أيّوب البار في أربعة مشاهد.

أيّوب البار في أربعة مشاهد

أيّوب ومعنى اسمه "المعادي"، الذي يرفض الجواب التقليديّ حول المجازاة هو من أرض عوص التي تقابل اليوم حوران في سورية الجنوبيَّة. هذا الإنسان التامّ، الكامل، مرَّ في المحنة فما عاد يفهم شيئًا. وتساءل: أين هو الربّ؟ ولماذا يخفي وجهه؟ من هو الله بالنسبة إليه؟ ومن هو أيّوب بالنسبة إلى الله؟

وها نحن نقدِّم هذه الشخصيَّة في أربعة مشاهد.

  1. المشهد الأوَّل: مطلع الكتاب (ف 1-2)

نجد هنا الإطار للصراع في قلب أيّوب. في الأساس، خبر شعبيّ. استعاده الكاتب فأخذ ينقلنا من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى الأرض، مع مجلس الله في العلى.

أ‌-     فضيلة أيّوب

بعد أن حدَّد الكاتب موقع أيّوب، أورد وأورد صفاته الخلقيَّة والدينيَّة. هو رجل مستقيم تامّ. يخاف الله ويبتعد عن الشرّ. هذا الكمال الذي ميَّز نوح (تك 6: 9) وإبراهيم (تك 17: 1) يدلُّ على توازن يتمتَّع به أيّوب على المستوى البشريّ وعلى المستوى الروحيّ. وتجلَّت استقامتُه في علاقته مع الآخرين، وهي علاقة عاشها بتوافق مع نداء ضميره وقواعد السلوك في جماعة مقدَّسة.

كلُّ هذا عاشه أيّوب في مخافة الله: في إطار البعد الدينيّ الذي يعطيه لحياته: كان يهاب الله في أعماله الملموسة وخياراته. وهكذا، كان يحفظ نفسه من الشرّ، فبرزت بوضوح فضيلة أيّوب. فلماذا نعجب بعد ذلك أن يكون الله باركه ومنحه أسرة كبيرة مع المال والاسم الكبير؟ أجل، البارّ يشبه شجرة على جانب المياه، تعطي الثمر في أوانه.

ب‌-المجلس الإلهيّ

هذا المشهد الذي يحصل في السماء يتوخّى أن يبيِّن أنَّ هناك علاقة بين ازدهار أيّوب وبين فضيلته. فالربُّ نفسه أقرَّ بفضيلة هذا الرجل، فردَّد ما قيل في 1: 1: "رجل تامّ، مستقيم، يخاف الله ويحيد عن الشرّ" (أي 2: 3). ولكنَّ إبليس يشارك في هذا المجلس الإلهيّ. في العهد القديم، لم يأخذ هذا الشخص بعدُ وجه إبليس والملاك الساقط. فهو يمارس بكلِّ بساطة دور الخادم في الحدود التي يفرضها الله عليه (1: 12؛ 2: 6).

إذًا، شكَّ إبليس في مجّانيَّة فضيلة أيّوب. قال للربّ: "دَمِّر كلَّ ما يملك فترى، كيف يلعنك". وهكذا "تحدّى" إبليس الله، فقلب المعادلة المعروفة: الربُّ يبارك البارّ، يجعله يُزهر. أمّا في نظر إبليس فالازدهار هو ما يدفع أيّوب إلى الفضيلة: فالإنسان يحافظ على العلاقات الطيِّبة مع الله لكي يحتفظ بالبركة الإلهيَّة. قبِل الربُّ "التحدّي"، لأنَّه مقتنع أنَّ المال ليس ما يبرِّر فضيلة أيّوب. وسمح لإبليس أن يهاجم خيرات أيّوب دون أن يمسَّه. إذًا، الله هو الذي سمح بأن يجرَّب أيّوب. أمّا إبليس فهو المحرِّك ثمَّ المنفِّذ وإن بشكل غير مباشر.

ج- أوَّل محنة عند أيّوب

ونزل من السماء إلى الأرض. ما إن قال حتّى فعل. وتوالت الأحداث بشكل مذهل أربع مرّات: عرف أيّوب أنَّه خسر قطعانه وعبيده وأولاده. ويتكرَّر الكلام كما في الأخبار الشعبيَّة فينسب هذه الكوارث إلى السلب والنهب أو إلى الطقس العاصف. ولكنَّ القارئ يعرف أنَّ كلَّ هذه تُنفِّذ أوامر إبليس.

ماذا تكون ردَّةُ الفعل عند أيّوب؟ هل سيكون إبليس على حقّ؟ وهل يتخلّى أيّوب عن ممارسة الفضيلة، بعد أن عُرِّي من كلِّ ما يملك؟ هو لا يعرف شيئًا عن تحدِّي إبليس للربّ. وهو لا يعرف أنَّ الربَّ قبِلَ هذا التحدِّي لأنَّه متأكِّد أنَّ ما يبعث أيّوب على الفضيلة ليست سعادته وازدهاره. فجاءت ردَّة الفعل "عند الباطل" تجاه كلِّ ما خسر في موقفين. أوَّلاً، أصيب في الصميم، على المستوى البشريّ، ودلَّ على ذلك بحركات وتصرُّفات معروفة لدى الناس أمام الوجع الكبير والحداد. أيكون أيّوب بلا إحساس؟ بل هو انذهل وارتمى أرضًا. ثانيًا، ركع أيّوب بعد أن حطَّمه الألم، ولكن لم يقل سوى بضع كلمات: "عريانًا خرجت من بطن أمّي، وعريانًا أعود إلى هناك (= إلى أمّي الأرض). الربُّ أعطى والربُّ أخذ، فليكن اسمُه مباركًا" (أي 1: 21).

كان ممدَّدًا على الأرض مثل جثَّة هامدة سوف تُحمَل إلى القبر، وما تشكّى بأنَّه لا يستطيع أن يحمل شيئًا من ثمر عمله ومن أفراحه. فهو يمضي كما أتى ولا شيء في يده، ضعيفًا، سريعَ العطب. في هذا التجرُّد، ها هو كما في يومه الأوَّل. ولكنَّه أقرَّ أنَّ كلَّ ما كان له وما جعله غنيًّا، كان عطيَّة من الله ولا حقَّ له عليه. هو لا يعارض إذا أخذ الله منه ما أعطاه. بل هو يبارك الآن الله الذي يستعيد منه عطاياه. وهكذا أقرَّ في قلب ضيقه حرِّيَّةَ الربِّ السامية، وبارك بحرِّيَّة تامَّة سيِّدَ مصيره. إذًا لا ترتبط فضيلة أيّوب بغناه، كما ظنَّ إبليس الذي خسر الرهان. حقًّا أيّوب هو صاحب فضيلة.

د- مجلس إلهيٌّ آخر

ضُرب أيّوب حتّى الآن في أملاكه. فأقرَّ الربُّ مرتاحًا أنَّ المحنة لم تبدِّل حكمه على أيّوب. وباطلاً دفعه إبليس في الجلسة السابقة: فالبرهان واضح وأيّوب الذي عُرِّي من كلِّ شيء، بارك الله وما تنكَّر له. وعاد إبليس إلى هجومه: نضحّي بكلِّ شيء ونحافظ على جلدنا. فإذا أصيب أيّوب في لحمه وفي عظمه، هل يحافظ على فضيلته؟ وقبل الربُّ هذا التحدِّي الجديد، وفرض على إبليس أن لا يمسَّ له حياته، أي أن لا يميته. ثمَّ إن مات إيّوب، كيف يمكن أن يبرهن إن كان الله على حقّ أو إبليس؟

هـ- محنة جديدة لأيّوب

والآن ضُرب أيّوب بالقروح. صار مثل جرب يمكن أن ينقل العدوى (لا 13: 46). وهكذا استُبعد من الجماعة. صار نفاية. مزبلة التقليد هي تلَّة يجلس عليها بعيدًا عن البيت. عذاب الجسد. كرامة نازلة. عزلة في البشاعة. تلك هي المحنة الجديدة التي خضع لها أيّوب. سمحَ بها الربُّ فراهن عن أمانة هذا الرجل المشوَّه، المرذول، المتروك.

أدرك أيّوب أنَّه وحده. وأرادت زوجته أن تدفعه لكي يتخلّى عن حياته الخلقيَّة ويهاجم الله ليموت بسرعة. فامرأته التي لم يُقَلْ عنها شيء إلى الآن، والتي يفترض أن تكون بقربه وتعينه، ابتعدت عنه. لامته على ما يمتدحه الجميع، بل الله نفسه أنَّه "تامّ، مستقيم". فراحت إلى جانب إبليس. وتمنَّت أن يموت، وهذا ما لم يسمحْ به الله: ليمُت بعد أن يلعن الله الذي يعاديه.

أدركت زوجة أيّوب أنَّ هذه المحنة الثانية سمح بها الله. وهي التي لم تُصَبْ بشكل مباشر، تكمِّل ما استشفَّه إبليس من قبل أيّوب بعد أن يُضرَب. الحمد لله أنَّ التحدِّي لم يكن معها، وأنَّ الله لم يراهن عليه، بل على زوجها. لامها أيّوب بوعيه الكامل: ما تقولين بشعٌ جدًّا (مز 74: 18). وكشف عدم إيمان زوجته، وهو عذاب آخر يزيد عزلته عزلة – فحاول أن يدعوها إلى التعقُّل: "نقبل السعادة من عند الله، أما نقبل الشقاء؟" لم يعُدِ الله ذاك الذي يعطي ثمَّ يستعيد عطاياه، بل ذاك الذي يحمل تارة السعادة وطورًا الشقاء. هو سوء فوق سوء. ولكنَّ أيّوب لا يبدِّل موقفه إطلاقًا: جُرح في الصميم، ومع ذلك تقبَّل بملء إرادته حرِّيَّة إلهه السامية. ربح الربُّ رهانه وإبليس خسر. تبشَّع أيّوب إلى آخر حدود البشاعة، ولكنَّه لبث بارًّا، مستقيمًا، وما جدَّف على الله.

  1. المشهد الثاني (3: 1-26)

هنا يبدو أيّوب مثل إيليّا الذي هدَّدته إيزابيل، زوجة الملك آخاب: "كفاني يا ربّ! خذ حياتي فأنا لستُ أفضل من آبائي" (1 مل 19: 4). ضاعت عزيمته واقترب من اليأس العميق، فقال ما قال. ويبدو مثل إرميا الذي يعيش وحده في عزلة قاتلة بعد أن رُفض تعليمه، فعلى مرارة وتذمُّر: "لماذا خرجتُ من البطن؟ ألكي أرى الضيق والحزن وأنهي أيّامي في العار؟" (إر 20: 18). تلك هي صرخة أيّوب.

أ‌-     ولعن أيّوب يومه

ذاك هو العنوان الذي نقرأه في 3: 1-10، حيث يحاور أيّوب نفسه. هي لعنة. بل تمنٍّ في عودة إلى العدم: أن لا يكون وُلد. أن لا يكون حُبل به، وهو التعيس. منذ البداية أعلن يوم الولادة وليل الحبل مسبَّة في الألم، فصارا موضوع نكران: ليتَّهما ما كانا.

النهار هو النور. في بداية الخلق قال الله: "ليكن نور!" (تك 1: 3). وها هو أيّوب يأخذ الوجهة المعاكسة: هذا اليوم الذي وُلد فيه "ليكن ظلمة". وهكذا يرفضه ويفضِّل عليه، في ما يخصُّه، الخواء الكونيّ في البدايات، لا هذا العالم الذي رتَّبه الله. فوجوده الخاصّ في نظره، ليس سوى فراغ. فكان من الأفضل أن يكون ذلك منذ مجيئه على الأرض بحيث لا يضيء النور أبدًا على صباحه الأوَّل.

ورفض أيّوب أيضًا الليلة التي فيها حُبل به. هذا يعني رفض كيانه في جذوره. يا ليت تلك الليلة لم تفسح المكان للنور! يا ليته لم يكن غروب مع ظهور النجمات الأولى ولا طلوع الصباح! فيا ليت كلَّ شيء كان ظلامًا. وهكذا أنكر أيّوب لنفسه نظام الخلق مع تناوب النهار والليل، لأنَّ كلَّ شيء له الآن عتمة.

ولماذا مثل هذا الرفض؟ لأنَّه حين أتى إلى الوجود، أثقل عليه الضيق. هو رفض في القلب لا يمكن أن يصل إلى الانتحار. بل نيَّة جذريَّة بتدمير الذات لأنَّه يصيب الوقت الذي فيه بدأ وجودُه.

ب‌-لماذا لم أمُتْ من الرحم؟

وشابه أيّوبُ إرميا فأطلق "لماذا" بعد "لماذا". هو تساؤل يميِّز الرثاء أمام الميت، فيستعيده المريض دون أن يجد له جوابًا. "لماذا قبلتني الركبتان؟ لماذا الثديان حتّى أرضع؟" ويهتف المرتِّل: "إلهي إلهي لماذا تركتني، وامتنعتَ عن نجدتي وسماع أنيني؟"

سعى أيّوب لكي يُلغي الحبل به وولادته، ففشل. فلم يبقَ له سوى أن يسأل لماذا وُلد، ولماذا تقبَّلته أمُّه، ولماذا أرضعته، ولماذا لم يمت حين خرج من رحم أمِّه؟ حينئذٍ لم تكن حياتُه عرفت الوجع. ولكان دُفن مثل الأغنياء والأقوياء. ولكان نزل إلى مثوى الأموات دون أن يذوق خبرة الحياة القاسية على الأرض. ففي الأعماق السفلى، كلُّهم يعرفون الراحة، فلا يعود من معنى للفرق بين إنسان وإنسان. ذاك ما كان يجده أيّوب هو أنَّه ما عاش، فيرتاح ويُفلت من كلِّ ما يؤلمه.

ج- لماذا النور للتعساء؟

أراد أيّوب أن يصل إلى هذا السؤال الذي يعنيه شخصيًّا. فهو من الذين يتوقون أن يزولوا من الوجود لأنَّ حياتهم ثقيلة عليهم. فلماذا أعطي لهم أن يعيشوا؟ ويتساءل أيّوب عن عمل الله، لأنَّه هو من يعطي الحياة. والطريق التي يسير فيها الإنسان، لا يعرفها من قبل، بل فُرضت عليه فرضًا. فالإنسان ليس سيِّد وجوده ومسيرة حياته: فالله يحدِّد الطريق فيبدو الإنسانُ سجينًا. وأقلّ ما يقول هو أنَّ الله لبث "لطيفًا": هو يعطي ولكن هديَّته لا تُفرح الإنسان وأيّوب هو من هؤلاء التعساء الذين يتشوَّقون إلى الموت. وتبقى المشكلة الله في نظر أيّوب.

وهكذا منذ بداية القسم الشعريّ، كشف أيّوب بشريَّته الموجعة. في ف 1-2، بدا أيّوب غير متزعزع، مثل إنسان رواقيّ يسيطر على ألمه.

  1. المشهد الثالث: ولادة الرجاء

اعتبر أصدقاء أيّوب أنَّ هذا المتألِّم هو خاطئ، ولاسيَّما حين يعنِّف في كلامه عنفًا يرفض مخافة الله. لهذا هتف أيّوب: "لي شاهد في السماء (16: 19). ثمَّ: "كن يا ربّ كفيلاً لي (17: 3). وأخيرًا: "بجسدي أعاين الله" (19: 26).

أ‌-     لي شاهد في السماء

بالنسبة إلى أيّوب، من السهل أن يعزّي كما يفعل أصدقاؤه، لأنَّهم لا يتألَّمون. فهو تجاه أناس أشرار، ولكنَّه في الواقع يرى أنَّ الله هو الذي يمزِّقه، يحطِّمه، يطعنه، يحاصره، فلا يبقى لهذا التعيس سوى أن يبكي ذلَّه ويعضَّ التراب. ومع ذلك، ما مارس أيَّ عنف، وصلاته لبثت نقيَّة: "الله أسلمني إلى الجائرين" (16: 11). "لكن إلى الله تفيض عيناي" (آ20).

وهنا فجأة عاد أيّوب إلى الرجاء. كما لم يَعُد من قبل: "يا أرض لا تشتري دمي، ولا يكن لصراخي انتهاء" (آ20). الدم هو الحياة، كما قال سفر التثنية. وأيّوب الذي يقترب من الموت، يرى دمه يسيل على الأرض: "سنواتي أصبحت معدودة، فأسير في طريق لا أعودُ منه".

إذا الدم لا يغطّيه التراب فهو يطلب الانتقام. ولكن مَن الذي ينتقم؟ فقاتلُ أيّوب هو الله، والله وحده يقدر أن ينتقم للدم البريء. الله ضدّ الله! وها هو أيّوب يفترض في الله تناقضًا، ويستند إلى أنَّه يستحيل على الله أن يرضى بموت البريء. وهذا اليقين هو الآن أقوى من جميع الاتِّهامات التي تلفَّظ بها أيّوب على الله.

"لي من الآن شاهدٌ في السماوات، ومن يحامي عنّي في الأعالي" (آ19). ما فكَّر أيّوب بصراخه، بل بالله نفسه الذي يستطيع أن يرافع عن أيّوب ضدَّ غضب الله المدمِّر، مثل شاهد يعطي الغلبة لشخص اتُّهم ظلمًا. أدرك أيّوب التناقض السرّيّ في تصرُّف الله: آلامه آتية من عند الله، ساعة الله نفسه يقدر أن يشهد على براءة عبده. وهكذا اكتشف أيّوب وجهين لله، فنادى عدالة الله وصلاحه ضدَّ الوجه الآخر المخيف، وجه الله أيضًا. وإذ فعل هذا أيّوب، سلَّم نفسه إلى أمانة الله الصادق الذي ظهر له الآن حاضرًا له أقرب من أكثر البشر أمانة.

ب‌-كن يا ربّ لي كفيلاً

يجب على الله أن يتَّخذ قرارة بسرعة من أجل أيّوب، لأنَّ الموت لم يعد بعيدًا، وأصدقاءه الثلاثة يواصلون السخرية منه (17: 2). فانتقل حينئذٍ من تأكيد الرجاء إلى نداء وجَّهه مباشرة إلى الله، ولكنَّه نداء قصير جدًّا: "كن يا ربّ كفيلاً لي عندك، فما من أحد يكفلني غيرك" (آ3).

إذا أردنا أن نفهم بعدُ هذا الكلام، نتذكَّر ما يتمُّ في القضاء: من يستقرض مالاً يقدر أن يُغطّي نفسه فيرتاح المعطي حتّى يأتي شخص فيلعب دور الكفيل. فإن لم يستطع المستقرض أن يفي، فالكفيل يدفع للمعطي المال الذي أقرضه. وهكذا يكون الكفيل هنا وهو يضمن المال.

ما قبل أصدقاء أيّوب أن يكفلوه، بل هم يتَّهمونه ويتَّهمونه. إذًا، أيّوب هو وحده في المحكمة. إلاَّ إذا رضي الله أن يكفله. ولكنَّه يلعب عندئذٍ دورين: دور المعطي ودور الكفيل.

فأيّوب لا يجد وسيلة لتسوية الأمور مع الله، وللمصالحة معه. فطلب من الله بعد أن توجَّه إليه مباشرة، بأن يلعب دورًا آخر فيفضّ المشكلة: ليأخذ الله الغاضب على أيّوب مكان أيّوب ويحرِّره من كلِّ ما يسبِّب هذا الغضب، وهكذا يعود إلى صلاحه. وبمختصر الكلام، طلب أيّوب من الله أن يأخذ جانب الإنسان.

ج- بجسدي أعاين الله

تدخَّل بلدد، أحد أصدقاء أيّوب، حين أحسَّ أنَّ أيّوب غير راضٍ عن أصدقائه. غير أنَّ غضب أيّوب لا يبدِّل شيئًا في وضعه: هو شرّير وبالتالي سوف ينال أجرَ شرِّه.

ردَّ أيّوب فاستعاد اتِّهاماته ضدَّ الله الذي يعامله كعدوّ. ثمَّ يبكي بسبب العزلة التي هو فيها: كلُّهم يهربون منه. كلُّهم يكرهونه. فليرحمه أقلَّه أصدقاؤه الثلاثة: "إلى متى تعذَّبونني وتسحقونني سحقًا بأقوالكم" (19: 2). ويواصل كلامه: "ارحموني، يا أصدقائي، ارحموني، يد الله هي التي ضربتني. لماذا تهاجمونني مثل الله، ولا تشبعون أبدًا من لحمي" (آ21-22).

عندئذٍ انتصب أيّوب وطلب الشهود من الأجيال الآتية: ليُحفَر دفاعُه على الصخر ليشهد بعد موته أنَّه، رغم اتِّهامات أصدقائه، الله يضربه جائرًا: "ليت هناك من يكتب أقوالي، ليته يثبِّتها في سفر! أو ينقشها إلى الأبد في الصخر بقلم من حديد ورصاص" (آ23-24). ولكن تطلع في الحال على شفتيه كلمة الرجاء التي هي أقوى من كلِّ ما قاله من قبل.

"ولكنّي أعرف أنا أنَّ شفيعي (من ينتقم لي) حيّ" (آ25). الله هو من ينتقم للدم البريء. الله هو من يحمي ويخلِّص. فأيّوب متأكِّد أنَّ الذي يحامي عنه هو الإله الحيّ. وهو بعيد كلَّ البعد عن الأصنام الميتة. "شفيعي هو الإله الحيّ".

"بجسدي أعاين الله" (آ26). إنَّ أيّوب متأكِّد أنَّه يلاقي الله شفيعه ووليّ أمره. تطلَّع أيّوب إلى هذا التدخُّل الخلاصيّ وإلى رؤية إلهه منذ حياته على الأرض، أي قبل أن يموت. أجل، إنَّ الله سوف يتجلّى لأيّوب قبل أن يموت، في قلب ضيقه وشقائه. ولكن كيف يتجلّى؟

"سيقوم" في الأخير. فهو الأوَّل والآخر (إش 44: 6). يقوم ليعلن الحكم، وأيّوب رأى فيه ذاك الذي يحامي عنه. "على التراب". هناك كان أيّوب. وقريبًا سوف يغطّيه تراب القبر. قال أيّوب: "فقولوا لي: أين إذًا رجائي؟ وسعادتي من يا ترى يراها؟ أيهبطان إلى أبواب القبر، ويستريحان بجانبي في التراب" (17: 15-16). أجل "سيقوم الربُّ على التراب". وهكذا تأكَّد أيّوب أنَّ الله يأتي ويخلِّصه في الوقت المناسب.

"وتراه عيناي إلى جانبي، ولا يكون غريبًا عنّي" (19: 27). اقتنع أيّوب أنَّ الله يتدخَّل من أجله، الآن. ويتصوَّر هذا التدخُّل بشكل حكم قضائيّ من لدن الله. بل أكثر من ذلك: الله قريب منه، وليس ذاك البعيد الذي يمثِّله من قبلُ حين سيطر عليه الضيق. وفي النهاية اقتنع أيّوب أنَّ الإله الذي "يضربه" هو وحده من يخلِّصه.

  1. المشهد الرابع

هي مرافعة أيّوب الأخيرة، في ثلاث مراحل. في المرحلة الأولى يتذكَّر ماضيه وما كان فيه من سعادة (ف 29). في المرحلة الثانية، يتطلَّع إلى الحاضر وما فيه من شقاء (ف 30). وفي المرحلة الثالثة، يعلن أيّوب براءته. "ليت الشهور السالفة تعود" (29: 1). "والآن" (30: 1). قطعتُ عهدًا لعيني" (31: 1).

أ‌-     ليت الشهور السالفة تعود

في الماضي، كان أيّوب مشعًّا حين كان الله معه: أسرة غنيَّة، سعيدة. "أيّامَ كنتُ في عزِّ حياتي، ورضى الله على مسكني" (29: 4). ويقدِّم لنا الشاعر كما في المطلع (ف 1-2)، شخص وجيه. كلُّهم يحترمونه: "يراني الشبّان فيحيدون، والشيوخ فينهضون واقفين" (آ8). شخص يمارس "العدالة" بمعنى أنَّه يهتمُّ بالتعساء ويدافع عنهم، وكأنَّه الملك في شعبه: "لأنّي كنتُ أغيث المسكين، وأعين اليتيم الذي لا عون له" (آ12). لهذا اعتبر أنَّ السعادة لن تترك داره يومًا: "تبقى كرامتي نضيرة، ويتجدَّد قوسي في يدي" (آ20).

ما من أحد في الكتاب المقدَّس أنشد السنوات الماضية، كما فعل أيّوب. هو لا ينكر أنَّ أمواله هي من الله الذي يسهر عليه. ولكن في هذا التذكُّر "للشهور السالفة" (آ2) يقدِّم أيّوب نفسه وكأنَّه "يحلُّ محلَّ الله: "لبستُ الحقَّ فكان كسائي، وبقي العدلُ حلَّتي وتاجي" (آ14). أجل، افتخر أيّوب بماضيه، وتذكَّر كرامته "الملوكيَّة": "أتولّى أمرهم وأتصوَّر مجالسهم، وكملك في جيش أُحسنُ قيادتهم" (آ25).

كلُّ هذه السعادة، كلُّ هذه العظمة، كلُّ هذا الاهتمام بالمساكين، يجب أن يدوم لأنَّ لا لوم في سلوكه. هكذا ظنَّ أيّوب. ولكن أما تجاوز الحدود؟

ب‌-والآن؟

ذاك كان الماضي وما فيه من إشراق. أمّا الآن، فالشقاء هو هنا: "يضحك عليَّ الذين يصغرونني في الأيّام" (30: 1). ويعرض أيّوب الحالة التي وصل إليها: "والآن صرتُ لهم أهجية ومثلاً شائعًا للسخرية" (آ9). وتأتي أداة "الآن" مرَّة ثالثة في آ16: "والآن روحي تفيض فيّ، وأيّامُ البؤس تُطبق عليَّ".

والسبب؟ الله قلبَه الآن: "يكرهونني ويبتعدون عنّي، ولا يتورَّعون أن يبصقوا في وجهي. ولأنَّ الله رماني وأذلَّني، أطلقوا شتائمهم في وجهي" (آ10-11). فالله هو من يصيب أيّوب ويجعله كلا شيء: "طرحني الله في الوحل، فمثلُ التراب أنا والرماد" (آ19). عندئذٍ يتوجَّه أيّوب للمرَّة الأخيرة نحو الله: "إليك أصرخُ فلا تجيب، وأمامك أقفُ فلا أنتبه" (آ20). صار الله له "عدوًّا قاسيًا". يقذفه كما الأمواج. بل يقوده إلى الموت. وهذا مع أنَّه كان يهتمُّ بالمساكين (آ24). يعطي أيّوب السعادة، فلماذا يعطيه الله الشقاء؟ فلا يبقى له سوى البكاء "كئيبًا أمضي ولا من يعزّي، وإن قمتُ بين الناس فلأبكي" (آ28).

ج- قطعتُ عهدًا لعينيَّ

بعد أن قابل أيّوب ماضيه الكريم، السعيد، مع حاضره الأليم، الشقيّ، بدأ عمليَّة فحص ضمير. لهذا، عاد إلى ماضيه وألقى نظرة صادقة على أعماله ونواياه العميقة. هل أذنبتُ في شيء ما؟ فليكن العقاب مناسبًا للذنب، لا محطِّمًا للإنسان. وفي النهاية يرى أيّوب أنَّه بريء: "قطعتُ عهدًا لعينيَّ أن لا أتأمَّل في عذراء" (31: 1). تلك هي البداية ويتواصل فحص الضمير في أربع عشرة نقطة يمكن أن يكون أيّوب أذنب فيها: فبعد النظر في عذراء (وربَّما إلى "عناة" إلاهة أوغاريت)، هناك الكذب في الأشغال والعطش إلى الغنى والزنى ولا مراعاة حقِّ الخادم والخادمة. عدم الاهتمام بالجياع، الرفض بإلباس المساكين، الجور تجاه اليتامى، الاتِّكال على الخيرات الخاصَّة، عبادة الشمس والقمر.

26     هل نظرتُ إلى الشمس حين أشرقت،

أو إلى القمر يسير في بهاء،

27     فافتتنتُ بهما سرِّ قلبي

وأرسلتُ لهما قبلة على يديَّ؟

ويتواصل فحص الضمير: الشماتة بشقاء الخصم، رفض الغريب، عدم الإقرار بالذنب، وضع اليد على أرزاق الغير.

لسنا هنا أمام الدكالوغ أو الوصايا العشر. فهناك فقط الزنى وعبادة الأصنام والاشتهاء. ولا إلى مز 15 في ما يتعلَّق بالصدق والإساءة إلى القريب، ولا إلى مز 24: 4 (النقيّ اليدين، الطاهر الكفّ...) ولا إلى تث 27: 15-25 مع اللعنات على جبل عيبال حول أعمال سيِّئة يفكِّر فيها الإنسان سرًّا. فكلُّ هذا جاء في إطار العهد التاريخيّ. أمّا هنا ففي عالم القانون، خارج الاحتفال الليتورجيّ. إذا كان أيّوب اقترف ذنبًا من هذه الذنوب، فهو مستعدٌّ لأن ينال اللعنة. غير أنَّ هذا "المعترف" واثق من نفسه.

نحن هنا في إطار تعليم الحكماء، ولا وجود للعنة كما في نهاية متطلِّبات العهد ("ملعون من... ملعون من...). فبالنسبة إلى الزنى وتجاهل حقِّ الخادم والخادمة، يجب أن يعرف أيّوب أنَّ الإله الذي خلق أيّوب خلق أيضًا هؤلاء:

15     أما صانعي في البطن صانعه

وواحد صوَّرنا في الرحم؟

وبالنسبة إلى رفض إطعام المساكين، يتذكِّر أيّوب أنَّ الله رفعه وجعله أبًا

18     أما من صباه ربَّيتُه كأبٍ

ومن بطن أمِّه هديتُه؟

والشماتة أمام شقاء العدوّ: تحرَّز أيّوب وحفظ لسانه وما سمح لفمه أن يلعن:

29     هل فرحتُ لهلاك عدوِّي

أو شمتُّ إذا ناله سوء؟

30     بل منعتُ لساني أن يخطأ

فيطلب موت عدوِّي بلعنة؟

فإن كان أيّوب اقترف هذا الذنب أو ذاك، فكيف يجسر أن يقف أمام دينونة الله؟

14     فماذا أفعلُ حين أواجه الله،

وكيف أجيبُه حين يسأل؟

23     بل كنتُ أخاف من نقمة الله،

ولا قدرةَ لي أمام جلاله.

وفي الواقع، يطلب أيّوب دينونة الله. وإن هو أعلن أنَّه "قام"، فإعلانه ليس فعل شكر، بل تحدٍّ لله. أنا تكلَّمتُ، فهل للقدير جواب؟

35     قلتُ كلَّ شيء، ليت القدير يسمعني!

ليت خصمي (= الله) يردُّ على دعواي!

فهذا "البارّ" مستعدٌّ:

37     أخبره بعدد خطواتي

وأتقدَّم كالأمير إلى لقائه.

وهكذا دافع أيّوب عن كرامته الممرَّغة ظلمًا بالتراب، وأحسَّ أنَّه قادر بأن يبيِّن أنَّ الله هو "على خطأ". هل سقط أيّوب في خطيئة الكبرياء؟ وفضيلته تجاه القريب جعلته يتجرَّأ فيفتخر. غير أنَّه أراد أن يقترب من الذي يدينه في كلِّ حقيقته. هنا يختبئ رجاؤه الخفيّ: فدينونة الله لا يمكن أن تعارض دينونة ضمير الإنسان. فالضمير في الإنسان هو صوت الله في القلوب.

الخاتمة

طلب أيّوب من الله أن يظهر وجهه لكي يتناقش معه. ظنَّ أنَّ الله هو البعيد، فإذا هو القريب. ظنَّ أنَّه العدوُّ فإذا هو الصديق. ظنَّ أنَّ لا حكمة عنده فملأ الدنيا بالفوضى، لأنَّ لا شيء يبرِّر ألمه، ولأنَّ الله يعامله بقساوة، إن لم يكن بجور. فخرج الله من صمته "من العاصفة" (38: 1) ودخل في حوار مع أيّوب. نظر أيّوب الكون كلَّه، السماء والأرض، من خلال وجعه الخاصّ وكأنَّه وحده في الدنيا، ففتحه الربُّ على عظمة الخليقة. وعلى الحكمة في أعمال الله. فلم يبقَ لأيّوب سوى الصمت: "تكلَّمتُ مرَّة فلا أعود. ومرَّتين فلا أزيد" (40: 4). وفي النهاية، استردَّ كلامه "في التراب والرماد" (42: 6). أجل، لم يبقَ له سوى أن يرتمي في حضن الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM