الفصل الحادي والأربعون: الله معين شعبه

الفصل الحادي والأربعون

الله معين شعبه

في قلب بابل، العاصمة الشاسعة، وقفةٌ في المحكمة: من يعين الشعب ويخلِّصه؟ الربُّ الإله أم الأصنام؟ في مقطع أوَّل يظهر الله بكلِّ قدرته فيختار كورش لكي يحزِّر شعبه (41: 1-5). أمّا آلهة الشعوب فهي عاجزة مهما قال عنها عابدوها. هنا (آ6-7) يرسل النبيّ هجاء لاذعًا على الأصنام التي تصنعها أيدي البشر. ويعود الربّ فيدلُّ على قدرته التي عُرفَتْ في الماضي ويمكن أن يثق بها المؤمنون اليوم وغدًا. فالله سيِّد التاريخ، أمّا كورش فأداة في يده. لهذا، يجب على الشعب أن لا يخاف، فحياته في يد الربّ. نقرأ هنا قسمين كبيرين. في الأوَّل (آ1-20) يتحدّى الله الأصنام. وفي الثاني (آ21-29)، يعيِّر الله الأصنام ويقدِّم عبده أو عابده، الذي لن يُذكَر اسمه قبل 44: 28. ولكن أبعد من كورش، عبد الربِّ وعابده يصل بنا إلى يسوع المسيح، كما نقرأ منذ الآن التطبيق في مت 12: 18-21: "ها هو فتاي الذي اخترتُه، حبيبي الذي رضيتُ به".

41: 1-7 من أنهض من المشرق؟

"أنصتي" (آ1). كلام يتوجَّه إلى الأمم التي ذُكرت في ف 40 مع الجزر أو أصقاع البحر البعيدة. هو اقتراب من المحكمة. "أنهض" (هـ ع ي ر). كأنَّه كان نائمًا وأيقظه الله. "البرّ" (ص د ق) أو البارّ والصادق. يعود لفظ "برّ" 27 مرَّة في ف 40-55، ثمَّ 24 مرَّة في ف 56-66. هو لفظ مفتاح. الربُّ يمسكه وهو يطاوعه. أيقظه، دعاه، جعله أمامه، أخضع (آ2) السيف سيف كورش، والقوس قوسه، بها يرمي سهامه مثل القشّ في الهواء.

من تخيَّل أن يأتي قائدٌ يتغلَّب على بابل ويحرِّر الأسرى فيها؟ لا أحد. ولكنَّ سيِّد التاريخ هو هنا، وهو يمشي أمام كورش (45: 2) فكانت انتصاراته سريعة مثل العاصفة. لا يتوقَّف النبيّ عند البشر الذين ينفِّذون مقصد الله، بل عند الذي يمسكهم بيده: "أنا الربّ" (أ ن ي. ي هـ و ه). ثمَّ: "ا ن ي . هـ و ا". أنا من يكون وأنا من كان. سواء مع الأوَّلين، إن كان هناك من أوَّلين، أو مع آخرين. أنا وحدي الكائن (آ4). نتذكَّر أن "ي هـ و ى" اسم الربّ منذ الظهور في العلَّيقة مع موسى (خر 3: 24). وهم اسم يسوع المسيح: "متى رفعتم ابن الإنسان تعرفون أنّي أنا هو" (يو 8: 24-28، 58).

أمام هذا الانقلاب"، خافت المسكونة، ارتعدت. وراح كلُّ واحد يسند الآخر "ليكوِّن" صنمًا يختبئ وراءه. ويصوِّر النبيّ عمل هؤلاء الصنّاع والصاغة هازئًا بهم: ماذا ينفع كلُّ هذا؟ لن تجدون عونًا إلاَّ لدى الربّ الذي يحامي عن الأمناء له.

41: 8-20 وأمّا أنت يا عبدي

عبد الربِّ إسرائيل لا يخاف. والعبد يعني الطاعة، كما يعني الانتماء. فالعبد يلتصق بسيِّده، كما موسى بالربّ وداود وصموئيل وغيرهم. مثل هذا "العبد" يكون فخورًا بمثل هذا السيِّد، فيحسّ بنفسه بأمان، ويفهم في النهاية أنَّ القرب من هذا الإله يعطيه قوَّة أين منها قوَّة الملوك. يأتي فعل "اختار" (ب ح ر). هذا يعني نظرة خاصَّة ومحبَّة. فهو من نسل إبراهيم الذي أحبُّه الربّ (أ هـ ب ي) ودعاه خليله. فردَّ هو بالطاعة على حبِّ الربِّ له. ابتعد الخوف وحلَّت محلَّه الثقة. ثمَّ فعل "أمسك" وبالأحرى: شددتُ (بيدك) كما الأمُّ تمسك طفلها وتشدُّه بيده لئلاّ يضلّ الطريق؟ كما تشجِّعه. والفعل الثالث: دعا، كما يدعو الأب ابنه. ظنَّ الشعب في المنفى أنَّ الله رفضه لأنَّه لم يَعُدْ راضيًا عنه. ولكن لا. قال الربّ: "ما رفضتك" (م أ س). بل اخترتك (يتكرَّر الفعل) ولا أزال على اختياري لك، لأنَّ لا ندامة في مواهب الله وعطاياه، كما قال الرسول.

الجزر "خافت" (آ5) من دينونة الربّ، لأنَّها تعلَّقت بأصنامها. أمّا "عبد الربّ" فلا يخاف. فالذين يهدِّدونه ضعفاء ولا يقدرون أن يعارضوا "يد الربّ". وما الذي يملأ قلب المؤمن ثقة؟ كلام الله: "أنا معك" (آ10). الربُّ هو عمانوئيل. يتلفَّت الخائف يمينًا وشمالاً لأنَّه لا يعرف من أين يأتي الخطر. لا المؤمن. وها هي ثلاثة أفعال: قوّى، ساعد، أمسك. "يمين" الربِّ تفعل وهي صادقة (ص د ق ي)، لا تخون كما يخون البشر.

ويصوَّر الأعداء بعدد من الصفات (آ11-12): "ن ح ر ي م"، المحتدّين، المغتاظين، الذين لا يستطيعون بعدُ الانتظار. رجال الخصومة (ر ي ب) والنزاع (الذين يصدّونك) والقتال أو الحرب. هو العداء. ولكنَّ المؤمن لا يهتمّ: يتبعهم الخجل والخزي أمام قدرة الربّ. وتعود الألفاظ: كلا شيء (ا ي ن)، عدم (أ س ف). هم "يبيدون" (ي أ ب د)، "لن تجدهم" لأنَّهم اختفوا، "يكونون كلا شيء".

وترد الدعوة أيضًا إلى عدم الخوف (آ3). يمين الربِّ تمسك المؤمن وتشدُّ يده، بل الله نفسه يساعده، يعينه. ماذا يشكِّل يعقوب في هذه المملكة الواسعة؟ شيء قليل. هو "دودة". وهل أضعف منها؟ ومع ذلك، لا مجال للخوف. هو جماعة من الموتى (م ت ى). هو جثَّة هامدة كما رآه حزقيال في ذلك الوادي (حز 37: 1). ولكنَّ الربَّ يقيمه. أخذنا بقراءة مخطوط قمران وترجمة أكيلا والشعبيَّة اللاتنيَّة، وتركنا التشكيل الماسوريّ الذي يتحدَّث عن "شرذمة"، أو "رجالات". "قدّوس إسرائيل" يعين، يفتدي. كأنّي به يخلقه من جديد، يجعله يقف على رجليه وينطلق.

ولكنَّ هذه "الدودة" (آ14) تتحوَّل إلى "نورج" فيه الحديد بشكل أسنان: يُستعمل لدراسة القمح فيسحق السنابل. وماذا يفعل يعقوب الضعيف؟ الجبال لا تقف أمامه ولا التلال. تصبح كالعصافة في الريح. في ف 40: 4 انخفضت الجبال والأكمات. أمّا هنا، فاختفى أثرها وبادت. نتذكَّر إرميا الذي أحسَّ بنفسه ضعيفًا أمام المقاومة التي تجابهه. فشدَّده الربُّ: "جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس" (إر 1: 18). هم لا يقدرون عليك. والسبب: "لأنّي أنا معك". ذاك هو سرّ قوَّة عباد الله. لا الملوك ولا الرؤساء ولا الكهنة ولا الشعب تغلَّبوا على إرميا، لأنَّ الله معه. وكذا عابد الربّ. صار المعادون لله مثل السنابل التي يسحقها النورج وتذرِّيها الرياح. وهكذا نفهم النداء المتكرِّر: لا تخف.

مع آ17، نتصوَّر هؤلاء العائدين من المنفى إلى أرض الربّ. هم مساكين الربّ والمحتاجون في شعبه. لفظان مرَّا معنا: ع ن و ي م: الفقراء الذين لا يتَّكلون إلاَّ على الربّ. "ا ب ي و ن ي م": البؤساء، الذين لا يملكون شيئًا، المسحوقون. لا ماء لهم في البرِّيَّة! الربُّ يؤمِّن لهم الماء. هم عطاش! الربُّ يسقيهم من ينابيع المياه. أما فعل هكذا مع شعبه السائر برفقة موسى باتِّجاه سيناء. وإذا نظرنا إلى الأفراد، نرى هاجر مع ابنها اسماعيل بعد أن "فرغ الماء من القربة" (تك 31: 5). هل يتركها الله تموت من العطش مع ابنها؟ كلاّ. "فتح عينيها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام" (آ19). أمّا هنا، فلا نجد فقط بعض الماء، بل تجري الأنهار، وتتفتَّح الينابيع، وتمتلئ البرك. البرِّيَّة تتحوَّل إلى حوض مياه، والأرض اليابسة يتفجَّر منها الماء. فما أعظم بركات الله وعطاياه! أين الصحراء؟ لم يعُد لها من وجود، بعد أن امتلأت بالأشجار. ولكنَّ هذا مستحيل على مستوى البشر! أمّا على مستوى الله، فيده "خلقت" (ب ر ا ه). وإذا كانت البادية خُلقت من جديد، فنحن ننتظر الإنسان، ننتظر الشعب السائر وراء الربِّ كما في تطواف. ويتوجَّه النبيّ إلى الناس مع فعل رأى، عرف، تأمَّل، فطن أو تنبَّه. فهل يرفضون أن يتحوَّلوا، أم لا يريدون أن يبصروا بعيونهم، أن يسمعوا بآذانهم؟ (6: 10). ألا يشاهدون الجديد الذي يقدِّمه الربُّ لهم؟

ذاك الذي خلق يخلق بعد. ذاك الذي دعا يدعو بعد ولا يتراجع. ذاك الأمين الذي اختار شعبه، لبث أمينًا وما تخلّى عن اختياره. فهو سيِّد التاريخ والمسلَّط على الأكوان ينظر إلى عباده المذلولين، المقهورين، ولكنَّه يرفعهم فيفتخرون بقدّوس إسرائيل. ينظر إلى شعبه الذي يطلب بعض الماء في صحراء حياته، فيمنحه ينابيع ماء الحياة بحيث لا يعطش من جديد.

41: 21-26 الله سيِّد التاريخ

ويعود الله إلى المحكمة تجاه الآلهة الكاذبة، كما في آ1-5: هل يستطيعون أن يقرأوا التاريخ ويفقهوا معناه؟ هل يقبلون أن يكون "كورش الفارسيّ" منفِّذ مقاصد الله؟ لماذا الاستناد إلى الأصنام الضعيفة التي هي "روح"، ريح وهواء، "ت هـ و"، خلاء وخواء؟ ويكون الامتداد في ف 22 مع "العابد" الذي يرسله الله ليحمل الخلاص للمسبيّين فيرفعون أناشيد الشكر.

"قرِّبوا دعواكم" (آ21). في آ1، كنّا أمام القضاء (م ش ف ط). أين الدفاع والحجج؟ ثمَّ نقرأ: يقدِّمون (ي ج ي ش و) ويخبرون. يرد هذا الفعل (هـ ج ي د) 19 مرَّة في ف 41-48. من يخبر عن المستقبل؟ الله وحده. وهذا ما يميِّزه. والله لا يتميَّز فقط بأنَّه "يخبر"، بل بأنَّه يفعل في كلِّ المجالات. فلماذا يتعلَّق البشر بالأصنام التي "لا تصنع شرًّا ولا خيرًا" (إر 10: 5).

إذًا، الأصنام لا تعرف شيئًا ولا تفعل شيئًا، فاحسبوها كلا شيء شأنها شأن عابديها والشعوب والملوك. أمّا الله فعرف المستقبل وبدأ يبنيه حين "أيقظه" من الشمال (رجلاً) بالنسبة إلى فلسطين. وبالنسبة إلى بابل، يأتي من الشرق. دعاه الربُّ باسمه، وهو يدعو باسم الربّ دون أن يعرفه. أعانه الله فراح من انتصار إلى انتصار فصار الولاة مثل الوحل (ح م ر) والطين (ط ي ط) بيد الخزّاف.

من أخبر بمجيء كورش؟ الملوك؟ كلاّ. الآلهة الكاذبة؟ كلاّ. يرد هنا: أخبر، أسمع، والجواب: ما من أحد سمع. ولكنَّ الله هو الذي تكلَّم من أجل صهيون، من أجل أورشليم. هو "بشَّر". حمل "إنجيلاً" وخبرًا طيِّبًا. كورش يتسلَّم مهمَّة ملوكيَّة وحربيَّة وقضائيَّة، فيعاقب من يستحقُّ العقاب، وفي الطليعة بابل المتكبِّرة، المتشامخة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM