الفصل السابع عماد المسيح

الفصل السابع
عماد المسيح
1: 6- 11

جاء يسوع من الناصرة في الجليل، فعمّده يوحنا في الاردن. سجّل مرقس ولوقا الحدث من دون تفسير. أما متّى فأورد حواراً بين الرجلين يدلّ على "انزعاج" الكنيسة الأولى أمام هذا العماد الذي يطلبه "الأقوى" من ذاك الذي لا يستحقّ ان يحلّ له سير حذائه. ونكتشف هذا "الانزعاج" عند متّى لأنه اختلف عن مرقس ولوقا فلم يحدّد أن عماد يوحنا هو فقط لغفران الخطايا.
تحدّث متّى عن اجتياح الانجيل عبر هذا العماد الخفي لابن الله. أما نصّ مرقس فترك القارىء امام صدمة السّر. ولوقا راح أبعد من مرقس، فأورد عماد يسوع عبر اسم فاعل بسيط: "وحدث حين كان كل الشعب يعتمد، أن يسوع "معتمدٌ" أيضاً صلىّ فانفتحت السماوات" (لو 3: 2).

1- التقليد السابق للازائيين
أ- اعلان يوحنا المعمدان
كان يوحنا يكرز ويعمّد. وحسب "المعين" العتيق الذي استعمله متّى ولوقا، أعلن قرب حلول الدينونة الاسكاتولوجية: الغضب الآتي الذي يحلّ بالخطأة. إذن هذا العماد هو مرحلة تسبق إقامة الملكوت من أجل الأبرار. لهذا بدت ضرورة التوبة والارتداد. وكان الجواب على هذا التعليم يتّخذ شكلاً ملموساً في تقبل العماد: يغطّس الانسان بحضور يوحنا في ماء الاردن، على مثال الاستحمام الطقسي الذي عرفه اليهود في ذاك الزمان.
هذا العماد يشهد بصورة علنية على إرادة الانسان بالتطهير الداخلي انتظاراً لمجيء الرب. في هذا الإطار يدخل التصريح الذي نقرأه عند مرقس ولوقا حيث السابق يجعلنا نستشفّ المسيح الآتي، كرامته السامية، ونشاطه العمادي الخاص: "يأتي بعدي من هو أقوى مني. أنا عمدتكم بالماء، أما هو فيعمّدكم بالروح القدس" (مر 1: 7؛ لو 3: 16).
"يأتي". هذا هو آخر مرسلي الله. هو "أقوى" من يوحنا المعمدان، ولا مقارنة. فهو يعمل في الروح القدس. أي حسب العقلية البيبلية المعروفة، "يتصرف" بقوة الله نفسه. فاللفظة "اسخيروتيروس" (أقوى، اسخيروس، قوي) تستعمل هنا ولا تستعمل مع المعجزات (ديناميس). فنجدها في الحديث عن حرب يسوع ضد الشيطان ومملكته (مت 12: 29 وز). يسوع هو الاقوى وهو يطرد الشياطين بروح الله: تلك هي علامة مجيء ملكوت الله.
إن عماد يسوع يتجاوز عماد يوحنا. هكذا يتجاوز عمل الله عمل الإنسان. هكذا يتجاوز الروح القدس كل عنصر مادي كالماء مثلاً.
ونجد صورة عن سموّ كرامة يسوع وتفوّق شخصه المطلق في مثل شعبي. فالسابق بالنسبة إليه لا يستحقّ أن يعمل ما يعمله العبد تجاه سيده: لا يستحقّ أن يحلّ سير نعليه.
"هو يعمّد". عند متّى ولوقا (إطار إسكاتولوجي أولاني) تستعمل هذه اللفظة استعارة ومجازاً. نحن ننتقل من شخص إلى شخص. فالآتي يمارس نشاطاً يشبه بعض الشيء نشاط السابق. اللفظة هي هي: تغطيس. تغطيس في الماء مع يوحنا المعمدان. تغطيس في الموت والقيامة مع المسيح.
كما أن العماد (الاستحمام) ينفي الجسد، ينزع الأوساخ المادية، هكذا يأتي المسيح وينقّي شعب الله. ينزع منه الاوساخ الادبية. وبشكل عملي يزيل الخطأة ويفنيهم في نار لا تطفأ. وبكلمة أخرى، هو يحقّق الدينونة الاسكاتولوجية التي يتحدّث عنها سياق النصّ الذي لا يشدّد على "يعمّد"، بل على الكلمات التالية.
هو يعمل "بالروح القدس"، بالقوة المقدسة التي تُمنح له (رج أش 11: 2- 4). وفي هذا، سيكون فاعلاً بطريقة تختلف عن طريقة السابق مع طقسه الرمزي البسيط: "أنا أعمّدكم بالماء".
"وبالنار". قال مر 1: 8: "هو يعمّدكم بالروح القدس" ولم يذكر "النار" كما فعل متّى (2: 1) ولوقا (3: 16). إن تصريح يوحنا المعمدان قد تضمّن هذه اللفظة. فتذكّر النار يعود مرتين أيضاً في السياق المباشر (في متّى ولوقا): هناك نار تحرق التبن بعد أن ينقّي "المسيح" بيدره ويجمع القمح في مخزنه (مت 3: 12؛ رج لو 3: 17). هناك نار تحرق كل شجرة لا تثمر ثمراً صالحاً (مت 3: 10؛ لو 3: 9). صور تتلاقى وهي تعود إلى الأنبياء (ملا 3: 2: مثل نار الممحّص؛ زك 13: 9: أدخل هذا الثلث في النار واصهره صهر الفضة) فتدلّ على العقاب الكامل الذي يزيل في نهاية العالم الخطأة الذين يرفضون أن يتوبوا. "العماد بالروح والنار" قد يعني في هذا الإطار القديم "دينونة تدلّ على قدرة الله وعقابه". أجل، تدلّ النار على عمل الله الذي ينقّي (1 بط 1: 7).
وهكذا لا يعلن يوحنا المعمدان بشكل مباشر معمودية المسيح ولا معمودية المسيحي (هذه النظرة ستعود فيما بعد). فما يعلنه في معنى أول هو مقابلة بين عماده الخاص الذي هو طقس مادي ورمزي محض، والدينونة الرهيبة التي تأتي فينفّذها بكل قدرته المسيح الآتي قريباً.
إن التعارض بين "عماد الماء" و "عماد الروح" الذي نقرأه هنا (مت، لو) في إطار مسيحي أصيل يعلن موضوعاً تقليدياً جدّاً. نحن نجده في عدة مقاطع من العهد الجديد في قرائن مختلفة مع تطبيقات متنوعة. في مت 3: 11 (أعمّدكم بالماء للتوبة، هو يعمّدكم بالروح والنار)؛ مر 1: 8 (أنا اعمدكم بالماء، هو يعمّدكم بالروح القدس)؛ لو 3: 16 (كما في متّى)؛ يو 1: 26-33 (أنا أعمد بالماء وبينكم من لا تعرفونه... هو سيعمّد بالروح القدس)؛ أع 1: 5 (يوحنا عمّد بالماء أما أنتم فتتعمّدون بالروح القدس، رج 11: 16).
في الأناجيل ترد العبارة في فم يوحنا، أما سفر الأعمال فيجعلها في فم يسمع، وإذ يدلّ العماد بالروح عند متّى ولوقا على الدينونة الاسكاتولوجية، فهو يعني في مرقس ويوحنا الطقس الاسراري كما نراه في العماد المسيحي. وفي أع هو يعني فيض الروح القدس بشكل مباشر لا أسراري. هذا ما نفهمه من أع 1: 5 مع وعد يسوع لتلاميذه، و11: 16 مع ارتداد كورنيليوس القائد الروماني. عماد الروح في سفر الأعمال هو عنصر جوهري في تتمة النبوءات (أع 1: 8؛ 2: 33). يدلّ على عطية الروح ومجيئه وقبوله. مع توسّع الكنيسة، صار لعماد الماء معنى آخر: العماد باسم يسوع (أع 2: 38؛ 8: 16؛ 19: 15). ودعاء الاسم وعطية الروح التي تلي المعمودية (2: 38؛ 8: 15؛ 17؛ 9: 17؛ 19: 6) أو تسبقها (أع 10: 44-48) تميّز العماد المسيحي وتفصله عن عماد يوحنا. هذا ما فنجده في حدث التلاميذ الذين تعمّدوا في أفسس على يد بولس (أع 19: 5).
وهكذا نرى أن موضوع عماد الماء وعماد الروح قد استعمل بحرية تامة في أسفار العهد الجديد. ونذكر ما في قمران. إنتظر الاسيانيون "عماداً" اسكاتولوجيا، عماد روح النقاوة والحقّ والقداسة. هو عماد يتعارض مع الاستحمامات الطقسية اليومية. ونتذكّر ايضاً أن رمز الماء والروح يجد جذوره في العهد القديم منذ تك 1: 2. ولكننا لا نتوقّف عنده.
ب- عماد المسيح
في الأصل صوّر الخبر المشهد بشكل بسيط جداً وفي مرحلتين. الأولى: تقدّم يسوع وجاء الى السابق فقبل منه الطقس العمادي. الثانية: التيوفانيا أو ظهور الله. وهي تتضمن حلول الروح القدس على يسوع. كلمات وجهها الآب إلى ابنه. ويبدو أن مرقس هو الذي احتفظ بالمضمون الاولاني للمعطى التقليدي.
اولاً: مبادرة يسوع
يروى الازائيون الثلاثة أن كرازة يوحنا جمعت شعباً كبيراً. وكثر عدد اليهود الذين كانوا يتقدّمون من العماد لديه. وجاء يسوع أيضاً فتقبّل هذا الطقس الذي يعلن الزمن الاسكاتولوجي. بعد هذا، سنرى يسوع مراراً يبينّ تواصل رسالته مع رسالة السابق. في مت 4: 12: "وسمع يسوع باعتقال يوحنا، فرجع الى الجليل" (رج مر 1: 14). في مت 11: 11 ي: "ما ظهر أعظم من يوحنا.. ولكن اصغر الذين في ملكوت الله..." (رج لو 7: 28). في مت 17: 12-13 وز؛ 21: 25 ي.
وسوف ترى التقوى المسيحية فيما بعد في فعلة يسوع الآتي إلى "عماد التوبة" تضامن يسوع مع الخطأة. إن النصوصْ التي بين أيدينا لا تفصح عن نوايا يسوع في ذلك الوقت. إنها تورد مبادرته في بضع كلمات. وهذه المبادرة تُذكر بالنظر إلى التيوفانيا التي ستعطيها حالاً بُعداً مختلفاً كل الاختلاف. تعطيها معنى جديداَ بالنسبة إلى أي عماد أعطي حتى ذلك الوقت، وبشكل مطلق.
ثانياً: التيوفانيا
حصلت التيوفانيا حين "صعد يسوع من الماء" (مت- مر). قد تستلهم هذه العبارة يش 3: 19: "صعد الشعب من الاردن". وذلك قبل الدخول إلى أرض الموعد (وهو حدث يوازي بشكل واضح عبور البحر الأحمر، رج يش 4: 23). جاء المسيح إلى الاردن (مت- مر) فتقبّل الروح القدس واعلن ابن الله، فظهر أنه الممثل الحقيقي لشعب الله. بعد هذا الحدث ستأتي تجربة يسوع التي تُروى في خلفية تجارب شعب اسرائيل في البرية.
ان نصوص مرقس (1: 12- 13) ومتّى (3: 21- 22) تحتفظ بسمات خاصة بالاسلوب الجلياني (كما في سفر الرؤيا). هذا يعني أنها تعود إلى سرد أولاني للحدث: انفتاح السماوات، نزول الروح بشكل ملموس، "الرؤية" التي رآها يسوع، سماع الصوت الالهي، عودة إلى لغة محفوظة للاتصالات السماوّية. فالتيوفانيا في مضمونها ترتبط بهذا النوع من المشاهد، مشاهد الوحي التي تسعى لأن تكتشف بشكل احتفالي مخطّط الله السرّي حول تحقيق الخلاص في نهاية الازمنة. ويتضمّن هذا الفن الادبي عادة وجهة "خيالية" وموقفاً "مسرحياً" متفقاً عليه، وهو يحاول أن يمثّل بشكل "ملموس" وجهة متعالية من التدّخل الإلهي..
إذا عدنا إلى الشكل الأصلي للخبر، نرى أن هذا الوحي (الكشف) توجّه إلى يسوع شخصياً: هو الذي رأى السماوات تنفتح والروح ينزل عليه (مت- مر). هو الذي ناداه صوت الآب: أنت ابني الحبيب (مر- لو).
(1) مجيء الروح
إن مجيء الروح بشكل حمامة لم يلق تفسيره لدى الشرّاح. فلا نجد في أي مكان من التوراة أن الحمامة ترمز إلى الروح القدس. إلا أن هناك بعض النصوص الرابانية التي تتمثل بشكل حمامة (مثل تك 8: 8-12 وحمامة مياه الطوفان) الروح (تك 1: 2) يرفّ على مياه الخلق. وفي التقليد الانجيلي، نحن أمام خلق من نوع آخر. أمام خليقة جديدة تبدأ مع يسوع، بكر جميع الخلائق.
إن الروح يعني للنفوس التي تغذّت بالكتاب المقدس، حضور الله نفسه الذي يجتاح مختاره فيملأه قوة وحكمة، ويغمره بالعطايا العلوية التي تهيئه لرسالة مهمة جداً. ففي خط أش 42: 1 (نجده لا خلفية النصّ الذي ندرس) وأش 61: 1 (يرد في لو 4: 18 مع عودة الى العماد. على ما يبدو)، يرى يسوع حلول الروح عليه، وعون الله القدير الذي يرسله يعلن البشارة ويفيض علامات الخلاص. إن يسوع يتقبّل بشكل احتفالي مهمته، يتولّى وظيفته المسيحانية. بهذه الطريقة السامية هو "الأقوى" الذي أعلنه المعمدان، وسينتصر على الشيطان في "حدث" التجارب فيكون عمله مقدّمة لإقامة ملكوت الله.
(2) القول السماوي
مت 17:3 مر 1: 11 لو 22:3
وإذا صوت من السماء وصوت من السماء وصوت (سمع) من السماء
يقول:
هذا هو ابني انت ابني انت ابني
الحبيب الحبيب
به سررت بك سررت انا اليوم
ولدتك
يتضمّن القول الآتي من السماء بعض الاختلافات من انجيلي إلى آخر: استعمل مرقس ولوقا صيغة المخاطب (أنت). ولجأ متّى إلى صيغة الغائب (هذا هو). كان نصّ متّى ومرقس قريباً من أش 42: 1. أما لوقا (حسب أفضلى الشهود) فأورد مز 2: 7. ثم إن هذا القول سيُستعمل مرة أخرى بشكل شبه مقولب في "حدث" التجلّي. إن هذه الاشارات تدفعنا إلى الإعتقاد أن هذا القول يستعيد لا كلمات الله كما سمعها الناس، بل عبارة ترتبط بأول تفكير مسيحي (مع عودة منظمة إلى التوراة) فتعبرّ عن مضمون رأت فيه الكنيسة الاولى تدخلاً لله ساعة دخول يسوع على مسرح حياته العلنية.
إذا عدنا إلى الشكل الأساسي المعقول (انت ابني الحبيب، بك سررت، مرقس) نجد أن هذا القول يدمج ثلاثة نصوص من العهد القديم. أولا، أش 42: 1 الذي هو بداية أول نشيد من أناشيد عبد يهوه الاربعة. في هذا المقطع يدلّ الله على عبده: إنه ذاك الذي اختاره بمحبّة، ذاك الذي سرّ به، ذاك الذي منحه روحه لكي يحمل إلى جميع الناس بشرى الخلاص. وهذه العودة إلى المقطع الأشعيائي في المقطوعة الإنجيلية، يدلّ منذ بداية حياة يسوع العلنية على برنامج مسيحي خاص سوف يفرض نفسه بحسب مخطّط الله الذي اعلنته الكتب: سيكون يسوع "المسيح". ولكنه سيكونه كعبد الله المتألم (لا المجيد المنتصر خصوصاً على المستوى المادي). نجد هنا بداية التصريح في هذا البرنامج. مع تشديد على رضى الله وسروره ومحبته، التي يعطيها الله لعبده حين يسلّمه هذه المهمة.
النصّ الثاني الذي يذكره هذا القول الالهي (انت ابني الحبيب) يعود إلى مز 2 الذي هو مزمور ملكي فسّره التقليد اليهودي في معنى مسيحاني. وان آ 7 تعلن عبارة تبنٍ ملوكي: فيوم يتولّى المسيح الملك يولّيه الله في وظيفته ويجعله ممثلاً له، يعلن أنه جعله ابنه (انت ابني، أنا اليوم ولدتك، تبنّيتك). وهكذا يعبرّ الله عن حبه "لمسيحه". عن قدرته التي يمنحه إياها، عن العون الذي يكفله له. حين طبّقت هذه الآية على عماد يسوع، إمحت المسحة الملوكية. ولكننا حقاً أمام تولية التكريس من أجل مهمة سامية مع توصية إلهية، وتولية مسيحانية (في معنى عام: مهمة خلاص). إنضم هذا النصّ إلى أش 42: 1، فانتقلت الجملة إلى صيغة المخاطب وصارت اللهجة حميمة وعطوفة. وحلّ لقب ابن الله محلّ لقب عبد الله. جعل في إطار احتفالي وفي وقت رئيسي من حياة يسوع. مثل هذا اللقب يتضمّن سراً. منذ الآن هو يعبرّ عن علاقة فريدة وحميمة بين يسوع والله أبيه.
وهناك نصّ ثالث يترك تأثيره على القول الالهي: تك 22: 2، 12، 16 (حسب السبعينية) حيث يعلن الله ثلاث مرات تسمية "الابن الحبيب" (خذ ابنك وحيدك، يقول الرب لابراهيم). قد تبدو العبارة طبيعية ونحن نجدها في إر 38 (31 حسب اليونانية): 20. ولكننا لا نشكّ بعودة هذا النصّ إلى تك 22. فالله طلب من ابراهيم أن "يذبح" له ابنه. وإذ أراد أن يدل على عظم الذبيحة التي طلبها فقبل بها ابراهيم، شدّد النصّ على حبّ ابراهيم وحنانه تجاه ابنه الحبيب، تجاه وحيده. في عماد يسوع، تبقى النظرة إلى الذبيحة في الظلّ. وهنا نرى أن تك 22 يشدّد، شأنه شأن أش 42: 1 ومز 2: 7 على تعلّق الآب بابنه الحبيب، على محبته له (رج مر 12: 6؛ لو 13:20)
إذن، يبدو أننا نفهم الحدث على المستوى قبل الازائي، على أنه مشهد تولية او تكريس مسيحاني. مشهد تولية مع تشديد على حضور (الحميم والقدير) الله مع يسوع من أجل هذه المهمة: إمتلأ يسوع من الروح القدس. هو ابن الله بشكل مميّز. وفي عمل الخلاص الذي سيقوم به، إنطبع بعلاقة وثيقة توحّده بالله (بالروح، بالآب). انه ينتمي إلى نظام علوي، سماوي.
مسيح، ابن الله، علاقة مع الروح القدس. مثل هذه النظرة إلى شخص يسوع تستبق المعرفة التي وصل إليها الرسل بعد القيامة والعنصرة. ولذا، فهذه المعرفة اللاحقة قد أثرت على تفسير حدث العماد في الكنيسة الأولى. ومشهد التجلي الذي "روي" على ضوء القيامة، يتصل اتصالاً واضحاً بحدث العماد. نحن هنا أيضاً أمام مشهد وحي وجِّه إلى شهود مختارين. تدخل فيه الآب كما في العماد فدّل على أن يسوع هو المسيح الخادم، النبي والابن الحبيب الذي نسمع له. وجاء إعلان الآب في منعطف خطيرة رسالة يسوع العلنية، ساعة بدأ انتباه التلاميذ يتوجّه إلى آلام

2- نص مرقس
إحتفظ متّى بالمعنى الاولاني للحدث، ولكنه أعطاه وجهة ظهور علني، وبيّن فيه أساس العماد المسيحي. وخفّف لوقا الطابع الجلياني للمشهد. إنه المؤرخ وانجيلي الصلاة. أرانا المسيح يتقبّل العماد وهو في موقف صلاة. كما شدّد على تكريس يسوع كمسيح وابن الله. هو لا يلمّح إلى العماد المسيحي، بل يبرز واقع بنوّة المسيح: أنت إبني، أنا اليوم ولدتك. فما هو موقف مرقس؟
أ- كرازة يوحنا المعمدان
أوجز مرقس بشكل واضح المعلومات التي أوردها التقليد حول المعلم السابق. وقد ألغى بشكل خاص ما قاله يوحنا المعمدان عن الدينونة الاسكاتولوجية القريبة. فأول مشهد مهّم في انجيله هو عماد المسيح. وما يحتفظ به عن المعمدان يتوخّى أن "يهيّىء" هذا المشهد الذي يدشن حياة يسوع. وإن اعلان كرازة يوحنا يتلخّص في جملتين: أعلن ذاك الآتي، القدير، الاقوى. أعلن عماداً خاصاً به وهو غير عماد يسوع المسيح.
"أعلن يوحنا في كرازته: يأتي بعدي من هو أقوى مني. لست أهلاً أن انحني لدى قدميه وأحلّ سير نعليه. أنا عمدتكم بالماء، أما هو فيعمّدكم بالروح القدس" (آ 6 ب- 8).
إن الجملة الاولى تجعلنا نحس مسبقاً بالمسيح القريب: "يأتي (حالاً) بعدي". هو يتبعني بصورة مباشرة، وصورة العبد لدى قدميّ سيده ترافقها إشارة بسيطة (أنحني) تدلّ على اسلوب مرقس ولا تبدّل المعنى في شيء.
أما الجملة الثانية التي تستعيد (لإيجاز) التعارض التقليدي بين عماد الماء وعماد الروح، فهي تحوّل معناه تحوّلاً واضحاً. هي تلغي كل ذكر للنار. ويتخلى الإطار عن كل تلميح إلى الدينونة الاسكاتولوجية. مثل هذا الإلغاء المنظّم، يفرض علينا أن نفهم التعارض كما يبرز أمامنا بمعزل عن قرائنه الاصلية. نفهمه فقط على أساس ما استطاع أن يعرفه سامعو يوحنا المعمدان.
لم يكن سامعوه يجهلون النبوءة عن المسيح الذي يحمل الروح (أش 11: 1-3؛ 42: 1؛ 61: 1)، ولا أقوال الانبياء الذين يعدون بفيض الروح كقوة من العلاء تنتشر في الأزمنة المسيحانية من أجل تجديد شعب الله تجديداً خلقياً وروحياً (أش 32: 15- 16؛ 44: 3- 4؛ 59: 21؛ حز 11: 19؛ 36: 25-29). ولكن حتى الآن، لم نجد ما يقول إن هذا الفيض سيكون عطية المسيح نفسه. فإعلان السابق أقام هذه العلاقة (سيتوسّع فيها الانجيل الرابع): فالمسيح الآتي قريباً هو الذي يفيض الروح القدس.
واذا حرمنا كلمات المعمدان من قرائنها الأولى، نرى ان لفظة "عمّد" تفهم بطريقة طبيعية في المعنى عينه داخل عنصري التعارض (عماد بالماء، عماد بالروح). نحن نعارض هنا بين طقس وطقس: طقس قديم، إعدادي، منقي. طقس جديد، نهائي، مقدِّس. لا الواقع، حين يتكلّم الانجيلي هنا عن العماد في الروح دون تحديد آخر، فهو يفكر في العماد المسيحي الذي هو طقس أسراري يعرفة قرّاءه أفضل معرفة. وما يعد به السابق هو نشاط المسيح الذي (في العماد المسيحي) يفيض الروح القدس، فيحقّق (بشكل ملموس) النبوءات القديمة حول فيض روح القداسة في نهاية الأزمنة.
وبمختصر الكلام إن كرازة يوحنا المعمدان كما يقدّمها مرقس تعلن ما يلي:
أولاً: مجيء قريبٌ للمسيح الذي ينعم بقدرة الله والذي هو أقوى من يوحنا المعمدان. هذا ما يقوله التقليد المشترك.
ثانياً: فيض الروح القدس بواسطة المسيح في نهاية العالم، وذلك بواسطة العماد المسيحي: هذه نظرة خاصة بمرقس.
ب- عماد المسيح
حين روى مرقس خبر العماد، ظلّ (كما قلنا) أقرب الازائيين إلى التقليد الاولاني فيما يخصّ التعبير عن الحدث واللاهوت.
"وحصل في تلك الأيام أن يسوع جاء من ناصرة الجليل واعتمد على يد يوحنا في الاردن، وفي الحالة، عند صعوده من الماء، أبصر السماوات تنشقّ والروح القدس ينزل عليه كحمامة. وكان صوت من السماء: أنت إبني الحبيب، بك سررت" (آ 9- 11).
اولاً: مبادرة يسوع
"وحصل في تلك الايام". عبارة لم نتعوّد عليها عند مرقس. هذا المطلع المقولب الذي لم يصحّحه الانجيلي، يدّل على بداية "وحدة أدبية" كانت في الاصل مستقلة: فللخبر أصل آخر غير الخبر السابق الذي دلّ يوضوح على طقس يوحنا "كعماد توبة لمغفرة الخطايا". أخذ هذا التعبير من العهد القديم فقدّم الأحداث التي تحصل بإرادة الله حسب الأقوال النبوية.
"جاء يسوع في ناصرة الجليل". أورد مرقس هذه التفاصيل، لأنها المرة الاولى التي فيها يتكلّم عن يسوع. فنحن لم نزل معه في بداية الأنجيل.
"واعتمد بيد يوحنا في الاردن". واقع دقيق ولكنه موجز. لا تفسير آخر عن عماد يسوع إلا خبر التيوفانيا. إن الجملة تستعيد عمداً ألفاظ آ 5: إن دور يوحنا العمادي يجد هدفه الحقيقي في عماد يسوع.
ثانياً: التيوفانيا
"وفي الحال". هذه اللحمة ترد مراراً عند مرقس. نجدها هنا عند متّى، وهذا يعني أن مرقس قد أخذها من مرجع سابق له. لقد أراد أن يربط "في الحال" قبول يسوع للعماد بالتيوفانيا التي تقدّم مدلوله في مخطّط الله في تاريخ الخلاص.
"أبصر" هذه إشارة أولانية. يسوع هو الشاهد لمجيء الروح. وإليه سيتوجّه صوت الآب. فمن اجله حصلت التيوفانيا.
أبصر يسوع السماء "ممزّقة، مشقوقة" (مفتوحة كما يقول مت ولو). قد تعود هذه الكلمة إلى لغة مرقس المعبرّة والملوَّنة. وقد يكون هناك تلميح إلى أش 63: 19: هي صلاة طويلة ومؤثرة تتوجَّه الى الله، أبي اسرائيل، فتتوسّل اليه (باسم أبوّته) أن يقطع هذا الصمت الطويل وينزل من السماء، نحو شعبه لكي يخلّصه. ونرى الشيء عينه في عماد يسوع، في بداية انجيل مرقس، حيث وضع الله حداً لصمت طويل، فمزّق أخيراً السماوات وبدأ عهد النعمة النهائي بإرسال روحه وبالتعبير عن مسّرته (رضاه) عن ابنه الحبيب الحاضر وسط شعبه.
"وكان صوت". حرفيا: "وصوت". يتخذ العرض شكل سرد سريع. تتوالى الجمل قصيرة سريعة. متلاصقة بكل بساطة وبدون تفنّن. والنتيجة التي نحصل عليها تأخذ بمجامع القلب.
"أنت ابني" نُقل القول بشكله الاولاني كما حلّلناه أعلاه. يكشف لنا الانجيل الثاني الوجه الحميم لهذه البنوّة الالهية في لهجة صلاة المسيح إلى الله: "أبا، أيها الآب" (14: 36). هي عبارة تدلّ على محبة بنوّية وحنان أين منه حنان الطفل مع أمه.
هذا المشهد هو أول مشاهد حياة يسوع حسب مرقس. إنه مشهد تدشيني وتولية مسيحانية: كُرّس يسوع وأرسل من أجل عمل الخلاص بقوة الروح وفي جو بنوي حميم يربطه بالله رباطاً وثيقاً. وفي الوقت عينه، هو أول انفتاح على سّر شخص يسوع. نحن في أول صورة احتفالية عن عنوان انجيل مرقس: بدء انجيل يسوع الذي هو المسيح، الذي هو ابن الله (1:1).

خاتمة
إن معنى عماد يسوع ينكشف في التيوفانيا التي ترافقه. هذا ما لفت انتباه التقليد الانجيلي. وهنا يجب أن يتوقّف تأمّلنا في سر المسيح.
أول مبادرة علنية قام بها يسوع فربطته بآخر الأنبياء وأعظمهم، صارت بشكل احتفالي وبقوة علوية، تكريسه المسيحاني: أعطي قوة الروح القدس، تثبت في وعي تام لحياته الحميمة مع الله واتحاده الفريد مع أبيه. وهكذا تقبّل يسوع بشكل نهائي مهمّة ليقوم بعمل الخلاص حسب مخطّط الله المرسوم في الكتب المقدسة. ومن خلال العمل المسيحاني، ينفتح المشهد على سّر أعمق، هو سّر شخص يسوع المسيح وابن الله. هذا هو المدلول الأساسي الذي نكتشفه في حدث البدايات. وقد تفهمّنا هذا المدلول عبر تذكّرات كتابية في إطار سيناريو جلياني: فتحت السماوات، جاء الروح بشكل منظور، صوت الآب: هذه هي أفضل الأطر التي تعرّفنا بما هو موضوع وحي علوي: رسالة يسوع الخلاصية المؤسّسة على وضعه كابن الله..
روى الانجيليون هذه الخبر على عتبة رسالة المخلّص العلنية، فدلّوا على أنه يجب منذ الآن ان نفهم كل حياة يسوع العلنية في هذا النور الذي يستبق استنارة الفصح والقيامة. ومنذ أول فيض للروح القدس، وأول دخول لابن الله الحاضر وسط البشر، على المسرح، نرى بداية الزمن الاسكاتولوجي وتدشين مجيء الملكوت.
وذكّرتنا تصحيحات تدوينية متعدّدة بالرباط بين عماد المسيح وعماد المسيحي. فبهذا الرباط الضمني إلى عماد يسوع، يكوّننا السرّ المسيحي أبناء الله وحملة روحه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM