تقديم
لم يكتب يسوع كلمة واحدة في حياته. عاش، عمل، علّم، فكان كل شيء فيه كلمة الله المتجسّدة. رافقه تلاميذه، رأوه بعيونهم، سمعوه بآذانهم، لمسوه بأيديهم. وبعد القيامة تأمّلوا في ذاك الذي تكلّم بسلطان لا مثل الكتبة، في ذاك الذي أحسن في ما عمل على مثال الله في الخلق، في ذاك الذي طلب منهم أن يتركوا كل شيء لكي يتبعوه. وعاشت الجماعات المسيحية التي انتشرت سريعاً في الشرق والغرب، هذه الخبرة مع الرسل الذين كانوا شهوداً له.
وتشتت الرسل، ومات بعضهم في سبيل المسيح. واختفى الشهود العيان شيئاً فشيئاً. فطلب الناس من مرقس، وطلبوا من لوقا ومتى أن يدوّنوا هذه الأشياء لكي يعرف المؤمنون الجدد قوة التعليم الذي وعظوا به.
ودوّن مرقس إنجيله بعد موت بطرس وبولس، فكانت كلماته صدى لما وعظ به هذان الرسولان في رومة، عاصمة العالم الوثني آنذاك. دوّنه من أجل كنيسة يعرفها ويعايشها، فحاول أن يجيب على تساؤلاتها. دوّنه في جو من الإضطراب والضيق، فدعا المسيحيين ليعودوا إلى جذور إيمانهم ويعرفوا ما يفرض عليهم مثل هذا الإيمان من أجل يسوع ومن أجل إنجيله. دوّنه فجمع خبرة كنيسة أورشليم حيث نبت، مع خبرة كنيسة رومة حيث نضج فكان لنا كتيِّب رأى فيه مسيحيّو فلسطين صورة عمّا عرفوه وشهدوه، ومسيحيّو رومة نوراً من أجل كنيستهم التي تحاول أن ترسم طريقها. إنطلقت من العالم اليهودي، وها هي تحاول أن "تسبي" العالم الوثني إلى المسيح.
من أجل هذه الكنيسة دوّن مرقس إنجيله فكان كتابه رفيق الواعظ والمبشر. كتاب صغير نستطيع أن نقرأه كله في ساعة واحدة. ولكن كلماته ما زالت تشغل بال الشرّاح وتملأ قلوب المؤمنين حرارة. إنجيله كان أوّل إنجيل عرفته الكنيسة. وعلى مثاله ستظهر أناجيل ثلاثة فيما بعد: متى، ولوقا، ويوحنا. كان كالقديس بولس معلّمه، فوضع الأساس، وقدّم جوهر التقليد عن حياة يسوع وأعماله وأقواله. وتبعه سائر الإنجيليين ولم يبدّلوا الشيء الكثير من التصميم الذي وضعه: من بشارة يوحنا إلى الوقت الذي فيه رُفع يسوع إلى السماء.
هذا هو الإنجيل الذي نحاول أن نفسرّه في مجموعة الدراسات البيبلية، بعد يوحنا ولوقا. الأسلوب هو هو. بعد مقدّمات تعرّفنا بهذا الإنجيل، نتوقّف عند المقطوعات الإنجيلية واحدة واحدة كما نقرأها في الليتورجيا أو نتأمّل فيها خلال حلقات المشاركة. نحن لا نشرح الفصل بكامله، بل نقسّمه إلى مقطوعات، وهكذا نسهّل العودة إليه من أجل حلقة دراسية أو سهرة إنجيلية، أو عظة ومقاسمة.
ويتميّز هذا التفسير بأننا درسنا بعض النصوص دراسة دقيقة تصل بنا إلى كل كلمة من كلمات النصّ. فكّرنا هنا بصورة خاصة بالدارسين يا معاهد اللاهوت، أو بأولئك الذين يريدون أكثر من نظرة شاملة ورعائية إلى نصوص الإنجيل، يريدون الدراسة الحرفية. ونرجو أن نكون فتحنا الطريق في هذا المضمار.
ويتميّز هذا التفسير أيضاً بمحاولات تقديم إنجيل مرقس لا من خلال نصوص متقطّعة، وكأن لا رباط بينها، بل من خلال نظرة إجمالية. قسمنا الإنجيل، أو قسمه مرقس قسمين كبيرين: يسوع هو المسيح، يسوع هو ابن الله. واكتشف العلماء ست مراحل في إنجيل مرقس. فتوسّعنا في كل مرحلة من هذه المراحل وجعلناها مدخلاً للمقطوعات التي تتألّف منها. وهكذا نستطيع إذا قرأنا المراحل، الواحدة بعد الأخرى، أن نتعرّف إلى مسيرة مرقس مع يسوع منذ عمّده يوحنا إلى وقت صعوده إلى السماء. لا شك لا أن لهذا الأسلوب حسناته وسيّئاته. أما حسناته فنجدها حين يصبح الإنجيل أمامنا صورة عن يسوع الذي عاش في زمن هيرودس وبيلاطس ولا يزال حياً اليوم في كنيسته. فلا يبقى منجماً نستخلص منه عبارة نجادل فيها، أو مقطعاً نسند به عقيدة لاهوتية أو فكرة دينية. أما سيّئات هذا الأسلوب فأهمها تكرار الأفكار والشروح داخل الكتاب الواحد. هناك أمور أخرى، قد نكون قلناها في شرح مقطوعة من المقطوعات، لا نكتفي بأن نردّدها في مقطوعة أخرى، بل أيضاً في تقديم المرحلة التي تشرف على عدة مقطوعات في الإنجيل. ولكن يبقى هدفنا مساعدة "الباحث" في أسهل الطرق وأقصرها للإفادة من هذا التفسير في حياته الشخصية وفي عمله الرسولي