الفصل الخامس
من يوحنا المعمدان
الى يسوع الإبن الحبيب
1: 1- 13
يبدأ إنجيل القديس مرقس بمطلع يبرز حركة الإنجيل كله، المواضيع الأساسية، التوتّرات الدراماتيكية. مع هذا المطلع نبدأ بخطبة جديدة وندخل في عالم ما كنا لنتوقّعه. نكتشف صدى لصوت دوّى في الجليل واليهودية منذ ألفي سنة تقريباً، وامتدّ عبر الأجيال قبل أن يصل إلينا.
كم تمتدّ هذه المقدمة؟ هناك رأي أول يجعلها تمتد على ثماني آيات (على أساس تقسيم ليتورجي أو لأسباب لغوية). وهناك رأي ثانٍ يصل حتى آ 13. ورأي ثالث يضمّ الآيات الخمسة عشرة الأولى في وحدة صريحة ولاهوتية. نترك الآن هذه المسألة ونتقبّل النص كما وصل إلينا. ما إن يُرفع الستار حتى يأتي صوت لا يعلن عن اسمه فيعبرّ عن ذاته. فيعرض في إيجاز قاطع: العنوان، تقديم سريع ليوحنا المعمدان، تقديم ليسوع الذي ذهب يكرز في الجليل بعد عماده ومحنته في البرية.
كيف تكوّن النص؟
هل يتيح لنا مرقس أن نكتشف الشهادة التي يعطينا إياها عن خبر يسوع عبر استعمال مراجعه؟ إن مقابلة مع متى ولوقا تعلمنا أن الايراد المتشعّب في 1: 2-3 يرجع إلى تقاليد تعني يوحنا المعمدان. وهي ستظهر مرة ثانية بعد أن تقسم إلى عنصرين تتقدّمهما عبارة مختلفة في متى (3: 3 و11: 10) كما في لوقا (3: 4 و7: 27). إن 1: 4-8 يتفرّع من الينبوع الإزائي المشترك الذي أخذه مرقس وكيّفه: أقحم مقطعاً حول نوعيّة حياة يوحنا (آ 6) بعد تقديم الجموع، لا قبله، كما فعل متى (3: 4)، وكرّر فعل "كرز" "بشّر" في آ 4 وآ 7.
إن متتالية المعمودية والتجربة (1: 9-13) تجعلنا نتساءل إن كان التقليد الذي استعمله مرقس يفصل الخبرين. إن مت 4: 1 يقيم قطعاً (حينئذ). ولوقا (3: 23-28) أقحم بين الإثنين سلسلة نسب يسوع. أما مرقس فضمّ الحدثين بعبارة "وفي الحال" والإشارة إلى الروح (آ 10، 12). غير أنه يصعب علينا أن نحدّد الإرتباط بين التقليد المرقسي وذاك الذي يدلّ عليه متى ولوقا. يبدو أن مرقس استعمل مرجعاً جهله المعين الذي استعاده متى ولوقا.
أخيراً، إن آ 1 تدلّ على يد الإنجيلي التي اهتمّت بهذه الآية التي لا نجد ما يقابلها عند متى ولوقا. ونقول الشيء عينه عن آ 14-15. فهاتان الآيتان تتيحان انتقالاً طبيعياً من يوحنا إلى يسوع مع التذكير بالعنوان. وقد ضمّتا المعطيين التقليديين، إنطلاق يسوع إلى الجليل (آ 14 أ= مت 4: 2؛ لو 4: 14 أ)، والبشارة التي حمل (آ 15= مت 4: 17).
كيف تبدو الوحدات الأدبية التي تفحصناها؟
نحن أولاً أمام إيراد (آ 2-3) يكشف لنا كيف كانت الكنيسة الأولى تعيد قراءة العهد القديم على ضوء تتمّته في يسوع. نحن هنا أمام خبر قصير يُبرز إعلاناً مهماً حول مدلول معنى يسوع (آ 4-7). نجد جذوره في الجدالات بين تلاميذ يسوع وتلاميذ يوحنا. مع التشديد على سموّ يسوع وتفوّقه. أما حدثا العماد والتجربة فيدلاّن على نوع جلياني: هي رؤية تفسيرية ترتبط بليتورجيا المعمودية في الجماعات الأولى التي ربطت العماد المسيحي والحضّ على التغلّب على التجربة، بعماد يسوع وتجربته في البرية (1 كور 10: 1-13 هي صدى لهذه الليتورجيا العمادية مع وجهتها التعليمية).
ما هي نظرة مرقس إلى خبر يسوع؟
أولاً، قدّم لنا الإطار الديني والحضاري في عصره حيث حرّك الإنتظار المسيحاني تيارات عمادية تدعو إلى التوبة. وفي الوقت عينه بيّن أن يسوع أخذ بهذه النظرة قبل أن يستخلص كل بعدها كما أمل بها معاصروه واستشفّها المعمدان. عرف مرقس أن هذا الجديد انكشف شيئاً فشيئاً في حياة يسوع: إن رفاقه الدائمين لاحظوا أن قوة كانت تفعل في ذلك الإنسان الذي لم يتهرّب يوماً من المعارضات أو الصعوبات التي تجابهه. فعلى ضوء القيامة، أدرك مرقس هويّة هذا الكائن الخارق: هو ابن الله الحبيب. وتعلّم الإنجيلي في قلب الجماعات الأولى التي تجادل تلاميذ يوحنا الأمناء لمعلّمهم (رج أع 19: 1-7)، أن العماد المسيحي يماثل المؤمن مع روح يسوع ويجعله مشاركاً له في بنوله الإلهية فيعطيه أن يتغلّب على قوى الشر.
هذا هو التاريخ الذي يشهد له مرقس.
ولكن كيف نظّم الإنجيلي الثاني هذه العناصر في مطلع داخل هذا الفن الأدبي الجديد (إنجيل) الذي يبدو أنه استنبطه؟
على المستوى الأدبي، هناك التضمين بين "يسوع" و"إنجيل" في آ 1، 14. إنه يكشف الواقع الفريد الذي يبدأ مع يسوع: الخبر المفرح لتتويجه مسيحاً وابن الله. فما إن ظهر على الأرض حتى دلّ على قرب ملكوت الله وطلب تعلّق الإيمان. ثم حرّك المؤمن فكشفه لذاته في دعوته كابن الله وكمسيحي.
وهناك تضمين آخر تدلّ عليه لفظة "ملاك" (رسول. من لأك في العربية) في آ 2 و"ملائكة" في آ 13، وتكرار عبارة "في البرية" (آ 3، 13 مع إستعادة في آ 4، 14). كل هذا يحدّد مجموعة أدبية نستطيع أن نقدّمها في خمس مراحل، وذلك حسب ورود الألفاظ البارزة.
وإليك بنية النص.
* إن العنوان الذي يتحدّث عن إنجيل يسوع (الذي هو) المسيح، (الذي هو) ابن الله، يجد ما يقابله في الخاتمة الوصلة التي تقدّم يسوع معلناً إنجيل الله. فملكوت الله قد اقترب وهو يدعونا لكي نؤمن بالإنجيل (آ 14-15).
* في البرية حصل حدثان يتجاوبان:
أ- صوت ملاك (رسوله) يدعونا لتهيئة طريق الرب (آ 2- 3).
أ أ- جعل الروحُ يسوعَ يواجه إبليس. ثم جاءت الملائكة وقدّمت خدمتها لها.
ب- وصل المعمدان فعمّد في الأردن. وهكذا خلق تيّاراً في شعب أورشليم واليهودية (آ 4- 6).
ب ب- ووصل أيضاً يسوع آتياً من ناصرة الجليل وعُمّد في الأردن: صعد من الماء، فرأى الروح ينزل عليه، وسمع صوتاً من السماء يدلّ عليه أنه الإبن الحبيب (آ 12- 13).
ج- في قلب الخبر، حدّد يوحنا موقعه بالنسبة إلى يسوع (أنا/ هو) وقابل بين عماد ماء وعماد روح يمنحه الذي هو أقوى منه (آ 7-8).
لنوضح هذه الرسمة بإيجاز. قلبها (ج) هو مفتاح فهمها. فالإعلان النبوي يصل بنا إلى تسمية "الأقوى" الذي يستطيع وحده أن يتمّ قيامة الشعب كما استشفّها حزقيال في رؤيته للعظام اليابسة التي عادت إليها الحياة (حز 37). أمام هذه التتمة، أعلن النبي عجزه: لقد دعا إلى التوبة، ولكنه لا يستطيع أن يمنح الخلاص: فعليه هو أيضاً أن يتعلّم من الذي يغطّس الإنسان في الروح.
ورث يوحنا الأنبياء فنادى باجتماع شامل في الأردن، من أجل الدخول في أرض الموعد الجديدة (ب). والذي يقود البشر المصالحَين إليها هو ابن الله الخاصّ الذي دلّ عليه الصوت السماوي: في شخصه تمزّقت السماوات فكشفت عن ملء حب الآب وحنانه للبشر (ب ب).
لا يلبّي يسوع إنتظاراً آخر سوى انتظار التحرير النهائي من الخطيئة، الذي كان الخروج والعودة من المنفى صورة عنه (أ). هذا هو طريق الرب: وسط برية الحياة وصعوباتها وشقاواتها، وسط تجاربها وسقطاتها، بدا يسوع على أنه رجاء العالم لأن قوة الروح المنتصرة هي التي تحرّكه (أ أ).
بدا يسوع مسيح إسرائيل ومحرّر البشر لأنه ابن الله الذي تجسّد في التاريخ (العنوان). بدا أنه بشرى الله الجديدة التي تتوجّه معه إلى الجميع. بعد هذا، يستطيع كل واحد أن يكتشف دعوته لكي يجعل هذه البشرى بشراه (الخاتمة الوصلة).
كيف يترتّب النص على المستوى البنيوي؟
ننظر إلى النصّ في ذاته (سنكرونيا، نظرة إجمالية)، لا حسب تاريخ تدوينه (دياكرونيا، أو نظرة تفصيلية). يُفرض علينا عملان. أولاً، نبحث عن التقابلات بين عناصر الخبر. ثانياً، نرتّبها فنستخرج الحركة العميقة التي تحدّد هذه العناصر وتُوحّدها.
نلاحظ أولاً الأشخاص في هذا المطلع. المبادرة تعود إلى الله: إنه يسمّى "الرب" (آ 3). هو الذي يرسل يوحنا يكرز بمعمودية التوبة (آ 4). ويسمع صوته (آ 11). البشرى هي بشراه وقد جاءت من عنده (آ 14). إنتقل تعليمه بواسطة الأنبياء وتسلّمه يوحنا، فوصل إلى سكّان اليهودية وأورشليم (آ 5) قبل أن يتوجّه مباشرة إلى يسوع (آ 11). إذن، وصلت كلمة الله إلى هدفها بفضل عدد من "الوسطاء": أشعيا النبي (آ 2-3). يوحنا النبي (آ 6) الذي يعمّد في الماء (آ 5، 8). وأخيراً الروح (آ 8، 10، 12). وقد تذكرنا خدمة الملائكة بعطية الشريعة (رج غل (3: 9؛ أع 7: 38، 53؛ عب 2: 2).
وهكذا نعرف منذ البداية أن الرب سيأتي، غير أن طريقه ليس معدّاً (آ 3). بدأ يوحنا يمهّده (يزيل الحواجز والعراقيل) بمعمودية الماء والنداء إلى التوبة (آ 4- 5). وخصوصاً، بالدلالة على الأقوى الذي أمامه سيمّحى (آ 7). وظهر يسوع: مرّ في الطريق الذي فتحه له السابق إلى مياه الأردن (آ 9). هنا تمزّقت السماوات (آ 10) وأطلقت الروح الذي نزل، والصوت الذي اعترف بالإبن الحبيب (آ 11). هل صار الطريق حراً الآن تماماً بعد الآن؟ كلا. فلن يفتح الطريق حقاً نحو التوبة الموصلة إلى الملكوت (آ 14- 15)، إلاّ بعد مواجهة الإنتصار ضدّ إبليس الذي هو الخصم الشخصي (آ 13).
أسلم يوحنا وجُعل في السجن، لأن مهمته كانت لزمن محدود. ولكن يسوع أخذ المشعل وتابع العمل متوجّهاً إلى الجليل. وهكذا تمّ تحوّل حقيقي: فبالفتحة التي تمّت في السماء وصل إلى الأرض غفرانُ الخطايا الذي أعلنه العمادُ بالماء إعلاناً نبوياً. فحبّ الآب لابنه يسوع بدّل وضع الإنسان. لا شك في أن التجربة والخيانة لم تُلغَيا، ولكن العلائق بين الله والإنسان قد تبدّلت. وبعد اليوم، صار الإيمان بالإنجيل ممكناً.
على مستوى المكان. بدا الوضع في شكل مماثل. فيوحنا قد قرّب، بعمله وكرازته في الأردن، اليهودية من الجليل دون أن يحقّق المصالحة الحقيقية. فهو سيسلّم في الجليل. ما لم يستطع أن يحقّقه الإنسان، قد حقّقه الإبن الحبيب حين صعد يسوع من الماء صار الموضع الذي فيه يتمّ من أجل الإنسان اللقاء مع الله بإرسال الروح. لم يعد طريق الله على الأرض طريقاً أفقياً (من إنسان إلى إنسان). لقد دخل في عمودية العلاقات بين الله والإنسان. والمؤمن يعبر البرية لا بكلمة تنادي وحسب، بل بانتصار يحرّك الخدمة والإيمان.
على مستوى الزمان. إن المعلومات الكرونولوجية هي غامضة ونادرة، وهي تحدّد موقع الأحداث بالنسبة إلى "تلك الأيام" (آ 9) من جهة، وبالنسبة إلى "الزمان" الذي تمّ (آ 14) من جهة أخرى. إذن، هو زمن يرتّب الواقع الزمني ويرافق كرازة يسوع نفسه.
على مستوى الحركة في هذا الخبر. على مستوى أول من الفهم، نستطيع أن نقرأ ظاهرة نبوية: أعاد يوحنا قراءة قول أشعيا، فأسّس تياراً عمادياً يدعو إلى التوبة. وخضع يسوع لهذا العماد. غير أن عمله سيمتدّ أبعد من عمل المعمدان: ترك الإطار المعيق، إطار الأردن واليهودية، وذهب يكرز في الجليل. في هذا المنظار، ظلّ يسوع إنساناً من الناس، نبيّاً في خط الأنبياء الذي سبقوه: مثلهم أرسله الله. مثلهم عرف المحنة.
قرأنا النص بهذه الطريقة، فلم نحتفظ إلا بالعناصر السردية. ولكن إذا انتبهنا إلى الكلمات الواردة، ندرك أن الحديث يدور حول طريق الرب الذي يحمل مجيئُه غفران الخطايا. يسوع هو أقوى من يوحنا لأنه يعطي الروح الذي حلّ عليه في مسحةٍ تُوليه كل سلطان. من هذا القبيل أتمّ قول أشعيا (40: )، وصورة المسيح التي صوّرها مز 2، ونداء عبدالله المتألم (أش 42: 1). ورؤية الحيوانات المصالَحة تتسجّل عند ذاك في منظار الأزمنة المسيحانية التي دشّنها إعلان ملكوت الله بفم يسوع. إذن، يسوع هو المسيح كما أعلنه عنوان الإنجيل (1: 1). غير أن هذا اللقب يتحمّل تفسيرات مختلفة في العالم اليهودي. لهذا يبدو خطراً.
ونخطو خطوة في هذا الإطار لنكتشف التوازي الذي رسمه مرقس بين يوحنا ويسوع. فالأول يتحرّك حسب خطّ أفقي: أعلن في البرية معمودية ماء، فقاد الناس إلى الأردن، ودعاهم إلى الإقرار بخطاياهم. وهكذا دلّ على أنه نبيّ. أما يسوع فقد تبع الخط الأفقي نفسه حتى الأردن، ثم راح في خطّ عمودي يصل الماء بالسماء. وهكذا تمّ تحوّل جذري: لقد حصلنا بالفعل على غفران خطايانا لأن الله رأى في هذا المعمَّد ابنه الحبيب. وهكذا انتقلنا على مستوى المكان والزمان من واقع عادي إلى واقع جديد لم تسمع به إذن: لم تعد المياه مياه الأردن، بل صارت الموضع الذي فيه تمتدّ بنوّة الله بواسطة الروح.
ونطرح سؤالاً هاماً: إلى من يتوجّه هذا الخبر الذي رأينا فيه حدثاً يحصل أمامنا وخارجاً عنا؟ بدأ مرقس بإيراد ثلاثة نصوص من العهد القديم نسبت إلى أشعيا. هناك شخص يتكلّم في صيغة المتكلّم المفرد إلى شخص آخر لا يذكر اسمه: "ها أنا أرسل ملاكي أمام وجهك فيهيّىء طريقك" (آ 2). وفي الآية التالية، ينتقل التصريح إلى صيغة المخاطب الجمع: "أعدوا... قوّموا (أنتم)". ولكننا نجهل من يعني هذا الكلام، حتى آ 5 حيث نشاهد خروج "كل منطقة اليهودية وكل أهل أورشليم"، إلى يوحنا. إليهم يتوجه الإعلان المركزي للوهلة الأولى: "أنا عمّدتكم بالماء. أما هو فيعمّدكم بالروح القدس" (آ 8). ومع هذا، فنجد يسوع معمَّداً بالروح القدس (آ 10) والصوت السماوي يناديه بطريقة شخصية: "أنت هو إبني الحبيب، بك رضيت (سررت)" (آ 11).
هو الآب منذ البداية يتحدّث إلى ابنه. وكل البشر قد لامستهم كلمته فاكتشفوا نفوسهم معنيّين بهذا الحوار بقدر ما يتركون الآب يغطّسهم مع الإبن في الروح. ويقوم غفران الخطايا بأن يترك المعمّد الآب يرى فيه ابنه الحبيب وموضوع رضاه. أن يؤمن بالإنجيل الذي هو خبر جديد ونداء جذري. إلى من توجّه هذا الكلام؟ إلى سامع الإنجيل أو إلى قارئه كما إلى يسوع أيضاً. وما هي العلاقة بين الواحد والآخر؟ هذا ما سيحاول الإنجيلي أن يبرزه على مدّ النص الذي يقدّمه إلينا.
أي تعليم نجد؟ ماذا نكتشف في هذه البنية الخاصة بمرقس؟
إن هذه المجموعة تدلّ على هدف لاهوتي محدّد نكتشفه من خلال أسلوب مدراشي (درس وتأمّل) غذّته تلميحات إلى الكتاب المقدّس، ولغة رمزية ثابتة، وتأليف دقيق كل الدقة. والضوء يتركّز كلّه على يسوع الذي سمّته الآية الأولى: المسيح، ابن الله. وهكذا بدا المطلع نهجاً ورفيق درب من أجل قراءة الإنجيل كله: فالروح يعطينا أن ندرك واقع ابن الله الحبيب عبر ظهوره في العالم ومسيرته في تاريخ البشر.
منذ السطور الأولى نبّه القارىء إلى هويّة يسوع الناصري الحقيقية: هو المسيح وابن الله. هل سيفهم هذين اللقبين في الحال؟ كلا. ولكن عبر هذين اللقبين، وعبر الشخص الذي يحملهما، وعبر ما يقوله لنا الإنجيلي، "يبدأ" بسماع صوت الآب (بداية إنجيل). فأمام يسوع الذي يأتي، تتّخذ النبوءة في إسرائيل وقد تمثّلت في إيليا وأشعيا، وجهها التاريخي في يوحنا المعمدان. فأمام يسوع، كل إنسان مدعوّ منذ الآن لأن يحدّد موقعه: فالمعمودية تتوجّه إلى الجميع، وكل من يخرج من عياه العماد يرى مع يسوع الروح ينزل عليه، ويسمع صوت الآب.
إستعاد يسوع "خروج" أبوينا الأولين اللذين طردا من الفردوس وبدأا يسيران نحو الموعد، و"خروج" العبرانيين من مصر إلى أرض الموعد، و"خروج" المنفيّين المتّجهين إلى أورشليم، وبدأ يجمع أولئك الذين يدعوهم لكي يصيروا كنيسته فيقيم فيهم. وعلى ضوء آلام المسيح وقيامته (يدل عليهما العماد المسيحي) نفهم هذا المطلع الإنجيلي. إنه يهيّىء المؤمن لقراءة حياة يسوع التي ينكشف معناها شيئاً فشيئاً في هذا الإنجيل