الفصل الرابع البنية اللاهوتية في مرقس قسمان كبيران

الفصل الرابع
البنية اللاهوتية في مرقس
قسمان كبيران

تحدّثنا في فصل سابق عن قسمة الإنجيل ست قسمات تشدّد على حضور الكنيسة. وها نحن نتوقّف عند القسمين الكبيرين اللذين نجدهما في عنوان إنجيل مرقس: بداية إنجيل يسوع الذي هو المسيح، الذي هو ابن الله.

1- بنية لاهوتية في قسمين
وهناك قسمة أخرى جذرية وأساسية يكاد يتّفق عليها جميع الشرّاح: قسمان. وما يسند هذه القسمة هو إعتراف بطرس الذي يتلاحم مع الانباء الأول بالآلام (27:8- 31). يحتلّ هذا الانباء في إنجيل مرقس موقعاً بنيوياً: إنه رأس السقف الذي عنده يلتقي المنحدران ويتحدان. إنه حجر الغلقة الذي يتوجّه إليه البناء كلّه. إنه النقطة الأساسية التي عندها يجد السر المسيحاني تفسيره.
يشرف على كل القسم الأول في مرقس (1: 14- 26:8) سؤال ملحّ يشغل البال: من هو هذا الرجل؟ منذ أول ظهور في مجمع كفرناحوم دهشت الجموع والسلطات اليهودية وتساءلت: من هو هذا الرجل؟ من أين له هذه القدرة وهذا السلطان (1: 22؛ ق 11: 27- 33)؟ الشياطين يعرفون، ولكن يسوع يسكتهم بشكل لا تردّد فيه (24:1- 25، 34؛ 12:3).
تصرّف يسوع بسلطان وقدرة أدهشت السلطات وشكّكتها (2: 7، 10). أدهشت الأهل والمواطنين (3: 21- 22؛ 6: 2- 3). إجترح يسوع معجزات عديدة في هذا القسم الأول (1: 14- 26:8) ولكنه فرض على الذين نعموا بها بالصمت. أراد أن لا ينكشف سّر شخصه. في القسمة الثالثة (6: 6 ب- 8: 26) بدأ يظهر شخص يسوع في "إعتراف" هيرودس (وما فيه من مكر) الذي هيّأ إعتراف الكنيسة الحقيقي (14:6- 16= 27:8- 30).
بعد إعتراف بطرس (باسم الكنيسة) يبدو أن الستار سقط وتوجّه الإنجيل كله إلى نهاية الدراما. فاعتراف بطرس حرّك السفر إلى أورشليم، إلى الآلام. لم ينتظر يسوع إلاّ هذا حتى يُتمّ مصيره. وهذه القسمة في قسمين تنعكس في الإطار الجغرافي: حصل القسم الأول في الجليل وجواره. وتركز القسم الثاني (8: 27- 16: 8) حول أورشليم.
إن الاعتراف المسيحاني حرّك الإنباء الأوّل بالآلام (8: 27- 31). لا نجد تواصلاً بين 8: 30 و 8: 31. بل إن 8: 31 يعطي السبب الذي لأجله يجب عليهم أن يسكتوا الآن. وبعد القيامة، لن يعود لهذا السكوت من داع (9: 9). هناك رباط لاهوتي بنيوي بين 8: 30 و 8: 31: فالإنباء الأول بالآلام يوضح إعتراف إيمان الكنيسة. فالإنباء بالآلام في نظر مرقس، قد تضمّنه بشكل ضمني إعتراف بطرس. وعرفت الكنيسة أن يسوع هو المسيح الذي أنبأت به الكتب. بيد أن الكتب أعلنت مسيحاً مصلوباً. إذن، تضمن إعتراف الإيمان بشكل ضمني الإنباء بالآلام.
إن 8: 31 أوضح المضمون الحقيقي لاعتراف الكنيسة. وهكذا حرّك إيمان الكنيسة بشكل لا تراجع عنه كل الدراما المسيحانية حتى الموت والقيامة. واكتفى الباقي بأن يحقّق المصير المسيحاني الذي أعلنته الكنيسة. إن إعلان إيمان الكنيسة يشارك في ذات فاعلية كلمة الله التي تفعل ما تقول ولا تتراجع إلى الوراء (أش 55: 10- 11). إن إعلان إيمان الكنيسة هو كلمة الله وهو يفعل ما يعلن (أع 43:10- 45). هكذا لفظة "يجب" في مر 8: 31 تعبرّ عن ضرورة لكلمة الله لا مردّ عنها. فالانباء الأول نتج عن إعتراف الكنيسة فكان تحقيق الكلمة في نتائجها الأخيرة.
كل هذا يدلّ على أن إنجيل مرقس يقسم قسمين كبيرين. الأول (1: 14- 8: 26) هو الظهور المسيحاني السّري في الجليل، الذي يهيّىء الاكتشاف الكبير (8: 27- 30). وهذا الاكتشاف أوصل القسم الثاني إلى نهاية الدراما في أورشليم (8: 27- 16: 8). إنجيل مرقس هو دبتيكا كبيرة مع اعتراف بطرس في الوسط كخاتمة القسم الأول وبداية القسم الثاني. إنجيل مرقس هو دراما تنتهي بسؤال يطرح على الكنيسة: هل فهمَتْ إعتراف إيمانها حقاً (16: 8)؟

2- القسمات المتوازية
إن قسمة مرقس إلى ست قسمات بدت لنا متينة. والقسمة في قسمين واضحة. وها نحن نقدّم فرضية تساعدنا على إدراك البنية الداخلية في إنجيل مرقس. لا شك في أن القسمين الكبيرين (14:1- 26:8 و27:8 - 8:16) يتقابلان تقابلاً تاماً. فهل نجد تقابلاً بين قسمة وأخرى.
أ- القسمة الأولى (1: 14- 3: 6) والقسمة الخامسة (11: 1- 44:12)
إن المجادلات الخمس في 2: 1- 6:3 تقابل بلا شك المجادلات في 11: 27- 12: 37. فالسلسلة الأولى من المجادلات تفتتح رسالة يسوع المسيحانية. والسلسلة الثانية تختتمها. هاتان السلسلتان هما تضمين لاهوتي ومسيحاني كبير في كل إنجيل مرقس. وها نحن نقابل بين مجادلة ومجادلة.
- 2: 1- 3: 6 11: 27- 12: 37
-2: 1-12 سلطة يسوع 11: 27-32: سلطة يسوع
- 2: 13- 14: دعوة لاوي 12: 1- 12: الكرّامون القتلة
- 2: 15- 17: أصحاب الضرائب 12: 13- 17: الضريبة لقيصر
- 2: 18- 22: العريس حاضر/ غائب 12: 18- 27: امرأة مع 7 أزواج
- 2: 23- 28: رب السبت (داود) 12: 28- 34: الوصية الأولى
- 3: 1- 5: خلاص او قتل 12: 35- 37: رب داود
- 3: 6: قرار بقتل يسوع 38:12- 44: الكتبة ضد الأرامل.
يرى معظم الشرّاح أن المجموعة الأولى متصاعدة: في الجدال الأول: "ظن الكتبة في قلوبهم"، فكّروا في قلوبهم (2: 6). في الجدال الثاني: توجّهوا بكلامهم إلى التلاميذ حول موقف يسوع. في الثالث وجّهوا حديثهم إلى يسوعْ حول تصّرف تلاميذه (الصوم). ونجد الشيء عينه في الجدال الرابع مع تدرّج في جواب يسوع: إنه ربّ السبت. وفي الجدال الأخير، يسوع هو موضوع التساؤل. والمعارضة تصل إلى ذروتها بقرار اتخذ بقتل يسوع.
نتخيّل أن المعارضة تبدأ بشكل تدريجي. تمثّل المجموعة الأولى أولى "المعارك" مع خصوم يسوع. والثانية تقود إلى القرار الأخير. ولكن العكس هو الذي نجده هنا. فالمجموعة الأخيرة تصل بنا حالاً إلى الحكم بالموت على يسوع. أما المجموعة الثانية فهي تراجعية: تبدأ بالحكم على يسوع (18:11: يلتمسون كيف يهلكونه). الجدال الأول في المجموعة الثانية هو الأكثر عدوانية (28:11) ولكنه ينتهي بدون خاتمة. هو لا يجيب على السؤال، فتكتفي السلطات بهذا الجواب المتهرّب لدى يسوع. ويحرّك المثل موقف عنف لدى السلطات ولكنه لا يتخذ شكلاً ملموساً (12:12). وأحاط الجدال الثاني تملّق يشبه تملّق العبيد (12: 14). في الجدال الثالث، "سخر" يسوع من الخصوم بشكل علني (17:12- 28). بعد الجدال الرابع، لم يتجرّأ أحد من الخصوم أن يناقش مع يسوع (12: 34). والذي يحرّك الجدال الأخير ليس الخصوم الذين صمتوا، بل يسوع نفسه. وهذا الجدال يصل بنا إلى الانتصار المسيحاني: ليس المسيح فقط "ابن داود". إنه رب داود.
إذن، المجموعة الأولى من المجادلات عرفت معارضة متصاعدة، وصلت بالخصوم إلى اتخاذ قرار بقتله. أما المجموعة الثانية فهي ظهور ينفتح شيئاً فشياً (هنا لم يعُد من سّر) حول سلطة يسوع السماوية (من السماء، 11: 30)، حول الابن الوحيد (12: 6) حول الملكوت الذي لا يمتزج مع مملكة قيصر (17:12)، حول قيامة الموتى كتعليم أساسي في الإنجيل (26:12)؛ حول متطلّبة الملكوت الأساسية (حتى الكاتب يودّ أن يدخل إلى ملكوت يسوع، 12: 34: لست بعيداً عن ملكوت الله). وتجد المجادلة الأخيرة ذروتها في مسيحانية متسامية.
فإذا كانت المجموعة الأولى تقود المعارضة إلى الذروة، ففي المجموعة الثانية، ستزول المعارضة تدريجياً (43:12: لم يجسر أحد من بعد أن يلقي عليه سؤالاً). أما الوحي المسيحاني الذي ظلّ خفياً بسبب "السّر"، فقد انكشف بشكل لا يُقاوم. إذن، تتقابل المجموعتان ولكن بترتيب معاكس، بشكل تصالب (خياسما) يدخل في الإنجيل بشكل مفارقة.
ونتساءل: هل هناك موازاة بين ما تبقّى من القسمة الأولى (1: 14- 45) والقسمة الثانية (11: 1- 33)؟ كلتاهما تتحدّثان عن يوم كامل (24 ساعة) في كفرناحوم أو في أورشليم. دخل يسوع إلى مجمع كفرناحوم في يوم سبت (1: 21). وما إن خرج من المجمع حتى دخل إلى بيت بطرس وأندراوس (1: 29). وعند المساء، عند غياب الشمس (1: 32). وفي الصباح، قبل طلوع النهار قام وخرج (1: 35) ونقول الشيء عينه عن يوم أورشليم (24 ساعة): أقبل المسيح فخرج ليذهب إلى بيت عنيا مع الاثني عشر (11: 11). وفي الغد، كان خارجاً من بيت عنيا فجاع (12:11). ولما أقبل المساء خرج من المدينة (19:11). وفيما هو مجتاز في الصباح (20:11).
إن هذا التقابل بين القسمتين يدل على أن الواحدة تجد تفسيرها في الأخرى. ونشدّد هنا بشكل خاصّ على نقطتين. الأولى: كشف يسوع عن نفسه للعالم اليهودي أولاً. وبعد أن "رذل" ذهب إلى بيت تلاميذه. الثانية: إن القسمة الأولى (1: 14- 3: 6) جرت في إطار (تدويني) أسبوع (1: 21؛ 2:3: من سبت إلى سبت). وهذا ما نقوله أيضاً عن الاسبوع الأخير (11: 11؛ 12: 19، 20، 27؛ 14: 1، 12، 17، 72؛ 15: 1، 42؛ 16: 1). هذه الفكرة قد أخذ بها يوحنا الإنجيلي فشدّد على طابعها الليتورجي.
وهكذا نكون أمام موازاة بين القسمة الثانية والقسمة الخامسة. تدل الثانية على تدشين رسالة يسوع في الجليل: 24 ساعة في كفرناحوم ومجموعة من خمس مجادلات متصاعدة. وتدلّ الخامسة على تدشين رسالة يسوع في أورشليم وسلسلة من خمس مجادلات منحدرة على مستوى العنف ومتصاعدة على مستوى الكشف المسيحاني. يقدّم لنا مرقس في هاتين القسمتين، يسوع أمام السلطات الرسميّة (المجمع، الهيكل). رُذل يسوع، فخرج مع تلاميذه، وهذا ما يدّل على إنفصال بين الكنيسة والمجمع، بين المسيحية واليهودية.
ب- القسمة الثانية (3: 7- 6: 6 أ) والقسمة السادسة (13: 1- 8:16)
إن الخطبة بالأمثال (ف 4) والخطبة الاسكاتولوجية (ف 13) هما خطبتا يسوع الوحيدتان في إنجيل مرقس. توجّهت خطبة الأمثال إلى الجميع. والخطبة الاسكاتولوجية إلى أربعة تلاميذ مميّزين، هم الأربعة الذين دعاهم يسوع في البداية (16:1- 20).
في ف 4، تحدّث يسوع بأمثال لئلا يفهم الذين من الخارج، وكان يفسّر لتلاميذه كل شيء على إنفراد (10:4- 12، 34). في ف 4، يكشف يسوع السّر لتلاميذه، وفي ف 13 يكلّم بعض تلاميذه. مضمون ف 4 هو سّر ملكوت الله (4: 11). لا يتلفّظ ف 13 بهذه العبارة، ولكن الموضوع واضح وهو سر مجيء الملكوت (ق 9:9 و26:13). هذا هو معنى سؤال التلاميذ الذين أرادوا أن يعرفوا متى يحصل كل هذا.
دلّ ف 4 على أن الغلات ستكون كثيرة رغم الظواهر. ودلّ ف 13 على أن انتصار ابن الإنسان أكيد رغم الحروب والاضطهادات ودمار أورشليم. هناك تواز واضح بين زرع ينبت وحده (4: 28) وتينة 13: 28: كلاهما يدلاّن في السّر على الدينونة الآتية. والدعوة إلى السهر في 28:4 تقابل ما في 13: 33- 37.
والموازاة في القسم السردي (4: 35- 6: 6 أ؛ 14: 1- 16: 8)؟ نلاحظ أن مرقس اختار ثلاثة أمثال (مع أن الأمثال كثيرة، 4: 33) تتحدّث كلها عن الزرع الذي يسقط في الأرض لكي يعطي ثمراً كثيراً، وذلك رغم "ضياع الأمل" (يو 24:12: إن حبة الحنطة التي تقع). وهذه الخطبة لا تفهمها الجموع الآن. غير أنها ستصبح شفّافة بعد موت يسوع وقيامته. ويتبع خطبة الأمثال حالاً عبوُر البحيرة حيث يجد يسوع نفسه في وضع مشابه لوضع يونان. إن هذا التلميح سيصبح واضحاً في مت 39:12- 40. وامتداد "السفرة" مع تبشير اليونانيين (في الدكابوليس، أي: الوثنيون) والانتصار على الشياطين الذين سقطوا في اللجّ، وإقامة ابنة يائيرس، كل هذا يرسم أمامنا موت يسوع وقيامته كشرط للدخول إلى الملكوت أو كسّر الملكوت.
ج- القسمة الثالثة (6: 6 ب- 8: 26) والقسمة الرابعة (8: 27- 52:10)
هناك توالي بين تكثيرَيْ الأرغفة: واحد لليهود وواحد لليونان. ويتبع كل تكثير عبور على البحر (6: 45؛ 8: 15) وجدال مع الفريسيين (7: 1-23؛ 8: 11-13). وشفاء أصم ألكن (7: 1- 37) يوافق شفاء أعمى بيت صيدا (8: 22- 26). صَمم في المعجزة الأولى وعمى في المعجزة الثانية.
وهناك توازٍ أوسع بين قسمة الأرغفة كلها (6: 6 ب- 8: 26) والقسمة الرابعة التي دشّنها إعزاف بطرس وأشرفت عليها انباءات بالآلام ثلاثة (8: 27- 10: 52). إن اعتراف بطرس يقابل "إعتراف" هيرودس. ومقتل يوحنا المعمدان هو صورة مسبقة عن موت يسوع (9: 12- 13)، وربما عن إستشهاد بولس في رومة خلال اضطهاد نيرون. والإشارة إلى "قيامة" المعمدان ليست غائبة (6: 16؛ ق 9: 9- 13).
وتنتهي القسمتان بشفاء أعمى يمثّل في الحالتين التلاميذ: في 18:8، التلاميذ هم عميان وصمّ. بعد شفاء الأصم الألكن وأعمى بيت صيدا صار بإمكانهم أن يعترفوا بالمسيح. وفي 10: 52، تبع الأعمى بعد شفائه، يسوع في الطريق (طريق الآلام). يبدو أن هناك تلميحاً إلى موت بطرس في 8: 34، 10: 52 (ق يو 21: 19) وإلى موت يعقوب ويوحنا في 10: 38- 39. وهكذا تتحدّث هاتان القسمتان عن وضع الكنيسة بما فيه من اضطهاد.

3- ظهور مثلّث للمسيح
نود أن نلفت الانتباه إلى ثلاثة ظهورات ليسوع المسيح (كرستوفانيات) تحيط بإنجيل مرقس كلّه وتعطيه معناه ومكانته المسيحانية. هذه الكرستوفانيات جُعلت في بداية الإنجيل، في الوسط، وفي النهاية، فبدت بشكل ملخَّص للتعليم الذي فيه. فما نكتشفه فيها، نكتشفه أيضاً في نشاط يسوع وفي معجزاته. فمعجزات يسوع أيضاً هي كشف جزئي عن مجده وسلطانه كمسيح، وهي تتّخذ نورها وبهاءها من الظهورات الشفّافة التي تكشف المضمون الخفي في الإنجيل الثاني.
أ- المعمودية (1: 9- 11)
أول مرة نرى فيها يسوع عند مرقس، نراه في تيوفانيا (ظهور إلهي). بدأ يسوع فعُمّد (صيغة المجهول). وهذا العمل له أهميته اللاهوتية: فقبول عماد التوبة من يد يوحنا (1: 4) هو برنامج كل مصيره كمسيح. ففي كل العهد الجديد (روم 3:6؛ كو 2: 13) وخصوصاً في مرقس (10: 38)، العماد هو رمز الموت والدفن. وبما أن يسوع عمّد ساعة دخل على "المسرح"، فهذا يدلّ على نبوءة عملية تحكي عن مهمته المسيحانية. لا يأتي يسوع، مثل داود جديد، لكي ينتصر على أعدائه ويفنيهم. بل جاء (رسالة إلهية) كحمل الله الذي يحمل خطايا العالم كلّه ويكفّر عنها.
لا يشدّد مرقس فقط على العماد، بل على الرباط الأساسي بين العماد والتيوفانيا (وفي الحال، عند صعوده من الماء، رأى السماوات تنشق والروح ينزل عليه مثل حمامة). إن التيوفانيا ترتبط بالمعمودية. هنا نجد اللقاء بين الآلام والمجد. ونحن أمام برنامج من أجل الإنجيل كله.
الكرستوفانيا هي تتويج حقيقي للمسيح. وهذا ما تدلّ عليه المسحة في الروح القدس (1 صم 10: 10؛ 11: 6؛ 16: 13) والقول الإلهي (مز 2: 7-9؛ 110: 1- 4؛ 1 صم 10: 1؛ 2 مل 9: 1-3). هكذا فهمه أع 10: 38. إن القول الإلهي يمنح للمختار كرامته ورسالته. وروح الله يعطيه قوة علوية لكي يقوم بهذه المهمّة. والسماوات "الممزّقة" (أش 19:63) تشير إلى الطابع السماوي للتتويج كما في مز 110: 14؛ أع 2: 33- 35.
أما القول الإلهي ففيه تلميح إلى أش 42: 1 (عبد أو فتى، صار عند المسيحيين "الابن"). بل هناك مزج بين مز 2: 7 وأش 42: 1. يدلّ إيراد أشعيا على يسوع في وظيفته كعبد الله (مع تلميح إلى أش 53). أما التلميح إلى مز 7:2 فيدلّ على أن مهمة عبد الله وتتويجه في المجد هما شيء واحد (أش 13:52؛ 53: 11- 12؛ فل 8:2- 9). إن موت يسوع لا ينفصل عن تمجيده منذ البداية، بالنظر إلى مهمة يسوع المسيحانية وبالتوافق مع الكتب المقدسة. هذا هو برنامج الإنجيل الذي تكمّله تجربة الشيطان (12:1-13).
ب- التجلي (2:9-8)
تبدو كرستوفانية العماد جزءاً من المطلع. هذا يعني أنها برنامج كل مصير يسوع المسيحاني. ويدشنّ التجلّي القسم الثاني في مرقس (27:8- 8:16)، وينير كل الصعود إلى أورشليم حتى الصليب.
إن إعتراف بطرس هو ذروة السّر المسيحاني. إتجّه القسم الأول كله (8: 27- 16: 8) إلى هذا الاعتراف الذي فيه أدرك الإنجيل غايته: "بداية إنجيل يسوع (الذي هو) المسيح" (1: 1). في اعتراف بطرس، إنكشف السّر للكنيسة. لهذا، ما إن عرف بطرس (والجماعة الكنسية) يسوع، حتى أثبتت التيوفانيا الاعتراف فقالت: "هذا هو ابني الحجاب". فإعلان الكنيسة والصوت الإلهي قد تجاوبا وقادا الكتاب إلى نهايته. ومع ذلك، لم ينته كل شيء هنا: فالظهور المسيحاني في مرقس هو دوماً ظهوران: المجد والصليب. لهذا ارتبط اعتراف بطرس بالانباء الأول بالآلام كتكملة له. والنصوص المتوسّطة (8: 34- 9: 1) توحّد بين الانباء الأول والتجلي، وتطبّق على الكنيسة (وعلى بطرس) ما قيل عن يسوع.
وهكذا إتجه القسم الأول كله نحو اعتراف بطرس وهناك كانت الذروة. غير أن هناك بالضبط، قد تبع الإنجيل طريقاً آخر. لقد انتهى بعد الآن كل ظهور للجموع، بعد أن عرفت الكنيسة يسوع. واتخذ يسوع حالاً طريق الآلام. لقد انتظر اعتراف الكنيسة واستعجل هذا الاعتراف. وما دامت الكنيسة لم تتعرّف إليه، فهو لا يستطيع أن يواجه الآلام. فاعتراف الكنيسة يفتح (بشكل من الأشكال) طريق الآلام. هذا الرباط يعطي تعليم مرقس كثافة يرثها يوحنا حين يجمع بين المجد والصليب (يو 14:3؛ 28:8؛ 12: 32).
كل إنجيل مرقس يتلخّص في هذين الخطين. الأول (1: 14- 26:8) هو زمن الظهور السري للمسيح، يصل إلى إعتراف بطرس والتجلي. ويجتذبنا القسم الثاني (27:8- 8:16) إلى الصليب الذي يُتمّ مصير المسيح. هذا هو سّر ملكوت الله (1 كور 7:2- 8). يجب أن يتوّج يسوع في المجد والسلطان، ولكن هذا التتويج يتمّ على عرش الصليب الملكي. إن الصليب والمجد يجتمعان في مرقس في جذورهما. لهذا وضع في بداية القسم الأول (الذي هو تقديم يسوع كمسيح) كرستوفانية العماد التي ترينا الملك بشكل عبد الله المتألم. وللسبب عينه استتر ظهور المسيح المجيد للجموع في سر مسيحاني هو ظلّ الصليب الذي يخيّم على مصير يسوع.
نحن هنا في تصالب (خياسما): فالقسم الثاني، الذي هو طريق الصليب، يبدأ بالتجلّي المجيد الذي يفسّره ويوضحه. والقول الذي سمعناه هو ذاك الذي سمعناه في العماد. والفرق الوحيد، هو أن الصوت توجّه في التجلّي إلى التلاميذ ليدلّهم على مجد يسوع المسيح ويثبت الآلام بشكل إلهي. أما في العماد فتوجّه الصوت إلى يسوع لكي يسلّمه المهمة التي انتدب لها.
التجلي هو استباق للقيامة. وهذا ما تدلّ عليه الثياب البيضاء التي هي رمز للقيامة (رؤ 4: 4؛ 6: 11؛ 7: 9...). ووجهتا المجد والآلام تتّحدان ولا تنفصلان في تيوفانية العماد وفي تيوفانية التجلّي. إنهما تُلقيان ببهائهما الخفي على الإنجيل الثاني. فنحن نستشفّ من خلاله يسوع الناصري، المسيح القائم من الموت.
وهناك تفاصيل تدلّ على التوازي بين الابيفانيا الأولى والثانية. فالقسمة الأولى (1: 14- 3: 6) تلي حالاً تيوفانية العماد فتبدو في إطار (تدويني) أسبوع: تبدأ يوم السبت (1: 21) تمتد إلى الصبح (1: 35) وبعد بضعة أيام (2: 1) تنتهي في يوم السبت في نهاية القسمة (23:2؛ 3: 4). وهناك كتّاب عديدون اكتشفوا أسبوعاً أيضاً في نهاية حياة يسوع: اليوم الأول في 11: 1- 11؛ اليوم الثاني في 12:11- 19؛ اليوم الثالث في 11: 20- 13: 37؛ اليومان الرابع والخامس في 14: 1- 2؛ اليوم السادس في 14: 12، 17؛ اليوم السابع في 15: 1. ونجدّ الترتيب عينه بمناسبة التجلّي: 8: 27- 9: 1: اليوم الأول. ويقول 9: 2 بوضوح: بعد ستة أيام. ويوحنا الذي يرتبط بمرقس في نقاط عديدة قد استعاد الإطار الأسبوعي الذي يذكّر بالخلق (يو 1: 29، 35، 43؛ 2: 1، 12؛ 1:13، 3؛ 31:19؛ 1:20).
ونجد تفصيلاً يدلّ على التوازي بين العماد والتجلي هو: التجربة. ما شدّد في العماد على حضور التجربة الشيطانية هو الروح القدس الذي تقبّله يسوع من الآب ككفيل لمهمته المسيحانية، والذي "دفعه" إلى البرية لكي يجرّبه الشيطان (1: 12- 13). وفي الاعتراف- التجلي، هو بطرس نفسه الذي عرف المسيح والذي صار أداة في يد الشيطان، لكي يبعد يسوع عن تحقيق مهمته المسيحانية.
ج- الصلب (25: 33- 39)
لا يذكر إنجيل مرقس في نسخته الأصلية ظهورات القائم من الموت. فهو ينتهي بشكل غريب في 8:16. ويتّفق الشرّاح على القول إن 9:16- 20 قد زيدت فيما بعد. يبدو أن مرقس لم يُرد أن ينهي إنجيله بظهورات القائم من الموت. ونجد الحالة عينها في العهد القديم: فهناك كتب نبوية زيدت عليها فيما بعد أقوال "عن السعادة". وهذا ما حدث لمرقس. رأى كاتب لاحق أن الإنجيل لا يمكن أن ينتهي على هذه الصورة الغريبة كما في 8:16. غير أن مرقس أراد أن ينهي كتابه بصلب يسوع، لأنه رأى هنا ذروة التعليم الذي أراد أن يقدّمه.
أولاً: إن الظلمة التي تغطّي الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، تشير إلى غمام التجلّي (7:9؛ 15: 33؛ رج 4: 32). هي فكرة نجدها في العهد القديم (1 مل 12:8؛ خر 20:14). وهي تدل على "يوم يهوه" (يوء 4:3؛ عا 19:8). في تيوفانية العماد لم يكن هناك من غمام، بل الروح القدس، روح الله.
ثانياً: إن موضوع التتويج الأساسي كان هنا. إن ف 15 يذكر 5 مرات لقب "ملك اليهود" (15: 2، 9، 12، 18، 26). والكتابة على الصليب تعلن هذا اللقب بشكل رسمي. في 15: 32 سمّاه الكتبة "ملك اسرائيل". وهكذا صار الصليب في مرقس عرش المسيح الملكي. وهكذا يرتبط يوحنا بمرقس حين يربط بين الصلب والصعود المجيد.
ثالثاً: إن القول الإلهي يميّز كرستوفانية المعمودية والتجلّي. هنا قد وُضع "القول" على شفتي ضابط وثني: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (39:15). هذا هو إعلان إيمان نهائي وشامل يرى حقيقة الأقوال في 1: 11؛ 9: 27 ويثبّت عنوان كتاب مرقس: "إنجيل يسوع، المسيح، وابن الله". وصل تعليم مرقس إلى ذروة اولى مع اعتراف بطرس، وها هو يصل إلى ذروة ثانية مع إعلان إيمان هذا الرجل الوثني. إذن، يستطيع إنجيل مرقس (بل يجب) أن ينتهي. فالظهور الأخير للمسيح يتمّ على الصليب. قدّم لنا مرقس مسيحاً مصلوباً وممجّداً في آن واحد، فاستلهم أش 13:52. إن صليب المسيح هو عرش مجده.
رابعاً: المعمودية هي أول تقديم ليسوع في مرقس. والصلب هو ظهوره الأخير. فالصورة الأولى والصورة الأخيرة هما نهايتان في نظر مرقس. العماد هو البرنامج والدعوة ونقطة إنطلاق الإنجيل. والتجلي هو الذروة التي تستبق القيامة. والصلب هو النقطة الأخيرة.
خامساً: يتّخذ العماد بحضور المعمدان الذي يتمثّله مر 1: 2 بواسطة ملا 23:3- 24، إيليا (رج 1: 6 ولباس يوحنا. ق 2 مل 1: 8). في التجلّي اتخذ إيليا مكانة مميّزة (في 9: 4: إيليا وموسى). ويسوع سوف يماثل بين إيليا والمعمدان، فيجعل من إيليا "السابق" بالنسبة لآلامه (9: 11- 13). وفي الآلام، إيليا حاضر من خلال سخرية الجنود التي يردّدها مرقس مرتين (15: 34- 36).
سادساً: هيّا المعمودية إعترافُ يوحنا المعمدان، والتجلي إعتراف بطرس، وكرستوفانية الصلب اعتراف يسوع (14: 62) الذي تبعه إعتراف القائد الروماني (15: 39).
سابعاً: سبق العمادَ قوله يوحنا معلناً الأقوى الذي يعمّد في الروح القدس (1: 7: يأتي). وبعد عماد يسوع تأتي حالاً عبارة ملحاحة: وحصل أن يسوع جاء (9:1). هذه العبارة هي تتمة نبوءة يوحنا. لهذا نقرأ في 1: 10: وأبصر.
وسبق التجلّي أيضاً وعد "بأن بعض التلاميذ (بعض الحاضرين) لن يموتوا قبل أن يروا ملكوت الله آتياً بقوة" (9: 1). ربط مرقس هذا الوعد بالتجلي فقال: "بعد ستة أيام" (9: 2). هذا يدلّ على أن مرقس اعتبر التجلّي أول تحقيق لهذا الوعد (وقد تبع يو 1: 51؛ 2: 1، 11 مرقس).
وفي كلمة مشابهة تقريباً، تنبأ يسوع أمام المجلس الأعلى أنهم "سيرون" ابن الانسان جالساً عن يمين القدرة و"آتياً" على سحاب السماء. وهزءُ اليهود في 15: 31- 32 دلّ على أنهم انتظروا هذه النبوءة الشهيرة (15: 32: لكي نرى ونؤمن). يرى مرقس أن هذه النبوءة قد تحقّقت الآن في كرستوفانية الصلب. إن اليهود لم يعرفوه. أما قائد المئة الذي كان حاضراً (ف 9: 1) فقد "رأى" وأعلن إيمانه (15: 39).
ثامناً: وهناك تفصيل آخر مهمّ: ستار الهيكل تمزّق (38:15). إذا كان مرقس لاحظ هذا الواقع في هذا المكان، فلأنه رأى رباطاً لاهوتياً بين موت يسوع على الصليب وتمرّق ستار الهيكل. إذا أردنا أن نفهم هذا الرباط اللاهوتي فهماً أفضل، نقابل بين 38:15 و14: 58: فالاتهام الرئيسي ضد يسوع هو أنه أعلن أن موته بيد اليهود سيضع حداً للتدبير اليهودي الذي رمز إليه الهيكل (مت 37:23- 38، يو 2: 19، 21). إن نبوءة يسوع تكرّر نبوءة إر 15:7. لهذا السبب حُكم على يسوع بالموت (ق إر 26: 11). ظنوا أنهم إن أغلقوا فم النبي، أبعدوا الشّر عنهم. ولكن ما تحقّق هو عكس ذلك: دمّر اليهود جسد يسوع فعجّلوا بنهاية التدبير اليهودي. والله الذي أقام يسوع، خلق له جسداً آخر "لم تصنعه الأيدي" مر 58:14؛ رج يو 19:2- 22). إن تمزّق الستار في عب 10: 20، يدلّ على انفتاح المعبد السماوي والأزلي الذي هو جسد يسوع القائم من الموت، أي الكنيسة.
وهناك اتصالا أدبي مهمّ بين الحجاب الذي تمزّق والسماء التي تمزّقت في 1: 10. تعود بنا هذه العبارة الغريبة إلى أش 19:63. ولكنها تلمّح أيضاً إلى مر 38:15. فالهيكل يمثّل السماء (عب 9: 24). وحجاب الهيكل تزيّنه النجم السماوية (سي 50: 5- 6). إن تمزّق الحجاب من أعلى إلى أسفل يدلّ على أن السماء، الهيكل الحقيقي، صارت منذ الآن مفتوحة (عب 9: 12؛ رؤ 11: 19). وأن الهيكل الأرضي الذي كان ظلّ السماوي (عب 8: 5؛ 10: 1) خسر علّة وجوده. تمزّقت السماوات في 1: 10 وحجاب الهيكل في 38:15، فكوّنا تضميناً كبيراً وكملّ الواحد الآخر في الإنجيل الذي أعطيا رمزهما: إن موت يسوع على الصليب ينهي التدبير القديم ويفتح لنا المعبد الأبدي (أف 2: 18).
والتقابل مع خبر التجلّي؟ تتم الكرستوفانيا على جبل عالٍ جداً كما في خر 25: 40؛ عب 8: 5. فالرؤية هي في حدّ ذاتها مشهد سماوي.
تاسعاً: ويبقى عنصر هام في هذا التوازي بين تيوفانية العماد وتيوفانية التجلي وكرستوفانية الصليب هي: الشيطان والتجربة الحاضران في 1: 12- 13 و 33:8 والغائبان ظاهراً في 15: 33- 39 إلا إذا كانت الظلمة ترمز إلى سلطان الظلمة (15: 33؛ ق لو 53:22).
ولكن مرقس يرى أن الآلام كلها تمثل "التجربة" المسيحانية الكبرى (لو 13:4؛ ق لو 53:22). هذا هو تطبيق تث 2:8- 3. يقول الإنجيل الرابع إن يهوذا الخائن هو عامل للشيطان (يو 6: 70؛ 27:13). عند مرقس، تُذكر التجربة في ارتباط مع خيانة يهوذا (14: 38، 41- 42). الساعة التي يجب فيها أن نسهر لئلا نقع في التجربة هي ساعة الخيانة التي أنبأ بها يسوع بشكل علني (14: 10- 21). فالتجربة تدلّ على حضور "المجرّب"، الشيطان. وفي الخطبة الاسكاتولوجية الموازية لخبر الآلام، هناك حديث عن "الضيق" (13: 19). إنه يشير إلى دا 12: 1 الذي يعود إلى المعركة الاسكاتولوجية بين الملاك ميخائيل والشيطان (رج زك 3: 1- 2؛ يهو 9). وقد نجد في 2 تس 2: 34 تماثلاً بين يهوذا والانتكيرست (أي المناوىء للمسيح).
ثلاث كرستوفانيات تمثّل قوساً يُشرف على إنجيل مرقس كله: من العماد إلى التجلّي حتى الكرستوفانية الأخيرة التي تكشف كل الغنى اللاهوتي في مرقس. أما الباقي فهو ظهور جزئي وخفّي (السر المسيحاني) لهذا النور الساطع. وبعبارة أخرى، إن يسوع الذي يُعلن مسيحاً مصلوباً (1 كور 1:17- 25) هو نموذج يدعو الكنيسة المضطهدة لكي تسير وراءه.

خاتمة
هذا التحليل للبنية التدوينية لمرقس هو مفتاح تعليمه اللاهوتي. ندرك حالاً إلى أي حدّ كان مرقس إنجيلاً كنسياً، إنجيلاً أملته الظروف. إنجيلاً دوّن ليتجاوب مع وضع خطر في الكنيسة التي توجّه إليها (رومة؟). قيل مراراً ان مت هو الانجيل الكنسي العظيم. فإن كان كذلك، فارتباطاً بإنجيل مرقس. فالقسمات الست في مر تصوّر الكنيسة في وضع خاص: الكنيسة كما دعاها يسوع (14:1- 6:3)0 الكنيسة كما أسّسها المسيح (3: 7- 6: 6 أ). الكنيسة كما أرسلها المسيح إلى اليهود والوثنيين (غير اليهود) (6:6 ب- 26:8). الكنيسة التي تعترف بالمسيح ربهّا (27:8- 10: 52). الكنيسة التي تهيّىء انتصاراً لملكها (11: 1- 44:12) الكنيسة التي تشارك في آلام فاديها (13: 1- 16: 8).
غير ان في كل مرحلة من مراحل الكنيسة الأساسية هناك لفظة "لكن". دعا يسوع الكنيسة، ولكن حُكِم عليه بالموت (6:3). أسّس يسوع الكنيسة، ولكن رذله أهل بيته، أهل بلدته الناصرة (3: 20- 35؛ 6: 1- 6 أ). أرسلت الكنيسة ولكنها لم تفهم بعد تعليم الإنجيل (52:6؛ 14:8 - 21). إعترفت الكنيسة بالمسيح ولكنها رفضت تعليم الخلاص بالصليب (33:8؛ 9: 10، 32- 34؛ 10: 32، 35- 45)0 الكنيسة هي شاهدة لآلام ربها، ولكنها هربت (14: 50- 52)، أنكرت (14: 66- 72)، خانت (14: 10، 43- 45).
إن المرحلة الأخيرة هي التي تقدّم لنا كثافة تعليم مرقس لكنيسته (وهذا أمر طبيعي). إنه تعليم قريب من تعليم عب 5: 11- 12؛ 4:6- 6؛ 25:12 في عنفه. فالكنيسة التي يكلّمها تختلف كل الاختلاف عن الجماعة التي توجهت إليها عب. غير أن هذه الجماعة (أو الكنيسة المحليّة) وجدت نفسها في وضع خاص لم يختلف عن وضع قرّاء عب. فإنجيل مرقس، هو أيضاً، قد كتب في ظرف معه. وقد نستطيع أن نقدّم رسمة عن الكنيسة التي كتب إليها: هناك سمات لهذه الكنيسة نجدها في 13:4 - 20 (كيف تنمو فيها الكلمة)؛ 4: 35- 41 (الصعوبات)؛ 8: 14- 21 (قلوب عمياء)؛ 33:9- 37؛ 38-40 (محبة المراكز الأولى)؛ 10: 1- 12، 13- 16، 17- 22، 41- 45 (كل الحياة الاخلاقية)؛ 13: 9- 13 (الاضطهاد)...
نرى أن الكنيسة التي يتوجّه إليها مرقس هي كنيسة مضطهدة، بل كاد يزعزعها الاضطهاد. فبيّن لها مرقس أن هذا وضع طبيعي وضروري ولا مفر منه، لمن يريد أن يتبع يسوع. هذا ما نبّه إليه يسوع تلاميذه. وهو لا يتعارض مع الوعد بالمجيء، لأنه لا بد أن يحصل هذا "أولاً" (13: 10- 24 بعد هذا الضيق). كان الاضطهاد في البرنامج وقد أنبأ به يسوع. وهو يوازي الآلام. وهناك تفاصيل تدلّ على أن الصغار (صغار القوم) والوضعاء والفقراء احتملوا الاضطهاد أكثر من الأغنياء. فالاغنياء خافوا أن يحرمهم الاضطهاد من أموالهم (17:4، 19؛ 10: 21- 22، 23- 27، 28- 31).
إن إبراز البنية اللاهوتية لمرقس يجعل تعليمه شفّافاً وهدفه واضحاً. إن مر مبنيّ بناء محكماً حتى في التفاصيل من أجل كرازة غنية توجّه إلى كنيسة خاصة. هذا يعني بشكل عملي أن مرقس استعمل مراجعه بحرّية كبيرة. لم يكن "جماعاً" ولا "مقمّشاً"، بل كاتباً حقيقياً وكاتباً عظيماً.
إنه لواضح أن مرقس لا يتعلّق "بإنجيل" سابق له. ظلّ مدى أجيال ذلك المنسي بين سائر الأناجيل. ولكن لم يكن الأمر دوماً كذلك. بل إن مرقس الذي استنبط هذا الفن الادبي الجديد الذي اسمه "إنجيل" كان له تأثير حاسم في الكنيسة الأولى. وكان له تأثير كبير على الأناجيل الثلاثة الباقية التي ترتبط به ارتباطاً جوهرياً. كلّ إنجيل كيّف انجيل مرقس وحوّر فيه من أجل هدف معيّن. ولكنه احتفظ بالاطار الأساسي والبنية الأولى وكأنهما سلطة لا تناقش. وتأثر سفر الأعمال أيضاً بمرقس.
كل هذا دفعنا لكي نكتشف بنية مرقس اللاهوتية. فهي تساعدنا على فهم أمور عديدة لا في مرقس وحسب، بل في العهد الجديد كلّه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM