الفصل السادس بداية الانجيل

الفصل السادس
بداية الانجيل
1: 1- 5

إذا كان لوقا الانجيليِّ الوحيد الذي وازى بين طفولة يوحنا المعمدان وطفولة يسوع، فالانجيليون يتفقون على وضع صورة السابق (يوحنا الذي سبق المسيح وهيّأ له الدرب) على عتبة حياة المخلّص العلنية. فالكنيسة تستعدّ في الفرح والتوبة للاحتفال بمجيء يسوع الأول، بانتظار مجيئه الثاني وعودته كالديّان السامي. وسنعود إلى عماد يسوع في الأردن. كم نحتاج إلى قراءة هذه "الأخبار" المتعلقة بخدمة الذي كان شاهداً للفرح المسيحاني (يو 3: 29)، معلناً للدينونة القريبة (مت 3: 7- 10)، ذاك الذي سار امام يسوع قبل أن يعمّده. ويخبرنا مرقس في كلمة حاسمة عن أهمية هذه الخدمة: كانت بداية الانجيل، بداية هذا الخبر السعيد الذي يرافقنا على مدى فصوله الستة عشرة.

1- بداية الإنجيل مع يوحنا (آ 1)
"بداية انجيل (بشارة) يسوع المسيح ابن الله"
أ- بداية الإنجيل
يبدأ مرقس فجأة بجملة لا فعل فيها. وقد رأى فيها الشرّاح عنوان آ 1- 8 حول كرازة يوحنا المعمدان، أو عنوان المقدمة الكبرى (1: 1-13) أو عنوان الإنجيل كله. وبحسب هذا الرأي الأخير تكون رسالة يسوع وموته وقيامته بداية البشارة التي ستمتدّ في رسالة الكنيسة.
فكرة لا بأس بها. ولكن لا شيء يشير أن مرقس يعتبر نشاط الكنيسة جزءاً من الإنجيل، وكأن على الكنيسة أن تكرز بنفسها. فعلى الكنيسة أن لّعلن البشارة، أن تعلن الحدث الخلاصي الذي سبقها والذي كان في أساس ولادتها، أن تكرز خدمة يسوع وفصحه فتكتشف ما هو في ذاته وما هو بالنسبة إلينا.
وقد نستطيع أن نقرأ هذه الآية الأولى كمقدّمة لمطلع مرقس: فنشاط يوحنا سابق المسيح ومعمدّه، هو بداية هذا الحدث الاسكاتولوجي الذي تشكّله رسالة يسوع وحياته المتألمة وتمجيده.
نحن نعرف أن كلمة "انجيل" أخذت من العهد القديم (أش 40: 9؛ 52: 7؛ 61: 1) وهي تعني الكرازة والاعلان والتبشير بخبر سعيد وطيّب. فمتّى ومرقس ولوقا ويوحنا يتوسّعون في هذه الكرازة الأولى، الكرازة الرسولية التي نجد موضعها المميّز في أعمال الرسل. ومرقس الذي لم يتحدّث عن طفولة يسوع ولم يحتفظ إلاّ بكلمات قليلة ليسوع، هو أقرب الأناجيل إلى رسمة أعمال الرسل. فالكرازة الرسولية (أع 1: 21- 22؛ 10: 37؛ 13: 24) تبدأ، شأنها شأن انجيل مرقس، بخدمة يوحنا المعمدان. إذن، هذه الخدمة تشكّل "بداية الإنجيل". ويثبت المعنى المحصور للعبارة عبارة مشابهة في هو 1: 2. فبعد عنوان أوّل يعني كل كتاب هوشع، نجد عنواناً ثانياً يبدأ الفصل الأولى: "بداية ما قاله الرب بواسطة هوشع...".
ولكن يبقى أن هذه الآية الأولى تعطينا الرسمة لكل انجيل مرقس فتبين لنا في مرحلتين: يسوع هو المسيح. وهذه المرحلة... تنتهي باعلان بطرس (8: 29). يسوع هو ابن الله. وتجد هذه المرحلة ذروتها في صرخة قائد المئة عند الصليب: "بالحقيقة كان هذا الرجل إبن الله" (15: 39).
ب- إنجيل يسوع المسيح إبن الله
إذن، يبدأ مطلع انجيل مرقس بذكر الإنجيل. وسيذكر الإنجيل أيضاً في 1: 15 حيث قال يسوع: "توبوا وآمنوا بالانجيل". فنحن أمام تضمين (أو احتواء) حيث نعيدها النهاية ما قلناه في البداية.
إن كلمة "انجيل" تعود مراراً عند مرقس الذي يتفرّد باستعمالها ويكرّرها بصورة مطلقة، أي بدون ضمير (انجيله مثلاً) ولا مضاف إليه (انجيل يسوع مثلاً). فبمناسبة كرازة يسوع الذي يطلب من الجموع أن "تؤمن بالانجيل" (1: 15) فعبارة "انجيل الله" في 1: 14 تدلّ في الوقت عينه أن البشارة تأتي منه وأنّه موضوعها حين يحرّك الحدث الاسكاتولوجي. هذا ما يدعونا إلى قراءة آ 1 في معنيين: الإنجيل الذي موضوعه يسوع المسيح وابن الله. ثم: بانتظار أن يكشف الدور المركزي لشخصه، هذا الشخص الذي نكتشفه عبر معجزاته و"سلطان" تعليمه.
والموازة بين "من أجل المسيح" و"من اجل الإنجيل" (8: 35؛ 10: 29؛ 13: 9- 10) تؤكّد أن الانجيل في نظر مرقس هو يسوع: حدث يسوع الذي يكشف على عيون الإيمان سر كيانه كمسيح مخلّص وابن الله. يكشف التعليم الذي موضوعه هذا الحدث الذي هو يسوع، أي تاريخ ظهور المسيح كما كشف عن نفسه، وكما كشف عمّا أتمّه الله بيده بيننا.
وأخيراً، إن الحديث عن اعلان الانجيل في العالم كله (13: 10؛ 14: 19) على يد تلاميذ اختارهم المسيح ليسيروا على خطاه (1: 16- 20؛ 3: 13- 15؛ 6: 7)، يذكّرنا بواجب المشاركة في مهمة الكنيسة الرسولية. قد يكّلفنا هذا العمل تضحيات كبيرة (8: 35؛ 10: 29). هذا ما يعرفه يسوع. وقد اراد مرقس ان يلعب دوره في هذه المهمة، فتوسّع في أول كلمات الكرازة، تلك التي تعني رسالة يسوع وتهيئة هذه الرسالة بواسطة يوحنا المعمّد، وتلك أمور لم تتوقف عندها كرازة الرسل بعد الفصح.
إذن، أراد مرقس أن يبّين في حياة يسوع السابقة للفصح، أن يسوع هو المسيح وابن الله في المعنى الوظيفي (ذاك الذي اختاره الله ومسحه بالزيت المقدس وأرسله) وفي المعنى المتعالي المرتبط بهذين اللقبين في الكنيسة في أيامه. فعلى ضوء الفصح والقيامة، فهم التلاميذ في أي معنى يسوع هو المسيح الذي أعلن عنه العهد القديم، وهو "إبن الله" الذي تكلّم عنه مز 2: 7 (رج أع 13: 33؛ عب 1: 5): لا ذاك المسيح الأرضي والوطني 2: 36)، الذي "مسح" بالروح (أع 4: 26- 27؛ 10: 38) بالقيامة، فاستطاع أن يحرّر الناس من الشيطان والخطيئة والالم والموت.
حين يستعيد المؤمنون قراءة الخبر القبل فصحي الذي يرويه لهم مرقس، يفهمون أن يسوع دشّن في البرية وفي حياته العامة (لاسيما في التقسيم وطرد الشياطين) هذا النصر المحرّر الذي حازه حيازة كلّية بآلامه وقيامته، فدلّ على لقبه كمسيح. ويفهمون ايضاً أن يسوع فرض الصمت على الجميع، فما أراد أن يسلم إلى اليهود لقب المسيح هذا قبل الوقت المحدّد. ولقب المسيح قد أعلنه بطرس، ولكنه دلّ حالاً أنه لم يفهمه على حقيقته. قال: "انت المسيح" (8: 29-33). ولكنه حالاً عارض يسوع حين تحدّث عن آلامه وموته (إنفرد بطرس بيسوع وأخذ يعاتبه، 8: 32).
ولقب ابن الله الذي اعتادت عليه الكنيسة في زمن القديس بولس (رج غل 1: 16؛ أع 9: 20؛ روم 1: 3-4؛ يو 4: 15) قد أعلنه صوت الآب (1: 11؛ 9: 7) ولكنه ظلّ خفياً على البشر حتى القيامة (9: 9؛ رج 3: 11-12). ولكن يسوع لم يطالب بهذا اللقب إلاّ في وقت آلامه (14: 61: هل أنت المسيح إبن المبارك؟ أنا هو)، وقد أعلنه ممثل العالم الوثني (15: 39: في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله)، وذلك ساعة حُكم بالموت على ابن الله فألقاب يسوع مثل عبد الله المتألم، وألقاب يسوع المجيدة لا تُفهم في معناها الحقيقي إلاّ عبر سّر آلامه. وسيعرف المسيحيون أنهم لا يستطيعون حقاً أن يعترفوا بيسوع كالمسيح، وابن الله، إلاّ اذا تبعوه على طريق الآلام (8: 34- 35؛ 10: 35- 45).
وهكذا يعطي مرقس اسم الإنجيل لآلام يسوع وقيامته، للخبر السابق للفصح الذي من خلاله نستشفّ البعد المتعالي لشخص يسوع. ما أراد أن يرويه هو بشرى الإنتصار على قوى الشّر. هذا النصر قد دشنه يسوع كاملاً حين كشف عن نفسه كالمسيح وابن الله قبل جلوسه على عرشه السماوي. وتشكّل خدمة (يوحنا الذي أعلن يسوع اعلاناً مباشراً) بداية هذا الإنجيل، كما تقول الكتب المقدسة (آ 2-3). كما يقول نحطّط خلاص الآب الذي أسمع صوته ساعة عمّد يوحنا ابنه الحبيب.

2- دخول يوحنا على مسرح الأحداث (آ 2- 6)
نجد في هذه القطعة لوحتين متوازيتين. لا الأولى، يكرز يوحنا معمودية توبة لغفران الخطايا (آ 4). وفي الثانية، الجموع تأتي إلى يوحنا لتتقبّل العماد وتقرّ بخطاياها (آ 5). هاتان اللوحتان تشكّلان النواة المركزية الواقعة بين بداية (آ 2- 3) تورد أقوال الانبياء (صوت صارخ في البرية) ونهاية (آ 6) تشير إلى اللباس النبوي الذي يرتديه يوحنا (مع طعام خاصّ بالبرية).
أ- شهادة الانبياء (آ 2- 3)
"كما كتب في أشعيا النبي: ها أنا أرسل رسولي قدّامك ليهيّىء طريقك. صوتُ صارخٍ في البرية: هيّئوا طريق الرب، واجعلوا سبله مستقيمة".
هذان الايرادان من ملا 3: 1 وأش 40: 3 قد وضعا في فم أشعيا بشكل تقريبي. هما يطرحان أسئلة على النقّاد من جهة الموضوع ومن جهة المضمون. فإيراد ملاخي خاص بمرقس في هذا الموضع، ولكننا نجده في مت 11: 10 ولو 7: 27 حول الشهادة التي يؤدّيها يسوع عن يوحنا بعد أن ارسل إليه وفداً يقول له: "أأنت الآتي أم ننتظر آخر"؟ هذا التوافق بين متّى ولوقا ضد مرقس، والموضع الطبيعي الذي يجده الاستشهاد عندهما، وبداية الايراد (مر 1: 2 أ وز) حيث يذكر اسم اشعيا وحده، والواقع الذي يجعل يوحنا يذكر اسم أشعيا وحده (يو 1: 23)، كل هذا يدعونا إلى القول: إن نصّ ملا 3: 1 أ في مر 1: 2 ب هو زيادة وضعها مرقس في مرجع مشترك مع الإزائيين. حين رفض مرقس أن يذكر خبر الوفد الذي أرسله يوحنا، لم يُرد أن يخسر هذا العنصر التقليدي في صورة يوحنا، فاستعمله هنا ليغني مقدمته. وما دفعه إلى هذه "الزيادة" هو أن للايرادين (ملا 3: 1؛ أش 40: 3) موضوعاً واحداً وهو تهيئة طريق الرب.
ومرقس هو الذي بدّل الترتيب الاولاني الذي نجده في لوقا ومتّى والذي يبدو طبيعياً: فالاعلان عن دور يوحنا يأتي بشكل منطقي بعد الشاهد الكتابي. إذن، نقل مرقس الإيراد الكتابي وجعله في رأس القطعة. وهكذا حصل على مقدّمة احتفالية لم يحتج إليها متّى ولوقا اللذان تحدّثا طويلاً عن طفولة يسوع. كما أنه استطاع بذلك أن يبرز فكرة هامة وهي أن بداية بشرى الخلاص قد حدّدها الأنبياء وربطوها بمجيء يوحنا المعمدان. وهذا السبب الرئيسي لترتيب مرقس يحتفظ بقيمته حتى ولو أخذنا برأي القائلين إن متّى ولوقا أعادا صياغة نصّ مرقس ليجعلاه أكثر منطقياً (قد يكون متّى ولوقا نقلا إيراد ملاخي إلى الحديث عن وفد يوحنا إلى يسوع).
ونعود إلى الايراد في آ 2. إذا جعلنا الضمير "أنا" الذي لا نجده عند لوقا ولفظة "أمامك" التي لا نجدها عند مرقس، فالايراد هو هو في مر 1: 2، في مت 11: 10 وفي لو 7: 27. فجوهر الكلام يرجع إلى ملا 3: 1 "ها أنا أرسل ملاكي وهو يتفحّص الطريق أمامك". هذه هي قراءة اليونانية السبعينية. ولكن الشقّ الثاني من النصّ الإنجيلي هو أقرب إلى العبرية منه إلى اليونانية: "ويهيىء الطريق امامك". والطريقة المماثلة التي بها يمزج الازائيون اليوناني في ملا 3: 1، اليوناني في خر 23: 20، والعبراني في ملا 3: 1، تفترض مرجعاً مشتركاً قديماً جداً.
هنا نتذكّر خر 23: 20 (حسب السبعينية): "ها أنا ارسل رسولي أمام وجهك (أمامك) لكي يحفظك في الطريق". أثّر هذا النصّ على الاستشهاد فجعل الانجيليين يكتبون "وجهك" بدل "وجهي". هكذا جعلوا المرسل سابقاً لا لله، بل لذلك الذي يتوجّه اليه الله، "للرب" الذي يتكلّم عنه ملا 3: 1 ب، والذي هو يسوع في نظر الانجيليين. يوحنا المعمدان هو المرسل الذي يوفده الله أمام يسوع ليهيىء له الطريق: هذا ما يريد مرقس أن يقوله فينسبه إلى الله نفسه الذي يحدّثنا بواسطة الكتب.
بإلاضافة إلى ذلك، يبدو من الصعب أن لا نفكّر في نهاية ملاخي (3: 23-24) حيث طبّق الكاتب الملهم على شخص أيليا دور السابق الذي حدّده ملاخي في بداية ف 3: إن مر 9: 12 يورد هذه النهاية فيؤكّد أن إيليا قد جاء. والنص الموازي في مت 17: 11-13 (رج أيضاً لو 1: 17؛ مت 11: 14) يقول بوضوح إن يسوع عنى يوحنا المعمدان. يوحنا ليس إيليا (يو 1: 21). ويتجنّب لوقا أن يماثل بين الاثنين. ولكن بما أن يوحنا "أرسل أمام المسيح" (يو 3: 28) "بروح إيليا وقوته" (لو 1: 17) لكي يعلن المسيح ويعمّده ويهيىء الشعب داعياً إياه الى التوبة، فهو يحقّق الرجاء اليهودي بعودة إيليا كسابق أوكلت إليه مهمة اعلان مجيء المسيح، الديّان الاسكاتولوجي (الآتي في آخر الزمان)، ومنحه المسحة كما قالت القديس يوستينوس.
وإذ أراد مرقس أن يحدّد منذ البداية مهمّة يوحنا كمهمّة إنسان جاء ليعدّ طريق الرب، فقد كان في يده أيضاً نص أش 40: 3 (حسب السبعينية). وهنا، وجد نفسه أيضاً في رفقة الانجيليين الآخرين. يبدو أنهم كلّهم فسّروا "الرب" على انه يدلّ على يسوع المسيح. وقد أعاد الازائيون (أو المرجع الذي استقوا منه) صياغة النصّ في هذا المنظار فكتبوا "طرقه" لا "طرق إلهنا". ثم، إن عبارة "في البرية" ستعود في الآية التالية كصدى لهذا النصّ. وبما أن "رهبان" قمران الذين اتصل بهم يوحنا (استعملوا مراراً أش 40: 3) اعتزلوا إلى البرية ليفتحوا طريقاً لله حسب القول النبوي، هكذا كرز يوحنا في البرية ليهييء الطريق للرب يسوع، فيدفع الناس إلى التوبة ويعدّهم بهذا الشكل ليتبعوا "ذلك الآتي".
هنا نورد ما قالته "قاعدة الجماعة" (في المغارة الأولى): "وحين تحصل هذه الأمور للجماعة في اسرائيل، في تلك الأزمنة المحدّدة، ينفصلون من وسط سكن البشر الاشرار ليذهبوا إلى البرية ليفتحوا "له" طريقاً كما كتب: "افتحوا في البرية طريقاً... مهّدوا في الفيافي سبيلاَ لإلهنا". نلاحظ في النصّ العبري الذي استعمله أهل قمران ويوحنا المعمدان، أن عبارة "في البرّية" لا ترتبط بفعل "صرخ" (صارخ في البرية)، بل بفعل "هيّا"، "مهّد": لا بدّ من أن نهيّىء في البرية طريق الرب من أجل خروح جديد.
ب- يوحنا المعمدان وموضوع كرازته (آ 4)
"فظهر يوحنا المعمدان في البرية، يكرز بمعمودية التوبة من أجل غفران الخطايا".
تشكّل هذه الآية جملة واحدة مع الايرادات السابقة. ولهذا نضع الفاصلة: "كما كتب...، كان يوحنا". ما يقال الآن عن يوحنا يحقّق النبوءات ولا سيّما نبوءة أش 40: 3: "هو في البرية"، "هو يصرخ"، ويحضّ الناس على التوبة. وهكذا يعدّ طريق الرب يسوع.
بدأ مرقس فأعطاه لقبه: ذاك الذي يعمّد (رج 6: 25؛ 8: 28) وهو يقابل الاسم "المعمدان" كما في مت 3: 1 مع تشديد على عمل التعميد. فمعمودية التوبة هي في نظر مرقس ولوقا الموضوع الخاص بكرازة يوحنا. وهكذا يدلّ النص على عملين متميّزين ومترابطين في عبارة واحدة: كرازة تحضّ على التوبة. وممارسة عماد (غسل، تغطيس) يرتبط هو ايضاً بالتوبة.
إن هذا الجمع بين العملين يفسرّ ايجاز مرقس واغفاله معطيات طوبوغرافية (متّى يتوسّع). لن نتساءل كيف كرز يوحنا "في البرية" (آ 4) ثم عمّد" في نهر الأردن (آ 5). لا يتوقّف مرقس عند هذه الامور الجغرافية. قد نفترض أن المعمدان كرز اولاً في البرية، ثم انتقل إلى الاردن. أو أن الاردن هو جزء من البرية، لأنه على حدود البرية. بل، أما نستطيع ان نتوقّف عند المعنى الروحي للبرية فنقرأه في خط أش 40: 3؟
ما هي العلاقة بين التحريض على التوبة والعماد؟ لن نقرأ اولاً ما كتبه مرقس لا إطار مسيحي. لسنا أمام عماد مسيحي. ولا نستطيع ان نتحدّث عن فاعلية العماد المسيحي. ولسنا فقط أمام توضؤ طقسي: فقد تجاوزنا مع يوحنا هذا الافق الضيّق. نحن نعلم أن العالم اليهودي عرف معمودية ينالها المرتدون. كان لها قيمة تطهيريية طقسية، ثم ارتدت فيما بعد بُعداً آخر، بُعد التنشئة للعالم اليهودي. نشير إلى ان النصوص لا تتحدّث عن هذا "العماد" قبل القرن الأول المسيحي. ولكن ممارسته سابقة لهذا التاريخ.
أما الاسيانيون الذين تكلّم عنهم فلافيوس يوسيفوس واكتشفت آثارهم في مغاور قمران، فقد مارسوا الاغتسال، وهو عمل عبادة يومي يجعل المؤمن حقاً على المستوى الاخلاقي، كما على المستوى الطقسي. هدْا لا يعني أن الاغتسال يمنح في ذاته الحياة الأخلاقية. فهذه الحياة هي في الوقت عينه عطيّة من الله وثمرة مجهود التائب الذي يعيش حسب شريعة موسى. إن هذه الحياة هي مفروضة على المؤمن قبل الاغتسال الذي هو علامة وختم، والذي يطفر الجسد المعتبر ملطخاً بنجاسة طبيعية بفعل الخطيئة.
أيكون يوحنا انتمى إلى حركة الاسيانيين في قمران أم لم ينتمِ، فعماده يشبه عماد الاسيانيين. فالطقس الذي يعطيه يعبرّ عن توبة داخلية هي في الوقت نفسه عمل بشري وعطيّة إلهيّة. وهي تعدّ النفوس لتدخّل الله القريب تدخّلاً اسكاتولوجياً. غير أن هناك اختلافات هامة. فمهما قالت فلافيوس يوسيفوس، لا يبدو أن يوحنا اهتمّ بالنجاسة الجسديّة التي تنتج عن الخطيئة. ثم، إن التائبين لدى يوحنا يقومون بفعل توبة بمجرّد أن يخضعوا للعماد ويقرّوا بخطاياهم. وكان يوحنا يلعب دوراً إيجابياً فيغطّسهم في الماء، وهكذا يعينهم في طريق الارتداد التي هي نعمة. أما الاسيانيون فكانوا يخضعون المرتدّين عن الخطيئة لسنة اختبار قبل أن يسمحوا لهم بأن يغطّسوا نفوسهم في حوض الذين نالوا التنشئة. وكانت رائحة الشيعة تفوح من جماعة قمران فيُبعد الخاطئون وفئات أخرى. أما عند يوحنا فلا أثر لهذا (رج لو 3: 10- 14؛ مت 3: 9 وز)
أخيراً، كان عماد يوحنا يعطى مرة واحدة. فهو أكثر من رجاء ونداء إلى الأمل، انه الاستعداد الأخير لمجىء المسيح. وهذا ما يميّزه عن كشف "عماد" آخر. ليس عماد يوحنا تطهيراً منتظماً من أجل تجديد الحياة. إنه يتخذ معنى تنشئة واستعداد مباشر "لمسيح" سيعمّد في النار وفي الروح القدس.
هل نفسّر في هذا المعنى عبارة "من أجل غفران الخطايا"؟ اذا عدنا إلى لوقا رأينا أننا حقاً (في هذا المكان كما في لو وأع) أمام عطيّة الغفران، عطية يعدّ لها الدرب العمادُ اليوحنّاوي. ولكن قد لا يكون فكر مرقس محصوراً ومحدّداً مثل فكر لوقا: ففي النظرة اليهودية نفسها، يتوجّه ارتداد القلب الذي يدّل عليه الاقرار بالخطايا، إلى الغفران الإلهي كعطية حاضرة منذ الآن. عْير أن مرقس عرف ايضاً النبوءات (إر 31: 24؛ حز 36: 25) التي احتفظت بوفرة الغفران المنقّي للحقبة المسيحانية التي بدأها يوحنا المعمدان. كما تحدّث عن رسالة يوحنا على أنها بداية "تتمة الزمن" (15:1).
ج- يوحنا والجموع (آ 5)
"وكانوا يخرجون إليه أن جميع بلاد اليهودية وأورشليم فيعتمدون في نهر الاردن، معترفين بخطاياهم".
لا نعود إلى الشقّ الثاني من هذه الآية التي تدلّ على العماد الذي يمنحه يوحنا، فيرافقه أو يسبقه غفران الخطايا. يكفي أن نلاحظ النجاج الذي تنسبه بداية هذه الآية إلى عماد يوحنا، فيدّل على علوّ شأن السابق. ورغم الطابع "المضخّم" لهذه الآية (تحرّكت كل اليهودية وكل سكان أورشليم)، تتأكد معطية مرقس عن هذا النجاح وهذه المهابة بما نقرأ عند يوسيفوس وفي وثائق العهد الجديد. والإشارة الخاصة إلى أهل اورشليم قريبة مما نقرأ في يو 1: 19 حيث قيل: أرسل اليهود من اورشليم كهنة ولاويين ليسألوا يوحنا.
بيد أن مرقس لم يرد في أربع أو خمس جمل أن يورد سيرة يوحنا التي يفترض أن قرَّاءه يعرفونها. فهدفه كما يشير إليه الايرادان النبويان في البداية (مع أن مرقس لا يعود مراراً إلى الأسفار المقدّسة)، هو أن يرينا في رسالة المعمدان، عناية الله التي دشّنت المرحلة الاخيرة في مخطّط الله الخلاصي. في هذا السياق نفهم أهمية ذكر اليهودية بشكل احتفالي، واورشليم عاصمة العالم اليهودي. مع العلم أن هناك إشارة ضمنية إلى أورشليم في ملا 3: 4، وإلى الخبر السعيد الذي يوجّهه أش 40: 9- 10 إلى أورشليم ومدن يهوذا. لقد بدأت المغامرة الاسكاتولوجية الكبرى: يبقى ان نعرف هل سيتعرّف شعب الله الى "المسيح وابن الله" (آ 1) في ذاك الذي هو "أقوى" (آ 7) والذي مهدّ له الطريق يوحنا المعمدان.
د- حياة المعمدان (آ 6)
"وكان يوحنا يلبس ثوباً من وبر الجمال، وعلى وسطه حزام من جلد، ويقتات من الجراد والعسل البرّي".
هناك مخطوطان يتحدّثان عن "جلد الجمال"، لا عن "وبر الجمال". نحن هنا أمام تقارب مع زك 13: 4 (يتكلّم عن وبر الجمال). ويرى بعض الشرّاح ان عبارة "وعلى وسطه حزام من جلد" قد وضعت هنا بتأثير مت 3: 4. وهكذا نكون أمام تلميح إلى لباس إيليا كما في 2 مل 1: 8: "رجل عليه عباءة من شعر، وعلى وسطه حزام من جلد".
إن تصوير يوحنا على أنه إيليا الجديد يأتي مكانه بعد إيراد ملاخي في آ 2. ومهما يكن من أمر، يبدو يوحنا هنا على أنه نبي. أما طعامه فليس طعام النسّاك بقدر ما هو طعام الناس القاطنين في البرية. فهذا الرجل الذي يعلن في البرية معمودية التوبة، هو نبي. إذن يجب أن نسمع له بانتباه حين يعلن (في آ 7-8) مجيء "الاقوى": إنه يتكلّم باسم الله.

3- يوحنا المعمدان ومجيء المسيح (آ 7-8)
"وكان يبشر فيقول: يجيء يعدي من هو أقوى مني، من لا أحسب نفسي أهلاً لأن انحني وأحلّ رباط حذائه. انا عمّدتكم بالماء، أما هو فيعّمدكم بالروح القدس".
وهكذا نصل إلى ذروة القطعة التي ندرس. هنا بدأ المعمدان يتكلّم ودلّ (دون أن يسمّي) على ذاك الذي سبقه يوحنا ويهيّىء له الدرب.
إن "مجيء" الاقوى يلمّح إلى نص أش 40: 10 الذي هو قريب جداً من النصّ الذي يورده مرقس (1: 4): "ها هو الرب يجيء بقوة، وذراعه تسود". كان يوحنا قوياً بقوة الله. وكان نبياً أوكل إليه ان يعدّ اعداداً مباشراً شعب الله لمجيء الرب. ولكن كم هو أقوى منه ذاك الذي يأتي بعده! والتعارض قوي بين الاثنين كما تدلّ عليه الآية اللاحقة. فيوحنا أمام هذا القوي، لا يتجاسر ان يقابل نفسه بعبد يُجبر على الانحناء ليحلّ سير حذاء سيّده.
ويعود هذا التعارض مراراً بين يوحنا ويسوع، وبطريقة ملّحة في العهد الجديد (رج مت 3: 11؛ لو 3: 16؛ يو 1: 15، 27، 30؛ 3: 30؛ أع 13: 25). وعلى هذا التعارض بنى لوقا انجيل الطفولة. أما مرقس فابرز هذا التعارض حين أغفل كل كرازة المعمدان الاخلاقية (رج مت 7:3-10؛ لو 7:3-14).
يرى الازائيون أن تفوّق المسيح يتركّز في تفوقّ معموديته: يوحنا يطهّر بالماء، ويسوع يعمّد بالروح القدس، وهكذا يدلّ على انه الأقوى. غير ان مرقس يختلف عن متى ولوقا ويقترب من يوحنا (1: 33) وأعمال الرسل (1: 5؛ 11: 16) في أنه يتجاهل أو يلغي الاشارة إلى النار بعد الاشارة إلى الروح القدس. كما يلغي المقابلة مع الفلاّح الذي ينقّي بيدره ويحرق التبن في نار لا تطفأ (مت 3: 12؛ لو 3: 17)
إن اعلان يوحنا عن عماد في النار (وهذا يعني العقاب الهائل الذي ينتظر الخطأة) يتوافق مع تيار من تيارات الاسكاتولوجيا اليهودية (رج عا 7: 4؛ أش 31: 9؛ 66: 15؛ صف 1: 18؛ ملا 3: 2، 19). كما يتوافق مع دهشة يوحنا القريبة أمام اسلوب يسوع في الدلالة على نفسه بأنه المسيح (مت 11: 2-6؛ لو 7: 18-23). فإعلانه عن معمودية في الروح القدس يحمل المعنى عينه ويتناسق مع النبوءات التي تشير إلى "النسمة" او "روح" الله الموقّر الذي يشبه النار الآكلة (أش 30: 27- 28، 40: 7، 24؛ حك 5: 23). إذن، ينعكس فكر يوحنا الاصيل في متّى ولوقا: فمعموديته تنقّي النفوس الطيبة. ومعمودية الأقوى تحدّد مصير كل البشر وتدشّن ملكوت الله. وبين الاثنين، هناك مسافة بعيدة كتلك التي تفصل الماء عن الروح الالهي، والنار عن قدرة الله وغضبه (كما نراهما عند "المسيح" في نظر يوحنا).
أما مرقس فعارض بين طقس يوحنا الاستعدادي وإقامة الملكوت بواسطة نشاط يسوع. وأبعد الموازاة بين المعموديتين عن سياق الانتقام النهائي. وهكذا أعطى "العماد بالروح القدس" معنى إيجابياً وبيبلياً (رج أش 32: 15- 16؛ 44: 3- 4؛ حز 36: 25 ي؛ 39: 29؛ يو 3: 1- 2)، معنى التجديد الداخلي والولادة الثانية. واذ فعل مرقس هذا، شدّد على وجهة حقيقية من كرازة يوحنا حيث تقابل الدينونة الاخيرة (كما في قاعدة قمران) بصورتين ممزوجتين: صورة تنقية المعادن في البوتقة. صورة الغسل المطهّر بروح القدس.
إنطلق مرقس من العماد اليوحناوي فوصل بنا إلى العماد المسيحي. الشكل الخارجي هو هو: تغطيس في الماء. ولكن المفعول الباطني يختلف اختلاف فعل بشري عن فعل من هو المسيح وابن الله.

خاتمة
وهكذا نستطيع ان نفهم فهماً افضل كيف أن رسالة يوحنا (بحسب مرقس) تشكل بداية هذه البشرى، هذا الخبر السعيد، الذي ينحصر اعلانه الأول في يسوع (1: 17). كل شيء يستنير إذا فهمنا أن الانجيل هو حدث قبل أن يكون تعليماً. ومرقس لا يهتّم بالمعمدان إلا من زاويتين: عبره يحقّق الله مواعيده (آ 2- 3). ثم إن اعلان يوحنا يعني يسوع الاقوى (بقوة الله) الذي يعمّد في الروح القدس (أي: في قدرة الله ايضاً) (آ 6-8). من هذا القبيل، صارت رسالة يسوع جزءاً لا يتجزّأ من الحدث الاسكاتولوجي الذي يتثبّت في اعلان يسوع جما الجليل، وتلاميذه في العالم.
ينطلق مرقس من حاضر زمانه في بداية هذا التاريخ الذي فيه يتدخّل الله ليقيم ملكوته. وقبل ان يظهر يسوع، فها هو انجيل يسوع المسيح. ليس فقط لأن يسوع اعلنه بل لأن زمن الخلاص تدشّن مع كرازته.
كان يوحنا آخر "أنبياء" العهد القديم، فكان مرسلاً "أمام وجه" الرب (آ 2). وجاء بعده من هو أقوى منه (آ 7). وفي هذا المعنى "الصغير في ملكوت السماوات" (مت 11: 11). ولكن فخره قام في أنه كتب مقدّمة انجيل يسوع المسيح وابن الله. لهذا "لم يقم في مواليد النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان" (مت 11: 11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM