عيسو ويعقوب أخوان يتخاصمان ويتصالحان.

عيسو ويعقوب أخوان يتخاصمان ويتصالحان

الخوري بولس الفغالي

عجيب هو الكتاب المقدَّس وعجيبة كلمة الله. كلَّ مرَّة نقرأه نحسُّ وكأنَّنا نقرأه للمرَّة الأولى. نقرأه فنكتشف معنى جديدًا ما كنّا لنفكِّر فيه من قبل. هو لوحة فنِّيَّة أين منها لوحات هذا العالم. هو ينبوع نستقي منه، ينبوع يتجدَّد فلا نحن نستنفده ولا يستنفده الملايين في العالم، هذا إذا حقًّا أتوا إلى ينبوع الماء الحيّ وما احتفروا آبارًا مشقَّقة، كما قال إرميا النبيّ. إذا حقًّا قبلوا أن يتركوا مياهًا وصلت إليهم هنا وهناك فتعلَّقوا بها كما تعلَّقت السامريَّة بجرَّتها. ولكنَّها عرفت في النهاية أن تترك الجرَّة عند بئر يعقوب بعد أن شعرت أنَّها لا تحتاج إلى أن تأتي كلَّ يوم، في الظهيرة، لتستقي بعض الماء. فما نالته من الربِّ "صار عين ماء يتفجَّر حياة أبديَّة" (يو 4: 14). قلتُ هذا الكلام وأنا أقرأ العهد القديم الذي هو كلام الله شأنه شأن العهد الجديد. لا شكَّ الكمال في الأناجيل وسائر أسفار العهد الجديد، لأنَّ الكلمة نفسه جاء إلينا وأوضح لنا كلَّ شيء. ولكن تبقى التوراة والأنبياء والمزامير تمتمات توصل إلينا صوت الله. وهنيئًا لنا إن عرفنا أن نميِّز صوت الله بين الأصوات العديدة التي تصل إلينا، وهنيئًا لنا إن اكتشفنا حياتنا من خلال ما نقرأ وما نرى وما نختبر. وهذا ما نقوم به حين نتطلَّع إلى شخصَي عيسو ويعقوب. أخوان اعتاد الأدب القديم، وأيّامنا أيضًا، أن يرى فيهما عدوَّين، مثل قايين وهابيل في الشرق، وريموس ورومولوس في رومة وإتيوكلي وبولينيس ابني أوديب في اليونان وغيرهم في سائر الحضارات. غير أنَّ نصَّ الكتاب يفهمنا أنَّهما تصالحا من خلال شعبين هما أدوم ويهوذا، تجاورا في الحياة ثمَّ تجاورا في الممات حين جاءت الغزوات الخارجيَّة المتعدِّدة.

إذًا عن عيسو ويعقوب نتكلَّم، ومن خلالهما عن شعبين يفصل بينهما البحر الميت. تزاحم في الطفولة وخصومة. تزاحم وعداوة فيما بعد: من يرث الوالد ومن يكون الرئيس على الآخر. وفي النهاية، تنازل وتواضع وتقاسم الخيرات والأراضي: مضى عيسو إلى سعير ويعقوب إلى سكوت، واحد نحو الجنوب، في النقب، وآخر في الشرق، إلى الشمال من عمّان عاصمة مملكة الأردنّ الحاليَّة.

  1. تزاحم في الطفولة وخصومة

الكتاب المقدَّس كتاب تأمُّل قبل أن يكون كتاب تاريخ يورد الوقائع ويتوقَّف عندها وكأنَّها أمور متقطِّعة يلقي الواحد الآخر. فالكاتب الملهم يعود إلى الوراء لكي يكتشف في الماضي عمل الله الذي هو سيِّد التاريخ. فيبقى على الإنسان أن يعرف القراءة ولا يلبث على سطح الأحداث. عليه أن ينتزح إلى العمق وهناك يكون له الصيد الوفير.

عيسو ويعقوب. جنينان في بطن رفقة، زوجة إسحاق. قال الكتاب: "ازدحم الولدان في بطنها" (تك 25: 22). فقالت الوالدة: "إن كان الأمر هكذا فلماذا الحياة؟" المعنى الأوَّل بسيط: ولدت رفقة توأمين. ولكنَّ المعنى الأوسع هو أنَّ كلَّ ولد يمثِّل شعبًا. وجاء صوت الربِّ يتكلَّم بعد الأحداث: "شعب يسود شعبًا، وكبير يستعبده صغير" (آ23). ثمَّ إنَّ المرأة تمثِّل الشعب. فهي تلد البنين والبنات. فكأنَّ النصَّ يقول: في الأصل كان عيسو ويعقوب، أدوم ويهوذا، في بطن واحد. فلماذا يزاحم الواحد الآخر؟ أما يستطيع الاثنان أن يعيشا في سلام دون أن يحاول الواحد أن يُلغي الآخر؟ هكذا فعل قايين بهابيل. أمّا موقف إبراهيم فما كان كذلك. "وقعت خصومة بين رعاة ماشية أبرام (أو: إبراهيم) ورعاة ماشية لوط" (تك 13: 7). موقف أوَّل اعتاد الناس أن يقوموا به: إبراهيم هو الأقوى، ولوط هو الأضعف. فماذا يفعل إبراهيم؟ ما فعل كما كنّا ننتظر، بل قال للوط: "لا تكن خصومة بيني وبينك، ولا بين رعاتي ورعاتك، فنحن رجلان أخوان" (آ8). وأضاف: "تذهب إلى الشمال فأذهب إلى اليمين، أو إلى اليمين، فأذهب إلى الشمال" (آ9). وهكذا كان.

لماذا يجب أن يسود شعبٌ على شعب، وأخٌ على أخ، وأخت على أخت؟ قال إبراهيم لابن أخيه لوط: "الأرض كلُّها بين يديك" (آ9).

ولدان مختلفان كلَّ الاختلاف. والحمد لله. فالاختلاف غنى إذا شئنا للاثنين ويمكن أن يكون سببًا للخصام إذا شئنا. فالأمرُ بين أيدينا، الأوَّل هو عيسو، واسمه يرتبط بالفعل العربيّ: "غشي، تغطّى". فجسمه كان مغطّى بالشعر مثل فروة. هو أسمر اللون. أمّا يعقوب فلا يقال شيء عنه. أهو أبيض، أملس الجسم؟ بل نفهم منذ البداية أنَّه لم يرضَ أن يكون أخوه خرج قبله بحيث تكون له حقوق البكوريَّة. من هنا فسَّر الكتاب اسمه: يعقوب. هو اختصار للفظ يرتبط بالله: يعقوب – إيل: الله يساند، يعضد. وذلك في الحضارة الأموريَّة حول مدينة ماري على الفرات، ولكنَّ النصَّ بدَّل المعنى لأنَّ "الوظيفة" تبدَّلت. ربط الاسم بلفظ "عقب" وفعل "تعقَّب" أي سار وراءه، لاحقه، أمسك بعقبه لكي يسقط أو لكي يتوقَّف فيسبقه. ثمَّ أخذ الفعل معنى "غشَّ، دجَّل" (تك 27: 36).

وتميَّز الولدان في طريقة عيشهما. عيسو هو "صيّاد ماهر، رجل يحبُّ البرِّيَّة" (تك 25: 27). إنَّه يشبه إلى حدٍّ بعيد إسماعيل بيده المرفوعة وعيشه في مواجهة إخوته (تك 16: 12). هو لا يعرف الحيلة ولا ترتيبات الخداع، ولهذا نراه يقع في الفخّ. أمّا يعقوب فهو ابن البيت. "يُقيم في الخيام" (تك 25: 27). وارتبط اسمه بالكمال. قيل: "رجل تامّ". مثله يكون أيّوب: "رجلاً تامًّا، مستقيمًا، يخاف الله ويحيد عن الشرّ" (أي 1: 1). في الواقع، لم يكن يعقوب "مستقيمًا" في البداية، لا مع أخيه ولا مع خاله. ولكنَّه سوف يفهم بعد ذلك أنَّ طرق البشر تختلف عن طرق الله. كان يعقوب المخادع، فقال فيه أخوه: "خدعني مرَّتين" (تك 27: 36). ولا نتحدَّث عن الطريقة التي بها تعامل مع خاله فاغتنى بسرعة بحيث قال أبناء لابان: "أخذ يعقوب كلَّ ما كان لأبينا، وممّا لأبينا جمع كلَّ هذه الثروة" (تك 31: 1).

ومع ذلك اختاره الله. هذا ما قرأه الكاتب الملهم بعد كلِّ الذي صار، وأحبَّه ورافقه في ذهابه إلى حاران وإيابه، بل في نزوله إلى مصر. "ذبح ذبائح لإله أبيه إسحاق" فسمع صوتًا من السماء يدعوه إلى التأهُّب ("ها أنا"): "لا تخفْ أن تنزل إلى مصر، فسأجعلك أمَّة عظيمة هناك" (تك 46: 3). فاختيار الله يختلف عن اختيار البشر. ونسأل: كيف اختار بطرس الذي خانه؟ وكيف اختار بولس الذي اضطهد الكنيسة محاولاً أن يضطهد يسوع نفسه؟ هذا ما لا نفهمه أبدًا.

وتوزَّع الأخوان الحبّ. عيسو أحبَّه أبوه لأنَّه "استطاب صيده". ويعقوب أحبَّته أمُّه، ربَّما لأنَّه الأصغر. وستكون أمُّه أساس نجاحه وإن كانت الوسائل التي اتَّخذتها غير مقبولة: خدعت رجلاً أعمى هو إسحاق مع أنَّ الشريعة منعت المؤمن أن يضع "حجر عثرة أمام الأعمى" (لا 19: 14). خاف يعقوب من اللعنة، فقالت له أمُّه: "عليَّ لعنتك يا ابني" (تك 27: 13). وهو في الواقع سوف يسمع والده يقول له: "ملعون من يلعنك، ومبارك من يباركك" (آ29). ثمَّ يقول في وجه عيسو: "باركتُه ومبارَكًا يكون" (آ33).

  1. تزاحم وعداوة

وبدأت العداوة باكرًا ويعقوب يتطلَّع إلى البعيد، إلى البكوريَّة. أمّا عيسو فيهتمُّ بالوقت الحاضر. هو جائع. يريد أن يأكل الآن ولا يستطيع أن ينتظر دقيقة واحدة. هذا ما ندعوه: إلهه بطنه. قال الكتاب: "عاد عيسو من الحقل وهو خائر من الجوع" (تك 25: 29). وها الطبيخ أمامه. تحدَّث النصُّ عن "الأدام" وهو طعام من الأطعمة. ما همّ. وارتبط "الأدام" بأدوم "تلك المنطقة التي ضمَّت النقب والقسم الجنوبيّ من مملكة الأردنّ الحاليَّة. في القرن الرابع عشر تحدَّث "عبدي هبة" ملك أورشليم عن "أرض سعير"، إلى الملك أمينوفيس الرابع في إحدى رسائل تل العمارنة. ففي هذه البلاد مناجم النحاس بالقرب من تمنة الواقعة إلى الجنوب من حبرون.

أدوم يعني "الأحمر" لأنَّ في أرضه حجارة من الرمل الأحمر على المنحدر الشرقيّ لعربة. وهكذا امتزجت الجغرافيا بخبر عيسو، فاعتبر الطعام الذي طلبه من أخيه أحمر اللون (تك 25: 30). ثمَّ صار هذا الطعام "العدس". فهؤلاء القائمون على جبل سعير، ذاك الجبل الذي كانت تغطِّيه الغابات بحيث لا يصلح للزراعات، صار موطئ الصيد وإذا لم تكن هناك طريدة، يلجأ سكّانه إلى السلب والنهب. ذاك كان وضع عيسو حين عاد يعقوب من حاران: "معه أربعُ مئة رجل" (تك 32: 7). وهو يأتي إلى لقاء يعقوب. لهذا وضع يعقوب قطعانه أمامه ليأخذها عيسو إذا أراد، وتبقى حياته وحياة أولاده في أمان.

فقبائل عيسو تشبه قبائل يعقوب. يعقوب عنده 12 ولدًا على عدد أشهر السنة. وهكذا يخدم "المذبح" كلُّ ولد شهرًا في السنة. ويذكر الكتاب أولاد عيسو: أليفاز، رعوئيل، يعوش ويعلام وقدوح... (تك 36: 9-14). سوف يكون اتِّفاق بين قبائل عيسو وقبائل يعقوب، ولكن سوف يكون اختلاف. وهذا الاختلاف، في نظرة الكتاب، يبدأ مع الجدَّين: عيسو ويعقوب.

عيسو هو البكر، ومع ذلك استخفَّ بالبكوريَّة فباعها لقاء "طبيخ من عدس" قال سفر التكوين: "فأعطى يعقوب عيسو خبزًا وطبيخًا من العدس، فأكل وشرب وقام ومضى" (25: 34). ما كان عيسو يدري ماذا يفعل، وسوف يعرف فيما بعد الخسارة التي خسرها. باع البكوريَّة، وهذا خطأ كبير. ثمَّ حلف، وهذا "صكّ" وقَّع عليه عيسو أمام الله.

ولمّا نال يعقوب البركة، أراد عيسو أن ينال هو أيضًا بركة، فقال له أبوه: "جاء أخوك بمكرٍ وأخذ بركتك" (تك 27: 35). وقيل عنه إنَّه "رفع صوته وبكى" (آ38). ولكن ماذا ينفع البكاء. ترك بركة البكوريَّة، تخلّى عنها، باعها، وها هو يتعجَّب أن لا يكون أبوه ترك له بركة. أعطيَت له النعمة فرذلها، بل استخفَّ بها. وحين خسر كلَّ شيء ندم ولكن ماذا تنفع الندامة، شابه يهوذا الذي أعطي له أن يُميِّز ويكون في عداد الاثني عشر. ولكنَّه باع معلِّمه فخسر كلَّ شيء. صار رفيق الشيطان الذي دخل فيه (لو 22: 3). ولمّا ندم وردَّ الفضَّة إلى الأحبار، تنصَّلوا: "ما لنا ولهذا الأمر؟" (مت 26: 4). وما قيل عن عيسو يُقال عن شعب إسرائيل، كما يقول بولس الرسول في كلامه عن حرِّيَّة الله الذي "أعلن" بفم النبيّ ملاخي (1: 2-3): "أحببتُ يعقوب وأبغضت عيسو" (رو 9: 13). أي فضَّلتُ يعقوب على عيسو. نال النعمة وتمسَّك بها، أمّا عيسو فتخلّى عن امتياز ناله. لهذا قالت فيه الرسالة إلى العبرانيّين، وهي تنبِّه المؤمنين في القرن الأوَّل المسيحيّ، كما تنبِّهنا نحن الذين وصلنا إلى نهاية الأزمنة: "وانتبهوا خشية أن يُحرَم أحدٌ نعمة الله، وخشية أن يَنبت أصلٌ مرٌّ يحدث القلق ويُفسد جماعة كثيرة، فلا يكن فيكم زانٍ ولا مدنِّس مثل عيسو الذي باع بكوريَّته بأكلة واحدة. وتعلمون أنَّه، لمّا أراد بعد ذلك أن ينال البركة، رُذل ولم يجد سبيلاً إلى التوبة مع أنَّه طلبها باكيًا" (عب 12: 15-17). هو زانٍ أي خائن للعهد ولعطايا الربّ. وسوف يظهر زناه حين يتزوَّج امرأة من اللواتي اشتهرن بممارسات لاأخلاقيَّة بالقرب من المعابد. وسوف تقول فيه رفقة لإسحاق: "سئمتُ حياتي من امرأتَي عيسو الحثِّيَّتين" (تك 27: 46). وهكذا تزوَّج عيسو مرَّة أولى "يهوديت بنت بيري الحثّي" (تك 26: 34). تمرمر إسحاق. ومع ذلك عاد عيسو فتزوَّج "بسمة بنت إيلون الحثّيّ". وإذ رأى أنَّ أباه بارك يعقوب وأوصاه أن "لا يتزوَّج بامرأة كنعان" (تك 28: 6)، أراد أن يحطِّم إرادة أبيه فمضى إلى بنات كنعان الشرّيرات (آ8) "وأخذ محلَّة أخت نبايوت" (آ9). أهكذا يعامل الأولاد آباءهم؟ ولكن الحمد لله، سوف يكون عيسو بجانب يعقوب في دفن أبيهما إسحاق. قال الكتاب: "وفاضت روح إسحاق ومات وانضمَّ إلى آبائه شيخًا شبع من الحياة، ودفنه عيسو ويعقوب ابناه" (تك 35: 29).

عيسو هو "زانٍ". وهو أيضًا "مدنِّس". ماذا دنَّس؟ بكوريَّته التي هي نعمة من الربّ. وكما يقول: النعمة تأتي مرَّة أولى ولا تأتي مرَّة ثانية. كما يقول نشيد الأناشيد: مرَّ الحبيب على حبيبته، وإذ لم تفتح له، مضى وراح. وقدَّمت الأعذار الواهية. وكذا فعل عيسو. وإذ رأى نفسه خسر البركة أطلق نار العداء على أخيه. قال سفر التكوين: "وحقد عيسو على يعقوب... وقال في نفسه: اقتربت أيّام الحداد على أبي فأقتل يعقوب أخي" (27: 41). ولو لم يهرب يعقوب بعد أن نصحته أمُّه، لكان عيسو قتله. وسوف تقول رفقة لابنها: "فإذا هدأ غضبُ أخيك ونسيَ ما فعلتَ به" (آ45). ولكنَّ الأيّام تطول وتطول قبل أن يلتقي الأخوان ويتصالحا.

  1. وتصالح الأخوان

حين قال الكتاب عن يعقوب إنَّه "تامّ" و"كامل" ما نظر إليه في بداية حياته بل في نهايتها. مسيرة طويلة سارها مع الربّ في كلِّ مرَّة ينتقل من بلد إلى بلد. مضى من فلسطين باتِّجاه العراق، إلى حاران، وانتظر الأخطار العديدة، فإذا الربُّ حاضر ينتظره ليسير معه على ما يقول المزمور: لا أتركك ولا أرخي بك الأيدي.

أوَّلاً باركه إسحاق وأعلمه بإرادته: لا تفعل مثل أخيك عيسو. "لا تأخذ امرأة من بنات كنعان" (تك 28: 1). فأطاع والده كما سبق له وأطاع والدته. أما قالت الوصيَّة: أكرم أباك وأمَّك فيطول عمرك؟ والأبناء أين يجدون النصح إلاَّ لدى والديهم. فابن سيراخ يقول لهم: "يا أبنائي، اسمعوا أقوال أبيكم، اعملوا بها فتخلصوا. فالربُّ يمنح الأب سلطة على أولاده، ويثبِّت حقَّ الأمِّ على البنين. من أكرم أباه كفَّر عن خطاياه، ومن أكرم أمَّه فهو كجامع الكنوز. من أكرم أباه فرح بأولاده، وحين يصلّي يستجيب الربُّ له" (سي 3: 1-5).

طلب إسحاق من يعقوب: "قم، اذهب شمالاً إلى سهل آرام، إلى بيت بتوئيل أبي أمِّك، وتزوَّج بامرأة من هناك، من بنات لابان أخي أمِّك، فيباركك الله القدير ويُنميك ويُكثرك وتكون عدَّة شعوب" (تك 28: 2-3).

وخرج يعقوب من بئر سبع، في الجنوب، متوجِّهًا إلى حاران. من يكون رفيقه؟ الله. "حلم أنَّه رأى سلَّمًا منصوبة على الأرض، رأسُها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها. وكان الله واقفًا على السلم" (آ12-13). هو يشرف على طريق من اختاره فتجاوب مع هذا الاختيار. قال له: "وها أنا معك وأحفظك أينما اتَّجهت" وسأردُّك إلى هذه الأرض، فلا أتخلّى عنك حتّى أفيَ لك بكلِّ ما وعدتك" (آ15). ذاك ما فهمه يعقوب حين أنهى حياته في حاران. أحسَّ أنَّ الربَّ أمسكه بيده كما الأمّ (أو: الأب) تمسك طفها بيدها. ومنذ الدباية، أحسَّ يعقوب بقدرة الله: وحده دحرج الحجر عن فم البئر (تك 29: 10) والتقى بمن تكون امرأته.

وفي العودة من حاران، كان ليعقوب لقاء آخر مع الربّ. والقويّ الذي تغلَّب على أخاه وأخذ منه البكوريَّة والبركة. كما تغلَّب على خاله لابان وعاد بهذا القطيع الكبير ترافقه أسرة كبيرة جدًّا. أتُرى هذا القويّ أقوى من الله؟ هنا تحدَّث الكتاب بلغة رمزيَّة عن "صراع يعقوب مع الله". بدا الله في صورة "رجل" تصارع مع يعقوب حتّى الفجر (تك 32: 25). هذا الرجل لا يتراجع بسهولة. اعتاد أن يتصرَّف بهذه الطريقة، وسوف يواصل. وفي النهاية ظنَّ أنَّه تغلَّب على الله. كم كان مخطئًا! "ضرب حقَّ وركه فانخلع" (آ26). وكانت النتيجة أنَّ يعقوب صار أعرج (آ32). أين هذه الرجولة؟ راح قسمٌ كبير منها.

من هنا تبدَّلت حياة يعقوب. أوَّلاً، ما قرَّر بنفسه ما يجب أن يعمل، بل "أرسل فدعا راحيل وليئة" (تك 31: 4). واستمع إلى صوت الله. فقيل له: "اعمل بكلِّ ما قاله الله لك" (آ16).

دبَّ الخلاف بينه وبين خاله، فهذا يجب أن لا يكون. لهذا قطع الرجلان عهدًا مع حجارة تحدِّد أرض كلِّ واحد. دعاها لابان في لغته، اللغة الأراميَّة: يجر سهدوتا: رجمة الشهادة. ويقابل هذا في العبريَّة: جل جاد. كلُّ واحد احتُرم في أرضه، في شخصه، في لغته. عندئذٍ لا يعود مكان للخصومة، وسوف نرى الوضع عينه في العلاقة بين عيسو ويعقوب حين يلتقيان بعد عشرين سنة من الفراق، واحد في جنوب فلسطين والآخر في شمال العراق.

ما الذي كان سبب الخلاف بين الأخوين؟ الكبرياء. فيما قال ابن سيراخ: "لا تنتقمْ على أحد إذا أساء، وفي كبرياء أبدًا لا تتصرَّف. الكبرياء مكروهة عند الربِّ والناس، وكذلك ارتكاب الظلم" (سي 10: 6-7). ويواصل هذا الحكيم كلامه: "مصدر الكبرياء الابتعاد عن الله... فالكبرياء مصدرها الخطيئة، والمتمسِّك بها يفيض رجسًا" (آ12-13). هكذا بدا يعقوب حين انتصر على أخيه مرَّة أولى فاشترى حقَّ البكوريَّة بأكلة من عدس، ومرَّة ثانية حين سبقه على البركة من عند أبيه. وجاء من يقول له: شعب يسود شعبًا: فيهوذا يسود أدوم. وكبير يستعبده صغير: يعقوب الصغير يستعبد عيسو الكبير ويسود عليه (تك 25: 23).. وسمع يعقوب في مباركة أبيه: "تخدمك الشعوب وتسجد لك الأمم، سيِّدًا تكون لإخوتك وبنو أمِّك يسجدون لك" (تك 27: 29). وبدا يعقوب وكأنَّه يقول: "أنا هنا، فمن يقف قبالتي؟ ولكن ماذا فعلت به الكبرياء والخداع وحبّ السيادة؟ أُجبر على الهرب بعيدًا عن أمِّه، ولمّا عاد، كانت قد ماتت. فوجب عليه أن يعيش التواضع، أن يتنازل أمام أخيه ويسمع كلام الحكيم:

"كن وديعًا يا ابني في كلِّ أعمالك فيحبُّك الذين يرتضيهم الربّ. تواضع كلَّما ازددتَ عظمة، فتنال حظوة عند الربّ" (سي 3: 17-18). بدأ يعقوب واتَّضع أمام يد الله القدير (يع 4: 10). وماذا كانت النتيجة؟ رفعه الربّ وهو الذي قال: "من اتَّضع ارتفع ومن ارتفع اتَّضع. وعلَّمنا بولس الرسول أن لا "نفعل شيئًا بدافع المنافسة أو العجب بل يتواضع كلُّ واحد ويعدُّ غيره أفضل منه، وأن لا ينظر إلى منفعته بل إلى منفعة الآخرين" (فل 2: 3-4).

اتَّضع يعقوب أمام أخيه. هو لا يستطيع بعدُ أن يتشامخ. فالخوف فرض عليه موقفًا آخر. قال النصُّ: "سجد إلى الأرض سبع مرّات حتّى اقترب من أخيه" (تك 33: 3). هذه الحركة كانت كافية لأن تعيد الأمور إلى نصابها. نسيَ عيسو الماضي كلَّه. "فأسرع إلى لقاء أخيه وعانقه وألقى بنفسه على عنقه وقبَّله، وبكيا" (آ4). وكانت المصالحة التامَّة. قدَّم يعقوب الهديَّة فقبلها عيسو بعد إلحاح (آ11). وأراد أن يسير عيسو مع يعقوب ليحمي له القطيع أو يترك له بعض الرجال، شكر يعقوب أخاه، وقال: "كفاني أن أنال رضاك، يا سيِّدي" (آ15). عاد عيسو إلى بلاده، إلى سعير. أمّا يعقوب فمضى إلى سكوت، شرقيّ نهر الأردنّ.

الخاتمة

تحدَّثت الأخبار القديمة عن موضوع الأخوين اللذين يكونان عدوَّين. قايين هو الأوَّل والبكر. وهابيل لا يشكِّل خطرًا، ومع ذلك قتله ثمَّ انطلق هاربًا من الانتقام الذي كان مفروضًا بين القبائل. قال عن نفسه: "طريدًا شريدًا صرتُ في الأرض. وكلُّ من وجدني يقتلني" (تك 4: 14). ورومولوس، مؤسِّس رومة، رضع مع أخيه حليب ذئبة، وما عتَّم أن أبعد أخاه ريموس ليكون وحده السيِّد وأوَّل ملوك رومة الذي ألِّه في شخص كيرينيوس، إله الحرب. وكان إتيوكلي وبولينيس ابني أوديب ملك ثيبة في اليونان. اتَّفقا أن يملك بعد الوالد كلُّ واحد بدوره. بدأ أتيوكلي ورفض أن يترك المكان لأخيه بولينيس. فتبارزا، ومزَّق الواحد الآخر، وفي النهاية مات الواحد بجانب الآخر. وما نقول عن الأشحاص نقوله عن الجماعات والقبائل والبلدان. لماذا العداوة؟ فالمسيح "قضى على العداوة بصليبه" (أف 8: 16) كان الحاجز فأزاله المسيح وكان هو سلام البشريَّة. اختلف عيسو ويعقوب، وفي النهاية تصالحا. والويل لكلِّ واحد منّا إن "تحدَّى" الله وما يرسل لنا من إلهامات. وما أجملنا نسمع صوت المزمور: "ما ألذَّ وما أطيب أن يكون الإخوة معًا".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM