الفصل الثاني والخمسون: الربُّ يدعو مدينته

الفصل الثاني والخمسون

الربُّ يدعو مدينته

جاء ف 52 في قسمين كبيرين. الأوَّل (آ1-12) هو امتداد لما سبقه فشكَّل مع ف 51 وحدة متكاملة. في 51: 1-8، دعا الربُّ المنفيّين لكي يوجِّهوا قلوبهم إليه. وفي 51: 9-23، دعا الربُّ مدينته التي ذكَّرته بذراعه المرهوبة. أمّا في 52: 1-12، فتتوجَّه دعوة النبيّ إلى أورشليم، وآ13-15 تتبع ف 53 في كلام عن عبد الربِّ الذي يتألَّم ويتمجَّد.

52: 1-12 نداء إلى أورشليم

"استيقظي" (آ1). بهذا الكلام ينادي النبيّ مدينته. هي نائمة تستيقظ. هي ميتة تقوم من تحت الأنقاض. هكذا دُعيت دبّورة وسط الأماكن الميتة (قض 5: 12). وهكذا دعيَت أورشليم أمُّ الشعب بحيث تقف وترتدي ذراع الله القديرة. فهي مدعوَّة إلى العيد. لهذا تلبس ثيابًا تفتخر بها، بعد أن خلعت ثياب الذلِّ والحداد. هي "مدينة القدس" (هـ ق د ش)، أو المدينة المقدَّسة، التي نقّاها الربُّ من كلِّ أدناسها، وفصلها عن العالم الوثنيّ كما عن كلِّ نجاسة.

"انتفضي" (آ2). هو الجذر "ع ي ر". ونقرأ هنا: هـ ت ن ع ر ي. كأنّي بها كانت مدفونة تحت التراب. تنفض الغبار عنها، تقوم. لا قيود بعدُ في يديها. كان الرباط على عنقها، كانت مسبيَّة. كلُّ هذا انتهى.

قيل إنّ الله باعهم مجّانًا، بلا ثمن. نقرأ هنا صيغة المجهول التي تدلُّ على الله دون أن تسمّيه: "ن م ك ر ت م". يمكن أن نقول: بيع، ابتاع. باعهم الربُّ عبيدًا بسبب خطاياهم وما استفاد من ثمنهم. كانوا يمجِّدونه في أورشليم وفي الهيكل، فتوقَّف كلُّ هذا. وراح بعضهم يمجِّد مردوخ إله بابل "العظيم" الذي سيطر على المسكونة! ذاك وضع من الماضي. وها هو الربُّ يستعيد شعبه ولا يدفع ذهبًا ولا فضَّة كما كانوا يفعلون حين يفتدون الأسرى. الربُّ تولّى أمركم. الفعل "ج أ ل". الله قريبكم حرَّركم، فكَّ قيدكم.

في آ4-6 وصفٌ للحالة التي تعرفها مملكة يهوذا. بدأت فمضت إلى مصر تطلب معونتها. ولكنَّها نجت من سيطرة لتقع في سيطرة أخرى: أشور. في مصر كان غريبًا (ج و ر) فأخرجتُه من هناك. وفي أشور هو مظلوم (ع ش ق). "ماذا لي"؟ قال الربّ. لم يبقَ له أحد الآن (ع ت ه)، هنا (ف ه) في أرضه، صار مثل أمٍّ ثكلى. أخذوا أبناءه (وبناته) من يديه مجّانًا (ح ن م)، بدون تعب، لأنَّهم سلَّموا أنفسهم إلى هنا وهناك وما استندوا إلى الربِّ الإله. وما الذي حصل؟ اسم الربِّ مهان (آ5). الأمم تعتبره غير قادر أن يتابع المسيرة، أو هو تخلّى عن شعبه لأنَّه إله لا يُؤمَّن له. فلماذا نتَّكل عليه؟ وشعبه نفسه شكَّ بقدرته. فإذا أراد الربُّ أن يستعيد "عظمة اسمه"، عليه أن يعمل ويعمل سريعًا. لا مجال بعدُ للانتظار. فالوقت داهم، والمنفيّون اقتربوا من الموت. فهل ينتظر الله أن يُضحوا عظامًا يابسة لكي يحملهم ويدفنهم في وادي يوشافاط[RK1] ؟

هو التاريخ يعيد نفسه بين الله وشعبه. بعد خطيئة العجل الذهبيّ، قال الربُّ لموسى: "اتركني ليحمى غضبي وأفنيهم، فأصيِّرك شعبًا عظيمًا" (خر 32: 10). ماذا كان جواب موسى؟ ماذا يقول المصريّون؟ يقولون: "أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال، ويفنيهم عن وجه الأرض" (آ12). وهكذا يعيِّر "العدوُّ" اسم الله. وجواب آخر: "أين وعدك لإبراهيم وإسحق...؟" (آ13). وكانت النتيجة: "وندم الربُّ على الشرّ..." (آ14). كأنّي به تراجع. وذلك ما حصل هنا[RK2] .

"ها أنا" (هـ ن ن ي). عادة ينادي الربُّ فيجيب المؤمن. دعا الربُّ إبراهيم، فأجاب: "هـ ن ن ي". ها أنا (تك 22: 1). ماذا تأمر لأفعل؟ والربُّ هو حاضر. لا يمكن أن يكون غائبًا أو يكون عاجزًا، ضعيفًا. وعبارة ثانية: "أ ن ي. هـ و ا". أنا هو. أنا الذي فعل والذي يفعل. أنا يهوه. ذاك هو اسمي كما وصل إلى موسى (خر 3: 14). وهذا الإله يتكلَّم (د ب ر). ليس إله موتى، بل إله أحياء (مت 22: 32). هو بعيد كلَّ البعد عن الأصنام التي "لها أفواه ولا تتكلَّم، لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع" (مز 115: 5-6).

تكلَّم الله فتمَّ الخلاص. فلا بدَّ من حمل البشرى إلى صهيون، المدينة المصونة. يرد الفعل مرَّتين "م ب ش ر"، حامل إنجيل، حامل خبر طيِّب. وفعل "أسمع" مع "الخير" (ط و ب، ما هو طيِّب، ما هو حسن وجميل) ومع "الخلاص". مضى الملك الداوديّ إلى المنفى وانطفأ خبره. فأتاك الآن "ربُّ داود". الله نفسه يكون الملك. فكما استغنى عن الرعاة الأردياء على ما أخبرنا النبيّ حزقيال (ف 34)، ها هو يستغني عن مثل هؤلاء الملوك الذين قادوا شعبهم إلى الموت والدمار.

"المراقبون" (آ8) يقفون على الأسوار. وماذا يرون؟ الله. يرونه "بعيونهم" (ع ي ن. ب ع ي ن). كما يراهم يرونه. هي قوَّة الإيمان تجسِّد الرجاء. رجع الشعب، فلا شكَّ بأنَّ الربَّ يرافقه. هو مضى مع المنفيّين حين مضوا، وها هو يعود مع المنفيّين حين يعودون. ويعود مناخ الأصوات الهاتفة، المرنِّمة، المنشدة (ف ص ح). كانت أيدي الشعب مسترخية، وركبهم واهية. فما عادوا يستطيعون أن يتحرَّكوا أو يعملوا شيئًا. لهذا "استيقظ" الله بعد أن "أيقظوه" (كما في السفينة، مر 4: 38). وشمَّر عن ذراعه. فوصل خبر خلاصه إلى الأمم، إلى كلِّ أطراف الأرض. بل إنَّ هذا الخلاص لم يُصب فقط أورشليم وأرض يهوذا، بل وصل إلى سكّان العالم كلِّه. هم رأوا بعيونهم ما حصل، فهل يفرِّق الله بين "يهوديّ وأمميّ"؟ قال الرسول: "هل الله لليهود فقط؟ أليس للأمم أيضًا؟ بلى، للأمم أيضًا. لأنَّ الله واحد، هو الذي يبرِّر الختان (أي اليهود، هم يُختَنون). بالإيمان والغرلة (عدم الختان، أي الأمم الوثنيَّة) بالإيمان" (رو 3: 29-30).

في هذا الإطار الخلاصيّ نستطيع أن نردِّد مز 98: "أعلن الربُّ خلاصه، لعيون الأمم كشف برَّه... رأت كلُّ أقاصي الأرض خلاص إلهنا. اهتفي للربِّ يا كلَّ الأرض، اهتفوا ورنِّموا وغنّوا".

"ميلوا" (س و ر و). وربَّما سيروا، انطلقوا. ثمَّ "اخرجوا". كنتم في مكان نجس فتطَّهروا. في الخروج الأوَّل هربتم. أمّا الآن فأنتم تسيرون كما في تطواف والربُّ يكون في المقدِّمة، كما كنتم تفعلون وتابوت العهد معكم. ذاك كان الوضع حين عبر يشوع الأردنّ هو والذين معه (يش 3: 3). وهكذا عاد المنفيّون وهم يحملون "آنية الربّ" التي أخذها البابليّون سنة 587 ق.م. ويكون الربُّ في المقدِّمة ليفتح لهم الطريق، ويكون في آخر "القطيع" لكي يجمع الخراف فلا يضيع واحدٌ منها.

تكلَّم الربُّ وردَّد كلامه مؤكِّدًا لهم: من طلب الربَّ لا بدَّ أن يجده، أن يراه بجانبه. وُعُوده جعلت المؤمنين ينادونه، ونداءاتهم نالت جوابًا، وأيَّ جواب. لا مجال للانحناء والذلّ بعد اليوم، بل هم رفعوا رؤوسهم وانطلقوا وهم ينشدون ذاك الذي منحهم مثل هذا الخلاص. وما كان لهم في الماضي من خلاص، مع إبراهيم أو موسى، لن يكون شيئًا مقابل الجديد الذي يتمُّه الله. لهذا يدعوهم المرتِّل: أنشدوا للربِّ نشيدًا جديدًا لأنَّه صنع العجائب.

52: 13-15 هوذا عبدي

هنا بداية نشيد "عبد يهوه" الرابع، وهو يتواصل في ف 53. في 50: 4-6 رأينا عبد يهوه مهانًا، مرذولاً. وها نحن نراه ناجحًا، عاليًا، ساميًا. كلُّ هذا كان بقدرة الله، ممّا جعل الكثيرين يندهشون.

في آ14، نكتشف الوجه البشريّ المشوَّه الذي لم يعد إنسانًا. فذُعر الناس لدى منظره وصورته. قال مز 22: 7 في هذا المعنى: هو دودة لا إنسان. البشر يعيرونه، والشعب يحتقره ويرذله. أما هكذا قدَّم بيلاطس يسوع لليهود وهو مكلَّل بالشوك ولابس الأرجوان: "ها هو الرجل؟" (يو 19: 5).

في آ15، هو الوجه البشريّ الذي يجعل الملوك يقفون أمامه تهيُّبًا، ولا يجسرون على الكلام في حضرته. روَوا لهم عن ذلِّه، فإذا هم يرون شيئًا آخر. أسمعوهم أنَّه أدار ظهره للضاربين، وخدَّه للذين نتفوا شعر لحيته، ووجهه للذين يبصقون ويلطمون (50: 6). وماذا تبيَّنوا؟ غير ذلك. فما بقي لهم سوى السجود أمامه (49: 7).


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM