الفصل التاسع
إقتراب الملكوت ومجيء المسيح
1: 14-6:3
أدخل يوحنا المعمدان يسوع في تاريخ زمانه واختفى فجأة بعد أن أُسلم فاعتقل. هذا هو مصير الأنبياء. وعرف الآب في يسوع ابنَه الحبيب، فأرسله إلى العالم يحمل رسالة المغفرة. لقد اقترب ملكوت الله. فكيف سيظهر؟ في مراحل ثلاث متعاقبة (1: 14-6:3؛ 3: 7-6: 6 أ؛ 6: 6 ب-8: 30). وسيبينّ لنا مرقس كيف ينزرع هذا الملكوت ويمتدّ ليدرك الإنسان في أعماقه: هذا هو القسم الأول في الإنجيل، حقبة وحي يسوع الذي هو المسيح، الذي يتجاوب مع انتظار البشر.
كان المطلع قد ركّز النور كله على مجيء يسوع: فالأنبياء ويوحنا المعمدان قد تكلّموا عنه. ثم توجّه إليه صوت الآب مباشرة. والآن، إنطلق يسوع إلى حقل العمل، إلى الجليل. بدأ يتكلّم. لم يحدّد الإنجيلي السامعين الذين لهم أعلن الخبر السعيد، الإنجيل. ولكن ما إن انطلقت الكلمة حتى ظهرت فاعليتها. فيسوع هو "صيّاد" ماهر يلقي الشصّ في البحر ويستخرج السمك. هذه الصورة تنقلنا إلى شاطىء بحيرة الجليل، لنشهد نداء الرفاق الأربعة الأوّلين. وفي الحال، حرّكت كلمته أولئك الذين لامستهم. وهكذا لم يعد يسوع وحده. ففي إيجاز مذهل، جعلنا مرقس ندرك قوة الإنجيل في "الهجوم" والإمكانيات التي فيه من أجلى جمع البشر.
ويمرّ حدثان طويلان نرى فيهما يسوع يعمل في الجليل حيث وصل، وبالأخص في كفرناحوم حيث "أقام". نراه يعمل في المجمع، في البيت، على ضفاف البحيرة. كيف يلتقي باناس عصره، وما هي ردّة الفعل عندهم على نداءاته؟ هذان هما السؤالان اللذان وضعهما مرقس نصب عينيه حين رسم لوحتين تتجاوبان: نشاط يسوع في الجليل، ولمحة عن مجادلاته مع معاصريه. بدا يسوع فيهما صاحب سلطان في القول وفي العمل.
تبدأ هذه القسمة بمقطعين قصيرين يحدّدان نقطة الإنطلاق: إجمالة عن يسوع (1: 14- 15)، خبر نموذجي مكرّس للرفاق الأولين (1: 16- 20). حينئذٍ نرى يسوع في كفرناحوم في الجليل (1: 21- 45) وفي سلسلة من المجادلات (2: 1- 3: 6). بعد هذا، يدخلنا مرقس في مرحلة جديدة( 3: 7- 12).
نتوقّف عند مسيرة الإنجيلي. ونقوم بعملين. الأول، نبحث عن بعض المحطّات في تاريخ التقليد، تقليد الذكريات عن يسوع كما نستشفّها في مرقس. الثاني، نكتشف خطوط اللاهوت الذي توسّع فيه مرقس في هذه القسمة الأولى، المرحلة الأولى من إنجيله.
ونبدأ في تكوين النصّ
حين كتب مرقس خبره على ضوء القيامة، أراد أن يبيّن للجماعات المسيحية الأولى أن تعليم يسوع كما أعلنته الكنيسة، هو شخص يسوع فيسوع هو إنجيل الله.
والمقطع الذي يفتتح هذه القسمة (1: 14- 15) ينتمي إلى الإجمالات، وهي نبذات دوّنها الإنجيلي وجعلها في أماكن هامة من إنجيله. هذه النبذة (آ 14- 15) مهمّة لأنها تقدّم لنا برنامج يسوع. إن الألفاظ المسيحية في هاتين الآيتين تدل على تقليد كرازي يحرّض الناس على التوبة بالإيمان بإنجيل ظهر في يسوع المسيح (رج أع 5: 31؛ 11: 18؛ 20: 21). في هذا الخطّ يذكّر نصّ مرقس الجماعة كيف أبصرت النور في الجليل (14: 28؛ 16: 7) بعد أن أسلم يسوع للصلب. هكذا بدأ يسوع عمله في الجليل بعد أن أُسلم يوحنا (1: 14). وُلدت الكرازة من الإيمان. والذي فهمّه أكّد عملياً أن الزمان قد تم، والتزمَ بأن يعمل في هذا "التمام". لسنا هنا أمام كلام وصل إلينا حرفياً من فم يسوع. بل أمام ملخَّص أمين لعمل يسوع المسيحاني وتعليمه الذي أوضح هذا الكلام.
لا يقدّم لنا مرقس خطبة طويلة عن يسوع، بل الإنجيل في العمل: أفعاله، أشفية، طرد شياطين. كل هذا يدلّ على اقتراب ملكوت الله ورجاء الخلاص الشامل الذي يحمله. إن مسيحيّي القرن الأول قد ارتدّوا وآمنوا بيسوع انطلاقاً من تبشير الرسل. لقد اعتقدوا مثل الرسل أنهم تلقّوا دعوة شخصية من قبل ذاك الذي "سحرهم" فقبلوا أن يقطعوا كل رباط مع المحيط العائلي، مع الوظيفة والمهنة.
إن خبر دعوة التلاميذ الذي استلهم خبر اليشاع، يبدو بشكل نموذج يبيّن شرعية رسالة سمعان واندراوس، يعقوب ويوحنا، ويحرّض المؤمن على أن يترك كلمة المعلّم القدير تحرّكه وتحوّله. فهو الذي بادر وجعل هؤلاء الرجال يتبعونه (عكس العادة عند الرابانيين الذين يأتي إليهم التلاميذ). هو الذي حوّلهم إلى "صيادي بشر"، فجعلهم جديرين بمهمة تتجاوزهم.
على المستوى التاريخي، دُعي التلاميذ الأوّلون في الجليل. وكان إرسالهم إثنين إثنين (رج أع 11: 30)، مبدأ وضعه يسوع (6: 7؛ لو 10: 1؛ رج مر 11: 1؛ 13:14؛ لو 7: 18) في خطّ سفر التثنية الذي يفترض وجود رجلين لتصحّ الشهادة.
إذن، نحن هنا أمام خبر نموذجي يتجذّر في تاريخ التلاميذ فيؤسّس الرسالة البعد فصحية في الكنيسة، على قرار اتخذه يسوع نفسه. صوّر متّى بإيجاز بداية كل حياة مسيحية مع يسوع. أما متّى فأبرز تأثير تعليم يسوع ونشاطه الشفائي على الجموع (مت 4: 23- 25). واهتم لوقا بالحقبات الكرونولوجية (تسلسل الأزمنة) فلم يروِ خبر نداء الرفاق الأولين إلا بعد أن جعلهم يختبرون قدرة المعلّم (لو 5: 1- 11).
تعود متتالية مجيء يسوع إلى الجليل إلى مرقس. فمن خلال نصّه، نجد خبراً أولانياً بسيطاً يروي في إطار كفرناحوم (1: 21) شفاء حماة سمعان (1: 29- 31)، ثم تجمّع المرضى أمام الباب (1: 32-34)، وبعدها صلاة يسوع وجوابه إلى التلاميذ بأن عليه أن يزور القرى الأخرى (1: 35- 38). زاد الإنجيلي في البداية وفي النهاية حدثين: الأول يورد طرد شيطان من إنسان (1: 21-28). الثاني يخبرنا عن تطهير الأبرص (40:1-45).
إستعاد لوقا هذه المجموعة وأبقاها في ترتيبها (ما عدا خبر دعوة التلاميذ الذي تبدّل موضعه). ولكنه تردّد حوله المكان بين الجليل (لو 4: 14، 31، 37؛ 5: 1) واليهودية (4: 44). لم يورد متّى من هذه المجموعة إلا بعض العناصر، مثل إعجاب الجموع أمام كلام يسوع (مت 7: 28- 29) وشفاء الأبرص (مت 8: 1- 4) وحماة بطرس (8: 14- 15) والمرضى والممسوسين (8: 16). ولكنه جعل كل هذا في أطر مختلفة تعود إلى تنظيم إنجيل متّى.
إنطلق مرقس من الوثيقة التقليدية التي انبثقت من تذكّرات جليلية حول طرد الشياطين والأشفية التي قام بها يسوع، فأعاد كتابتها في منظار كرازي. وهذه التحوّلات التي قام بها تشدّد على ارتباط نشاط يسوع بتاريخ كان الجليل مسرحه. وفي الوقت عينه، هي تجعل الجماعات المسيحية الأولى تدرك أن هذا النشاط يبقى حاضراً الآن. فالقائم من الموت قد سبق أخصّاءه إلى الجليل، أي إلى العالم كله. هذا هو المعنى الرمزي الذي اتخذته هذه المنطقة على ضوء القيامة.
إن مجيء يسوع إلى الجليل قد دشَّن الخلاص المسيحاني: فحقيقة إعلانه صارت أمراً ملموساً يخبر بأعمال قدرته. وهذه الأعمال تشكّل نداء إلى الإيمان. غير أننا نستطيع أن نخطىء حول بُعدها، فنجعلها تعبيراً عن شفقة إنسانية، أو نتحدّث عن يسوع كذاك المحرّر المثالي. لهذا أدخل مرقس "التوصية بالصمت" التي تلزم السامع أو قارىء الإنجيل بالسير في طريق الآلام مع يسوع، التي تجعله يموت عن نظراته المسيحانية الخاصة لكي يترك المسيح يستولي على كلماته فيحوّلها إعلاناً إنجيلياً. هذه هي خبرة الأبرص الذي طهر (1: 45: طفق ينادي).
لا يُفهم عمل يسوع إلاّ كبشرى وإنجيل. فإذا أراد المؤمن أن يدركه، وجب عليه أن يمرّ في التنقية مثل الأبرص، ويذهب إلى الجماعة البشرية فينال معها الخلاص. يناله كنعمة بموت يسوع المسيح وقيامته، لا بإعلان يتخذ هو فيه المبادرة.
نجد متتالية المجادلات الجليلية الخمس (2: 1-3: 6) في إنجيلي متّى ولوقا. أبقى لوقا على الترتيب عينه. أما متّى فقسّم المتتالية قسمين. ماذا نقوى عن التاريخ السابق لنص مرقس؟ إن تحليلاً لتأليفه يجعلنا نفترض أننا أمام رسمة بسيطة وجدت فيما قبل، فضمّت إما المجادلات المحمس، وإمّا المجادلات الأربع الأخيرة. ضمّت إلى بعضها ولم يهتم الذي ضمّها بتسلسلها. دارت حول موضوع المعارضة الفريسية ليسوع في موضوع السبت بشكل خاص.
كانت المجموعة "رفيق" المبشّرين المسيحيين الأولين حول استقبال الخطأة والصوم والسبت. كانوا يواجهون إعتراضات الجماعات اليهودية، فيعودون إلى أجوبة قدّمها يسوع لمعارضيه في أيامه. نكتشف يد مرقس في الرباطات التدوينية التي تحدّد في كفرناحوم موقع هذه الأخبار (2: 1). فهذه السلسلة من الأخبار لم تكن مواقعها محدّدة. ذكّرتنا بشكل متحفّظ بمجيء المعلّم إلى الجليل واختياره رفاقه الأولين.
أما الجديد الذي قام به مرقس، فهو أنه ربط بين هذه المجادلات "المدرسية" وحمّلها بُعداً كرازياً واضحاً. وإذ جعل أمامها حدث المخلع، ركّز المناقشة منذ البداية على مستواها الحقيقي: قدرة يسوع هي قدرة إلهية في أصلها. بعد هذا، بدت المجادلات بشكل معارضة متنامية من لدن الخصوم. وخفّت أهمية نقاط المناقشة، وبرز السبب العميق لآلام يسوع وموته. وأخيراً، نحن لا نفهم متتالية المجادلات إلا إذا وضعناها في المحيط الحياتي الخاص بالجماعات المسيحية الأولى: فيها طرحت أسئلة حول معنى مغفرة الخطايا بعد المعمودية، حول استقبال الخاطئين للمشاركة في الإفخارستيا، حول مدلول الصوم، حول إحلال "يوم الرب" (الأمر) كل السبت اليهودي، حول الاحتفال بيوم الرب. أسئلة طُرحت وهي تنتظر جواباً يتأسّس على موقف يسوع وأقواله.
ونعود إلى بنية النصّ.
نستعيد هنا مختلف معطيات النصّ، لنكتشف البنية الإجمالية لهذه الفصول على المستوى الأدبي، ثم على مستوى منطق الخبر. وهكذا نستوضح الرؤية اللاهوتية لدى الكاتب.
يضمّ التأليف الأدبي كل المرحلة الأولى في إطار "مجيء يسوع إلى الجليل"، كما أعلنته الإجمالة الأولى. وفي النهاية، سيضع مرقس على خطى يسوع "جمهوراً كبيراً" جاؤوا يطلبون الشفاء من المرض والتحرّر من الشياطين، فيفرض يسوع عليهم الصمت (3: 7- 12). كيف تمّ هذا العبور، وإعلان يسوع الأولاني (1: 14- 15) توجّه إلى سامعين لا نعرف هوّيتهم؟
هناك محطة أولى مع دعوة الرفاق الأربعة (بطرس وأخوه، يعقوب وأخوه) "عند شاطىء البحر". وهناك أيضاً سوف يدعو يسوع لاوي (2: 13) ويعود مع تلاميذه (3: 7) ليبدأ المرحلة الثانية في رسالته. فذكر القارب (3: 9) يدلّ على أن مسرح الأحداث سيكون البحر. إن كلمة يسوع ناشطة. سلطتها لا تناقش. وهي تدرك الإنسان حتى أعماق الشّر الذي فيه. تنزع القناع عن الشر، وتعطي الإنسان وعياً (1: 24، 34، 45؛ 3: 11) وتمييزاً (2: 6، 8؛ 3: 5) لم يكن ليصل إليهما في السابق.
ويقدّم مرقس قدرة هذه الكلمة في لوحتين متوازيتين ومتعارضتين: في كفرناحوم، يوم السبت (1: 21) عارض يسوع القوات المعادية التي سكنت في ذاك الرجل، وانتصر عليها، بحيث لم يعد يستطيع الظهور في المدينة، فأقام في أماكن مقفرة (1: 45). وفي كفرناحوم أيضاً (2: 1) وفي سلسلة مجادلات انتهت يوم السبت (3: 2)، لقي يسوع معارضة شديدة من قبَل الكتبة والفريسيين. ولما أسكتهم (3: 4) قرّروا موته (3: 6) بالاتفاق مع أصحاب هيرودس (3: 6) الذين لا يجهلون اعتقال يوحنا المعمدان (1: 14). ولنقدّم رسمة سريعة لهاتين اللوحتين.
1- سلطة تعارض
أولاً- محطة أولى: في كفرناحوم، يوم السبت (1: 21- 34)
أ (1: 21-27) في المجمع. يسوع يعلّم ويطرد الروح النجس من إنسان منتهراً إياه. التوصية بالصمت. نجد هنا تضميناً: دهشوا جميعهم من تعليم يسوع الذي يُلقى بسلطان (آ 22، 27).
ب (1: 28): شهرة يسوع في الجليل كله.
ج (1: 29- 31): عبور يسوع من المجمع إلى بيت سمعان. تدخّلَ الرفاق الأربعة، فأُقيمت الحماة من الحمّى. نجد هنا وصلة الخبر: قرب الباب. نهاية السبت.
د (1: 32-34): إجتمعت المدينة كلها. وجاء المرضى والمتشيطنون إلى يسوع. التوصية بالصمت.
ثانياً- محطّة ثانية: في الجليل، غداة السبت (1: 35- 45)
ج ج (1: 35-38): إنطلاق يسوع إلى موضع قفر. تدخّل الرفاق الأربعة الذين ذهبوا في إثره. قال: يجب أن نذهب إلى أماكن أخرى.
ب ب (1: 39): وجاء يسوع إلى الجليل كله.
أ أ (1: 4-45): طهّر يسوع أبرص جاء إليه، ثم انتهره (توصية بالصمت). أعلن الرجل ونادى بالكلمة، فاعتزل يسوع الناس وذهب إلى الأماكن المقفرّة.
هنا نجد تضميناً: جاء إلى يسوع (آ 40، 45).
2- سلطة تلقى المعارضة
أولاً: محطة أولى: مرة ثانية في كفرناحوم (2: 1- 17).
أ (2: 1-9): في البيت جمهور كبير، ألقى يسوع الكلمة، وغفر خطايا المخلّع الذي حمله إليه أربعة رجال. قال له: "قم". وسأل الكتبة الذين فكّروا في قلوبهم وظلّوا صامتين. إنهم الخصوم.
ب (2: 10-12): تصريح يسوع حول ابن الإنسان: شفاء المخلّع ودهشة الجميع.
ج (2: 13-17): وانطلق يسوع من جديد إلى جانب البحر حيث علّم الجموع. دعوة لاوي، مشاركة في الطعام مع الخطأة. ردّة فعل الكتبة تصل إلى التلاميذ: الحاجة إلى طبيب.
وصلة الخبر: في كل وقت، في ذلك اليوم.
د (2: 18- 22): سؤال حول الصوم وعدم الصوم. العريس هو مع التلاميذ ولكنه سيؤخذ منهم. (الصمت) الجديد على مستوى الثوب والزقاق.
ثانيا: محطة ثانية: يوم السبت (2: 23- 3: 6)
ج ج (2: 23- 26): عمل التلاميذ أمراً "محرّما". ردّة فعل الفريسيين تصل إلى يسوع. خبر داود والذين كانوا معه. إحتاجوا فأكلوا من خبز التقدمة.
ب ب (2: 27-28): تصريح يسوع حول ابن الإنسان: إنه ربّ السبت. والسبت هو للإنسان.
أ أ (3: 1-6): دخل يسوع مرة ثانية إلى المجمع يوم السبت. حدّث رجلاً يده يابسة. "قم". وسأل خصومه. فظلوا صامتين بقلوب قاسية. وعادت اليد صحيحة مثل أختها. حينئذٍ تشاور الفريسيون والهيرودسيون ليهلكوا يسوع.
1- المتتالية الأولى (1: 21- 45)
هكذا ارتسم البناء، وهو يساعدنا على إبراز خصائص النصّ. ففي المتتالية الأولى (1: 21- 45)، تجاوب الخبران البعيدان (أ، أ أ)، خبر طرد الشيطان في المجمع، وخبر تطهير الأبرص. ففي كلا الحالين ينقلب الوضع ساعة يفرض يسوع الصمت على الإنسان الذي طهر (1: 25، 1: 44). في ب وب ب، تأتي نبذة معمّمة فتفتتح عمل يسوع في الجليل كله. إن شهرته أعلنت مجيئه. وفي المقطعين المتوازيين الأخيرين (ج وج ج) تقلّص المشهد فانحصر في بيت سمعان واندراوس، وفي الموضع القفر حيث ذهب يسوع يصلّي. هنا ظهرت وظيفة الرفاق الأربعة الأولين كوسطاء بالنسبة إلى حماة سمعان (1: 30). وبالنسبة إلى الجموع (1: 36). وأخيراً، في قلب هذا المقطع نجد يد مرقس: جاء الجمع إلى يسوع وحمل إلى يسوع جميع المرضى (ج) وكل الممسوسين (فيهم شيطان) (أ).
في بداية الخبر، جاء يسوع إلى الجليل. أما في نهايته، فالناس جاؤوا إليه. إن عمله الرافض للشر هو الذي جعل الجموع تلتئم عند باب المدينة (1: 33)، جعل الجميع يطلبونه (1: 37). لا شك في أن يسوع يشفي الذين يأتون إليه، ولكنه في الوقت عينه يرفض "النجاح السهل". فكلامه يزيل القناع عمّا في الحماس الشعبي من التباس: فرض الصمت على الأبرص... هرب إلى الأماكن المقفرة... وعارض معرفة الشياطين له في واقعها وفي كذبها (1: 25، 34). رفض أن تعلن فعلاته الخلاصية بشكل قد يضّر برسالته (1: 43- 45).
إن هذا الصمت المفروض وهذا الإعتزال للناس، سيحرّران "الكلام" الحقيقي، ويثيران "الإعلان" الذي لا غشّ فيه (1: 45). إذن، يتركّز مجمل الخبر على شخص يسوع: من هو إذن؟ من أين له هذا السلطان؟ كيف يمكن أن يكون "قدوس الله"؟
2- المتتالية الثانية (2: 1- 3: 6)
في بداية المتتالية الثانية نجد يسوع "يلقي الكلمة" (2: 2). جيء إليه بمخلّع يحمله أربعة رجال، تشبه وظيفتهم وظيفة الرفاق الأربعة "الوسطاء" (1: 3، 36). هنا حلّت الخطيئة محلّ الأرواح النجسة أو محلّ الشياطين. جاء الكتبة الذين تجاوز تعليمُ المسيح تعليمهم (1: 22) وبدأوا المعارضة (2: 6) التي سيكمّلها الفريسيون (2: 16، 24) حتى القرار بالقتل (6:3).
وهنا أيضاً نجد في الطرفين مشهدين (أ وأ أ) يتجاوبان. إنهما يعنيان كسيحَين (كسيح كامل، كسيح اليد) يأمرهما يسوع فيقول لكلّ منهما: "قم" (2: 9، 3: 3). إنقلب الوضع في شخص المريض الذي غُفر له وشُفي في الحالة الأولى. وفي الحالة الثانية، وُضع في الوسط ثم أعيد إلى ملء الصحة. وانقلب الوضع خاصة في "قلب" المعارضين الذين لاذوا بالصمت في كلا الحالين (2: 9؛ 3: 4). ولكن الخاتمة تختلف بين حالة وحالة. بعد شفاء المخلّع دهش الناس كل الدهش (جُنَّ جنونهَم لما رأوا). وبعد شفاء اليد اليابسة، تآمر الخصوم ليقتلوه (3: 6).
في ب وب ب جاء تصريح ليسوع حول سلطان ابن الإنسان ليغفر الخطايا، وليجعل السبت في خدمة الإنسان، فعمّم عمله وأثبت أصله الإلهي. أما التوازيان التاليان (ج وج ج) فينقلاننا من شاطىء البحر إلى البيت (2: 13، 15)، ومن حقول القمح إلى هيكل الله (2: 23، 26)، ويركّزان الإنتباه على شخص يسوع.
أبرز مرقس وظيفة التلاميذ مرة أخرى: فالكتبة سألوهم عن موقف معلّمهم (2: 16). ثم إنّ تصّرفهم جعل الفريسيين يطرحون سؤالاً على يسوع (2: 24). أما يسوع فيتضامن مع تلاميذه الخاطئين والمحتاجين إلى طبيب، كما تضامن داود مع رفاقه حين احتاجوا إلى طعام. وأخيراً، نجد في قلب المتتالية (د) الجدال حول الصوم الذي يضع على المحكّ موقف تلاميذ يوحنا والفريسيين تجاه جماعة يسوع. ويدلّ على حاضر الملكوت على أنه عبور من قديم مؤقت إلى جديد مطلق.
في بداية الخبر، أعلن يسوع تحريراً جذرياً كاملاً للكسيح، غافراً له خطاياه. وفي نهايته، تآمر الخصوم على هذه القدرة التي تعيد إلى الإنسان حريته وإمكانية العمل لديه. وتدخّل يسوع يثير مرة أخرى معارضة عليه حتى الموت، فتكشف القلوب بما فيها من خبث وعمى. وإذ أراد يسوع أن يكشف عن نفسه حقاً، وجب عليه أن يمرّ في الصمت: ينزع منهم حضور العريس، فيعرفون كم كان يحبّهم. ولكن هذا "الإنتزاع" سيصبح كشفاً يتميّز بما فيه من جديد: إن موت يسوع يحرّر الإنسان "الكسيح" في خطيئته، شرط أن يتركه يغفر له، "يقيمه"، شرط أن يقبل بأن يمدّ يده إلى القوة المحيية التي تنبعث من يسوع. وهنا أيضاً يُطرَح السؤال حول يسوع: من هو ابن الإنسان؟ كيف يستطيع الله أن "يخاطر" بسلطانه في تاريخ البشر؟
وتأتي الإجمالة الختامية فتركّز النور كلّه من جديد على يسوع، لتهيّىء القسمة التالية. بعد أن تلخّص مرة ثانية عمل يسوع المسيحاني، فهي تقدّمه لبشرية التي ترمز إليها المناطق السبع المذكورة في 3: 8. إن حقيقة الأشفية وولوج الأرواح النجسة إلى السرّ، يجب أن يُمتَحَنا: من هو "ابن الله" (11:3)؟
هل نستطيع أن نحدّد كيف يتوزعّ نص مرقس من الوجهة البنيوية؟
هناك الزمان والمكان والأشخاص.
1- الإشارات الزنية
ليست الإشارات الزمنية عديدة، ولكن أهميتها تلفت النظر. فبعد دعوة الرفاق الأولين يدخل يسوع على "المسرح" يوم السبت. وينتهي ذاك اليوم "عند المساء" (1: 32). وفي الغداة ننفتح على الجليل كله، حيث يمدّ يسوع نشاطه منذ الصباح. ونجده "بعد بضعة أيام" في كفرناحوم. في الجدال المحوري (حول الصوم) يتحدّث عن "كل الوقت"، وقت حضور العريس. ولكن تأتي أيام يرفع العريس عنهم، في ذلك الوقت يصومون. هل يهدّد الموتُ هذا الحضور؟
ويجري وليْ الخبر في يوم السبت. هناك من ينتقد عمل يسوع وعمل التلاميذ لأنهما ممنوعان في ذلك اليوم المقدّس. وفي اللغة المسيحية، أما نستطيع أن نربط هذا التجمّع المسائي بتجمّع العشاء السّري الذي يسبق غياب يسوع، وقبل أن يشرق الغد الذي فيه يسبق القائم من الموت أخضاءه إلى الجليل (1: 32 و14: 17؛ 1: 35 و 16: 2)؟ إن القول عن العريس يدعونا إلى التأمل في هذا الواقع نفسه. فالعريس ينسّق أيام الإنسان إنطلاقاً من حضوره وغيابه. ومن سبت إلى سبت، تبدّل معنى التاريخ البشري كله لأن ربّ السبت قد دلّ بموته على الجديد الجذري الذي فيه.
2- مستوى المكان
تمّ مجيء يسوع في الجليل. ونعود ثلاث مرّات إلى شاطىء البحر (1: 16؛ 2: 13؛ 3: 7)، موضع النداء الرسولي لصيّادي البشر. وفي كفرناحوم نحضر عبوراً من المجمع حيث انتشر خبرٌ وصلَ إلى كل الجليل، إلى بيت سمعان حيث تتحقّق الخدمة الحقة وتجتمع المدينة كلها. ولكن هذا الإجتماع ملتبس (يكاد يضيع معناه الحقيقي)، فيصحّحه يسوع بهرب نحو الأمكنة المقفرة حيث يصلّي فيجعل الناس يتّصلون بأبيه.
في هذه المدينة حيث تتجابه رغبات البشر وأحكامهم، إرتسمت حركة "داخلية" أربع مرات: في كفرناحوم، يسوع هو "في البيت"، وهو يرسل المخلّع "إلى بيته" بعد أن يشفيه. من البحر، نتبع يسوع "إلى بيته" حيث يأكل مع الخطأة. من حقول القمح، نمرّ مع يسوع، داود الجديد، "إلى بيت الله". وفي النهاية، نجد نفوسنا في المجمع وسط الجميع. نستطيع أن نقوم ونمدّ يدنا مثل صاحب اليد اليابسة. من لا يدرك في هذه الحركة حضور القائم من الموت، الذي يجمع البشر وسط كنيسة يتم فيها تمييز القلوب، وفيها يستعيد كل إنسان حريته في غفران الخطايا والمشاركة في سبت الله من أجل خدمة الإنسان؟
3- الأشخاص
في هذا العمق المكاني والزماني، ماذا يعني الواقع الملموس لكل حياة بشرية؟ يسوع يروح ويجيء فيدعو رفاقاً ليتبعوه، يشركهم في مصيره، يجعلهم يعيشون على إيقاع حضوره وغيابه. هو يشفي الناس ثم يختفي، وهكذا يتبعه الناس حتى في صلاته المنفردة، وهكذا ينتقده الناس فيجعلهم يدركون أنهم يعارضون الهّ نفسه حتى يقرّروا موت مرسله. وعبر هذا الرواح والمجيء، هذه اللقاءات والمجادلات، يظهر عمل الله ويقترب ملكوته: وُلدت جماعة على خطى المعلّم، جماعة من الوسطاء بينه وبين الجموع، جماعة فيها نختبر الخلاص عبر ارتداد يتكرّر دوماً، وإيمان يتجدّد باستمرار، جماعة يُكشف فيها الشّر لنطهّر منه، يُقام القناع عن الخطيئة التي فينا لكي ننال الغفران.
هذه الكنيسة التي تشقّ طريقها عبر الحقول فترسم طريق الإنجيل، تعود إلى أسفار العهد القديم لتدلّ على أنها تمّت في يسوع حين أعلن أن الزمان قد تمّ. فابن الإنسان قد فجّر معارضة الخطيئة فجعل غفران الله حاضراً على الأرض. كما حطّم فرائض الشريعة التي فيها يسعى الإنسان دوماً لكي يسجن زمن الله.
هذه الملاحظات على المستوى البنيوي تؤكّد تحليلنا للنصوص. وتظهر الواقع الذي رسمه المطلع بشكل نبوي حيث الخط العمودي المرسوم بين الأرض والسماء بواسطة صوت الآب ونزول الروح، سيقطع الخط الأفقي في البرية حيث يبحث الإنسان في الصحراء عن طريق خلاص. غير أن الفرق هو أن يسوع ليس وحده هنا. معه رفاق (ف 1) سيصبحون تلاميذ (ف 2). فيه اقترب ملكوت الله من شقاء البشر، وغطس حتى جذوره الخاطئة فأخذه على عاتقه في عهد يكتشف التباسه ويحرّره في الوقت نفسه من هذا الإلتباس.
ما هو تعليم النص؟
إذا أردنا أن نفهم تعليم النص الذي تجوّلنا فيه، يجب أن نعيد قراءته على ضوء سّر القيامة (والفصح) الذي يكشف لنا المعنى العميق الذي يحمله. فبداية إنجيل يسوع، المسيح، ابن الله (1: 1) تواجهنا. فما فعله يسوع مرة في كفرناحوم، في الجليل، يمتدّ اليوم في جليل حياتنا اليومية، حيث الكنيسة ما زالت تدعو الشعوب "إلى يسوع" القائم من الموت. فتقدّم له المرضى والمتشيطنين لكي يجلسوا إلى المائدة معه لأنه الطبيب الذي يغفر.
في حياة يسوع الناصري على الأرض، لم يكن التلاميذ ولا الجموع يستطيعون أن يدركوا بُعد عمله وكلمته القديرة. ولهذا فرض عليهم الصمت إلى أن تُكشَف حقيقة شخصه عبر موته، عبر صمته الخاص الذي سيتيح للبشر أن يتكلّموا. وسيعلن الرسل بدورهم الكلمة، وسيأخذ الإنجيليون في كتابتها: للعالم أجمع، لليهود وللأمم الوثنية. ولكن صمتاً يبقى ضرورياً هو الذي يُسكت الإتهامات والأحكام البشرية، صمت الإنسان أمام إلهه.
إن حضور "الشياطين" و"الأرواح النجسة"، لا يتركنا في راحتنا اليوم. نريد أن نزيلهم من تصوّراتنا ومخيّلتنا. ولكنهم حقيقة وواقع. فهم يحرّفون معنى أقوال يسوع وأعماله. هم يظهرون بحضور "قدّوس الله" (1: 24). فالله حين ينزل إلى عالم البشر يكشف هذه النجاسة التي لا تدركها نظراتنا الأرضية. البشرية هي موضع المواجهة بين قوّتين لا تتوافقان: قوة الله التي تخلّص الإنسان كله من الشّر: جسده المريض ونفسه المغتربة والخاطئة. إن استطاع الأطباء أن يشفوا من البرص والشلل، فهذا يعني أن الله بواسطتهم يصيب الشّر في جذوره ويطهّر الإنسان فيجعله يرجع إليه.
إن نصّ مرقس يواجهنا لأن صوته حي. وما يجعله حياً هو الكلمة التي يتفوّه بها. حلّ إنجيل الملكوت الذي يقترب منّا لأنه في يوم من الأيام رنّ في آذان أهل الجليل. والتعليم الذي يحمله إلينا هذا النصّ هو أن الزمان قد تمّ، أن رجاء البشر قد اكتمل بما نستطيع أن ندركه من حضور الله بيننا.
هذا الحضور يُعطى لنا في يسوع. فبكلمته يشفي المرضى ويطرد الشياط. يجمع الجماهير حوله، ويدخلهم في سبته النهائي، في راحة الله العظمى. بكلمته الخلاّقة يعيد الإنسان إلى الصحة الكاملة, صحة الجسد والقلب والروح. لا شيء يفلت بعد اليوم من عمله الشامل، الذي يعمّ الكون. لقد صار الجليل عالم البشر. هذا ما أدركته الأرواح النجسة فرفضته: إن معرفتها التي تدلّ عليها بالصياح، ليست تعبيراً عن الإيمان، بل معارضة لله. أما الذين يؤمنون مثل حماة سمعان أو المخلّع، فيُطلَب منهم الصمت: يخدمون أو يطيعون.
إن هذا الحضور يقدّم الجديد الكامل التام. أمامه كل شيء يصبح عتيقاً بالياً. ولكن هنا تكمن الصعوبة: من اعترف بالخليقة الجديدة، قبل أن يموت فيه يقينه وفرحه. نحن نرفض كلمة من يقول لنا: الله هو هنا. فنحن نرفض أن يكون الله حاضراً في هذه الأمور التافهة من الحياة مثل السبت، أن يكون حاضراً في هذه الزاوية الحميمة التي يخفي فيها كل واحد خطيئته. فالجديد لا يكشف شبابه إلا في الإنسلاخ. كما أن العريس لا يستطيع أن يسلّم ملء حبّ الله الأمين، إلاّ إذا تركناه يذهب ولم نمسكه بين أيدينا (كما حاولت أن تفعل المجدلية، يو 20: 17). إن الكتبة والفريسيين يعيشون اليوم أيضاً في المؤمنين الذين لا يفهمون، أو يرفضون أن يؤمنوا أن الزمان قد تمّ، أن الإنجيل قد تفجّر وسط البشر، ان تاريخ الكون صار حقل عمل الله الحاسم الذي يخلق ويمنح غفرانه.
إن بنية نصّ مرقس تجعلنا نكتشف أن حضور يسوع في كل الأزمنة والأمكنة يمتدّ في أحداث ملموسة حصلت في زمن التقى فيه يسوع بمعاصريه. وهذا الحضور يُعطى لنا بالطريقة عينها: إن الله يلج إلى واقع حياتنا أكان ثميناً أو بسيطاً. وملكوت الله الذي اقترب مرة، ما زال يقترب. نحن أولئك الذين ننعم بحضوره: خطأة، مرضى وممسوسون، جموع، كتبة وفريسيون، أرواح نجسة...