحالتين يبدو المشهد التدشيني العظيم في حياة يسوع العلنية على أنه إنجيل وبشرى.
ونعود إلى نص مرقس لكي ندرسه. إنه يتميّز بلفظة "إنجيل" التي ترد مرتين في آيتين. يشدّد مرقس على أهميّة اللفظة حين يرتّب نصّه: هناك عبارتان تحيطان بالإجمالة: "أعلن إنجيل الله". "آمنوا بالإنجيل". نجد هنا أسلوب التضمين الذي أشرنا إلـ في آ 1، 15 ووجدناه مجموعاً في هاتين الآيتين. فما هو معنى هذا التضمين المضاعف؟ تتكرّر لفظة "إنجيل" ثلاث مرّات فتبدو الكلمة الأساسية في مطلع إنجيل مرقس وفي الإجمالة التي تبدأ الإنجيل.
نلاحظ أولاً أن "إنجيل يسوع المسيح" صار "إنجيل الله". ونلاحظ ثانياً أنه إن أحاطت لفظة "إنجيل" باولى كلمات يسوع، فهذا يعني أنه يجب أن ننطلق من كلمة إنجيل لنفهمها. وفي أي حال، فالنصّ يدل على رباط وثيق بين "الإنجيل" ودخوله يسوع الاحتفالي على المسرح، وهو دخول تحدّده لفظة "إنجيل". فوظيفة النص الأساسية هي إعلان الإنجيل الذي هو إنجيل يسوع وإنجيل الله.
ج- ما هو الإنجيل
مع مطلع إنجيل مرقس نحن أمام ثلاث عبارات: "إنجيل يسوع المسيح". "إنجيل الله". "إنجيل" (بدون شيء آخر). نجد العبارتين الأولى والثانية في نص مرقس، أما الثالثة فقد وُضعت في فم يسوع. وسيستعمل مرقس خمس مرات كلمة إنجيل بشكل مطلق، ويجعلها دوماً في فم يسوع. ونستطيع أن نرتّب هذه الاستعمالات الخمسة في فئتين: بالنسبة الى الرسالة لدى الوثنيين (13: 10: إعلان الإنجيل إلى جميع الشعوب؛ 14: 9؛ 16: 5). بمناسبة الحديث عن اضطهاد التلاميذ أو التجرّد الرسولي (35:8: من يخسر حياته في سبيل الإنجيل؛ 10: 29: من أجل الإنجيل). وما يعطي وزناً للكلمة في هذين الايرادين الأخيرين، هو أنها وضعت مع "يسوع": "من أجلي ومن أجل الإنجيل". هناك تماثل بين الاثنين. الإنجيل هو شخص حيّ. هو يسوع.
لا نجد هذه الكلمة إلاّ ثلاث مرات في متّى (في عبارة: إنجيل الملكوت). ولا نجدها أبداً عند لوقا. هذا ما يدلّ على أننا أمام نقطة هامة لاهوت مرقس الذي أدخل هذه اللفظة (إنجيل) في التقليد الإنجيلي. قد تكون اللفظة وصلت إليه من بولس التي استعملها زهاء 60 مرة في مواضع مختلفة. نجد مثلاً كما في مطلع مرقس: "إنجيل الله، إنجيل يسوع المسيح". ونجد زهاء 30 مرة لفظة "إنجيل" بشكل مطلق. إن اللفظة تدلّ على إعلان خبر سعيد، كما تدلّ على نشاط بولس الرسولي لدى الوثنيين. وتدل على القيمة السميا التي فرضت نفسها على بولس وتجاوزته. نحن دوماً أمام واقع حي وديناميكي، أمام حدث يسير مسيرته ولا يتوقّف، هو: ظهور المجد (2 كور 4: 4)، وحيُ برّ الله، قدرة الله العاملة لخلاص الانسان (روم 1: 16). ويستطيع بولس أن يقول إن يسوع "هو ابن الله في القدرة بقيامته" (روم 1: 4). أو يقول: إن الإنجيل هو "قدرة الله للخلاص" (روم 1: 16). فبولس يماثل، شأنه شأن مرقس، بين يسوع والإنجيل حين يتحدّث عن الخلاص (ق مر 1: 14- 15؛ روم 1: 1- 5، 16).
حين يستعمل بولس لفظة "إنجيل" بهذا الشكل، فهو يعطيها معنى محدّداً لقرّائه. فهي جزء من اللغة الرسمية في الإيديولوجيا الرومانية التي تجعل الأمبراطور كائناً مؤلّهاً يمنح الخيرات لعبيده. فمولده، ومجيئه إلى القصر، وتنصيبه على العرش، ودخوله الرسمي إلى مدينة (باروسيا)، كل هذا يدشّن حقبة جديدة من السعادة والسلام والعدالة. كل هذا هو ينبوع فرح وقد ترافقه عطايا مثل العفو الشامل عن الأسرى والمسجونين. كل هذا يسمّى إعلان (كاروغما) الإنجيل بفم المنادي.
لا يجهل بولس هذا الإطار وتأثيره على طريقته في الكلام والكتابة. ولكن الينبوع المباشر لفكره ليس كتاب "طقوس" الامبراطورية، بل الكتاب المقدس: خبر شاول (1 صم 10)، خبر داود وسليمان (1 صم 31؛ 2 صم 1؛ 4؛ 1 مل 1). في هذه النصوص تعني كلمة إنجيل: النصر، الخلاص، مجيء الملك.
عاد بولس الى التوراة ولا سيما إلى أشعيا في كتاب "تعزية إسرائيل" (أش 40- 55)، فأخذ من هناك كلمة إنجيل. فهو يحيلنا مرتين إلى أش 52: 7. في روم 10: 15: "ما أجمل أقدام المبشرين بالخير". وفي أف 6: 15: "إعلان إنجيل السلام".
إستعاد أشعيا الثاني بشكل متماسك كل ما تصوّره عالم عصره حول كلمة "إنجيل"، فطبّقه على حدث محدّد: تحرير المسبيّين؟ عودتهم من المنفى بعد انتصار كورش على البابليين وإصدار قرار يسمح بإعادة بناء الهيكل. بعد هذا "الموت" الذي شكّله زمن المنفى، بدت العودة بشكل قيامة. حين حرّر الله شعبه، دلّ الوثنيين على قدرته الخلاصية، على برّه وحبّه. هذا ما يعنيه النص الشهير: "ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهك" (أش 7:52). إن الله يقيم ملكه حين يتدخّل بشكل ناشط ليخلّص شعبه ويكشف له عن ذاته. إذن، الإنجيل هو إعلان هذا التنصيب الملكي على عيون الأمم.
الإنجيل هو في نظر بولس ومرقس تنصيب ملكي، ملكوت قد بدأ (روم 1: 1- 4). إن بولس حدّد موقع الحدث التدشيني في موت المسيح وقيامته. أما مرقس، فجعله قبل ذاك الوقت. جعله في حياة يسوع العلنية. فمرقس يرى أن قدرة القائم من الموت تنكشف منذ الآن بشكل خفيّ في كلمات يسوع وأعماله حين كان على الأرض. وما تعلنه الإجمالة التدشينية، "الإنجيل" سيمتدّ في الأخبار اللاحقة: تعليم يُلقى بسلطان. حرب ضد إبليس. إختيار التلاميذ ومعجزات. إن حدث الخلاص الذي يدشّن ملكوت الله (إنجيل الله: مر 1: 14) هو شخص يسوع بالذات (إنجيل يسوع المسيح: مر 1: 1) الذي يعمل ويعلن. سماه أوريجانس: الملكوت شخصياً، الملكوت كشخص حي وفاعل. قال بولس وفهم مرقس إنّ إنجيل الله هو ابنه. واستطاع يسوع أن يقول إن "الملكوت هو هنا" (هو حاضر)، لأنه نفسه هو هنا.
إن الموازاة بين بولس (روم 1: 1- 5؛ 1: 16- 17) ومرقس (1: 14 - 15) تكشف عنصراً آخر: إن جواب الانسان على حدث الخلاص يكمن في موقف واحد، هو موقف الإيمان. فمن تاب آمن بالإنجيل أي تقبّله وتجنّد لخدمته. هذا ما نجده في المقطوعة التالية.
2- يسوع وتلاميذه
إن الإجمالة التي تقدّم يسوع والإنجيل تسبق بشكل مباشر (في إنجيل مرقس) نداء التلاميذ الأربعة على شاطىء بحر الجليل: بطرس واندراوس، يعقوب ويوحنا. هذا ما يفعله متّى أيضاً فيقدّم لنا نصاً مماثلاً مع بعض الاختلافات الطفيفة التي لها معناها. أما عند لوقا فالوضع يختلف: لا نجد نداء الاربعة، بل إجمالة أدبية مبتكرة تتضمن ثلاثة عناصر: تعليم للجموع، الصيد العجيب، دعوة خاصة توجّه إلى بطرس. إن خبر نداء التلاميذ وُجد في البدء في شكل مستقلّ. إذن، يجب أن نتساءل عن معناه في التقليد الأولاني، عن قيمته التاريخية، عن الدور الذي يلعبه في إنجيل مرقس الذي أخذه من التقليد وجعله في هذا الموضع.
أ- خبر دعوة في التقليد
للوهلة الأولى، نحس حين نقرأ النص أننا أمام خبر من الأخبار المتفرّقة التي دوّنت ساعة حدثت. ولكن حين نتعمّق في النص نجد أن الأمور ليست بهذه البساطة. هناك في الواقع خبران صغيران ومتشابهان. نستطيع أن نقرأ كل واحد على حدة. والخبران مرتبطان على مستوى الزمان والمكان والظروف بحيث يؤلّفان مجموعة موحّدة توحيداً تاماً.
أولاً: خبران متوازيان
نستطيع أن نتكلّم عن خبرين لأنهما مبنيان حسب النموذج الواحد والرسمة الواحدة. وهذا واضح إن وضعنا الواحد بإزاء الآخر. وسنزيد نص دعوة لاوي (2: 14) الذي يرينا الميزات عينها. فقراءة النصوص الثلاثة ترينا عناصر مختلفة وأخرى ثابتة (وإن اختلفت وسائل التعبير).
بطرس واندراوس يعقوب ويوحنا لاوي
1- مرّ تقدّم مرّ
على شاطىء بحر (قليلاً)
الجليل
2- رأى رأى رأى
سمعان يعقوب بن زبدى لاوي بن حلفى
وأندراوس أخاه ويوحنا أخاه
3- يلقيان الشبكة يصلحان شباكهما جالساً
في البحر في القارب على مكتب
(لأنهما كانا صيادين) الجباية
4- قال لهما: حالاً قال له:
تعاليا ورائي دعاهما اتبعني
(أجعل منكما
صيادي بشر)
5- في الحال تركا تركا
شباكهما أباهما زبدى
(في القارب
مع معاونيه)
6- وتبعاه وسارا وتبعه
وراءه
نلاحظ أولاً الأمور الثابتة: مرّ يسوع فرأى شخصاً صاحب صنعة. دعا هذا الرجل، فترك صنعته وتبع يسوع. وهكذا نكون أمام رسمة ثابتة نزيد فيها اسم المدعوّ ونوع عمله.
ومع هذا، فالموازاة ليست دقيقة جداً. إذا قرأنا النص من اليمين إلى الشمال، رأينا أن هناك عنصراً يختفي من عمود إلى آخر. وعد يسوع بأن يكون بطرس واندراوس صيادي بشر (مهمة يقومان بها). ذكر واضح لترك المهنة (لا يقال ان لاوي ترك مكتب الجباية). وفي النهاية، يبدو الخبر الثالث مختلفاً عن الخبرين الأولين. ونحن نتركه الآن جانباً.
ثانياً: خبر موحّد
يخضع الخبران لرسمة واحدة، وقد ميّزناهما. إلاّ أن الواحد ملتحم بالآخر التحاماً وثيقاً. بل نحسّ أن الواحد لم يُكتب بمعزل عن الآخر (لم يكن مستقلاً عن الآخر). والواحد يكمّل الآخر بشكل عجيب بحيث يجب أن نقرأهما معاً لنحصل على نظرة مُرضية إلى الأمور.
لا تذكر عبارة "كانا صيادين" إلاّ في الحديث عن بطرس واندراوس. ولكن القارىء يفهم أن يعقوب ويوحنا مارسا المهنة ذاتها. يصوّر كل خبر وجهة من نشاط الصيادين (واحد يرمي الشبكة وآخر يصلح الشباك)، ولكن الحْبرين معاً يقدّمان لوحة كاملة عن المهنة.
ماذا سيترك الرجال الأربعة؟ يجب أن نجمع ما يقوله كل خبر بمفرده: الشباك، القارب، الأب. ويختصر الكلام: المهنة والأسرة. ثم إن آ 17 تفسرَّ بالنسبة إلى آ 20 والعكس بالعكس. فالوعد (أجعلكما صيادي بشر) أعطي لسمعان واندراوس. ولكن من الواضح أنه يعني أيضاً يعقوب ويوحنا: لا حاجة إلى الإيضاح. نقرأ "دعاهما" في الخبر الثاني، فنتجنب التكرار في الخبر الأول: تعاليا ورائي.
إن آ 20 تفسّر الدعوة إلى إتباع يسوع: نحن أمام دعوة تعلن آ 17 موضوعها (مهمة، رسالة). كل شيء يبدو متماسكاً: فالعنصر الذي بدا زائداً في الخبر الأول، يشرف على المجموعة كلها. وهكذا يدل 1: 16- 20 على طابعه المبتكر. فإذا أردنا أن ندرك المعنى، نحدّد موقع العناصر المختلفة بعضها بالنسبة إلى بعض. إن الإشارة إلى المهنة قد تجعلنا نظنّ أننا أمام تفصيل سيروي (سيرة الرسول). غير أن الطابع المقولب للخبر يدلّنا على أننا أمام فنّ أدبي، ويدعونا إلى رؤية الأمور بطريقة أخرى. فهذا الخبر الذي اتخذ "شكله" في التقليد الشفهي في الكنيسة الأولى، قد استلهم نموذجاً من العهد القديم هو دعوة اليشاع.
ثالثاً: دعوة اليشاع
ماذا نقرأ في 1 مل 19:19- 21؟
فذهب إيليا من هناك، فلقي اليشاع بن شافاط يفلح الأرض وأمامه اثنا عشر فدان بقر... فمرّ إيليا بالقرب منه ورمى عليه عباءته. جرى اليشاع وراء إيليا وقال: "دعني أقبلّ أبي وأمي ثم أذهب وراءك". أجابه إيليا: "إذهب، عد. ماذا صنعت بك"؟... وقام اليشاع وتبع إيليا كخادمه.
نجد تشابهات لافتة بين هذا النص ونصّ مرقس، وقد يكون التقليد الإنجيلي استلهم العهد القديم. ولكن هناك اختلافات دقيقة تدلّ على المسافة بين نص مرقس ونموذجه.
ونبدأ بالتشابهات. نجد في النصين البنية عينها مع الكلمات ذاتها. مرّ إيليا (مثل يسوع). إلتقى برجل يعمل، دعاه لكي يتبعه. تخلّى التلميذ الجديد عن مهنته وعن أبيه وسار على خطى المعلّم. وهناك عنصر خاص يتوسّع فيه خبر اليشاع: دمّر كل ما يربطه بالماضي، وودّع والديه. هذا العنصر يتيح لنا أن نرى الاختلافات. هنا نعود إلى نداء لم يجد جواباً. أورده لوقا (9: 61- 62) وحده بعد متتالية احتفظ متّى (18:8- 22) منها بالحدثين الأولين. قال الرجل: "أتبعك يا سيد، ولكن دعني أولاً أودّع أهلي". أجاب يسوع: "ما من أحد يضع يده على المحراث...". وهكذا يبدو أن التقليد المتعلّق بدعوة اليشاع، قد لعب دوراً هاماً في تأليف الأخبار الإنجيلية عن الدعوة، وأثّر تأثيراً مباشراً فأبان الاختلافات التي هي أهم من التشابهات. هناك ثلاثة اختلافات رئيسية.
* الاختلاف الأول. توديع الوالدين (نجده في أخبار أخرى). بدا جواب إيليا ملتبساً. ولكن العالم اليهودي فسّرها كسماح لاليشاع بأن يذهب ويودّع والديه. ولكن لو 57:9- 62 الذي يورد ثلاثة أخبار دعوة، فهو يستبعد كل تأخير، كل مساومة، كل تراجع. وفي نداء الصيادين، لم يطلبوا من يسوع أن يودّعوا والديهم. "حالاً" ترك بطرس واندراوس شباكهما. وترك يعقوب ويوحنا والدهما. أما العمّال فظلوا معه.
* الاختلاف الثاني. إن إيليا "وجد" (لقي) أليشاع صدفة. دعاه. أشار إليه بأن يتبعه. أما يسوع "فيرى" الذين يدعوهم. ينظر إليهم نظرة تعبرّ عن اختياره لهم. ثم إنه يتفوّه بكلمة سامية (إتبعني) تدل على سلطته التي لا مثيل لها.
* الاختلاف الثالث. إن أليشاع تبع إيليا كخادم. ولكن يسوع أعلن للرجال الأربعة الذين دعاهم لكي يتبعوه بأنه يسلّمهم مهمة ورسالة. إنتقلوا من مهنة إلى مهنة. فتبدّلت وجهة حياتهم في الخطّ الجديد الذي رسمه يسوع لهم.
أدخل الوعد في رسمة تحوّلت لتتقبّله، وهو وعد بأن يجعل من أربعة مدعوّين صيّادي بشر. شكّل هذا الوعد نواة مركزية تنظّم النصّ حولها فصار خبر دعوة من أجل رسالة. قابلنا مرقس مع العهد القديم، فجاءت المقابلة تثبّت نتائج التحليل النصوصي. وهكذا نستعد لاقتطاف المعنى الذي جعله التقليد في هذا النصّ.
رابعاً: نداء، جواب، إرسال
إن هذا الخبر الذي تكوّن في كرازة الكنيسة الأولى (إنطلق من نموذج توراتي)، قد أبرز النقاط التالية: إن مبادرة يسوع تكشف سلطته السامية وفاعلية كلمته. ليس التلميذ هو الذي يبحث عن معلّم. بل يسوع هو الذي يبادر فيدعو. هكذا رأى الرب موسى وارميا. وهكذا رأى يسوع واختار ودعا الذين أرادهم له (3: 14).
وبعد هذا يأتي جواب المدعو: طاعة مطلقة لكلام يسوع، على مثال الأنبياء. إنقطاع تام عن الوضع السابق، عن الوالدين والمهنة. عطاء تام لذلك الذي يدعونا لكي نعيش معه حياة جديدة.
يدعو يسوع من يتبعه ويحمّله رسالة.
إن الكنيسة الأولى رأت في هذا الخبر أساساً لسلطة التلاميذ الرسولية. فرسالتهم لا تنبع من ذاتهم بل من نداء وصل إليهم. وهي تتجذّر في اتباعهم ليسوع.
ب- التلميذ في حياة يسوع
إذن، لهذا الخبر مدلول لاهوتي. ولكن، أية قيمة تاريخية له؟ هناك أمور غير معقولة. كيف يستطيع إنسان أن يترك فجأة مهنته ويتبع شخصاً مجهولاً؟ وكان على آباء العصور المسيحية الأولى أن يردّوا على كتّاب وثنيين وصفوا الرسل بخفّة العقل! ولوقا نفسه قد أحسّ بالصعوبة، فلم يجعل نداء بطرس في بداية إنجيله: كان يسوع قد "وعظ" في مجامع الناصرة وكفرناحوم... وصنع عجائب عديدة مثل شفاء حماة بطرس. وسيُذكر قارب بطرس مراراً خلال حياة يسوع العلنية. أما الإنجيل الرابع فدوّن الوقائع بشكل مغاير. فالتلاميذ العتيدون (ليسوا بالضبط أولئك المذكورين في مر 1). إلتقوا بيسوع في أيام يوحنا المعمدان. وتعلّموا شيئاً فشيئاً أن يتعرّفوا إلى يسوع. هم الذين اتخذوا المبادرة (يو 1: 35- 51). إن هذا العرض يعكس الواقع. ولكن كل شيء ليس من قبيل الخيال في مرقس. والجماعة لم تخلق كل شيء من لا شيء بحيث لا قيمة تاريخية لما نقرأ في الإنجيل الثاني. لا شك في أن هناك الرسمة اللاهوتية. غير أن الخبر يتجذّر تجذّراً حقيقياً في حياة يسوع، فيلقي نوراً ساطعاً على وضع التلميذ خلال حياة يسوع العلنية.
هنا نسوق الملاحظات التالية:
* عاش التلاميذ حقاً حول يسوع خلال حياته على الأرض. وعبارة "تبع"، "سار وراء" هي جزء من اللغة التي تحدّد علاقة مجموعة من التلاميذ بالرابي. لا شك في أن معاصري يسوع رأوا فيه رابي يحيط به تلاميذه. هذا ما تدل عليه مقاطع إنجيلية عديدة، وما يثبته لقب رابي الذي أعطي له مراراً.
* غير أن الجموع "اندهشت لأنه كان يعلّم بسلطان، لا مثل الكتبة". إذن، هو أكثر من رابي. فالوجهة المواهبية في شخص يسوع، بما فيها من سحر وجاذبية، تدلّ على تعلّق غير مشروط لدى الذين تبعوه من أجل ملكوت الله. وهذا ما لا نجده في علاقة بين تلميذ ومعلّم يعملان في خدمة الشريعة.
* إن "اتبّاع" يسوع الذي هو منادٍ بالملكوت أكثر منه معلماً للشريعة، يتجاوز الانتماء إلى الجماعة. فيدلّ على انطلاقة في مغامرة تتطلّب التزاماً تاماً وتجنّداً كاملاً.
* وهناك إشارة أخيرة في الخبر تجعلنا نلتقي في الحقيقة مع حياة يسوع على الأرض: الكلمة على "صيادي البشر". هي عبارة أصيلة، ولا شيء يوازيها في عالم الرابانيين ولا في العالم الهليني. نستطيع أن نعتبرها كلمة حقيقية تفوّه بها يسوع. ولكن ما هو معنى هذه الصورة؟ إذا كانت وعداً بمهمة، فما هو نوع هذه المهمة؟ هناك من يرى فيها معنى سلبياً لأنها تقابل البشر بسمك خرج من محيطه الحياتي. إذا توقفنا عند الاستعمالات النبوية، نفهمها على الشكل التالي: جمع الشعب من أجل الدينونة. إذن، يجب وضع كلمة يسوع في علاقة بإعلان ملكوت الله القريب، وهذا ما يوافق كرازة يسوع الأولى، وما يوافق رسالة التلاميذ الأولى في العالم اليهودي. ولكن كيف نفهم كلمة يسوع حول "صيد البشر"؟
ج- المسيحي بحسب القديس مرقس
حين دوّن مرقس إنجيله، كانت الأحوال قد تبدّلت تبدّلاً عميقاً: تلميذ يسوع ليس فقط ذاك الذي يمشي معه على طرقات فلسطين، بل ذاك الذي هو عضو في جماعة المؤمنين الواسعة والمنتشرة عبر العالم. والبشارة التي خرجت من العالم اليهودي، قد أعلنت في أربعة أقطار الأمبراطورية الرومانية. وهذا الانفتاح وهذا الانتشار هما ثمرة موت يسوع وقيامته. وخبرة الرسل الوحيدة والتي هي أساس مهمتهم الرسولية، تقدر أن تلقي ضوءاً على الوضع الجديد، شرط أن نجعل كلام يسوع حاضراً. هذا ما يفعله مرقس حين يلتقط خبر نداء الصيادين الأربعة، فيعيد تفسيره، ويجعله في بداية الحياة العلنية فيدّلى على معنى العبارة: اتّباع يسوع.
أولاً: نتبع يسوع حين نذهب الى الوثنيين، نذهب إلى الموت
لقد صار خبر دعوة الرسل نداء يتوجّه إلى كل إنسان. ولقد جعل مرقس الإشارات العديدة في نصّه لكي نقرأه في هذا المنظار. بدأ فطبّق رسمة الدعوة نفسها على خبر نداء توجّه إلى لاوي الذي ليس من مجموعة الاثني عشر والذي لم يتسلّم مهمة خاصة شأنه شأن بطرس واندراولس...
دعا يسوع لاوي لكي يتبعه. وبعد هذا حالاً أكل مع العشّارين والخطأة. وأوضح مرقس: كثيرون منهم تبعوه. أعلن يسوع أنه "يدعو الخطأة" (الذين لاوي منهم، رئيسهم) ليصيروا تلاميذه. وفكّر مرقس بهذا التوسّع الذي شكّل في عصره الخروج من العالم اليهودي والذهاب إلى الوثنيين. وهذا العبور إلى الوثنيين قد عبرّ عنه بواسطة الجغرافيا في الفصول الأولى من الإنجيل. إجتذب يسوع تلاميذه دوماً إلى خارج الحدود، إلى الجهة الثانية من بحر الجليل (38:1؛ 35:4؛ 5: 1؛ 6: 45؛ 32:7؛ 8: 27)، أو إلى صور وصيدا (3: 8؛ 7: 24). أن يكون الواحد تلميذاً، أن يتبع يسوع، فهذا يعني الذهاب معه نحو الوثنيين. وهذا يتحقّق في حياة الجماعة المسيحية بعد الفصح والقيامة.
حين أغفل مرقس في خبر دعوة لاوي التخلّي عن الخيرات والمهنة، فقد أراد أن يبيّن لنا أن اتّباع يسوع لا يفرض علينا أن نأخذ بحياته التي عاشها في فلسطين. بل أن نقاسمه مصيره بشكل أو بآخر. ماذا يعني هذا الكلام؟ لاحظنا أن مرقس استعمل مرتين في معرض حديثه عن الرسل فعل "ترك، تخلّى". قال في خبر الدعوة: "تركا الشباك وأباهما". وفي 14: 5: "تركوه كلهم وهربوا" (ساعة أوقف يسوع). لا نستفيد حين ترك الخيرات إذا كنا سنترك يسوع أيضاً أمام الموت أو "نتبعه من بعيد" (15: 54). فبعد اعتراف قيصرية (أنت المسيح) والانباء الأول بالآلام، أدخل مرقس موضوع الطريق، موضوع الدرب (8: 27) الذي يتوزعّ المسيرة إلى أورشليم (33:9؛ 10: 32). ولكن التلاميذ الذين يسيرون على هذا الطريق، الذين يسيرون في المؤخرة، يخافون من اتباع يسوع نحو الموت والقبول بالآلام. أما التلميذ الحقيقي فهو ابن طيما الأعمى: حين أبصر تبع يسوع في الطريق (52:10). فاتباع يسوع يعني بعد اليوم أن نحمل الصليب.
نستطيع القول إن خبر 1:16- 20 يكشف خبرة حقيقية ويقدّم استباقاً للحياة المسيحية. "تبعوه". إن بطرس واندراوس ويعقوب ويوحنا لم يتبعوا يسوع حقاً إلاّ حين حملوا الإنجيل إلى الوثنيين وبذلوا حياتهم من أجل يسوع ومن أجل الإنجيل (8: 35).
ثانياً: موضع الخبر: يسوع لا يصنع شيئاً من دون التلاميذ
لماذا تحدّى مرقس كل معقول وجعل هذا الخبر في بداية حياة يسوع العلنية؟ لأنه لا يستطيع أن يتصوّر يسوع وحده إلاّ خلال الآلام. فأول نشاط قام به يسوع في إنجيل مرقس هو أنه أحاط نفسه بتلاميذ. وبعد هذا سنراهم معه في كل أحداث حياته العامة (1: 21، 28؛ 15:2؛ 7:3؛ 37:5؛ 6: 1؛ 27:8...). فيسوع لا يستطيع (ولا يريد) أن يصنع شيئاً من دون تلاميذه. وهذا يعني أمرين:
* ما إن ظهر يسوع حتى كوّن جماعة، كوّن عائلة (20:3- 35) التلاميذ ليكونوا معه وليرسلهم (3: 14).
* عملهم هو امتداد عمله. وسيكونون شهوداً على أعماله.
حين قدّم مرقس إنجيله على هذا الشكل، أبرز التواصل نجين حياة يسوع والكنيسة. وهكذا نفهم الآن لماذا ربط الاجمالة حول كرازة يسوع واختيار الأربعة مع الإشارة إلى إعتقال يوحنا والحياة في الجليل. فيسوع دشّن الرسالة في إطار ما فعله السابق الذي سلّم إلى الموت كما سيسلم هو: في الجليل وحيث سيدعو القائم من الموت صيادي البشر ليرسلهم إلى العالم أجمع. هذا هو الإرسال الحقيقي، والدعوة الأولى كانت له رسمة سريعة وغير واضحة. في النهاية، هو القائم من الموت قد ظهر فجأة على شاطىء بحر الجليل، فضمّ البشر إلى إنجيله بفضل كلمته السامية.
بعد الآن، صار الجليل الارض كلها. وصار الأربعة جماعةً عظيمة من الذين آمنوا بيسوع، وتركوا كل شيء وتبعوه