الفصل الثامن
وجرب الشيطان يسوع
1: 12-13
قدّمت لنا الأناجيل الإزائية ثلاثة أخبار عن تجارب يسوع. ولكن الذاكرة عندنا مزجت بين عناصر هذه الأخبار: جبل عالٍ، عزلة، الشيطان، ثلاث محن انتصر فيها يسوع في بداية حياته العلنية.
لا بدّ من إكتشاف هذه النصوص الثلاثة في تنوّعها، كما وردت في متّى ومرقس ولوقا، لكي ندرك الهدف الخاص بكل إنجيلي، وكيف جعل الخبر في خدمة هذا الهدف. حينئذ نتساءل: كيف يتحدّد كل "تعليم" في عمل الإنجيلي، وبالنظر إلى مراجعه.
1- قراءة إزائية
يرد خبر تجارب يسوع في متّى (4: 1- 11) ومرقس (12:1- 13) ولوقا (4: 1- 13). وحين نعود إلى الإزائية، يلفت انتباهنا حالاً إيجاز خبر مرقس حتى حدود الإيجاز، وتوسّع متّى ولوقا في خبرين متوازيين. ويلفت انتباهنا أيضاً ترتيب التجربتين الثانية والثالثة في متّى ولوقا. جعل متّى تجربة يسوع في أورشليم (ألقِ بنفسك إلى الأسفل) في الدرجة الثانية، وفي الدرجة الثالثة "أخذه إبليس إلى جبل عالٍ جدّاً". أما لوقا فجعل تجربة أورشليم في الدرجة الثالثة، وهمه أن ينتهي خبر التجارب في أورشليم، كما تنتهي حياة يسوع في المدينة المقدسة. فهناك ستكون التجربة الحقيقية والنهائية (لو 4: 13: فارقه الشيطان إلى حين) التي ستنتهي بانتصار يسوع على الشّر من خلال آلامه وموته وقيامته.
وإذا عدنا إلى التفاصيل، رأينا أن بداية خبر مرقس (آ 12- 13 أ) توافق تقريباً ما نجد في مقدّمة كل من متّى ولوقا (مت 4: 1- 2؛ لو 4: 1 - 2). أما آ 13 ب في مرقس فتوافق بالأحرى خاتمة متّى (4: 11) ولا تجد ما يوازيها عند لوقا.
ندرك في قراءة أولى أن خبر تجارب يسوع يأتي عند الإزائيين الثلاثة، حالاً بعد عماد يسوع والتيوفانيا التي فيها دلّ الصوت السماوي على ابن الله. غير أن لوقا يقحم بين العماد (3: 22) والتجارب (4: 1- 13) سلسلة نسب يسوع (23:3- 38) التي تبدو أصيلة بالنسبة إلى السلسلة التي نقرأها في مت 1: 1 ي (لا يعطي مرقس هذه السلسلة).
وأخيراً، في الأناجيل الثلاثة، يسبق خبرُ التجربة حالاً عودة يسوع إلى الجليل وبداية حياته العلنية.
من الواضح إذن أنه يجب أن نقرأ من جهة متّى ولوقا، ومن جهة ثانية النبذة القصيرة في مرقس. وهكذا نجد نفوسنا أمام برنامج يفرض نفسه: نميّز أقله بشكل مؤقت ما ينتمي إلى مرقس وما يبدو مادة مشتركة بين متّى ولوقا وقد أخذاها من المعين.
الإطار السيروي هو هو. وكذلك الظروف: يرتبط عمل الروح بإقامة تدوم أربعين يوماً في البرّية التي هي موضع التجربة والغلبة. هذا ما شدّد عليه مرقس ومتّى حين تحدّثا عن خدمة الملائكة ليسوع.
والنبذة المرقسية التي تبدو بشكل إطار وحي تتلخّص في ثلاث نقاط: عمل الروح الذي يقود يسوع الى البرية. هناك يخضع للتجربة. ثم يأتي الملائكة فيخدمونه. بساطة في العرض، ولكن التحليل لن يبدو سهلاً.
نحسّ مسبقاً بصعوبة في تجاور موضوعين يمكن أدن يكونا مستقلين: التجربة في البرية والإقامة الهادئة في هذه البرّية عينها: فالابن أقام في هذه البرية مع حيوانات تصالحت معه وملائكة خضعت له. أين التماسك بين هذين الموضوعين؟
قدّم متّى ولوقا التجارب الثلاث في خبر طويل هو صورة عن موضوع مرقس الأولى (آ 13): "كان الشيطان يجرّبه".
2- نبذة مرقس ومسألة المراجع
أراد متّى أن يبيّن في يسوع الابن الأمين، والانسان الخاضع كل الخضوع للكتب المقدسة التي يفهمها. وهكذا يتم دعوة إسرائيل التي خانها الشعب دوماً. وأفهمنا لوقا المدلول اللاهوتي لبنوّة يسوع الإلهية كما ظهرت في خدمته التي انتهت في الآلام. هذان التفسيران يرتبطان بخبر تقليدي عرفه متّى ولوقا. كما أن أخبار متّى ومرقس ولوقا تعود إلى ينبوع مشترك كان في بدايته مدراشاً (درس وتعليق وتأمّل) موجزاً نقله مرقس في شكله القديم وربّما أوجزه.
يفترض البعض أنه كان في يد مرقس مرجع قصير ظلّ أميناً له. أما "المعين" فزاد التجارب الثلاث. ورأى آخرون أن مرقس أوجز خبراً طويلاً تضمّن التجارب الثلاث. وفكّرت فئة ثالثة في تقليد واحد حول تجربة يسوع، وقد وصل إلى الإنجيليين في عدة أشكال قد تكون مستقلّة.
حينئذ تصبح المسألة المطروحة: ما هي علاقة هذه التقاليد مع يسوع نفسه؟ أو: مع المراجع الأولى؟ يقول بولتمان مثلاً إن مرقس أوجز لوحة سطُرية للبرية الفردوسية وأقحم فيها خبر التجربة الشيطانية. ثم تدخّل لوقا ومتّى مع خبر (هاغاده) هجومي على شعب إسرائيل الذي خان ربّه على مدّ تاريخه. أما يسوع فكان أميناً له. أما جاك دوبون فرأى أن الأصل الحقيقي للتقليد يعود ولا شكّ إلى خبرة يسوع كما فسرّها (متّى بشكل خاص) على ضوء العهد القديم. يجب أن نرى في حدث اعتراف بطرس بيسوع (أنت المسيح ابن الله الحي)، وردّ بطرس على يسوع المتحدّث عن آلامه (يجب على ابن الانسان أن يتألم... حاشا لك يا رب، مر 27:8- 33)، مناسبة تفسير للتلاميذ تضمّنت هذا الخبر.
ونعود إلى خبر مرقس. فعنده تبدو الإقامة في البرية بتأثير (عنيف، دفعه) من الروح الموضوع الحقيقي للخبر، وشبه خاتمة لخبر العماد نفسه الذي هو جزء منه. وأيام التجربة الأربعين هي عودة واضحة إلى نمطية خروج شعب إسرائيل. والإشارة إلى خدمة الملائكة تذكّرنا بخبرة نبوية (مثلا، حلقة إيليا) أو برؤية لأزمنة الفردوس حيث تصالحت الخليقة فخضعت من جديد للانسان حسب إرادة الله (خر 28:34؛ 1 مل 19: 5-8). ونذكر في هذا المجال أن لوقا مزج، حين تحدّث عن عودة السبعين من رسالتهم، موضوع الشياطين الخاضعين، موضوع إبليس الساقط من السماء، والسلطان الذي أعطي لهم بأن يدوسوا الحيّات والعقارب (17:10- 20). وكل هذا نجده قبل نصّ فيه يبارك يسوع الابنُ أباه (10: 21- 22).
إن هذه الحيات والعقارب (أو: الأشبال) هي جزء من العالم الاسكاتولوجي التقليدي. سنجده في مز 91 (آ 11- 12) الذي سيستعمله إبليس لكي يحارب به يسوع.
إذن، يبدو لنا أن مرقس حين دمج موضوعَيْ التجربة وخدمة الملائكة في البرية، لم يجعل الواحد مجاوراً للآخر. بل أراد أن يعبرّ عن منطق ووضع قديم لتفكير الكنيسة حول عماد يسوع ونتائجه المباشرة.
نستطيع أن نقرأ هنا 1 كور 10: 1-13 حيث يستعيد بولس في تحريض عمادي، مواضيع تنتمي إلى الكرازة التقليدية: تذكّرُ خروج اسرائيل إلى البرية (و"عماده،) حيث أكلوا كلهم طعاماً روحياً واحداً وشربوا شراباً روحيا واحداً (آ 2- 5). دعوة بأن لا "يصيروا عبدة أوثان كما كان قوم منهم" (آ 7). ويأتي خاصة فعل الأمر: "لا نجرّب الرب... لا تتذمّروا" (آ 9- 10). وفي الخاتمة، يرد تعليم وتحريض عن التجربة: "لم يُصبكم من التجارب إلاّ ما هو بشري (تقدرون عليه كبشر)، فإن الله أمين فلا يدعكم تجرّبون فوق طاقتكم، بل يجعل أيضاً مع التجربة وسيلة للخروج منها وقوة لتحمّلها" (آ 13).
كل هذا يستند إلى يقين يعبرّ عنه بولس في رسالته إلى الكولسيين (2: 14- 15): إن يسوع قد "جرّد الرئاسات والسلاطين وشهّرهم إذ سيرّهم في موكبه الظافر".
وفي الكرازة البولسية نجد مواضيع متماسكة: صليب يسوع كموضع انتصار على قوة الشيطان، العماد المسيحي الذي نفهمه عبر نمطية "عماد" إسرائيل في البرية، تحريض حول التجربة التي ما زال المؤمن خاضعاً لها. ونجد التماسك عينه في مواضيع الأناجيل الإزائية حول الآلام، مع حدث جتسيماني الذي ترافقه تعليمات للتلاميذ حول التجربة والسهر. فالآلام هي نهاية رسالة بدأت في عمادٍ تلته تجاربُ تغلّب يسوع عليها.
إن مخطّط تحريض بولس إلى الكورنثيين يوافق تصميم متّى (الطعام، الشراب ومياه مسّة، تجربة الرب) كما يوافق نبذة مرقس في زمنيها: التجربة، الأمر، النصر. جتسيماني، الصراع، خدمة الملائكة.
3- المحنة في البرّية
نحن هنا في مرقس أمام حدث جديد. يبدأ "وفي الحال" كما في رؤية المعمودية (آ 10). كان المعمدان قد أعلن أن "الأقوى" سيغطّس الناس في الروح القدس. ولكن ها هو الروح القدس يطرد يسوع، "يرميه خارجاً" نحو البرية. هذا الفعل يرد مراراً عند الإزائيين (28 مرة في متّى. 18 في مرقس، 20 في لوقا) ويعني خروج شيطان أو عنصر ليس في محلّه. تفرّد مرقس في استعماله في إطار تجربة يسوع قبل أن يدلّ به على طرد الشياطين (34:1، 39، 43). يرى بعض الكتّاب ان هذه اللفظة تحيلنا إلى نمطية تستلهم سفر التكوين: هناك الرجل والمرأة اللذان "طردا" من جنة عدن ودخلا إلى عالم معادٍ (تك 3: 24)، وهناك يسوع، آدم الجديد. واجه قبضة الشر التي تدلّ عليها الحيوانات المفترسة، وبدأ عودة البشرية إلى الله. ويرى آخرون نمطية سفر الخروج: "طرد" الشعب العبراني من مصر إلى البرية (خر 6: 1؛ 11: 1؛ 33:12) التي اعتبرت أرض التجربة. لقد استعاد يسوع مسيرة شعبه فانتصر حيث اسرائيل سقط في التجربة. وقد نستطيع العودة إلى الطريقة التي بها اقتيد حزقيال إلى اخوته في المنفى (حز 3: 14)، ثم إلى أورشليم (حز 11: 1). حينئذ يكون يسوع ذاك الذي يقوم بالوساطة التي وجب على اسرائيل أن يقوم بها بين الأمم ولم يفعل. قد تكون هذه التذكرات التوراتية وراء نص مرقس فتدلّ على غنى تأمّلِ كنيسة رومة في أحداث حياة معلّمها.
حين نقرأ نصّ مرقس نحسّ كأننا أمام ملخّص. هي نمطية الخروج كما نجد في عد 14: 33- 34: "وبنوكم يكونون رعاة في البرية مدة أربعين سنة، ويتحمّلون عاقبة خيانتكم إلى أن تفنى آخر جثثكم البرية...". وفي تث 7:2: "أربعون سنة كان الرب إلهكم معكم وما أعوزكم شيء" (رج تث 8: 1- 6). وفي مز 8:95- 10: "ولا تقسّوا قلوبكم كما عند مريبة، كما في ذلك اليوم عند مرة في البرية حيث جرّبني آباؤكم وامتحنوني مع أنهم شاهدوا أفعالي. أربعين سنة أبغضت فيها ذلك الجيل وقلت فيهم: هم شعب قلوبهم في ضلال، وهم لا يعرفون طرقي". هذه النمطية قد طبّقت على إيليا (1 مل 8:19) وموسى (خر 18:24؛ 28:34؛ تث 9:9) اللذين عاشا محنة الأربعين يوماً ما عدا الصوم. ورمزية الحيوانات نجدها أيضاً في موضوع دانيال الذي نجّاه ملاك من الأسود (دا 6: 23؛ 14: 36). ونستطيع أن نفكّر في موضوع الخليقة المصالحة كما في أش 6:11- 9 وفي مدراش تك 19:2- 20 الذي يتكلّم عن تجربة ثانية خضع لها أبوانا الأولان وصلّى الملائكة والحيوانات من أجل ثباتهما أمام التجربة. نقرأ في حياة آدم وحواء (نهاية القرن الأول المسيحي. كتاب منحول): حين كانت حواء تطلب المغفرة وسط النمورة، تغطّس آدم في الأردن وفي الصوم مدة أربعين يوماً لينال نعمة الله. فظهر الشيطان من جديد لكي يجرّبه. فانضمت الحيوانات إلى الملائكة وصلوا إلى الرب لكي يحفظهما من السقوط.
خاتمة
هناك تقاربات عديدة، ولا سيما على مستوى الملائكة والوحوش والشيطان. ولكن الطابع السري لهذا المشهد يشدّد على غياب أي شاهد بشري. لهذا السبب تحفّظ مرقس حين تحدّث عن تجارب يسوع. فهذه البرية هي أرض لا يدخل إليها الإنسان. وفكره لا يستطيع أن يتوقّف على الدراما التي جرت فيها، إيمانه وحده يستطيع أن يتأمّل. هذا ما حدث في جتسيماني (14: 32- 34) حيث حضور ثلاثة أشخاص يجعلنا ندرك في الاعماق كم كانت وحدة يسوع كبيرة