الفصل الأول
مدخل إلى إنجيل مرقس
مرقس هو أول مثالا عن هذا الفن الأدبي الذي إسمه الإنجيل. عُرف قبل متى ولوقا، فحدّثنا عن يسوع ساعة كادت الكنائس المزروعة خارج فلسطين تفقد جذورها. وأعطانا جواب المؤمنين الأولين على السؤال المطروح حول ذلك الإنسان الذي بشّر في الجليل قبل أن يحكم عليه رؤساء الكهنة بالموت. صلبوه ولكنه قام في اليوم الثالث.
مرقس هو الإنجيل الثاني بين الأناجيل الأربعة. دوّنه مرقس تلميذ بولس وبطرس من أجل المسيحيين في رومة. فإليه سوف نتعرّف. نقرأه. نتركه يطرح علينا سؤالاً. وهكذا نلتقي من خلال قراءتنا وتأمّلنا شخص يسوع الذي هو المسيح وابن الله.
1- إنجيل مرقس في أيامنا
يعرف إنجيل مرقس اليوم اهتماماً خاصاً. فلقد دخل على خشبة المسرح وفي الراديو والسينما. لماذا كل هذا الاهتمام بالذي حسب أقلّ الإنجيليين شأناً وآخرهم؟
أ- كان مرقس منسياً
نسي مرقس سريعاً. فمنذ القرن الثاني خسر مركزه. قالوا: أين لغته القاسية من يونانية لوقا المهذّبة والمنمّقة؟ قالوا: أسلوبه موجز، جاف، وبعض المرات غامض. لهذا فضّل الآباء عليه متى بجُمله الواضحة والمهيبة، وقالوا: كل ما كتبه مرقس نجده في متى أو لوقا أو يوحنا. والإنجيليون الثلاثة الآخرون أغنى منه في ايرادهم لأقوال يسوع وأمثاله.
وهناك واقع أكيد: لا تستفد الكنيسة من إنجيل مرقس في الليتورجيا والفقاهة خلال القرون الأولى. وإذا عدنا إلى الشروح، منذ القرن الثالث حتى القرن التاسع، لا نجد إلاّ تفسيرين لهذا الإنجيل. في اللغة اللاتينية نجد فقط بعض المقالات لإيرونيموس، وتفسيراً متواصلاً لباديوس المكرّم. عند اليونان، نجد بعض النتف. وفي الآداب السريانية سننتظر ايشوعداد المروزي وديونيسيوس الصليبي.
ب- في العالم الحديث
توقّف الشرّاح في العالم الحديث على العلاقات بين مرقس، متى ولوقا. وهكذا وُلدت "المسألة الإزائية". كان أوغسطينس قد قال إن مرقس لخّص متى. وهذا الإرث الذي تركه معلّم أفريقيا الشمالية منع الدارسين قروناً عديدة من اكتشاف أولوية أقصر الأناجيل، بالنسبة إلى متى ولوقا.
ولما حلّ القرنان التاسع عشر والعشرون في أوروبا، عاد مرقس لكي يحتلّ مكانته السابقة. واكتشف النقد الحديث السلطة الحقيقية التي كانت لنصّ مرقس في القرن الأول. لاحظوا مثلاً انه إن تعامل متى ولوقا ويوحنا مع لغة مرقس بحرّية، إلا أنهم راعوا مراعاة خاصّة تأليفه. ما يجعلنا نفهم هذه السلطة هو ارتباط الإنجيل الثاني ببطرس الرسول. ففي القرن الثاني، وساعة تكوين "قانون" (أو: لائحة) الأسفار المقدّسة، لم يجعل إنجيل مرقس على هامش الأسفار. فذكرُ العلاقة التي تربط ما دوّنه مرقس بشهادة بطرس، ظلّ فاعلاً في القلوب.
أقرَّ معظم الشرّاح الغربيين منذ سنة 1930 أن مرقس هو أقدم الكتب الإنجيلية التي حفظت لنا، ولكنه لم يُفهم على حقيقته. كانوا يقرأونه وينتقدونه بالنسبة إلى الأناجيل الثلاثة الأخرى. وقد درسوه بشكل خاص لكي يصلوا إلى المستويات السابقة للتدوين النهائي. إنصبّ الإهتمام أولاً على "مراجعه" وعلى سيرة يسوع التي ترجّوا أن يعيدوا بناءها انطلاقاً من الإنجيل الثاني. وتميّز النصف الأول من القرن العشرين، باكتشاف جديد ليسوع التاريخي عبر مرقس، لا بواسطة اكتشاف غنى مرقس.
لا شكّ في أن مرقس أفاد من هذا الإهتمام بيسوع التاريخي، لأنه وجب على الشرّاح أن يمرّوا بمرقس لكي يصلوا إلى يسوع. ولكنهم تعلّقوا قبل كل شيء بما لم يكن منه في شهادته، بما جاء من غيره. فمرقس كنصّ مدروس لذاته لم يكن موضوع اهتمام. فالوقت لم يحُن بعد.
ومنذ السنوات السبعين صار مرقس إنجيلاً لزمننا الحاضر. هنا يُطرح سؤالان: الأول، لماذا نُسي مرقس بسرعة ونسُي مدة طويلة؟ الثاني، لماذا عاد إلى الظهور في هذا العصر الذي بدأ يقدّره حقّ قدره؟ إن الجواب على هذين السؤالين سيعطينا فهماً أفضل للوضع التاريخي الذي فيه دوّن إنجيل مرقس وللاطار الحالي الذي نقرأه فيه اليوم.
ج- إعادة اعتبار
لا شك في أن الجواب على هذين السؤالين يتحدّد موقعه في حياتنا نفسها. نحن نتعرّف إلى مرقس لأننا نعيشه. عاد مرقس الى "الوراء" منذ عرفت الجماعات المسيحية وضعاً مماثلاً للذي ولّد نصاً مثل نصّ متى ولوقا. من هذا القبيل، كان الوضع الكنسي لمرقس حوالي سنة 70، مشابهاً لوضع بعض الكنائس في الربع الثالث من القرن العشرين. لهذا ظلّ نصّه خفياً، ممحواً، منسياً.
إذن، سنقدم رسمة سريعة وموجزة للوضع التاريخي لمرقس. بعد هذا، نكتشف في تاريخ الكنيسة في القرن الأول كل ما يفصل هذا الزمن عن الحقبة التي فيها دوّنت الأناجيل الثلاثة الأخرى. والضوء الذي تلقيه هذه المقابلة يؤكّد تفسيرنا لنسيان مرقس في الماضي ولإعادة اكتشافه اليوم.
د- مرقس
دوّن إنجيل مرقس حوالي سنة 70، حوالي نهاية الحرب اليهودية الرومانية (66-70). يبدو أنه دوّن في رومة. شابهت جماعة مرقس معظم جماعاتنا بعددها، بل بدت أصغر منها. أما موضع الإجتماع فكان غرفة كبيرة- العلية في بعض البيوت (رج أع 20: 8 في ترواس)- أو الفناء الداخلي في بعض المنازل (رج مر 1: 29، 33؛ 2: 1؛ 3: 19- 20؛ أع 12: 12). خلال الإجتماعات الكبرى، كان هناك على الأكثر خمسون أو ستون شخصاً قد التأموا لسماع الكلمة والاحتفال بالعيد.
وعت هذه الجماعة أنها أقلّية ضئيلة وسط مدينة كبيرة، أقلّية تعيش على هامش المجتمعِ الرفيع في العالم الروماني. أقلّية مضطهدة. وقد احتفظت في حياتها بتذكّر موت معظم رؤسائها: في رومة، استشهاد بطرس وبولس. في أورشليم، اسطفانس ويعقوب، وربما يوحنا إبن زبدى. بما أنها أقليّة، حُسبت جزءاً من الأقلّية اليهودية، فقاست الاضطهادات مثلها خلال الحرب في اليهودية. فحقدُ الرومان كان معروفاً لا سيما ضدّ "الشيع" الجديدة الآتية من الشرق. كانوا يقولون: يصب العاصي (في سورية) في التيبر (يمّر في رومة)، وهكذا كانوا يدلّون بازدراء على كل ما كانت سورية تحمل إلى رومة من شيع ونظريات.
وبسبب الحرب في اليهودية، عرفت كل الجماعات اليهودية المشتّتة في الإمبراطورية الرومانية، الملاحقات والاضطهادات بدرجات متنوّعة. والمسيحيون (حتى الذين من أصل يهودي) لم يتضامنوا، على ما يبدو مع الحرب الإستقلالية. وهذا ما جعلهم مُبغضين في نظر اليهود الثائرين على سلطة رومة. مقابل هذا، أظهر بعض أعضاء الجماعة اليهودية الذين اندمجوا في المجتمع الروماني الرفيع، أظهروا لهذه السلطة أنهّم غير موافقين للثورة في اليهودية.
غير أن هؤلاء اليهود لم يتعاطفوا أيضاً مع المسيحيين. كانوا يعتبرون الشيعة الجديدة الآتية من الجليل، شكلاً من أشكال الثورة الشعبية التي تستلهم حركة الغيورين، التي يُعتبر وجودُها تهديداً لثبات العلاقات بين اليهود والرومان في الإمبراطورية كلها. فقد كان بين السنوات 65 و75 حرب ضروس بين الأقلّيتين، لأن كل أقلية أحسّت أنها مهدّدة في وجودها. كانت العلاقات بينهما شرسة، فتستعمل الواحدة الأخرى ككبش محرقة تجاه السلطة الرومانية.
في هذا المنظار نستطيع أن نفهم دور الهيرودسيين لا إنجيل مرقس (3: 6؛ 12: 12- 13). ودور يهوذا (يوضاس) الخائن "وأحد الإثني عشر". مثّل الهيرودسيون اليهود الذين دخلوا في المجتمع الروماني الرفيع. وكان يهوذا عضواً من الجماعة، فخان جماعته بلا سبب. جعله الإنجيلي "على المسرح" كمجرّد إمكانية خفية في حياة الكنيسة. فكل إنسان معرّض لأن يكون الخائن، وعليه أن يتساءل: "هل أنا هو" (14: 10- 11، 18-21)؟
الخيانة سلاح رهيب وهي في متناول كل أحد في مجتمع فاسد ومليء بالظنون كما كان المجتمع الروماني في ذاك العصر. ولا بعض الأوقات كاظما التجربة قويّة لدى المسيحيين المتهوّدين لكي يخونوا: هم يُلاحَقون تارة لأنهم يهود، وطوراً لأنهم مسيحيون. فلو نعموا بالحقوق التي ينعم بها اليهود في الإمبراطورية، فهم سيخسرونها حين يجاهرون أنهم مسيحيون، ولا يبدون تضامنهم مع العالم اليهودي ولا مع الحرب في فلسطين. وهكذا نرى بشكل أفضل خطر الإختيار في ذلك الوقت بالنسبة إلى تلميذ المسيح. يجب أن يكون الواحد مستعداً "ليحمل صليبه". هذا ما قاله يسوع في منتصف الإنجيل. وهذا يعني أن المسيحي يُستبعَد من المجتمع ويُحكم عليه بالموت كعبد ذليل...
تعرّض مسيحيّو مرقس للإحتقار وللملاحقات العنيفة، ولكنهم لم ييأسوا. فالإنجيل يشهد لنظرة قوية تستطيع أن تضمّ الماضي البعيد الى المستقبل حتى نهاية الكون. ولا تحسّ هذه المجموعة الصغيرة أنها منعزلة، أنها في طريق الزوال. فهي عبر التعارضات وبالرغم منها، تشارك في وعي مسكوني يعني "جميع الشعوب". هذا يوافق كل الموافقة حلقة الجماعات المسيحية التي وُجدت في ذلك العصر، وانتشرت في كل أنحاء الإمبراطورية. فقبل سنة 70، وصل شهود يسوع إلى أعظم الحواضر حوله حوض البحر الأبيض المتوسط: رومة، انطاكية، أفسس، كورنتوس، والإسكندرية...
هـ- الأناجيل الأخرى
حين دوّن متى ولوقا إنجيليهما بعد عشر أو خمس عشرة سنة، كان وضع المسيحيين قد تطوّر تطوّراً ملحوظاً في الإمبراطورية الرومانية.
دوّن متى إنجيله في سورية، وربما في قيصرية البحرية، لجماعة امتزج فيها اليهود و"الوثنيون"، الأبرار والخطأة، الأقوياء والضعفاء. وبدا المسيحيون كوحدة معروفة في المدينة. لم يعد هناك من قلق على حياة المؤمنين. أعلن متى الكنيسة الكبيرة التي قبلت بها "الدولة"، بل ساندتها.
وتوجّه إنجيل لوقا (تبعه أعمال الرسل) عبر الجماعة المسيحية، إلى العالم اليوناني والرومانيِ، والى عالم اليهود الهلنستي (تحضّر بالحضارة اليونانية). وهكذا نقرأ مؤلَّف لوقا المؤرخ كمقال دفاعي (ابولوجيا). يجب أن يعرف الجميع أن "الطريق" (أو الطريقة، طريقة الحياة) المسيحية ليست شيعة جديدة، غامضة، شأنها شأن سائر الشيع التي خرجت من زاوية مشبوهة من عالم الإمبراطورية. فهي تستحقّ تقدير الجميع، لأنها ترتبط بتقليد موسى والآباء والملوك والأنبياء. وهذا ما يجعلها أهلاً للتكريم قبل الديانة اليهودية. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، إن مثال الحياة الذي تقدّمه هذه الطريق يضاهي معظم الفلسفات التي عرفتها بلاد اليونان وآسية الصغرى ورومة. والجماعة الأولى في أورشليم تعطي فكرة حقيقية عن مستوى حياة المسيحيين، وهو مستوى يضاهي أجمل ما عرفه الأقدمون على مستوى الصداقة والمحبة. هذا هو مقال لوقا الذي يفتح الدرب أمام الكتّاب المدافعين عن المسيحية في القرن الثاني. إن كلامه يدلّ على أن وضع المسيحيين في الإمبراطورية، ليست وضع أقلية محتقرة، وإن كان المؤمنون لم ينالوا بعد كل حقوقهم.
دوّن إنجيل يوحنا بعد ذلك الوقت، فلم يعكس الوضع الذي عرفه مرقس خلال الحرب اليهودية. لا شكّ في أن الجماعة اليوحناوية انطبعت برذل وحرم من قبل المجمع (أي: العالم اليهودي). وقد احتفظ النص بأثر واضح لهذا الوضع في يو 9: 22، 34؛ 12: 42؛ 16: 2. ولكن المسائل المطروحة تغيرّت خلال التدوين الأخير. فالمحيط اليوحناوي يحاول أن يدخل في حوار مع الجماعات التي ارتبطت ببطرس. وهو مهتمّ بالخروج من "هامش" ينعزل فيه، فيصبح مقبولاً لدى الكنيسة الكبرى التي تمثّلها نصوص مرقس، متى ولوقا. إنجيل يوحنا هو رسالة توصية: إنه يقدّم التقاليد الخاصّة بهذه الجماعة، ويدلّ على مراعاته لتقاليد تعود إلى بطرس.
دوّن مرقس ليُستعمل داخل الجماعة. ودوّن لوقا ليُقرأ خارج حلقة المسيحيين. وجمع متى كنزاً عظيماً من التعليم والأخبار قدّمها بشكل مرجع له سلطته للذين ينتمون إلى المسيح. إنه فكّر بأعضاء جماعته، ولكنه أراد أن يحاور الذين في الخارج، خصوصاً معلّمي العالم اليهودي الراباني الذي أعاد تنظيما صفوفه بعد كارثة السنوات 66-70. وعكسَ يوحنا عادات وتقاليد خاصّة بمحيطه، ولكنه أقام حواراً مع سائر المسيحيين. إنه قبل كل شيء نص الجماعات المتعدّدة.
منذ نهاية القرن الثاني، عرفت الجماعات المسيحية نفسها في أناجيل متى ولوقا ويوحنا. فكأنها لم تحتجْ إلى إنجيل مرقس.
و- علامة الأزمنة
إذا كان عالمنا الحاضر قد اكتشف مرقس، فلأنه يعيش الوضع الكنسي الذي عرفه مرقس والذين حوله. فالجماعات المسيحية تعرف الضيق والاضطهاد. والجماعات المؤمنة و"الممارسة" صارت أقلية وسط أكثرية لا تعرف عن المسيح الشيء الكثير. صارت الكنيسة "في خطر" على حياتها كما يقول البعض. ولهذا نستطيع أن نعتبر إنجيل مرقس كعلامة من علامات الأزمنة. إن مرقس يوجّه كلامه إلينا عبر قرون تفصلنا عنه، فيجتذبنا في الرجاء الذي كان يعمر قلبه وسط الأزمة، ويقول لنا: "من يصبر (يثبت) إلى المنتهى يخلص" (13: 13).
2- إنجيل مرقس كتاب فريد
يبدو إنجيل مرقس بشكل خبر يختفي راويه منذ أول كلماته. هو لا يحسّ بالحاجة إلى أن يقدّم نفسه أو يشير إلى مراجعه. نحن نصدّقه حين نسمع كلامه. نحن نعرف أنه يقول الحقيقة، ونتعرّف إلى ما يرويه. لا أحد يعارضه. وهو نفسه لا يحاول أن يبرّر نفسه ولو مرّة واحدة. يتكلّم بسلطان ولا يهتم إلا بنقل ما يجده جديراً بأن يُذكر.
ما هو الهدف الذي توخّاه؟ ما هي علاقاته مع "مراسليه" أو "قرّائه"؟ هل أراد أن يقنعهم؟ أن يحذّرهم؟ أن يشجّعهم ويعزّيهم؟ هل أراد أن يقدّم إليهم تعليماً؟
أ- كتاب أملته الظروف
رغم كل ما قلناه حول الاطار التاريخي لمرقس، يجب أن نؤكّد على أن هذا الإنجيل ليس كتاباً أملته الظروف. فالكاتب لا يتوجّه إلى جماعته كما يكتب بولس إلى الكورنثيين أو الغلاطين. وليس خبره بشكل مباشر كلمة "تعزية" أو "تحريض" ترتبط باضطهادات تحمّلها المؤمنون (رج عب 13: 22). لا شكّ في أن مرقس لا ينسى التاريخ المؤلم الذي عاشته الجماعة. كما يستحيل عليه أن يقدّم لمعاصريه مستقبلا من الهدوء والطمأنينة، مستقبلاً لا صعوبات فيه. لقد علّمته الحياة أن المضايق ترافق الشهادة، بل قالت إن التبشير يتمّ لا رغم الاضطهادات، بل عبر الاضطهادات وبفضل الاضطهادات (13: 10). بيد أن كلامه ليس كلام تعزية وتحريض ينطلق من الظروف الملحّة التي تعيشها الجماعة. فلو كان الأمر كذلك، لكان أخبرنا به منذ البداية، وأشار إليه في المقاطع المهمة، وذكرنا به الخاتمة.
ب- قراءة في أيام العيد
لم يكتب مرقس كتاب مناسبة يشرف عليه رجوعٌ إلى الظروف الخاصة بالكاتب أو بالقارىء. بل كتب "إنجيلاً" لتقرأه الجماعة وتعيد قراءته بشكل منتظم. ليس بالقصير ولا بالطويل. دوّن ليُقرأ في احتفال واحد. ويبدو أنه كان يقرأ في اجتماعات العيد. نتخيّل الجماعة المسيحية مجتمعة ليلة السبت وساهرة حتى صباح الأحد. فخلال الأعياد الكبرى كانوا يسهرون أقله حتى نصف الليل. وإن سفر الأعمال يحدّثنا عن مثل هذا الاجتماع للصلاة، حين مرّ بولس في ترواس، في زمن الفصح (أع 20: 5- 12). ونعرف أيضاً أن بعض النصوص كانت تقرأ كاملة بمناسبة بعض الأعياد. هكذا كانت تقرأ اللفائف في الأعياد اليهودية. مثلاً، يقرأ سفر راعوت في عيد العنصرة والحصاد. أما إطار العيد الذي فيه يُقرأ إنجيل مرقس فهو عيد الفصح والقيامة.
كان اليهود يجتمعون في عيد الفصح داخل العائلة ويسهرون أقله حتى نصف الليل، وهي الساعة التي فيها قد يجيء المسيح. بعد الليل كان يتغلّب على المؤمنين النعاس أو الخمر. كانوا يقضون القسم الأول من الليل في سرد معجزات الربّ في أخبار مؤلّفة بالنظر إلى هذه الليلة. كانوا يتذكّرون ليلة الخروج العظيمة، ويتذكّرون فيها كل الليالي التي فيها تدخّل الله لكي يخلّص، منذ ليلة الخلق حتى ليلة مجيئه الأخير. وكانوا ينتظرون فوق كل شيء أن تأتي في هذه الليلة، الليلةُ الأخيرة التي فيها يأتي ايليا كسابق للمسيح. دوّن الخبر بالنظر إلى الليلة الفصحية فسمّي "ها غاده" (خبر، سرد اخباري).
كان المسيحيون الأوّلون كلهم من أصل يهودي. فاستلهموا طريقة الاحتفال بالعيد من محيطهم اليهودي. ولهذا استعادوا في عيد الفصح خير الخروج أو العهد مع إبراهيم (تك 15). ولكنهم تذكّروا بشكل خاص موت يسوع وقيامته. ونقول الشيء عينه عن انتظار اليهود للمسيح في تلك الليلة التي يسهرون فيها. لقد دلّت بالنسبة إلى المسيحيين، على رجاء عودة الربّ في المجد (رج 1 تس 1: 10؛ مر 13: 24-27).
3- خبر فصحي مسيحي
حين نضع نصّ مرقس في هذا الإطار من العيد، نستطيع أن نعتبره "خبراً" (ها غاده) مسيحياً. فهو يذكر أولاً وقبل كل شيء "عبور" يسوع، وفصحه الأخير وسط "أخصّائه". هنا نعود إلى عشائه الأخير في أسبوع الفطير (14: 12-28)، وما تلا ذلك كما أعلنته أقوال وفعلات يسوع: موته وقيامته. ولكن النص المنسوج بتذكّرات كتابية، يشير في الوقت عينه الى الخروج، إلى المسيرة في البرية بقيادة موسى، إلى دورة إيليا أو إلى ذبيحة اسحق (تك 22).
في الليلة التي فيها أسلم يسوع، رأت الجماعة المسيحية تلاقي وتجمّع كل الليلات. لسنا فقط أمام استعادة للماضي. فمرقس وجماعته (شأنهم شأن معاصريهم اليهود في سهرة الفصح) يسهرون وينتظرون حدثاً يقع في نهاية التاريخ وقد يحصل في هذه الليلة. "الحق أقول لكم: إن في القائمين (الحاضرين) ههنا، من لا يذوقون الموت حتى يعاينوا ملكوت الله آتياً في قدرة" (9: 1).
في السرد المرقسي، تتلاقى كل النظرات المستقبلية وتتوجّه إلى حدث أخير هو مجيء ابن الإنسان في المجد. ونحن نجد هذه النظرة حقاً في قلب إنجيل مرقس (8: 38-9: 1). وهي تحتلّ الخطبة الكبرى في ف 13 (وهي الخطبة الوحيدة المتكاملة في مرقس). كما نجدها في بعض الأوقات الهامة في خبر الآلام والقيامة (14: 62؛ رج 14: 25؛ 16: 7).
4- خبر من أجل التنشئة المسيحية
ويُضاف على هذا الإطار الفصحي، إطارُ المعمودية. فطوال القرن الثاني، كان "المناضلون" الجدد يعمّدون خصوصاً في نهاية السهرة الفصحية. إن طقس العماد وفقاهته قد انتقلا بدون انقطاع منذ نهاية القرن الأول حتى يوستينوس ابن نابلس في فلسطين الذي صار معلّماً في رومة، وهيبوليتس الذي كان معه من أول الشاهدين على الليتورجيا العمادية في بداية الكنيسة. في هذا الإطار العمادي كان يُقرأ إنجيل مرقس.
حين نحلّل طريقة تدوينه، نكتشف العلاقة بين مرقس ومراسليه. نلاحظ بشكل مقتضب الخطّ العام في التأليف. فالمطلع مكرّس كله للعماد الذي يتخذ كل خاصّيته المسيحية ويتميّز عن عماد يوحنا المعمدان. والبرهان (6: 13- 10: 5) الذي يشكّل محور الإنجيل، قد جعل من أجل التنشئة في وجهتيها الأساسيتين: القسم الأول يشير إلى معرفة سّر المسيح. والقسم الثاني يستخرج ما يفرضه اكتشاف هذا السر من أمور عملية. وأخيراً تأتي الخاتمة (16: 1-8) فتتضمن تلميحاً إلى العماد يأخذ بمجامع القلوب.
إن كل المسيرة التي يجعل إنجيل مرقس التلميذَ يسيرها، تطابق مسيرة رسمتها كرازة العماد في روم 6 (رج كو 2: 12). من اعتمد غطس مع المسيح في آلامه وموته. دُفن معه لكي يقوم معه. وهكذا تستلهم الحياة العملية (هلكة أي السلوك) حسب مرقس هذا النموذج الفريد الذي نجده بشكل خاصّ في النصوص الإرشادية (9: 30- 10: 45؛ رج 19:2-21).
5- الخبر في أولى تمتماته
لا يمتلك مرقس إلا عبارة واحدة يقولها، بل لفظة واحدة، بل إسماً واحداً. إنجيله هو يسوع، فكل لفظة وكل جملة وكل خبر وكل قسم يتلفّظ بدون انقطاع بهذا الإسم الفريد الذي ينطلق منذ الكلمة الأولى التي تخرج من فم الراوي. هذا الإسم هو أولاً تاريخ وخبر وموضوع "دراماتيكي". فمرقس هو راوٍ كبير قبل كل شيء. بعد هذا هو يعلن ويعلم.
كل خبر مهما كان قصيراً يدل على رحلة. تنتقل من محطة إلى أخرى. من زمن أولا تبدأ فيه الدراما حتى النهاية. هذا ما نكتشفه في إنجيل مرقس.
أ- الإفتتاح
الزمن الأول عند مرقس يفاجئنا، يحرّكنا كأنه قوّة تكشف عن نفسها بدون مقّدمات فلا نقدر أن نقاومها. تبدأ أخباره كإعلان عيد مع لهجة الفرح والانتصار، مع نفحة حياة تملأنا دهشة وتتحدّانا: "خرج الزارع ليزرع زرعه" (4: 3 ي). زرَعَ ولم يتعب. زرعَ في كل مكان. ما اكتفى بأن يبذر بل بذّر وبدّد الحب في كل مكان. يا للوفرة والسخاء!
كان لرجل كرم (12: 1 ي). ما الذي لم يفعله لهذه الكرمة؟ حوّطها بسياج، بنى برجاً، حفر معصرة. ماذا يستطيع أن يفعل أكثر من هذا لكرمه؟
إنطلق يسوع إلى الجليل وأعلن: "تمّ الزمان واقترب ملكوت الله" (1: 14- 15). منذ البداية (في مرقس)، إنفتحت السماء، بل "تمزّقت" ونزل الروح. لقد بدأ زمن الأنبياء، لقد بدأ الزمان المسيحاني، إنهزمت قوى الشر. بداية الإنجيل والبشرى، بداية الخبر السعيد. منذ بدأ مرقس كلامه يجب أن يتمزّق شيء ليترك ملء الله يسكن فينا.
ب- الإنتقال
ولكن السخاء الأول وجد أمامه الصدّ والرفض. هناك أزمة، هناك خسارة. هذا ما شدّد عليه مرقس حين قال بأن المحن والمعارضات سوف تتكرّر. إن الزرع "سقط على الطريق، فجاء الطير وأكله". وهناك زرع سقط على أرض حجرة. لا جذور له. حرقته الشمس. وهناك بذار ارتفع بين الشوك. وارتفع الشوك معه وخنقه. أكل الطير "كل" ما وقع على الطريق، وأحرقت الشمس "كل" ما كان على أرض قليلة العمق. وخنق الشوك "كل" ما نبت في وسطه.
أرسل ربّ الكرم خدّامه (12: 1- 11). فاستُقبلوا استقبالاً سيِّئاً. ضربوا، أُهينوا، قُتلوا. وما زال يرسل غيرهم. فكانت المعاملة التي تلقّوها أسوأ من التي تلقّاها الذين جاؤوا قبلهم. هناك انحدار عند مرقس: من سيء إلى أسوأ. الخادم الأولى أوسعوه ضرباً. الثاني شجوا رأسه. الثالث قتلوه. لم يبقَ لسيد الكرم أحد يرسله. لم يبقَ له إلا ابنه الوحيد. أرسله وخاطر به... وما زال يخاطر.
عرف مرقس الآلام الكثيرة. لهذا، لن يتكلّم "بخفّة" عن التي يتحمّلها كل الذين ينتمون إلى يسوع.
وفي ذروة الأزمة، يندلع كل العنف مع تبادل مخيف. فبعد "اختطاف العريس" (2: 12) كان حديث عن تمزّق القماش (الرقعة الجديدة تأخذ من العتيقة ملئها)، وعن تمزّق الجماعة. ونقول الشيء عينه عن الزقاق العتيقة والخمرة الجديدة. فالخمر تشقّ الزقاق، وهكذا تضيع الخمر مع الزقاق. هذا يعني أن يسوع يخسر حياته، والعالم اليهودي "يمزَّق"، "يتلَف".
حين دوّن مرقس إنجيله، كانت الجيوش الوثنية قد اجتاحت المدينة المقدّسة ودمّرت الهيكل... وحين مات يسوع على الصليب، روى مرقس أن حجاب الهيكل "تمزّق من أعلى إلى أسفل، تمزّق إثنين" (15: 38). فالهيكل كموضع مقدّس ومفصول عما هو دنيوي، قد تدمّر وزال. وفي ذروة مثل الكرّامين القتلة، قُتل "الابن الوحيد" "وطُرح خارج الكرمة". ولكن سيّد الكرمة "سيأتي ويهلك الكرّامين ويسلّم الكرمة إلى آخرين".
مثل هذا العنف المتبادل نجده مراراً في خبر مرقس (رج 3: 1-6؛ 11: 12- 14؛ 11: 17، 14: 46-47؛ 15: 37-38). وهذا ما يدهشنا لأننا لا ننتظره.
كيف نفسّر هذا العنف؟ بخبر الآلام التي احتملتها الجماعة المسيحية. إن مرقس يشبه شخصاً تألّم، لهذا فهو لا يحاول أن يُعمل الفكر. إنه يرى فقط علاقات بين آلام احتملت من أجل اسم يسوع ودمار الهيكل سنة 70. لهذا يؤكّد أن دينونة الله قد أعلنت حكمها في هذا الوقت من التاريخ. بعد أربعين سنة مرّت على صلب "الإبن"، أرسل الله جوابه إلى الذين رفضوا مرسل نهاية الأزمنة. كان مرقس يهودياً فانطلق في تفكيره من الكتب المقدسة ومن مقولات تسلّمها في محيطه اليهودي، وآمن بيسوع آخر الأنبياء وابن الله الوحيد. هذا الإيمان الذي مرّ في بوتقة الاضطهاد، يقوده الآن لكي يترك العالم اليهودي. "تُجعل الخمر الجديدة في زقاق جديدة" (2: 22).
ج- المرحلة الأخيرة
مرّت الأزمة بخساراتها المتعدّدة، وتنامى العنف ولم يوفّر أحداً (رج 13: 30). كل هذا صبّ عند مرقس في خلفية لم نكن نتوقّعها، خلفية مجانية ومنتصرة.
زرع الزارع فبدا ما عمله خسارة تامة. ولكن ها إن ما سقط في الأرض الطيّبة قد "أعطى ثلاثين، ستين، مئة" لقاء كل حبة. ونحسّ بالراوي يهتف هتاف الفرح. والكرم سيُعطى "لآخرين". أجل. "بيتي يدعى بيت صلاة لجميع الشعوب". "الحجر الذي رذله البناؤون صار رأساً للزاوية. هذا هو عمل الرب وهو عجيب في عيوننا". في هذه المقاطع يشعّ المسيحي فرحاً، ويستعيد أنفاسه على ضوء الكتب المقدسة (أش 56؛ مز 118).
فمن خلاله الموت على الصليب وتمزّق حجاب الهيكل، نرى قائد المئة الوثني، ونسمعه يتفوّه بأمانة الجماعة (النؤمن): "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله" (15: 39).
وتتوزّع إنجيل مرقس هذه النصوص التي فيها نتجاوز نفوسنا فنندهش، التي تقدّم فتحة دائماً جديدة رغم الطرق المسدودة. هناك انتقالات تبدو للوهلة الأولى بسيطة، ولكنها في الواقع انعكاس أمين لهذه الدينامية المنتصرة التي تمرّ في الخبر كله.
* في 3: 6، تآمر الفريسيون مع الهيرودسيين وعزموا على قتل يسوع. ولم تتأخر ردّة الفعل على هذا "الحكم الأول" بالإعدام. في 3: 27 إنطلق يسوع بكل حماس، فجاء الناس إليه من كل مكان: هنا قدّم مرقس أوسع منظر في كل إنجيله. في حلقة دائرية جال في كل سورية الغربية. وبعد النظرة إلى الموت أطلّت قيامة عجيبة.
* في الناصرة فشل يسوع. إصطدم "بالاإيمان" (6: 6). ولكن الخبر انطلق من جديد. "وكان يجول في القرى المحيطة وهو يعلّم". وفي هذه المرة تضاعفت النتيجة. "دعا الإثني عشر وشرع يرسلهم إثنين إثنين".
* في نهاية المطلع، ساعة بداية كل شيء، نقرأ: "بعد أن أُسلم يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل، وأخذ يكرز بإنجيل الله" (1: 14). ويخرج الخبر من أزمة حتى في تفجّره الأول: أسلم يوحنا. هذا ما يعكس مباشرة خبرة الكنيسة: فإعلان الإنجيل في نظر مرقس يتمّ عبر المثول أمام الحكّام والملوك، ومن خلال خيانة الأخ لأخيه والإبن لوالديه (13: 9- 13). هكذا يُعلَن الإنجيل على جميع الشعوب (13: 10).
* في كل الخبر، لا شيء يسجن يسوع، لا شخص يوقف يسوع. فالراوي يجعله "يقوم" في كل مرة. هنا نقرأ في البداية المقطع الذي فيه يذهب "سمعان ورفاقه" ليبحثوا عن يسوع خلال الليل (1: 35-39): "الجميع يطلبونك". يريدون أن "يمتلكوا" يسوع فيكون لهم وحدهم. يريدون أن يحتكروه. ولكنه يتطلّع إلى مكان آخر. "لأجل هذا خرجت" (آ 38). وها هو يجول في الجليل كله (آ 39). ما يحدث في هذا الصباح الأوّل من الإنجيل، سيتكرّر في كل صباح (16: 1-8). بحثت عنه النسوة ليمسحنه بالطيب. ولكن من يستطيع أن يحتفظ به حتى في الموت؟ "ما هو هنا. إنه يسبقكم إلى الجليل". إنه دوماً في مكان آخر لا نتوقعه. إنه يفلت من أيدينا كما من أيدي تلميذي عماوس. لا نستطيع أن نرى وجهه بل ظهره.
* ومن اللافت أن مرقس لا ينظر في نهاية التاريخ إلى "الدينونة الأخيرة"، حسب ما في متى الذي يفصل الخراف عن الجداء. لم يعد هناك من محنة أخيرة عند مرقس. فالمحنة العظمى التي يتحدّث عنها دانيال ستتمّ بالتاريخ (13: 19- 24). ولكن عندما تأتي النهاية، "في تلك الأيام، بعد المحنة"، سيظهر ابن الإنسان وسيقوم بدوره بأن يرسل الملائكة الذين يجمعون المختارين من كل مكان، الأحياء والأموات (13: 24- 27). إن الرجاء العظيم في نهاية التاريخ كله هو تجمّع المختارين في بهاء الله.
خاتمة
يبقى علينا أن نقرأ النص ونعيد قراءته ونتركه يجتذبنا في دينامية روحية عاش منها مرقس وما زال يولّدها فينا. حين يتحدّث عن يسوع يتوقّف نظرنا على ما دوّنته يدُ الإنجيلي، ولكننا ننجذب إلى ذاك الذي يمرّ أمامنا. يقودنا مرقس إلى يسوع فنحسّ أن سرّ شخصه يتوجّه كله نحو أبيه: هذا هو ابني الحبيب. في هذا الانفتاح المطلق الذي لا حدود له ولا قياس، تدعونا كل آية من آيات الإنجيل إلى أن نسير ولو ببعض الخوف (10: 32؛ رج 16: 8). ففي ذروة الصليب نكتشف نور القيامة