الفصل الخامس والخمسون: دعوة الله لنا إلى وليمة الكلمة

الفصل الخامس والخمسون

دعوة الله لنا إلى وليمة الكلمة

نقرأ ف 55 من ثلاث زوايا. بالنسبة إلى إشعيا الثاني (40-55) هو الخاتمة الذي يقابل المقدِّمة في ف 40 مع تشديد على تسامي الله وفاعليَّة كلمته والاستعداد لمسيرة جديدة شبيهة بالخروج من مصر. وبالنسبة إلى ف 54، نفهم أنَّ النبيّ الذي وجَّه كلامه إلى أورشليم يتطلَّع الآن إلى المؤمنين الذين يستعدُّون للعودة إلى مدينتهم: إذا كنتم تطلبون السعادة فهذه هي طبيعة السعادة وشروطها. وبالنسبة إلى ف 55 في ذاته، فبنيتُه ترتبط بالأسلوب الاشتراعيّ مع مكانة مميَّزة لداود وتشديد على التوبة والانفتاح على رحمة الله. في هذا الإطار تتحوَّل اللعنة إلى البركة. في النهاية، يقدِّم ف 55 دعوة البشر إلى الخلاص المسيحانيّ. أربعة أقسام في هذا الفصل: التعليم طعام قويّ يمنح المؤمنين ملء الحياة (55: 1-3أ). امتداد حياتهم في خطِّ داود (آ3ب-5). كلام الله ثابت لا يخيِّب أبدًا، لهذا نثق به (آ6-1). الوعد بتحرير يصل صداه إلى أقاصي الأرض (آ12-13)

55: 1-3أ أيُّها العطاش

نتخيَّل النبيّ مثل "بائع متجوِّل" في مدينة كبيرة، ينادي على بضاعته: الماء (في بلدان قليلة المياه) والخمر واللبن. ولكنَّ المعنى أرفع من ذلك. فالعطاش يتوقون إلى الحرِّيَّة. فهم منفيّون يعملون كالعبيد في يد أسيادهم الذين أخذوهم أسرى من أرضهم. فالعطش أكثر من عطش إلى الماء: "إذا المساكين واليائسون طلبوا ماء وما من ماء، وألسنتهم جفَّت من العطش، سأستجيب لهم ولا أخذلهم" (41: 17). فالماء يدلُّ على الحياة التي يعطيها الله غزيرة (الأنهار، الينابيع) لأورشليم وهيكلها الذي منه يخرج ينبوع تصل مياهه إلى البحر الميت في الشرق وإلى البحر المتوسِّط في الغرب. والخمر واللبن هما من محاصيل "الأرض" المميَّزة، ويدلاّن على التعليم.

"ش ب ر و". بعضهم ترجم: اشتروا. ولكن من الأفضل أن نترجم: أطلبوا الحَبَّ. أطلبوا القمح. وهكذا نفهم العبارة: أطلبوا قمحًا (أو: حَبًّا) وكلوا. فالماء والقمح أساس الحياة، والخمر واللبن من أجل العيد. فعطايا الربِّ تكون وافرة جدًّا. وكلُّ هذا يُعطى مجّانًا. احتفظوا بالفضَّة في أكياسكم. هل نسيتم أنَّكم حُرِّرتم بلا ثمن؟ (52: 3). كلُّ هذا يوجِّه أنظارنا نحو الملكوت (مت 5: 6؛ 26: 26-27).

الطعام الذي يحتاجه الناس يشترونه ويدفعون ثمنه، ولكنَّه يشبعهم فترة يأتي بعدها الجوع. أمّا الطعام الذي يمنحه الله فمن أكل منه لا يجوع، وهو يُعطى مجّانًا (رج يو 6: 27، 35). والطعام الذي يستحقُّ أن نطلبه باجتهاد هو "التعليم" الذي نستمع إليه (آ2) ويتكرَّر الفعل "ش م ع" مع فعل "أ ذ ن"، أميلوا آذانكم، أنصتوا. ويوصف التعليم بأوصاف مادِّيَّة لا يمكن أن نأخذها على حرفيَّتها: الدسم (د ش ن). الطعام الطيِّب (ط و ب). ويتردَّد الفعل "أكل". إذا أردتم حياة الجسد، فالطعام هو هنا. ولكن هناك طعامًا آخر تحدَّث عنه يسوع لتلاميذه بعد لقائه بالسامريَّة: "لي طعام آكله لا تعرفونه أنتم" (يو 4: 32). فطعام الروح يعطي الحياة الأبديَّة.

55: 3ب-5 وأقطع لكم عهدًا

العهد رباط بين ملك كبير وملك صغير، تلك وجهة. وهو أيضًا علاقة بين العريس وعروسه، ورباطه المحبَّة. تلك علاقة الله بشعبه وبمدينته. كانت عهود عديدة، ومنها عهد مع موسى. أمّا هنا فيُذكر العهد مع داود. كلُّ هذه العهود نقضت، لا من قبل الله، بل من قبل الإنسان. فالله هو الأمين وعهده لا يتبدَّل. أمّا الإنسان فيبدِّل علاقته مع الربِّ حين يرتبط "بالآلهة والأصنام". أشار النبيّ هنا إلى عهد مع داود. ولكن مع المنفى بدا كأنَّ كلَّ شيء ضاع: راحت أورشليم. أُحرق الهيكل، مضى الملك والعظماء إلى السبي. فهتف المرتِّل: "أين مراحمك القديمة يا ربّ؟ حلفت لداود من أجلها بأمانة" (مز 89: 50). فالعار يلحق عبيدك اليوم، كما يلحق الملك الذي اخترته ومسحته (آ51-52).

ولكنَّ الوضع تبدَّل. وها هو الربُّ يعود إلى شعبه وإلى ملكه. لن يكون العهد "عابرًا"، موقَّتًا"، لكن "أبديًّا"، لأنَّ الله نفسه يكون كافله. فعهد الله يرتبط "بمراحمه" لا باستحقاق الإنسان. هو الأمّ (والأب) التي تعود إلى أولادها. ونعود إلى مز 89: 36-37 وكلام الربّ: "مرَّة حلفتُ بقداستي، ولا أكذب على داود: نسله يكون إلى الأبد، وعرشُه كالشمس أمامي". الصفة في إشعيا: "مؤمَّنة" (هـ ن ا م ن ي م). يمكن أن نؤمِّن، نصدِّق، نكون في أمان بأن لا تبدُّل في مواعيد الله.

وما هي هذه المواعيد الجديدة؟ هو الشاهد (ع د) لمراحم الله وعطاياه، بحسب ما قال في يوم من الأيّام: من أنا يا ربّ، وما بيتي؟ (2 صم 7: 18). ثمَّ هو "القائد" (ن ج ي د) الذي يسير وراءه الناس. قال: "جعلتني رئيسًا للأمم، وشعب لم أعرفه يتعبَّد لي. الغرباء يتذلَّلون لي، وبآذان سامعة يسمعونني" (مز 18: 44-45). وأخيرًا هو يحمل "وصيَّة" (م ص و ه) الربِّ إلى الشعوب. وكلُّ هذا عطيَّة مجّانيَّة من الربِّ الذي أحبَّ أن يكرِّم "عبده".

55: 6-11 اطلبوا الربّ

إذا كانت أورشليم (في خطِّ داود) ستشعُّ من مجد الله، فهذا يعني أنَّ العودة إلى الأرض المقدَّسة تشكِّل ظهورًا جديدًا لربِّ الأكوان. لهذا، يجب أن نستعدَّ للقائه في الصلاة والدعاء، والعودة إليه بقلبٍ صادق. لا صعوبة في البحث عن الربّ، فهو موجود هنا وقريب. يكفي أن نناديه كما الطفل أمَّه. في أيِّ حال، هو هنا وينتظر أن نناديه ليردَّ علينا سريعًا. فهو يشتاق لكي يتلقي بنا. وكيف يعرف المؤمن أنَّ الله قريب؟ لأنَّ خلاصه قريب بعد أن لاحت بشائره. فإن كان يظهر للذين لا يسألون عنه (65: 1)، فما يكون بالنسبة إلى الذين يطلبونه؟ "أيّة أمَّة لها إله قريب منها كالربِّ إلهنا؟" (تث 4: 7). أمّا المسيحيّون فالإله اتَّخذ جسدًا وسكن بينهم. فماذا ينتظرون لكي يقتربوا منه ويعرفوه؟

ثلاث محطّات للاقتراب من الربّ: نترك طريق الشرِّ، نتخلّى عن الأفكار الأثيمة، نتوب إلى الربّ (آ7). هناك طريق وطريق، ممّا يعني أن نختار بما في الاختيار من صعوبة: على مستوى العمل والسيرة، على مستوى الفكر والنوايا. كلُّ هذا يعني أن نبدِّل سلوكنا، نعود عن حياتنا الماضية فننال الغفران. أمّا السند فمراحم الربّ. وتُذكر دومًا المراحم الكثيرة. فالربُّ يفرح حين يرانا تائبين ويبتهج حين نفتح قلوبنا على غفرانه.

مرّات كثيرة هاجم الشعب طرق الربّ. فأعلن هوشع: طرق الربِّ مستقيمة (14: 10). وطلب المرتِّل "أبعدني عن طريق الكذب" (مز 119: 29). وقال: "اخترتُ طريق الحقّ وجعلتُ أمامي أحكامك" (آ30). فطرق البشر غير طرق الله، وأفكار البشر غير أفكاره. هذا ما يدفع المؤمن لكي يتطلَّع إلى الطريق التي تقود إلى الحياة. فالمسافة بين عالم الإنسان وعالم الله هائلة، كمسافة السماء عن الأرض. فهل نظنُّ بعد ذلك أنَّنا نستطيع الإحاطة بأفكار الربّ؟

فكلمة الله فاعلة حتمًا. فهي تشبه الثلج والمطر (آ10). لا يعودان إلاَّ بعد أن تُروى الأرض. وهكذا الكلمة التي يرسلها الله تنجح لا محالة. إن هو تحدَّث عن عودة المنفيّين فحديثه يتحقَّق وها هو يبدأ منذ الآن.

55: 12-13 بفرح تخرجون

ما يدلُّ على أنَّ كلمة الله فاعلة هو أنَّ المنفيّين يعودون قريبًا من بابل وهم فرحون. لا يمضون هاربين كما كان الأمر في مصر حين لاحقهم فرعون بجيشه ومركباته، بل كما في تطواف والربُّ في المقدِّمة فيعدُّ الطريق: الوادي يرتفع، الجبل ينخفض. البرِّيَّة تزهر إزهارًا، والأنهار تجري في القفر والصحاري. الله يقودكم (ت ا ب ل و ن) بيده فتأتي الطبيعة كلُّها للقائكم: الآكام تنشد، الأشجار تصفِّق. نتخيَّل جوَّ العيد. النبات المضرُّ كالشوك والقريس يزول وتحلُّ الأشجار الخضراء محلَّه: السرو والآس. فالسرو يشبه الله باخضراره الدائم (هو 14: 9)، والآس يزيِّن عيد المظالّ (نح 8: 15)، وحضوره فردوس فيه ينتظر الله أحبّاءه (زك 1: 8-11).

في الخروج الأوَّل أمَّن الله لنفسه اسمًا أبديًّا. وفي الخروج من بابل يجدِّد هذا الاسم فيرى عمله لا شعب إسرائيل وحده، بل شعوب الكون كلِّه (40: 5؛ 52: 10). ما يفعله الله هو "آية" (أ و ت) تدعو إلى الإيمان، وراية موضوعة على الجبل مثل نور يضيء على الكون.

وهكذا ينتهي كتاب التعزية (ف 40-55) كما بدأ متحدِّثًا عن خروج جديد[RK1] يبدو الخروج الأوَّل بقربه باهتًا. والمياه الحاملة الحياة تكون وافرة وتوزَّع مجّانًا للعطاش. والماضون إلى أرض الله يرونها جارية في شكل أنهار تشبه أنهار الفردوس الأربعة. فهل يطلب المؤمنون الحرِّيَّة بقيادة الربّ، أم يفضِّلون البقاء في بابل بعد أن اعتادوا على العيش فيها؟ ففي أورشليم السلام من عند الله الذي لا  يضاهيه السلام، والفرح ينتقل من البشر إلى الطبيعة، فيرى كلُّ بشر خلاص الله، بل يشارك فيه "لأنَّ الوعد لكم ولأولادكم ولجميع البعيدين"، كما قال بطرس والرسل في الخطبة بعد العنصرة (أع 2: 39). وفي النهاية، كلُّ "من يدعو باسم الربِّ يحيا" (أع 2: 22).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM