إبراهيم رجل الإيمان.

إبراهيم رجل الإيمان

عندما يتحدَّث العهد الجديد عن إبراهيم يظهر أنَّه رجل الإيمان وأبًا لجميع المؤمنين. عنه قالت الرسالة إلى العبرانيّين (11: 8ي) إنَّه بالإيمان لبّى دعوة الله وانتظر مواعيده. وتقول الرسالة إلى الرومانيّين (4: 9-11) إنَّ الله برَّر إبراهيم لإيمانه. وهو يبرِّر جميع الناس إن هم اقتدوا بإبراهيم، لأنَّ إبراهيم هو رجل الإيمان.

من هو إبراهيم

1-  شيخ من الزمن القديم.

اسمه إبراهيم (أو أبرام) يعني أبي سام، رفيع النسب. مهنته صاحب مواشي وله منها الكثير، ولهذا فهو يتنقَّل من مكان إلى آخر على حدود الأرض المزروعة يبحث عن الماء والكلاء.

أبوه اسمه تارح، وهو يرتبط بآدم عبر نوح وأخنوخ وأنوش وشيت. امرأته اسمها سارة، أي الأميرة ورفيقه في دربه هو لوط، ابن أخيه هاران. خدمه كثيرون، ورئيسهم أليعازر الدمشقيّ.

عاش هذا الشيخ مع أفراد قبيلته بجوار أور، في جنوب العراق، وانتقل معهم إلى الشمال، إلى حاران، قبل أن ينفصل عنهم وينطلق إلى أرض كنعان على تخوم شكيم وبيت إيل وحبرون وبئر سبع.

عاش هذا الشيخ في الجيل التاسع عشر ق.م. وكان ينتسب إلى "عبيرو"، وهي قبيلة من الأجراء في يوم السلم، ومن الغزاة أو المرتزقة في زمن الحرب. عبدت هذه القبيلة الإله "سين" أي القمر في معبده في أور، وسوف تقيم شعائر بعاداتها في المدن التي تقيم بجوارها، كما أنَّها أخذت بالعادات المعروفة في بلاد العراق والتي نقرأ عنها خاصَّة في قانون حمورابي.

2-  الربُ يخاطب إبراهيم ويدعوه إلى اتِّباع طريقه

قال الربُّ لأبرام: "انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك" (تك 12: 1). تحدَّث إليه في أعماق قلبه وضميره، أراه إرادته عبر الأحداث والظروف، أُغلقت عليه كلُّ الدروب فما بقي له إلاَّ أن يتوجَّه إلى الجنوب، إلى أرض كنعان. المهمّ أنَّه ترك كلَّ شيء وبطريقة تدريجيَّة، فأحسَّ في كلِّ مرَّة أنَّ قلبه يتمزَّق. أمّا الكتاب فيقول فيه: "انطلق كما قال له الربّ".

ارتبطت حياة إبراهيم بالله الذي وعده بالبركة له ولنسله. لا شكَّ في أنَّه عبد الله (إيل) كسائر الكنعانيّين، الإله القويّ والأوَّل الذي يحمي صفيَّه ويباركه، الإله العليّ (14: 19)، الإله الشديد (17: 1) وإله الآزال والعوالم (21: 33) الذي ينظر إلى البشر نظرة عطف ورحمة.

عبد إبراهيم الإله الواحد، ولكنَّه عاش صراعًا قبل أن يتحرَّر من عادات أرضه وقبيلته، ويتخلَّص من عبادات الآلهة المتعدِّدة التي تعطي الشتاء والخصب، وتمتنع عن إلحاق الأذى بمن لا يعبدها. الرجوع إلى الله أمر طويل وصعب، ولا أحد يعرف طريق الله إلى قلوب البشر، إنَّما ندرك من خلال النصوص التي بين أيدينا أنَّ إبراهيم تميَّز بعبادته لله الواحد وبأخلاقه الرفيعة في بلاد تكثر فيها الخلافات والخصومات (21: 25ي+26: 18ي) بسبب قلَّة الماء والكلأ.

3-  مواعيد الله لإبراهيم

دعا الله إبراهيم إلى أن يترك أرضه ووعده بأن يعطيه أرضًا واسعة جدًّا. قال الربُّ لأبرام وهو واقف على قمَّة الجبل: "انظر إلى الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا. إنَّ جميع الأرض التي تراها، لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" (13: 14-15). تلك هي أيضًا كلمات يسوع لرسله: "ما من أحد ترك بيتًا أو إخوة... من أجلي، إلاَّ نال في هذه الدنيا مئة ضعف من البيوت والإخوة... ونال في الآخرة الحياة الأبديَّة" (مر 10: 29-30).

دعا الله إبراهيم إلى أن يترك قبيلته وعائلة أبيه ووعده بأن يعطيه نسلاً كتراب الأرض لا يحصى (13: 15). ولكن أين هذا النسل وإبراهيم وساره طعنا في السنّ؟ أعطاه إسماعيل من الجارية هاجر، وتلك كانت عاداتهم، وأخيرًا أعطاه ابنًا من الأميرة ساره بعد أن وعده بذلك مسبقًا: "سأرجع إليك في مثل هذا الوقت من السنة المقبلة ويكون لسارة امرأته ابن".

دعا الله إبراهيم إلى أن يترك كلَّ شيء، فأعطاه كلَّ شيء يوم قام معه عهدًا ولزم نفسه بأن يكون معه. فهو كالترس يحميه من كلِّ خطر وهو الأجر والمكافأة له (15: 1). يخبره بأسراره قبل خراب سادوم (18: 17) ويقبل صلاته وشفاعته من أجل المدينة الخاطئة، ويجعل اسمه موضع بركة لجميع عشائر الأرض (12: 3).

هكذا يبدو وجه إبراهيم والصفة التي تميِّزه هي فضيلة الإيمان.

ب- ما هو الإيمان؟

1-  معنى الكلمة

أمن الإنسان الله: وثق به وأركن إليه، وأمن تعني اطمأنَّ وارتاح بوجوده معه لأنَّه لا يخون العهد الذي قطعه مع أحبّائه. نحن نؤمن بالله إيمانًا عندما نصدِّقه ونثق به لأنَّه ثابت قويٌّ لا يتزعزع، ونحن نؤمن له عندما نخضع وننقاد له فنسير على خطاه ونجعله يملك على قلبنا وأعمالنا وحياتنا.

الإيمان هو ينبوع الحياة الدينيَّة كلِّها، وهو يعبِّر عن الموقف الذي يقفه الإنسان أمام أعمال الله في التاريخ. نقول "آمين" للربّ، تمِّم مشيئتك فينا. كان إبراهيم أبًا لجميع المؤمنين (رو 4: 11)، وعلى أثره عاش آباء العهد القديم وماتوا في سبيل الإيمان (عب 11: 1ي) الذي جاء المسيح فأوصله إلى كماله.

2-  أبعاد الإيمان وأهمِّيَّته

ينظر المؤمن إلى التاريخ فيرى أنَّ الله هو من يقود الأحداث ويصل بها إلى الهدف الذي يريده. بإيماننا نكتشف تجلّي الله وحضوره الفاعل، ونتعرَّف إلى عنايته بنا وبخلاصنا. نؤمن فنتطلَّع إلى العلاء ونرتفع فوق معطيات هذا الكون لنعطيها معناها على ضوء كلمة الله، بانتظار أن نتقبَّل كلَّ شيء من يد الله. أمام الأخطار، بسلام أستلقي وأنام، فأنت وحدك يا ربّ تجعلني أقيم مطمئنًّا (مز 4: 8).

كلُّ مؤمن في إسرائيل يتلو كلَّ يوم فعل إيمانه بالله: كان أبي آراميًّا تائهًا... صرخنا إلى الربِّ فسمع الربُّ صوتنا... وأعطانا هذه الأرض" (تث 26: 5ي). بهذا الكلام يعلن المؤمن حرِّيَّة الله وقدرته، أمانته ورحمته ومحبَّته في اختياره لشعبه، في تحرير مؤمنيه من العبوديَّة، وفي القمَّة عهد معهم بالختان، تلك العلامة التي بها يعرف المؤمن أنَّه من شعب الله.

ج- إبراهيم رجل الإيمان

يقول الكتاب عن إبراهيم: "آمن بالله فحسب له ذلك برًّا" (تك 15: 6). نتوقَّف على لوحات ثلاث تدلُّنا على هذا الإيمان.

1-  اللوحة الأولى: نداء الربّ له (تك 12: 1ي)

طلب الربُّ من إبراهيم أن يترك كلَّ شيء وينطلق إلى الأرض التي سوف يدلُّه عليها فيما بعد. لم يحدِّد له المكان، بل أمره أن يسير في المجهول مستندًا إلى كلمة الله. انطلق إبراهيم، وهو لا يعرف إلى أين يذهب. لبّى دعوة الله له وخرج إلى بلد وعده الله به ميراثًا (عب 11: 8-9).

ترك إبراهيم بيته، قبل أن "يتهجَّر" فيصبح غريبًا في بلد سكّانه كثيرون، ولكنّ قربه إلى الله يكفيه، لأنَّ "خلاص الربِّ قريب من خائفيه" (مز 84: 9). سار مع الربِّ فبدَّل عاداته وتصرُّفاته: تخلّى عن عبادة الإله القمر ليعبد الإله الواحد، تخلّى عن عادات السلب والغزو وعاش مسالمًا في محيطه معطيًا لابن أخيه لوط أفضل أرض متهرِّبًا من الخصومات التي تحدث بين رعاته ورعاة الآخرين (تك 13: 7-8 + 21: 24ي).

لم يكن إيمان إبراهيم سهلاً، وطاعته لربِّه كلَّفته الكثير من الصراع. ولكنَّ الربَّ يقبل بالقليل، ولكنَّه يتطلب أيضًا الكثير لأنَّ من لم يعطَ كلَّ شيء يكون وكأنَه لم يعطَ شيئًا. تألَّم إبراهيم وتمزَّق، وربَّما أراد أن يتخلَّص من الحياة تحت أمر الله، فسار إلى مصر ليتمتَّع بخيراتها. ولكنَّ الربَّ سيردُّه إلى الأرض التي وعده بها. نشبِّه إبراهيم بالرسل الذين دعاهم يسوع إليه ليتبعوه، وسيمضي بعض الوقت قبل أن يتركوا أهلهم وسفينتهم وشباكهم ليتبعوه (مر 1: 16-20).

2-  اللوحة الثانية: وعد الربُّ إبراهيم بابن له من امرأته ساره

وعد الله إبراهيم بأرض يعطيه إيّاها، ولكنَّ هذه الأرض ملأى بالسكّان. وعده بنسل يفوق رمل البحر كثرة، ولكنَّه ذاهب إلى الموت دون أن يكون له ابن يرث اسمه. قال للربّ: "ما نفع ما تعطيني وأنا عقيم لا ولد لي، ووارثي أليعازر الدمشقيّ". ولكنَّ الله يجيبه: "بل مَن يخرج من صلبك هو يرثك" (تك 15: 2-4). وآمن إبراهيم بالله.

وانطلاقًا من إيمانه، أراد إبراهيم أن يساعد الله على تحقيق ما وعد به، قبل أن يكون له ابن من جاريته هاجر، وتمنّى على الربِّ أن يجعل إسماعيل وارثًا له (17: 18)، ولكنَّ الربَّ بيَّن له قدرته فأعطاه ابنًا في شيخوخته.

يقول الكاتب إنَّ إبراهيم ضحك متعجِّبًا كأنَّه يريد أن يقنع الله بأنَّ مثل هذا الأمر مستحيل، وضحكت ساره حين أخبر الضيوف الثلاثة أن سيكون له ابن (18: 10-14): أحقًا ألد وأنا الآن في شيخوختي؟ والجواب: أيستحيل على الربِّ أمر عجيب؟ كلاّ، إذا وُجد الإيمان، فما من شيء غير ممكن عند الله (لو 1: 37). هذا ما قاله يسوع لوالد صبيٍّ مريض: "إذا كنت قادرًا أن تؤمن فكلُّ شيء ممكن للمؤمن". أمّا إبراهيم فآمن وكان له نسل ككواكب السماء ورمل البحر عددًا فصار أبًا لأمم كثيرة لأنَّ اليهود والمسيحيّين والمسلمين يعتبرون إبراهيم أباهم في الإيمان.

3-  اللوحة الثالثة: الربُّ يطلب من إبراهيم أعزَّ شيء له (تك 22: 1ي)

تعوَّد الأقدمون (في فينيقيا مثلاً) أن يقدِّموا أبناءهم ذبائح لله. هل يكون إبراهيم أقلَّ سخاء منهم، وإلهه هو الإله الواحد القدير؟ تقدمة إبراهيم تعبِّر عن إيمانه العميق بالله. هو أعطاني ابنًا وأنا أقدِّمه له، لأنَّه إن أراد قدَّم لي غيره.

وامتحن الله إبراهيم ليعلِمه بحقيقته، فكما تختبر النار المعدن فتنقِّيه من الشوائب. بعد أن تركه ابنه إسماعيل، قال له الربّ: "خذ اسحق ابنك وحيدك الذي تحبُّه واذبحه لي على جبل موريه". ماذا يكون جواب الإيمان؟ صلاة طوال الليل وانطلاق في الصباح الباكر، مسيرة ثلاثة أيّام دون أن تتغيَّر نوايا قلبه. وعندما يهمُّ أن يذبح الفتى كانت يد الله تمسك بيده. الآن عرفت أنَّك رجل مؤمن تخاف الله.

واستعاد إبراهيم ابنه، كأنَّ الله أعطاه إيّاه مرَّة ثانية فصار ابن الإيمان مرَّتين: يوم خلق لأبوين طاعنين في السنّ، ويوم نجا من الموت فأعطيت له حياة جديدة. هو الإيمان يطلب من إبراهيم أن يتخلّى حتّى عن أعزِّ شيء إلى قلبه، أن يضحّي بابنه لأنَّه اعتقد أنَّ الله قادر أن يقيم الموتى، ولذلك عاد إليه ابنه (عب 11: 19).

د- إبراهيم والمؤمنون اليوم

1-  إبراهيم هو أبو شعب الله

هو رجل الله وخادمه وحبيبه. قال فيه ابن سيراخ (44: 19-22): "كان أبًا عظيمًا لأمم كثيرة ولم يوجد نظيره في المجد". وقالت فيه الكتب التقويَّة: صار خليل الله لأنَّه حفظ وصايا ربِّه، وما اختار أن يفعل شيئًا بحسب رأيه ومشيئته الخاصَّة. وذكرت الرسالة إلى العبرانيّين (11: 8ي) إيمانه، وانطلقت الرسالة إلى الرومانيّين (4: 1-12) لتدلَّ على أنَّ جميع الناس، أكانوا مختونين أم لا، يقتدون بإيمان إبراهيم أبينا.

2-  إبراهيم رجل الإيمان

ومعه ابتدأت مغامرة جديدة في الكون عندما بادر الله فخاطب الإنسان، وعندما أجاب الإنسان إلى نداء الله بالإيمان به والطاعة لوصاياه. مع إبراهيم يبدأ تاريخ مقدَّس سيصل إلى المسيح، وبالمسيح سيتابع مسيرته حتّى نهاية العالم، حين يجمع الله في المسيح كلَّ شيء في السماوات وفي الأرض (أف 1: 10). أهل الإيمان هم أبناء إبراهيم الحقيقيّون، أهل الإيمان مباركون مع إبراهيم المؤمن (غلا 3: 7ي) وقد وعده الله قال: "فيك يبارك جميع الأمم".

3-  دعا الربُّ إبراهيم فلبّى دعوته

آمن بكلام الربِّ فحسب له ذلك برًّا. هكذا فعل الرسل. تعال اتبعني، قال لهم يسوع، فتركوا كلَّ شيء وتبعوه. وهكذا فعل القدّيسون. سمع أنطونيوس: إن شئت أن تكون كاملاً فاذهب وبع ما تملكه، سمع مار شربل نداء الربِّ فترك بلدته وأرضه، أمَّه وإخوته... وأقاربه، ترك كلَّ شيء ليجد في المسيح كلَّ شيء وقد عرف أنَّ الذي أعطانا ابنه لن يبخل علينا بشيء بعد أن أعطانا في يسوع كلَّ شيء.

نحن كيف نسمع نداء الربِّ وكيف نلبّي هذا النداء؟ سيكون جوابنا جواب الإيمان والسخاء، ونحن نعرف أنَّنا لن نكون أكثر سخاء وجودًا من الله.

نحن المؤمنين، نحن نسل إبراهيم، لا نسله بالجسد ولكن نسله بالروح. ونكون نسله حقًّا إن تحلَّينا بإيمانه بالله وثقته به. ولكن يبقى نسل إبراهيم الحقيقيّ يسوع المسيح (غلا 3: 16) ابن داود ابن إبراهيم الذي فيه تتمُّ كلُّ مواعيد الله والذي هو موضوع كلِّ رجاء على الأرض (يو 8: 56).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM