الفصل الثاني
إنجيل مرقس في الكنيسة الأولى
نتطرّق في هذا الفصل إلى ثلاث نقاط: أولاً: من هو مرقس، ومتى كتب إنجيله. ثانياً: تاريخ الإنجيل الثاني لا الكنيسة الأولى. ثالثاً: إنجيل مرقس في نصوصه القديمة.
1- من هو مرقس
لا شك في أن الإنجيل الثاني هو من تأليف مرقس، رفيق بطرس. هذه هي شهادة الكنيسة منذ بابياس. في عهد مال التقليد المسيحي إلى أن ينسب "أبوّة" الأناجيل إلى الرسل، سمّي مرقس كاتباً إنجيلياً. لو لم يكن هناك سبب أساسي، لكان من الصعب نسبة الإنجيل الثاني الى مرقس. مرقس هو يوحنا مرقس رفيق بولس، الذي يتحدّث عنه سفر الأعمال. هذا ما يتّفق عليه اليوم شرّاح الكتاب المقدس. تردّد بعضهم وأعطى برهانين. الأول، لا يُذكر التماثل بين يوحنا ويوحنا مرقس قبل القديس ايرونيموس. الثاني، هناك صعوبات تجعله يعتقد أن مرقس وُلد في أورشليم. لا شك في أن مرقس ذكر بيت فاجي وبيت عنيا وجتيسماني والجلجلة، وأشار إلى دار رئيس الكهنة في 14؛ 54، 66، 68. كل هذا يدل على معرفة بأورشليم وجوارها. بيد أن هذه المعرفة قد تكون جاءت إلى مرقس من التقليد البطرسي. وقد زاد مرقس أسماء بعض الأماكن (رج 11: 4، 16، 27؛ 12: 41؛ 13: 3؛ 15: 8، 16) لا نجدها في النص الموازي من متى أو لوقا. وقد يكون 15: 7 قد تأثّر بنص لو 23: 19.
في نهاية القرن الرابع، كان إيرونيموس يفسّر آية تشير إلى مرقس في فلم 24 فأضاف: "الذي أظن أنه كاتب الإنجيل". وسيعلن التقليد فيما بعد هذا التماثل بين يوحنا ويوحنا مرقس، فلا يعود القول يحتاج إلى أي برهان.
أ- يوحنا مرقس.
في أعمال الرسل، يتحدّث لوقا ثلاث مرّات عن "يوحنا الملّقب بمرقس". في 12:12 يقول: "حين خرج بطرس من السجن، ذهب إلى بيت مريم، أم يوحنا الملقب بمرقس" (أو اسمه الآخر هو مرقس). إذ أراد الكتاب أن يحدّد هوية "مريم" هذه، ذكر ابنها الذي يعرفه قرّاؤه. كان في البيت دهليز له باب، وكانت تحرسه جارية اسمها رودي. وهكذا يظنّ أن مريم هذه كانت أرملة تملك بعض الخير. وقد صار منزلها فيما بعد موضع اللقاء (= كنيسة قبل الكلمة) للمسيحيين الأولين في أورشليم. ومن الطبيعي أن نفترض أن العليّة التي اجتمع فيها التلاميذ بعد الصعود (أع 1: 13) كانت في ذلك المنزل. وأن "العلية الكبيرة المفروشة" التي فيها احتفل الرب بالعشاء السري (15:14؛ رج لو 12:22) كانت في ذلك المنزل.
هناك تقاليد أخرى ليست ثابتة كل الثبوت. مثلاً، إن صاحب البيت (14: 14: قولا لربّ البيت) توفّي خلاله الفترة الواقعة بين العشاء السري والصعود، لأننا لم نعد نسمع اسمه بل اسم مريم. ثانياً، إن مرقس شارك في العشاء السري، من بعيد وبعينيه (كان صبياً، والعشاء تمّ في بيته). ثالثاً، إن مرقس هو ذاك الشاب الذي هرب عرياناً حين أُمسك يسوع (14: 51- 52). كل ما نعرفه عن مرقس هو أنه ابن أرملة لها تأثيرها في كنيسة أورشليم.
ونجد التلميح الثاني إلى مرقس في أع 12: 25: "ورجع برنابا وشاول (أو: بولس) من أورشليم. وأخذا معهما يوحنا الملقّب مرقس". وفي أع: 15: 37- 39 نعرف أن مرقس رافق الرسولين (بولس وبرنابا) في الرحلة الرسولية الأولى ولكنه افترق عنهما في بمفيلية. يعود بنا هذا الخبر إلى أع 13:13 حيث يقال أن يوحنا فارق بولس وبرنابا وعاد إلى أورشليم. هناك من يشدّد على أن مرقس لم يرسله الروح أو الكنيسة، كما كان الأمر بالنسبة إلى برنابا وشاول. ثم إنه خاف في المقاطعة الشمالية لجبل طورس، وهو شاب لا خبرة له. يبدو أن برنابا لم يعتب على مرقس لأنه فارقهما. فحين بدأ التحضير للرحلة الرسولية الثانية، أراد أن يأخذه معه.
ما كانت واجبات مرقس في عمل الرسالة؟ كل ما يتعلّق بالسفر من طعام وسكن، من حمل رسائل ومقابلات مع الناس وما شابه ذلك. فلمّا أراد أن يعود إلى الفريق الرسولي، لم يكن رأي شاول مثل رأي برنابا. فقد اعتبر عودة مرقس تخاذلاً وتراجعاً. فاستحسن "أن لا يصحبهما من كان قد فارقهما في بمفيلية ولم يرافقهما للعمل" (أع 38:15). وهكذا نشب خلاف حادّ. فأخذ برنابا مرقس معه، وذهبا إلى قبرص. أمّا بولس فطاف سورية وكيليكية برفقة سيلاس. تلك هي الظروف التي سجّلها لوقا في أعمال الرسل.
سيشير بولس في رسائله إلى مرقس دون أن يذكر اسم يوحنا. في كو: 4: 10، يُرسل إلى المؤمنين سلامات مرقس الذي هو "نسيب برنابا". نحن هنا أمام توافق غير منتظر بين أعمال الرسل والرسائل البولسية، يقودنا إلى أن نماثل بين يوحنا ومرقس. فالاهتمام الخاص الذي أظهره برنابا تجاه مرقس، وذهابهما معاً إلى قبرص، كل هذا تفسّره علاقات القرابة والاحترام المتبادل. ويزيد بولس: "طلبت منكم أن ترحّبوا به" (بولس يوصيّ بمرقس، أرسل توصية بشأنه). هل هذا يعني أن مرقس احتاج إلى توصية لأن كنيسة كولسي رفضت أن تستقبله؟ هل ذهب إلى مصر في ذلك الوقت؟ ما هو أكيد هو أن مرقس كان مع بولس وأرسترخس، وأن المصالحة تمّت بينهما. هذا القول يثبّته فلم 24 حيث نقرأ: "مرقس وارسترخس وديماس ولوقا" هم رفاق بولس في العمل (الرسولي)، هم معاونوه. إذا كانت هاتان الرسالتان قد دوّنتا من أفسس، يكون تاريخ هذه الكتابة سنة 55 أي بعد ض أو ست سنوات من إنطلاق بولس وسيلاس إلى سورية وكيليكية. وإذا كان من رومة، فهذا يقودنا إلى سنة 62.
والإشارة الأخيرة إلى مرقس في الرسائل البولسية، نجدها في 2 تم 4: 11: "خذ مرقس وجىء به لأنه يفيدني كثيراً في خدمة (الرب)". كلمة مؤثّرة في بساطتها وعاطفتها وهي تتوافق مع نوعية الخدمة التي نجدها في سفر الأعمال. وهكذا يكون مرقس قد جاء إلى رومة.
ويبقى مرجع في العهد الجديد يشير إلى مرقس. 1 بط 13:5: "كنيسة بابل، وهي مثلكم مختارة من الله تسلّم عليكم. ويسلّم عليكم مرقس ابني". علاقة شخصية، علاقة حنان. قد تعود إلى أولى أيّام الكنيسة في أورشليم. وهذا الارتباط بين بطرس ومرقس امتدّ حتى سنة 64 أو ربما قبل، سنة تدوين الرسالة. من المدهش أن الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً ببولس كما يقول سفر الأعمال والرسائل البولسية، يصوَّر هنا في علاقة مع بطرس. فسفر الأعمال نفسه يربط ببطرس بيت مريم أم مرقس. وهكذا لا ندهش حين نفترض أن مرقس سمع الرسول في أول أيام أورشليم يتكلّم عن أحداث حياة يسوع، عن موته وقيامته. فإن أنكرنا هذه العلاقة لم نستطع ألن نقول أي شيء حول العلائق الشخصية في الكنيسة الأولى. وعلاقة مرقس وبطرس تبقى أكيدة حتى لو اعتبرنا مع البعض أن بطرس لم يكتب 1 بط بل كتبها أحد تلاميذه.
إنطلق البعض من فلم 24 (سونارغوس) فتحدثوا عن العمل الاداري الذي قام به مع بولس. ولكن لا شيء يسند هذا التفسير للكلمة التي تعني العمل الرسولي (هناك أيضاً التعب الرسولي). كما أنّ لا شيء يسند هذا التقليدي عن مرقس. أما علاقته بالاسكندرية فتبقى موضع شك. وقيل انه مات شهيداً كما تقوله كرونيكة فصحية وأعماله مرقس المنحولة. ولكن هذه الأخبار تعود إلى القرن الرابع أو القرن الخامس.
ب- متى دوّن مرقس إنجيله وأين دوّنه
هناك إتفاق شبه عام يقول إنه دوّنه في السنوات 60- 70، أي خلال الحرب اليهودية الرومانية التي انتهت بدمار أورشليم والهيكل سنة 70 ب. م. كانت محاولة تقول إنه دوّن قبل ذلك الوقت، سنة 39- 40، لأنّ "نجاسة الخراب" (13: 41) تشير إلى أننا قبل مقتل الأمبراطور كاليغولا (24 كانون الثاني سنة 41). ولكن هذه الفرضية تبقى غير ثابتة.
ما الذي يدفع العلماء إلى هذا القول؟ شهادة إيريناوس، المطلع المناوىء لمرقيون الذي يقول إن مرقس كتب بعد موت بطرس وبولس. يبدو أن خطبة مرقس الجليانية (كما 13) تعكس الوضع حول أورشليم في السنوات 64- 66. إنّ مرقس يشدّد على الألم والاضطهادات. ويهتم بحريّة الوثنيين. وهكذا يكون تدوين إنجيل مرقس قد تمّ في إطار من القلق والضيق والحرب والاضطهاد فجاء قريباً من نهاية الحرب الرومانية اليهودية، أي سنة 70.
أين كتب إنجيل مرقس؟ الرأي الأصح: في رومة. أما شهادة يوحنا فم الذهب (في مقدمته إلى متى) على أن الإنجيل ألّف في مصر، فهي تتعارض مع أقوال اكلمنضوس الأسكندراني واوريجانس، وهي تستند إلى فهم خاطىء لقول ملتبس عند أوسابيوس (التاريخ الكنسي 2: 16): "يقولون إن مرقس الذي أرسل إلى مصر كرز أولاً بالإنجيل الذي طلب منه أن يكتبه".
وكان رأي ثانٍ يقول: انطاكية. وذلك لاعتبارات منها: إن بابياس يورد شهادة يوحنا الشيخ الذي عاش في الشرق. ارتباط بطرس بانطاكية. الإشارة (15: 21) إلى سمعان القيريني (أع 11: 20؛ 13: 1: لوكيوس القيريني). موقع انطاكية كمركز مميّز للحضارة الرومانية. إستعمال متى ولوقا لإنجيل مرقس، وهما قد كتبا في انطاكية أو في جوارها. إستعمال أسماء الأمكنة في الجليل واليهودية دون أي شرح. الحاجة إلى أقدم شهادة للأصل الروماني للإنجيل.
كل هذه البراهين لا تكفي. وتبقى رومة الموضع الأفضل لتدوين مرقس. فشهادات المطلع المناوىء لمرقيون وايريناوس واكلمنضوس الاسكندراني واضحة.
دوّن إنجيل مرقس من أجل الوثنيين (3:7 ي؛ 13:11؛ 12: 42) لا من أجل اليهود. فضمّ شروحاً لكلمات أرامية (5: 41). كما نجد إستعمالاً لكلمات وتعابير لاتينية.
منذ القرن الثاني سمّي الإنجيل الثاني "الإنجيل بحسب مرقس". ومنذ ذلك الوقت لم يتوقّف التقليد عن نسبة هذا الإنجيل إليه. في نظر ايريناوس (140- 202؟) هو يوحنا الملقب مرقس الذي تتحدّث عنه أعمال الرسل. يوحنا هو اسمه العبري (الله يتحنّن) ومرقس هو اسمه الروماني (يعني: المطرقة). هذا ما يجعل مرقس قريباً من بولس: أصل يهودي، ارتباطات رومانية. من يدري؟ قد يكون قضى أيامه الأخيرة في رومة كما سيفعل بعده مثلاً يوستينوس الفيلسوف المسيحي الذي عاش في القرن الثاني. وهكذا نفهم علاقته ببطرس وبولس حسب ما تقول الرسائل البولسية والبطرسية.
2- إنجيل مرقس في الكنيسة الأولى
نحن نمتلك عدداً من الأقوال حول إنجيل مرقس تعود إلى بداية القرن الثاني. أوّلها ما قاله بابياس أسقف هيرابوليس (منبج) في "تفسيره لأقوال الرب" (120- 130 ب. م.). ضاع الكتاب، ولكن بقيت منه مقاطع في التاريخ الكنسي لأوسابيوس القيصري. لم يتكلّم بابياس عن مرقس باسمه، بل أورد شهادة شيخ عاصر يوحنا الشيخ. بعد هذا بقليل نمتلك شهادة يوستينوس ومقدّمة إنجيل عرفت مؤخراً أنها مناوئة لمرقيون. وقانون موراتوري الذي يعود إلى سنة 170- 180. وإلى الحقبة نفسها تنتمي أقوال ايريناوس في كتابه ضد الهراطقة، وأقوال اكلمنضوس الاسكندراني في كتابه "نبذات". وجاءتنا من النصف الأولى من القرن الثالث شهادة أوريجانس، وفي النهاية ما قاله ايرونيموس في مقدّمة إلى متى في نهاية القرن الرابع.
أ- شهادات من القرن الثاني
أولاً: بابياس.
إليك كلماته كما وردت في التاريخ الكنسي (39:3، 15): "وهذا ما كان الشيخ يقول. كان مرقس ترجمان بطرس، فكتب باهتمام، ولكن بغير ترتيب، كل ما تذكّره من أقوال وأعمال الرب. هو لم يسمع الرب ولم يتبعه، بل تبع بطرس بعد ذلك الوقت بكثير. أعطى بطرسُ تعليمه حسب الحاجة، دون أن يجعل أقوال الرب تتوالى بترتيب. وهكذا لم يخطىء مرقس حين كتب ما تذكّره. لم يكن عنده إلاّ إهتمام واحد: أن لا يهمل شيئاً سمعه وأن لا يورد خطأ واحداً".
يتوقف قول الشيخ مع الجملة الأولى. كان عمل مرقس عمل الترجمان، وهذا لا ينفي مرافقته لبطرس كما رافق بولس وبرنابا (أع 13- 14). نعرف من الإنجيل نفسه أنه كان معلّماً، ولكن ليس هذا ما يقوله الشيخ. والعودة إلى بطرس تذكّرنا بـ 1 بط 5 :13 حيث نجد صورة عن عمل مرقس خلال إقامة بطرس في العاصمة الرومانية.
حين يتحدّث الشيخ عن مرقس يقول: كتبَ "بدون ترتيب". فقد يقابل الإنجيل الثاني مع الإنجيل الرابع وربّما الإنجيل الأول. أو قد يكون احتفظ في فكره بتعليم شفهي. على كل حال، هو يدافع عن مرقس الذي انتُقد ترتيبه للإنجيل في أفسس. وما تبقى من قول يعود إلى بابياس نفسه. فهو يفسّر أن مرقس لم يسمع يسوع ولم يكن تلميذاً له. بل ارتبط ببطرس الذي وجّه كلامه حسب الحاجة. وأكّد بقوة أن لا خطأ في ما كتبه مرقس. هكذا دافع بابياس عن انتقادات توجّهت ضد الإنجيل الثاني فاستند إلى شهادة الشيخ.
ثانياً: المطلع المناوىء لمرقيون
منذ زمن بعيد عرفت مقدمات لعدد من الرسائل، تعارض نظرة مرقيون الذي استخرج قانون (لائحة) الكتب التي يعتبرها صحيحة ورسولية. واكتشفت أخيراً مقدمة إلى مرقس في اللاتينية العتيقة: "إليك أقوال مرقس صاحب الاصابع المبتورة. فمع أنه كان طويل القامة، فقد كانت أصابعه قصيرة. لقد كان ترجمان بطرس. وبعد موت بطرس نفسه، دوّن هذا الإنجيل عينه في مناطق إيطاليا".
يعود هذا القول إلى النصف الثاني من القرن الثاني (160- 180). وقد كتب في الأصل في اليونانية (الكلمة التي تتحدّث عن أصابعه هي يونانية). يبدو مرتبطاً بتقليد بابياس ولكنه يزيد عليه معلومة جديدة. عرف التقليد المتأخّر (هيبوليتس، صاحب مقدمة كودكس تولستانس) أن مرقس كان قصير الأصابع. ولكن حين نعلم قِدَم عهد المطلع المناوىء لمرقيون، نحسّ بثقل هذا التقليد. هناك من قال إن أصابعه "قطعت"، أو تعني الكلمة أنه هرب من الجيش! بل قد نكون أمام "عاهة" طبيعية بسيطة.
فأهمّ من ذلك هو القول بأن مرقس كتب إنجيله في إيطاليا وبعد موت بطرس. هذه شهادة أقدم من شهادة ايريناوس وتثبّت كلامه حول موت بطرس وبولس. هذه أقدم شهادة عن الأصل الروماني لإنجيل مرقس.
ثالثاً: يوستينوس الشهيد
لم يذكر يوستينوس الإنجيل الثاني مباشرة، ولكنه تحدّث عن "مذكرات بطرس" التي تتضمن كلمات: ابن الرعد (بوانرجس) كما في مر 17:3 (الحوار 106). وهناك عودة في الحوار 88 إلى مر 6: 3 (أليست هو النجّار). ويمكننا أيضاً أن نعود إلى الحوار (حوالي 161) 103 وإلى الدفاع الأول (حوالي 145- 146. الثاني حوالي 161) 1: 66.
"مذكرات بطرس" لا تعني إنجيل بطرس، كما قال بعضهم، بل إنجيل مرقس.
رابعاً: ايريناوس
أخذت هذه الشهادة من القسم الذي فيه يتحدّث إيريناوس عن كل الأناجيل (ضد الهراطقة 3: 1/ 2). بعد أن صّرح أن متى كتب ساعة كان بطرس وبولس يبشّران بالانجيل ويؤسّسان كنيسة رومة، قال: "وبعد موتهما، نقل إلينا مرقس تلميذ بطرس وترجمانه، نقل أيضاً كتابة ما وعظه بطرس".
أراد إيريناوس أن يقول لنا إن تعليم الرسولين لم يمت بموتهما. وهكذا لا تعارض مع تقليد اكلمنضوس الاسكندراني الذي يقول إن مر دوّن خلال حياة بطرس لا بعد موته. إستعمل إيريناوس "اكسودس"، كما في لو 9: 31، فدلّ على موت الرسولين في مجد يشابه مجد يسوع في التجلّي. ويشير النص إلى رومة كموضع لتأليف الإنجيل.
خامساً: قانون موراتوري
نشره موراتوري (فسمّي باسمه) سنة 1740 عن مخطوط بوبيو المشوّه والموجود في المكتبة الامبروسية في ميلانو. والذي يعود إلى القرنين السابع- الثامن ب. م. إنه يتضمن لائحة الكتب المعترف بها في رومة سنة 170- 180. هناك عبارة غير كاملة وهي تشير بوضوح إلى مرقس، لأن ما يتبعها هو: كتاب الإنجيل الثالث بحسب لوقا.
نقرأ العبارة: "كان حاضراً بعض الأمور، وهكذا تذكّرها". هناك ولا شك عودة إلى تعليم بطرس، كما في تقليد بابياس.
ب- من القرن الثالث وما بعد
أولاً: اكلمنضوس الاسكندراني (150- 251)
نجد هنا ثلاثة مقاطع لاكلمنضوس. إثنان يردان في أوسابيوس والثالث في اللغة اللاتينية.
* "حين كرز بطرس بالكلمة علناً في رومة وأعلن الإنجيل بالروح، طلب الحاضرون من مرقس، وكانوا كثراً: بما انه قد تبع بطرس منذ زمان طويل وتذكّر ما قيل، فليسجّل هذه الكلمات. هذا ما فعله مرقس وأوصل الإنجيل إلى الذين طلبوه منه. ولما عرف بطرس بالأمر، لم يمنع ولم يشجّع" (التاريخ الكنسي 6: 14/ 6 ي).
* "قالوا: حين عرف الرسول بما صُنع، جاءه وحي من الروح، فرضي على غيرة الرجال (الذين طلبوا)، ووافق على ما كتب ليُقرأ في الكنائس" (التاريخ الكنسي 2: 15/ 2).
* "تبع مرقس بطرس ساعة كان بطرس يعلن الإنجيل في رومة بحضور وجهاء رومة، وقدّم لهم البراهين العديدة عن المسيح". طلبوا إليه أن يدوّن الأمور التي قالها (بطرس). فكتب مما قاله بطرس إنجيلاً هو "بحسب مرقس".
نرى في هذه المقاطع ولا سيما في المقطعين الثاني والثالث كيف نما التقليد البطرسي. كتب مرقس تلبية لطلب الناس وهو الذي عرف ما وعظه بطرس. ولكن أن يكون كتب قبل موت بطرس فهذا لا يبدو معقولاً على ضوء شهادة ايريناوس والمطلع المناوىء لمرقيون. وعلى ضوء النقد الداخلي، أي نص مرقس نفسه.
ثانياً: أوريجانس
تحدّث أوريجانس عن الأناجيل الأربعة وأكّد على تعليم بابياس وأسنده بنص 1 بط 13:5: "والثاني الذي بحسب مرقس الذي صنعه حسب تعليم بطرس، والذي أعلنه ابنه في الرسالة الكاثوليكية بهذه الكلمات: تلك المختارة التي في بابل، تسلّم عليكم، ومرقس ابني" (التاريخ الكنسي 6: 25/ 5).
ثالثاً: ايرونيموس
قال ايرونيموس: "حسب مرقس، ترجمان بطرس الرسول، وأول أسقف على كنيسة الاسكندرية. هو نفسه لم يرَ الرب المخلّص، بل روى الأمور التي سمع معلّمه يعظ بها، روى بأمانة هذه الأعمال دون الاهتمام بترتيبها" (مقدمة إلى تفسير إنجيل متى، 6).
من الواضح أن هذه الشهادة ترتبط بتقليد بابياس. النقطة الجديدة هي أن مرقس كان أسقف الاسكندرية. هذا التقليد لا نجده عند يابياس ولا ايريناوس ولا اكلمنضوس ولا اوريجانس. ويستحيل علينا أن نوفّق هذا مع التقليد الروماني حيث يشهد عدد من الكتّاب وخصوصاً منذ أيرونيموس وما بعد على أن مرقس توفيّ في السنة الثامنة لحكم نيرون (54- 68)، في الاسكندرية. هذا يعني أنه مات قبل بطرس وبولس (ايرونيموس، الرجال العظام 3: 8).
وخلاصة القول، يتّفق التقليد منذ بداية القرن الثاني على نسبة الإنجيل الثاني إلى مرقس. وعلى القول إنه دوّن في رومة بعد استشهاد بطرس لا قبله.
3- إنجيل مرقس في نصوصه القديمة
نقدّم هنا الشواهد الرئيسية، ونحن عالمون أن المخطوطات التي ترد فيها الأناجيل، تربو على خمسة آلاف مخطوط.
أ- المخطوطات اليونانية
أولاً: المكتوبة بالخط الاسفيني. السينائي. يتضمّن الإنجيل كلّه. نجده في المتحف البريطاني ويعود إلى القرن الرابع. الاسكندراني. يعود إلى القرن الخامس (لندن) ويتضمن الإنجيل كله. ونجد الإنجيل الثاني كاملاً في الفاتيكاني (الفاتيكان، القرن الرابع). أما الافرامي الذي يعود إلى القرن الخامس (المكتبة الوطنية، باريس) فيشمل 1: 17- 6: 31؛ 8: 5- 12: 29؛ 13: 18- 16: 20). والكودكس البازي (كمبريدج، القرن الخامس، نسخ في بيروت وانتقل إلى صيدا) يتضمّن الإنجيل كله. وهناك مخطوطات أخرى في باريس ولننغراد وفيننا وبطمس وواشنطن والبندقية كتبت بالخط الاسفيني (أو الخط الكبير). ضمّت الإنجيل كلّه أو أجزاء كثيرة أو قليلة.
ثانياً: المكتوبة بالحروف الجرارة (أو: الصغيرة، والموصولة). نذكر أولاً كحالة خاصة بردية رقم 45 (شستر بني). تعود إلى القرن الثالث وتتضمّن 36:4- 40؛ 5: 15- 26؛ 38:5- 6: 1؛ 16:6- 25، 36- 50؛ 3:7- 15؛ 25:7- 8: 1؛ 10:8- 26؛ 34:8- 8:9؛ 18:9- 31؛ 11: 28- 33؛ 12: 1، 5- 8، 13- 9، 24- 28.
الأسرة الأولى في الحروف الجرارة: أوكسفورد 118، رومة 131، البندقية 209، باريس 22. تتراوح بين القرن الخامس والقرن الخامس عشر. الأسرة الثالثة عشرة: باريس 13، ميلانو 346. ميشيغان 543، فيينا 124، أثينة 788، جبل أتوس 983. تتراوح بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر.
ب- مخطوطات في ترجمات مختلفة
أولاً: الترجمات السريانية. هناك السينائي- القرن الرابع. دير القديسة كاترينة في جبل سيناء. يتضمّن 1:12- 44؛ 2: 21- 17:4؛ 4: 41- 26:5؛ 6: 5- 8:16. والكيورتونية هي في لندن. سمّيت باسم مكتشفها (كيورتون). تعود إلى القرن الخامس وتتضمّن مرقس كلّه وتعود إلى الفرن السابع. والفلسطينية (أو: أورشليم): تتضمّن تقريباً الإنجيل كله بشكل قراءات، وهي تعود الى القرن السادس.
ثانياً: الترجمات اللاتينية. هناك مخطوطات اللاتينية العتيقة. فرسالي. تعود إلى القرن الرابع وتتضمن أجزاء قليلة من إنجيل مرقس. الفيرونية تعود إلى القرن الخامس وتضمّ الإنجيل كلّه. موجودة في فيرونا (إيطاليا). والكولبارتية (باريس، القرن 12). تتضمّن أيضاً الإنجيل كلّه. وهناك مخطوطات عديدة في دوبلن، ستوكهولم، براشيا، تورينو، نابولي، ميونيخ... وهناك اللاتينية الشعبية التي سيطرت في الكنيسة الغربية فكثرت مخطوطاتها.
ثالثاً: ترجمات أخرى، الصعيدية (القرن 3- 4). البحيرية (القرن 6) الأرمنية (القرن 5) الحبشية (القرن 5).
ج- ترتيب المخطوطات
أسرة الاسكندرية. ينتمي إليها الفاتيكاني، السينائي، الملكي (باريس، 8)، الصعيدي، البحيري.
أسرة انطاكية: تنتمي إليها السريانية بكل فروعها: السينائي...
أسرة قيصرية. بردية 45، مخطوط تفليس (روسيا، 7- 9؟)، الجيورجاني، الأرمني.
أسرة ايطاليا وغالية (أو: فرنسا): البازي، فيرونا، طاطيانس، ايريناوس.
أسرة قرطاجة: تورينو (القرن 4- 5)، الكولبرتي، قبريانس.
نشير هنا إلى النص الغربي الذي يتميّز عن النص الشرقي بإتجاه إلى تنسيق بين نص وآخر من أجل الغاء التنافر، ثم الاسهاب أي زياد لفظة أو جملة على النص الأصلي. ما يمثل النص الشرقي هو السريانية السينائية والكيورتونية ومخطوط تفليس. ونشير أيضاً إلى النص القيصرياني (قيصرية، على شاطىء فلسطين) الذي يبدو فرعاً من النص الشرقي. وأخيراً كان لاكتشاف مخطوطات شستر بتي في التايمس (19 ت2 1931) أثره الكبير في العالم الكتابي، ولا سيما البردية 45 التي تتضمن أجزاء من مرقس. تعود بردية 45 إلى النصف الأول من القرن الثالث وتتوافق مع نصّ قيصرية