قايين وهابيل

قايين وهابيل

الخوري بولس الفغالي

في القرن السادس أو القرن الخامس ق. م.، تطلَّع الكاتب الملهم إلى المجتمع الذي يعدُّ عشرات الملايين، فأوجزه في شخصين اثنين. قايين صاحب المقتنى وابن الريف والمدينة، وهابين راعي الغنم الذي يعيش تحت الخيام. هو ضعيف جدًّا بحيث التقى اسمه باللهب والبخار الذي يمضي ولا يعود. أمّا قايين فارتبط اسمه بالحديد والسلاح الحديديّ الآتي من الغرب، بدليل ما نعرف عن نسله: "توبال قايين، أوَّل من اشتغل بصناعة النحاس والحديد" (تك 4: 32).

نترك الآن المعنى الرمزيّ حيث قايين يدلُّ على أهل المدن وهابيل على عالم الرعاة، ونتوقَّف عند شخص قايين من خلال صفات نكتشفها عند هذا الشخص أو ذلك في الكتاب المقدَّس.

  1. قايين هو البكر

نقرأ في سفر التكوين: "وعرف آدم امرأته حوّاء فحملت وولدَت قايين. فقالت رزقني الربُّ ابنًا" (تك 4: 1). قايين هو الأوَّل. أمّا هابيل فهو تابع له. لهذا يواصل الكاتب: "وعادت فولدت أخاه هابيل" (آ2). هذا يعني أنَّ هابيل يستند إلى قايين في الحياة اليوميَّة، وينتظر منه الحماية.

فالبكر في البيت له موقع مميَّز. هو الباكورة. قال فيه يعقوب حين بارك أبناءه الاثني عشر: "رأوبين أنت بكري، قوَّتي وباكورة رجولتي (تك 49: 3). مع البكر يحسُّ المرء أنَّه رجل ويتمتَّع بالرجوليَّة. لهذا يفتخر الشابُّ بأنَّه البكر، وما زال الناس إلى أيّامنا يعطون البكر بعض "الصفات الشفائيَّة". فإن "فشخ" فوق "مرض خاصّ" شفاه. وفي أيِّ حال، عالمنا الشرقيّ تُدعى الأمُّ باسم ابنها البكر، وكذلك الأب: فلان أبو... فلانة أمّ... وهكذا تحدَّث إنجيل يوحنّا عن أمِّ يسوع (يو 2: 1، 3).

أبوه حيّ فيكون له المقام الأوَّل بين إخوته. ويموت أبوه فيخلفه على رأس العائلة. وتكون له حصَّتان من الميراث. جاء هذا الكلام في فتوى بالنسبة إلى المرأة المحبوبة (مثل راحيل مثلاً) والمرأة المكروهة (مثل ليئة مثلاً بالنسبة إلى يعقوب). قال المشترع: "إذا كانت لرجل زوجتان، إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة، فولدت له كلتاهما بنين وكان الابن البكر للمرأة المكروهة، فيوم يُورث بنيه ما يملكه، لا يحقُّ له أن يعطي حقّ البكوريَّة لابن المحبوبة دون ابن المكروهة البكر. بل يُقرُّ بابن المكروهة بكرًا فيعطيه سهمين من جميع ما يملكه، لأنَّه هو أوَّل بنيه وله حقُّ البكوريَّة" (تث 21: 15-17).

البكر هو البكر، أيًّا كانت أمُّه. وكذا كان قايين. وإن كانت له حقوق، فعليه واجبات. به ينتقل الإيمان من الأجداد إلى الآباء، ومن الآباء إلى البنين. ذاك كان عمل أبرام (أو: إبراهيم) ابن تارح (تك 11: 27). فيه قال الربّ: "أنا اخترتُه ليوصي بنيه وأهل بيته بأن يسلكوا في طرقي ويعملوا بالعدل والإنصاف" (تك 18: 19).

هل قام قايين بواجبه في هذا المجال؟ لا، كما يقول الكتاب المقدَّس. فتقدمته لم تلقَ رضى لدى الربّ، مع أنَّه وجب أن تكون المثال لذبيحة هابيل، لذبائح إخوته. قال الكتاب: "ومرَّت الأيّام فقدَّم قايين من ثمر الأرض تقدمة للربّ، وقدَّم هابيل أيضًا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الربُّ برضى إلى هابيل وتقدمته، أمّا إلى قايين فما نظر برضى" (تك 4: 3-5أ).

كيف عرف قايين أنَّ الله لم ينظر بعين الرضى إلى تقدمته؟ لأنَّ الجفاف حلَّ بالأرض، وكانت الغلال ضعيفة إن لم نقُل معدومة. أمّا قطيع غنم هابيل فتكاثر وتكاثر، على ما حصل ليعقوب حين كان في خدمة خاله لابان (تك 30: 25ي). فالراضي الربَّ يجد بركة لدى الربِّ له وللذين حوله. هكذا كان الوضع بالنسبة إلى يوسف. عند فوطيفار، "رأى سيِّدُه أنَّ الربَّ معه وينجحه في كلِّ ما تعمل يداه" (تك 39: 3). وفي السجن "كان الربُّ مع يوسف فأمدَّه برحمته" (آ21). وأخيرًا حمل الخبر إلى مصر كلِّها. تلك هي البركة التي حصل عليها هابيل فحسده قايين وبالتالي استقال من واجباته في نقل الإيمان، بل تجاوز الوصايا في ثورة على الله.

هنا يُورد ترجوم سفر التكوين الحوار التالي بين الأخ وأخيه:

-       أجاب قايين وقال لهابيل: "أرى أنَّ العالم لم يُخلق برحمة (أو: بمحبَّة)، وأنَّه لا يدبَّر حسب الأعمال الصالحة، وأنَّ في الدينونة محاباة للوجوه. لماذا قُبل قربانك برضى وقرباني لم يُقبَل برضى؟"

-       فأجاب هابيل قايين قائلاً: "أمّا أنا فأرى أنَّ العالم خُلق برحمة، وأنَّه يُدبَّر حسب ثمار الأعمال الصالحة. ولأنَّ أعمالي كانت أفضل من أعمالك، قُبل قرباني أنا برضى وما قُبل قربانك الخاصّ برضى".

-       فأجاب قايين وقال لهابيل: "لا دينونة ولا ديّان ولا عالم آخر، ليس من يعطي الأجر للأبرار والعقاب للأشرار".

-       فأجاب هابيل قايين قائلاً: "هناك دينونة وديّان وعالم آخر. هناك من يعطي الأجر للأبرار والعقاب للأشرار في العالم الآتي."

  1. الذي استقال

ماذا وجب على قايين أن يفعل؟ أن يرضي الله بتقدمة يقرِّبها. فالتقدمة تعبِّر عمّا في القلب، والعمل الخارجيّ الذي لا تحرِّكه العاطفة الداخليَّة يبقى بلا ثمر. ثمَّ أيُّ نوع من التقدمة قرَّب قايين؟

قال النبيّ ملاخي: "إذا قرَّبتم الأعمى (من القطيع) أو الأعرج أو السقيم ذبيحةً لي، أفلا يكون ذلك شرًّا؟ إن قرَّبتموه لحاكمكم أفيرضى عنكم أو يرفع شأنكم؟" (ملا 1: 8). هل قدَّم قايين أفضل ما عنده كما فعل هابيل؟ "قدَّم الأبكار والسمان" (تك 4: 4). هو ما قدَّم خروفًا من الخراف. بل الباكورة والرأس، وهذا أفضل البواكير: "واحملوا أوائل بواكير أرضكم إلى بيت الربِّ إلهكم" (خر 23: 19). فتقدمة الأبكار والبواكير اعتراف بأنَّ للربِّ السلطان المطلق: هو سيِّد الأرض، وهو ينبوع الخصب والشحم في التقدمة مهم لأنَّه يُحرق في الذبيحة، أي ذبيحة، فيترفع دخانُه إلى العلاء. قيل لبني هارون: "برتِّبون فوق الحطب قطع اللحم مع الرأس والشحم" (لا 1: 8).

هكذا فعل هابيل حين قدَّم من قطيعه. هل فعل قايين مثله، وما قيل عنه إنَّه قدَّم البواكير، على ما طلبت الشريعة: "وعيِّدوا عيد حصار بواكير غلاّتكم التي تزرعونها في الحقل، وعيد جميع غلاّتكم من الحقل عند نهاية السنة" (خر 23: 16). أتُرى يستطيع الله أن يقول له ما قال للشعب العبرانيّ بعد العودة من المنفى: "كيف لكم أن تسكنوا في بيوتكم المسقَّفة فيما بيتُ الربِّ هذا خرب"؟ (حج 1: 4).

وأيُّ تقدمة يقبل الله من شخص اسودَّ قلبه وما أحبَّ أخاه وقريبه؟ ما يضيء على هذه الفكرة قول الربِّ ليسوع في العظة على الجبل: "إذا كنتَ تقدِّم قربانك إلى المذبح وتذكَّرت هناك أنَّ لأخيك شيئًا عليك، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أوَّلاً وصالح أخاك، ثمَّ تعالَ وقدِّم قربانك" (مت 5: 23-24).

ما نظر قايين إلى الله، بل إلى أخيه. نيَّة سيِّئة، أفكار البغض والقتل. يا ليته فرح لفرح أخيه، يا ليته تواضع ففضَّل أخاه عليه (فل 2: 3). يا ليته سمع كلام الرسول: "أحبُّوا بعضكم بعضًا كإخوة، مفضِّلين بعضكم على بعض بالكرامة" (رو 12: 10). ولكن لا. لهذا لا نعجب أنَّ الله ما رضيَ عنه، ولا قبل تقدمته. بل هو شعر في قلبه أنَّ الله لم يقبلها. فشابه ذلك الفرّيسيّ الذي نظر من عليائه إلى العشّار الذي يصلّي بقربه. فالعشّار يرى نفسه خاطئًا فاكتفى بأن يقول: "ارحمني يا ربّ أنا الخاطئ" (لو 18: 13). أمّا الفرّيسيّ فاعتبر نفسه بارًّا وما يقوم به من أعمال تقويَّة (من صوم ودفع عشور) هي هديَّة إلى الربِّ كما الكبير يهدي الصغير. لا شكّ، قال الفرّيسيّ، في أنَّ الله يرضى عنّي لا عن هذا "العشّار" (آ11). وقايين هو البكر. يفضِّله أبوه مهما كان وضعه، وعلى الله أن يفضِّله.

نسيَ قايين أنَّ اختيار الله يتطلَّب جوابًا من عند المومن. فيبدو والحال هذه أنَّه استقال من موقعه كالبكر. فشابه عيسو، شقيق يعقوب، الذي باع موقعه كالبكر ببعض الطعام. يروي الكتاب عنه أنَّه "عاد من الحقل وهو خائر من الجوع. قال ليعقوب: "أطعمني من هذا الأدام لأنّي خائر من الجوع"، لذلك قيل له أدوم. فقال له يعقوب: "بعني بكوريَّتك". فأجاب عيسو: "أنا صائر إلى الموت، فما لي والبكوريَّة". فقال يعقوب: "احلف لي اليوم". فحلف له وباع بكوريَّته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزًا وطبيخًا من العدس، فأكل وشرب وقام ومضى. واستخفَّ عيسو بالبكوريَّة" (تك 26: 29-34). لهذا كان الحكم عليه قاسيًا، فصار نموذج الخاطئ الذي يستخفُّ بمواهب الله. "واحرصوا... أن لا يكون أحد فيكم زانيًا أو سفيهًا مثل عيسو الذي باع بكوريَّته بأكلة واحدة. وتعلمون أنَّه لمّا أراد بعد ذلك أن يرث البركة خاب فما وجد مجالاً للتوبة، مع أنَّه طلب باكيًا" (عب 11: 16-17).

في هذا الإطار نفهم كلام النبيّ ملاخي (1: 2-3) الذي ردَّده بولس الرسول في كلامه إلى كنيسة رومة: "أحببتُ يعقوب وأبغضتُ عيسو". أي فضَّلت يعقوب على عيسو. اخترتُ يعقوب وتركتُ عيسو مع أنَّه كان البكر. هذا لا يعني أنَّ الله يرفض "البكر" أو أيَّ شخص آخر. ولكنَّ مشروعه يتطلَّب الطاعة لمشيئة الربّ. ذاك ما قال الربُّ لإبراهيم بالنسبة إلى إسماعيل. فإسماعيل هو ابن إبراهيم (تك 21: 11) فماذا يصير به؟ فجاء صوت الربّ: "وابن الجارية أيضًا أجعله أمَّة لأنَّه من صلبك" (آ13).

ذاك كان قايين. تخلّى عن البكوريَّة في سلوكه اليوميّ، بانتظار أن يتوضَّح حسدُه وبغضه، فيصلان به إلى القتل. قيل عن شاول، أوَّل ملك على القبائل العبرانيَّة، إنَّ الله اختاره لأنَّه كان شخصًا مميَّزًا: "وقف بين الشعب فزادهم طولاً من كتفه فما فوق" (1 صم 10: 23). حينئذٍ قال لهم صموئيل النبيّ: "أرأيتم أنَّ الذي اختاره الربُّ لا مثيل له فيكم جميعًا؟" (آ24). ومع ذلك "تبدَّل" اختيار الربّ، لا بسبب الربّ، بل بسبب شاول: رفض أن يسمع لله، فاستمع إلى صوت الجيش والشعب. قال الربُّ لصموئيل: "ندمتُ على إقامتي شاول ملكًا، لأنَّه مال عنّي ولم يسمع لكلامي" (1 صم 15: 10). وهكذا "استقال" شاول قبل أن "يقيله" الله. اعتبر أنَّه السيِّد والآمر ونسيَ الطاعة للربّ.

مثله كان قايين. ما سمع لصوت الربّ ينبِّهه في أعماق ضميره. رآه الله "غاضبًا" فحاول أن يأخذه بالحلم، أن يعيده إلى صوابه، أن يفهمه كيف يجب أن يتصرَّف. رفض. كان من المفروض فيه أن يفرح للقاء الربّ، أن يستنير وجهه والربُّ ينظر إليه. ولكن لا. بقي عابسًا. فضَّل النور على الظلمة بعد أن ترك الشرَّ يعمل عمله في أعماقه. بدا الله هنا مثل والد الابن الضالّ. رأى ابنه يرفض الدخول إلى دار الوليمة، فتوسَّل إليه. قال لوقا عن الابن الأكبر: "فغضب ورفض أن يدخل. فخرج إليه أبوه يرجو منه أن يدخل" (لو 15: 28).

غضب عند الابن الأكبر، وغضب عند قايين. والغضب يعمي القلب فلا يعود الإنسان يعرف كيف يتصرَّف. أحسَّ قايين أنَّ الله عدوَّه، فأخذ جانب أخيه. فضَّله عليه مع أنَّه هو البكر. والأخ الأكبر راح يقول لأبيه: "خدمتُك كلَّ هذه السنين وما عصيتُ لك أمرًا، فما أعطيتني جديًا لأتنعَّم به مع أصحابي" (آ29). وهكذا سار الأب مديونًا لابنه، والسيِّد مديونًا لعبده. هذا أمرٌ لا يُطاق: كيف فضَّل أخي الأصغر عليّ، وسلوكه كان كما يعلم الجميع. ولعب الحسد لعبته: "ولكن لمّا رجع ابنك (لم يعُدْ أخي) هذا (كم الاحتقار) بعدما أكل مالك مع البغايا (سواء في الزنى أو في عبادة الأوثان)، ذبحت العجل المسمَّن" (آ30).

انتبه يا ابني، قال الأب المحبُّ لابنه الأكبر. وقال الربُّ لقايين: انتبه يا قايين. "الخطيئة رابضة بالباب" (تك 4: 7)، مثل أسد يستعدُّ للوثوب عليك (1 بط 5: 8). لا مجال للسماع. "حسِّن أعمالك وأنا أرفع شأنك". لا مجال لسماع صوت الله، بل صوت إبليس. هكذا فعلت حواء حين أصغت إلى الحيَّة، وهكذا يفعل قايين. الخطيئة تدعوه وهو يلبّي دعوتها: هي تشتاق إليه، تتلهَّف، كما الموت يتلهَّف لكي يأخذ الأحياء. ولكن هل هذا "قدر" مفروض على قايين وهو لا يقدر أن يُفلت منه؟ كلاّ. فالربُّ يقول: "عليك أن تسود عليها" (تك 4: 7). أجل، باستطاعتك أن تنتصر وتكون مقبولاً مثل هابيل أخيك. بل ترك قايين الخطيئة تسود عليه. وهي تسود على كلِّ واحد منّا إن هو استمع إلى نزواته ومنفعته، لأنَّ من يفعل الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة (يو 8: 34).

  1. فقتل أخاه

الحسد طريق تقود إلى القتل كما يقول المثل المعروف: "الحسود لا يسود ولا يموت إلاَّ وهو مكمود". فمن كمد "تغيَّر لونه" من الحزن والغمّ الشديد. وحين يتغيَّر لونه يتغيَّر قلبه وتتحوَّل وجهة حياته.

قال سفر أيّوب: "الغبيّ يقتله الغيظ، والأحمق يميته الحسد" (أي 5: 2). وقال سفر الأمثال: "القلب الصالح حياة الجسد، والحسد نخرٌ للعظام" (أم 14: 30). وفي موضع آخر: "الغيظ قاسٍ والغضب غامر، والحسد من يقف في وجهه" (أم 27: 4). تلك كانت عاطفة قايين حين رأى الربَّ راضيًا عن أخيه. ربَّما كلَّمه والداه أو أحد أصحابه! وفي أيِّ حال كلَّمه الربُّ في أعماق قلبه. هنا بدأ الحسد عنه مثل موج غامر لا شيء يصدُّه.

وراحت الأسفار الحكميَّة تنبِّه الإنسان: "الحسد والغضب يقصِّران العمر، والغمُّ يجلب الشيخوخة قبل الأوان" (سي 30: 24). وما يعارض هذه الحالة هو "القلب الفرح" (آ25). ويصوِّر لنا ابن سيراخ الإنسان العائش في حالة قايين: "فحياته كلُّها غضب وحسد واضطراب وكراهية وخصام وخوف من الموت. وحتّى ليلاً، وقت الراحة في الفراش، يضطرب عقله. وهكذا ما من راحة" (سي 40: 5-6).

يروي الكتاب كيف أنَّ راحيل حسدت أختها ليئة التي ولدت رأوبين ثمَّ شمعون ثمَّ لاوي، ثمَّ يهوذا. أمّا راحيل فلبثت عاقرًا (تك 29: 31). هي المحبوبة لدى يعقوب، فلماذا لا يحبُّها الله ويعطيها ثمرة البطن؟ لهذا "لما رأت راحيل أنَّها لم تلد ليعقوب حسدت أختها وقالت ليعقوب: "أعطني ولدًا وإلاَّ أموت" (تك 30: 1). ربَّما تموت من الحزن والغمّ. ربَّما تقتل نفسها. ولماذا لا تحاول أن تقتل أختها فنتشبَّه بقايين الذي دُعيَ "القاتل" في التقليد اللاحق. قال يوحنّا في رسالته الأولى: "فالوصيَّة التي سمعتموها من البدء هي أن نحبَّ بعضنا بعضًا. لا أن نكون مثل قايين الذي كان من الشرّير فقتل أخاه. ولماذا قتله؟ لأنَّ أعماله كان شرّيرة وأعمال أخيه كانت صالحة" (1 يو 3: 11-12).

ماذا أجاب يعقوب راحيل؟ "هل أنا مكان الله؟" أي اتركي الأمر للربّ، وابتعدي عن الحسد الذي يضع الخلاف والتباغض. وكذلك حسد هارون وأختُه مريم موسى. "أترى الربّ كلَّمه وحده؟ أمّا كلَّمنا نحن أيضًا؟ ولكنَّ الحسد الكبير الذي يذكره الكتاب هو حسد إخوة يوسف: نغَّصوا حياته، أرادوا أن يقتلوه وفي النهاية باعوه بيع العبيد، وكأنَّهم يريدون أن يعارضوا مخطَّط الله بالنسبة إليه. قالوا: "تعالوا نقتله ونطرحه في بئر ونقول: "وحش شرس أكله" ونرى ماذا تنفع أحلامه" (تك 37: 20).

وإلى هنا وصل الحسد عند قايين. قال لأخيه هابيل: "هلمَّ نخرج إلى الحقل. وبينما هما في الحقل هجم قايين على هابيل أخيه وقتله" (تك 4: 8). هي الخطيئة سيطرت، ولعب الحسد لعبته. وفي هذا قال الرسول: "أخاف أن يكون بينكم خلاف وحسد وغضب ونزاع وذمّ ونميمة وكبرياء وبلبلة" (2 كو 11: 20). ذاك هو المنطق البشريّ، منطق اللحم والدم والضعف البشريّ والميل إلى الخطيئة. وتكون ثماره العداوة والشقاق والغضب والخصام والحسد" (غل 5: 20-21أ). والنتيجة كما قال الرسول: "إنَّ الذين يعملون هذه الأعمال لا يرون ملكوت الله" (آ21ب).

الحسد والغضب. فالغضب أيضًا يقود إلى القتل. لهذا قال يعقوب عن ولديه اللذين قتلا العديدين من شكيم: "ملعون غضبهما فهو شديد، وغيظهما لأنَّه قاس" (تك 49: 6). والغضب هدَّد يعقوب بعد أن حقد عليه أخوه عيسو. قالت له أمُّه: "قم اهرب إلى لابان أخي في حاران وأقم عنده أيّامًا قليلة حتّى يهدأ غضبُ أخيك. فإذا هدأ غضب أخيك ونسيَ ما فعلتَ به أرسل وآخذك من هناك" (تك 27: 43-45). والحمد لله أنَّ غضب عيسو هدأ بعد سنوات عديدة، بعد الصلاة وتقديم الهدايا: "أسرع عيسو إلى لقائه وعانقه وألقى بنفسه على عنقه وقبَّله، وبكيا" (تك 33: 4).

هذا لم يحدث بين قايين وهابيل. هذا الغضب الذي يجب أن ينطفئ قبل غياب الشمس (أف 4: 26)، ما انطفأ بل اشتعل واشتعل على الله أوَّلاً لأنَّه ليس يعادل فيفضِّل الواحد على الواحد. ثمَّ على أخيه ثانيًا، فالسريع إلى الغضب أو القليل الصبر يتصرَّف بحماقة (أم 14: 17). ويقابل هذا الكلام ما نقرأ في آ29: "البطيء عن الغضب كثير الفهم، والقليل الصبر يظهر حماقته". من هنا اللطف في التصرُّف "الجواب الرقيق يصرف الغضب، والكلمة الموجعة تثير السخط" (أم 15: 1). وكذلك العطيَّة: "العطيَّة في الخفاء تمنع الغضب والرشوة في الجيب تُخمد الغيظ" (أم 31: 14). من هنا كانت النصائح: "البطيء الغضب خير من الجبّار، ومالك نفسه ممَّن يأخذ مدينة" (أم 16: 32). من هنا أهمِّيَّة الحكمة التي توجِّه الإنسان وتعلِّمه طول البال (أم 19: 11). كما هي "تصرف الغضب" وتعرف كيف تتعامل مع الأحمق، ومع المتسلِّط لأنَّ "غيظ الملك مثل زئير الأسد" (أم 19: 12). فالويل لمن يقع بين براثنه.

ووقع هابيل بين براثن قايين. تلك كانت نتيجة الغضب والحسد. والشرّ ما توقَّف ولا كانت ندامة. بل هي الوقاحة تجاه الله. سأله الربّ: "أين هابيل أخوك؟" أجاب: "لست حارسًا لأخي" (تك 4: 9). وجب عليه أن يكون حارسًا فإذا هو قاتل. ومع ذلك فهو لا يُقتَل، لأنَّ الربَّ لا يريد الانتقام. فالانتقام يفني الجماعات المتخاصمة، وأراد أن يحافظ على حياة قايين، علَّه يعود إلى الربّ بالتوبة. فالربُّ طويل الأناة، كثير الرحمة وألف سنة في عينيه مثل يوم أمس الذي عبر.

الخاتمة

نأخذ خاتمة كلامنا من أناشيد يعقوب السروجيّ: "في هذا الوضع دخل القاتل قدَّام العدالة، وإذ سئل استعمل الكذب. سُئل فقط "أين هابيل أخوك. فأجاب الماكر بالكذب: أنا لا أعرف. لبس وجه الكذب قدَّام العدالة وفار دمه قدَّام العظمة حين سألته. صاح بسخط: ما أنا حارس هابيل، وما أراد أن يروي ما صنعَ بالحقيقة. ما كشف جرحه للطبيب ليشفيَ مرضه، ولا طلب الضماد ليساعده من يعتني به. ما توسَّل من أجل الغفران من سيِّد دينه، ولا تكلَّم بالحقيقة بجلاء قدَّام عارف الكلّ. ما ألقى نفسه أمام العظمة طالبًا، ولا حنى رأسه بألم في القتل الذي فعل. أخفى جرمه من ذاك الذي يضمِّده لئلاّ يعتني به، وما لصق الحنان العظيم على وجعه العظيم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM