الفصل الأربعون:إعلان الخلاص بقدرة الله

الفصل الأربعون

إعلان الخلاص بقدرة الله

نبيٌّ أخفى اسمه يعيش مع جماعة المنفيّين، يعلن لهم الخلاص مثل خروج جديد وعبور في الصحراء كما في أيّام موسى. كلُّ هذا يتمُّ بقيادة الله الذي هو الراعي لشعبه. فالله البعيد كلَّ البعد عن الأصنام، يعمل بقدرته، وهو الذي "كال بكفِّه المياه" و"قاسَ السماوات بالشبر". فمثل هذا الخلاص يكون أمرًا بسيطًا بالنسبة إليه. قسمان كبيران في هذا الفصل. الأوَّل (40: 10 -11): إعلان الخلاص. والثاني (آ12-31): قدرة الله تفعل هذا.

40: 1-11 عزّوا، عزّوا شعبي

تبدو آ1-11 بشكل مقدِّمة للقسم الثاني من إشعيا، ونحن نسمع فيها أكثر من صوت: في آ1-2، يحدِّث النبيّ إخوته. في آ3-5، المنادي يهتف: أعدّوا طريق الربّ. في آ6-8، كانت أصوات في امتداد صوت النبيّ: إذا كان الشعب ضعيفًا مثل عشب الحقل، فكلمة الله ثابتة ولا شيء يبدِّلها. هم يعلنون: إلهنا، نحن. كأنّي بهم نسوه في أيّام المنفى وها هم يعودون إليه بعد عودة الأمل. في آ9-11، وصل البلاغ إلى أورشليم التي توصله بدورها إلى مدن يهوذا.

"عزّوا" (ن ح م و). يرد هذا الفعل 9 مرّات في ف 40-55، فيقدِّم مناخ القسم الثاني من إشعيا الذي دُعيَ "كتاب التعزية". النبيّ ينادي الجماعة التي تمتدُّ من بابل إلى أورشليم، فتعلن كلمة الله. ممَّن تتألَّف الجماعة؟ قال الترجوم: من الأنبياء. واليونانيّ: من الكهنة hiereis. في أيِّ حال، يُطلب من هؤلاء أن "ينادوا" بالكلمة في وقته وفي غير وقته، كما قال الرسول لتلميذه تيموتاوس.

عزاء لا بالكلام فقط، بل بالعمل. هكذا تستطيع أورشليم أن "تتنفَّس الصعداء". في اللغة العاميَّة: أن "تأخذ نفس" بعد الضيق الذي عاشته في المنفى. قالت عنها المراثي: "تبكي بكاء في الليل، ودموعها على خدَّيها لا معزّي لها" (مرا 1: 2. ويتكرَّر الكلام في آ9، 16...). من يقول هذا الكلام؟ لا إنسانٌ من الناس بعد أن تعب الشعب من كلام الناس وما فيه من آمال خادعة. الله يتكلَّم وحين يتكلَّم يفعل. وفي صيغة المخاطب الجمع، إلهكم أنتم. هذا يعني أنَّه ما نسيَكم.

"تكلَّموا" (د ب ر و). الله قال والأنبياء يتكلَّمون، ينادون (ق ر أ و). يوجِّهون كلامهم إلى القلب (مركز العقل والإرادة)، لا إلى العاطفة فقط (آ2). إذًا، استعدّوا للسماع والانطلاق برفقة الله. فالماضي مضى. هناك لفظان: ص ب ا ه: صراع، جهاد[RK4] ، وبالتالي عقاب بعد خطيئة اقترفت. أتت أورشليم إلى المنفى بسبب خطاياها. أمّا الآن فكفَّرت "ضعفين" عن إثمها، والله غفر لها.

انتهى العقاب، والعودةُ إلى الأرض المقدَّسة لن تتأخَّر. "صوت صارخ" (آ3). هو المنادي: وجِّهوا (ف ن و). ثمَّ "قوِّموا" (ي ش ر و). في الماضي أدار المنفيّون وجههم إلى بابل، وظهرهم إلى أورشليم. أمّا اليوم فتبدَّلت الوجهة. كان الاعوجاج مع الملوك والرؤساء، والآن الطريق القويم مع الربّ. لا صعوبة بعد، لا عوائق. الله يمهِّد الطريق وهو يسير في المقدِّمة، على ما سبق له ووعد موسى (خر 33: 14: وجهي يسير"). طبَّقت جماعة قمران هذه الآية على نفسها بأنَّها دعوة للذهاب إلى البرِّيَّة. أمّا العهد الجديد فرأى في يوحنّا المعمدان، آخر الأنبياء وأعظم مواليد النساء (مت 11: 11) ذاك الذي يعدُّ الطريق لمجيء المخلِّص، يسوع المسيح (مت 3: 3؛ لو 3: 4-6...),

"مجد الربّ" يعلن في الخلق، في تدخُّلاته من أجل الشعوب المقهورة، في تجلِّياته. هذا المجد الذي كان في سيناء (خر 24: 17) وفي الهيكل يوم تدشينه (1 مل 8: 11)، انضمَّ إلى الذاهبين في السبي (حز 10: 1ي) ليعود معهم حين يعودون (حز 43: 2). ومن يرى؟ كلّ بشر (ب ش ر). واللفظ واسع، كلُّ لحم ودم. يعني حتّى الحيوان بما فيه من نفَس يرى. "معًا" (ي ح د و). فيكونون "جميعًا" كما في جوقة، يرون فيرفعون المجد لله. نشير إلى أنَّ هذا اللفظ "ي ح د و" يرد 18 مرَّة ليدلَّ على تحرُّكات واسعة وأعمال مشتركة.

"صوت قائل" (آ6). فيردُّ عليه آخر كما في حوار. قال. ولكن في مخطوط قمران وفي السبعينيَّة: قلتُ (أنا) eipa. المهمُّ الأمانة لبلاغ يصدره الله فيتردَّد صداه في الجماعة. ماذا يقال؟ "البشر" (و ب ش ر)، لا الجسد. مثل الاخضرار (ح ص ي ر) في الحقل، مثل الزهر. هو لا يدوم طويلاً. ونقرأ "ح س د" أي اللطف. قيل: الجمال والثبات. ولكن ما هذا تجاه "روح"، ريح أو روح أو نسمة. يكفي أن ينفخ الله لكي يزول كلُّ هذا "الجمال". ويشرح النبيّ الصورة: الشعب هو عشب أخضر. إذًا ضعيف، لا ثبات عنده. هو لا يدوم. بل كلمة الله وحدها تدوم، "تقوم" إلى الأبد ولا يمكن أن تسقط.

"اصعدي". وصل البلاغ إلى أورشليم، المدينة التي دُمِّرت سنة 587-586. وإلى "صهيون" المدينة المصونة. ماذا بقي في هيكلها؟ لا شيء. وعليها أن تنشر البلاغ. صارت "مبشِّرة"، أي حملت بشارة وإنجيلاً euaggelion: الله جاء. هو هنا يسير في مقدِّمة المحرَّرين، المفديّين. هو القويّ. هو السيِّد وذراعه تفعل. بعد الآن لن تخاف أورشليم، بل تهتف بأعلى صوتها: "هوذا إلهك" (آ9). يأتي كديّان: أجرته هي البركة التي يحملها إلى مدينته التي سُحقت، وجزاؤه هو "فعلته" وعقابه للأشرار الذين ما زالوا يسيطرون على أورشليم. ومجيء الربِّ مثل الراعي الذي تحدَّث عنه النبيّ حزقيال (ف 34)، الذي ينشد له المؤمن (مز 23)، الذي نراه في يسوع الراعي الصالح (يو 10: 1ي) الذي يطلب الخروف الضالّ (لو 15: 3ي) بل قطيعه الذي تاه "على الروابي"، كما قال النبيّ .

هكذا قرأنا في آ1-11 المواضيع الأساسيَّة في ما يُسمّى "إشعيا الثاني": عزاء المنفيّين، الخروج الجديد من بابل والعبور في الصحراء. هكذا يتجلّى مجد الله لكلِّ خليقة حيَّة، كما ينكشف كلامُه الفاعل الذي صار بشكل "إنجيل" و"بشارة" فيجمع شعب الله حول إلهه ويعيد إليهم[ الحياة.

40: 12-31 قدرة الله الذي لا شبيه له

ثلاثة مقاطع في هذا القسم الثاني. في الأوَّل (آ12-20)، كلام على قدرة الله وحكمته. الأمم هي كلا شيء: نقطة ماء في دلو، غبار في ميزان. والأصنام التي يصنعها السابك ويطلبها الصائغ هي من صنع البشر.

"من"؟ الله وحده، ربُّ السماء والأرض. أربعة أفعال (آ12): عابر (م د د، جعل في المدّ أو المكيال، ويقال: مدُّ البحر أي ارتفاع مياهه). ثمَّ "قاس" الذي يعود في آ13: السماوات تقاس، أمّا الروح فمن يقدر أن يقيسه؟ والفعل الثالث كال (ك ل). والرابع "وزن" (ش ق ل). ونلاحظ الأداة التي يستعملها الله كلَّ مرَّة، فهي صغيرة، نحيفة، لا تقابَل مع الكون. قبضة (ش ع ل) اليد أو الكفّ تجاه "المياه". "الشبر" أو الفتر تجاه "السماوات". "إكليل" تجاه "تراب الأرض"؛ وأخيرًا "القبّان" تجاه "الجبال"، و"الميزان" تجاه "الآكام". تلك طريقة بها نكتشف قدرة الله في الكون. وحكمة الله؟ أتُرى هناك من هو أحكم منه "ليعظه" (ع ص ت و) ويشير عليه، ويعطيه معرفة لم تكن له؟ وتتكرَّر الألفاظ في معانٍ قريبة: أشار، عرَّف، استشار، بيَّن أو أفهم، تلمذ أو علَّم، ثمَّ تلمذ (مرَّة ثانية). ويعود عرَّف، بيَّن، عرَّف. أيحتاج الربُّ إلى من يعلِّمه لكي يفعل من أجل المنفيّين؟ فالذي يقود الكونَ كلَّه لا يحتاج إلى من يخبره.

"الأمم" (ج و ي م) (آ15)؟ من يحسب لها حسابًا؟ نقطة ماء. "الجزر" (أفضل من الجزائر) أي المناطق البعيدة؟ هي مثل "دفَّة" في سفينة أو مثل "دقَّة" (د ق) أي تراب ناعم. أيصعب علينا رفعه؟ نشير هنا إلى أنَّ الأمم الوثنيَّة، كما الشعوب البعيدة في قلب البحار (عالم الشرّ) هي مدعوَّة للخلاص ولتلبية نداء الله. من أجل عبادته، حطب الأشجار في لبنان الوافر لا يكفي وكذلك حيوان غاباته. فالبشر لا يستطيعون انطلاقًا أن يقدِّموا الإكرام اللائق للربّ.

الأمم "لا شيء" (أ ي ن)، "عدم" (أ ف س)، خواء (ت هـ و). لا شكل لها ولا لون ولا وزن (آ17). والأصنام؟ هل نستطيع أن نشبِّهها بالله؟ الجهّال وحدهم يفعلون ذلك. المهمّ أن يأخذ الإنسان خشبًا لا سوس فيه، ومعدنًا يبقى ثابتًا فلا يسقط أرضًا. أمّا كلمة الربّ فتقوم ولا يمكن أن تتزعزع (54: 10).

والمقطع الثاني (آ21-26) يحدِّثنا عن تسامي الله وتعاليه. أمّا العظماء فهم كلا شيء (ا ي ن). بل الربُّ يجعلهم كذلك. والكواكب والنجوم التي يعبدها بعض الشعوب، تقف مرتجفة أمامه كما الجنود أمام قائدهم.

يطرح النبيّ أربعة أسئلة وكأنَّه يؤنِّب المؤمنين لأنَّهم لم يفهموا بعد من وضعَ أساسات الأرض، بل الكون كلَّه: فمنذ البداية قال المزمور: "السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بأعمال يديه" (19: 2). ونعود إلى الصور التي تبرز عظمة الله: الربُّ "على كرة الأرض" والشعب مثل الجندب والجراد. السماء مثل ستارة على نافذة، مثل خيمة للسكن.

والعظماء (أو: ملك الأرض) والقضاة (أي الحكّام الذين يقضون أمور الناس). هم أيضًا "ت هـ و" خواء وخلاء. هل "غُرسوا، زُرعوا، تأصَّلوا" كما يظنّون؟ كلاّ. نفخة من الربّ فيصيرون يباسًا (ي ب ش و). مثل "القشّ" (ق ش) الذي تأخذه العاصفة.

"بمن تشبِّهونني؟" ويعود السؤال. نتذكَّر أنَّ "الشبه" و"شبّه" من جذر واحد (د م ه). هذا ما يقودنا إلى التمثال، بحيث يصبح الإله ضعيفًا فنتصرَّف به كما يشاء. أي خطأ هذا الخطأ؟! فالله هو "القدّوس". هو الآخر الآخر. هو البعيد عن البشر والمنفصل عن العالم لأنَّه يسود العالم: إنَّه فريد لا شبه له ولا يمكن أن يُوجَد من يشبهه. كم يتطلَّب هذا الموقف من إيمان، حين يرى المنفيّون في بابل الأصنام العديدة، ولاسيَّما "مردوك"، الإله "السامي" الذي يحتفلون بعيده في أوَّل السنة بأبَّهة لا مثيل لها.

والمقطع الثالث (آ27-31) هو كلام يتوجَّه إلى الشعب، إلى يعقوب أو إسرائيل، أي إلى القبائل الاثنتي عشرة وما بقي منها. في صيغة المتكلِّم المفرد. فالبلاغ يصل إلى كلِّ واحد بمفرده، بحيث لا يستطيع أن يتهرَّب: لماذا لا تقول؟ لماذا لا تتكلَّم؟ أما تستحي من نفسك بعد أن عمل الله لك ما عمل؟ في آ21، جاء الكلام في صيغة الجمع: "ألا تسمعون"؟ والآن يتساءل المؤمن: هل يرى الربُّ طريقي، هل يرافقني في مذلَّتي؟ "سُترت" (ن س ت ر ه) طريقي فما أراد الربُّ أن يهتمَّ لمصيري. ثمَّ فعل "ع ب ر": تجاوزت الربَّ مسيرتُنا فما عاد يقدر أن يفعل لنا شيئًا. في الماضي، نعم اهتمَّ بنا. أمّا الآن فكلَّ وتعب، "ي ع ف"، عييَ. صار عيًّا! ما هذا الكلام؟ بل هو من جاء ليعطي القوَّة "للمعيي". إنَّه لا يتبدَّل. هكذا كان وهكذا يكون اليوم وغدًا. إنَّه "إله الدهر والأبد" (آ28). من ابتعد عنه أعيا وتعب، وفي طريقه "عثر". فماذا ينفع الاستناد إلى البشر؟ أمّا الذين انتظروا الربَّ، فالربُّ يجدِّدهم، يرفعهم. لا تعب لهم إن ركضوا ولا عياء إن مشوا. فماذا يختار المسبيّون؟ نير البابليّين الذي يمنعهم من العودة، لأنَّ الطريق صعبة، وعرة، لا تنتهي، أم "نير الربّ" الذي هو ليِّن وخفيف، فينطلقون معه كما النسور في العلاء فلا "يصطادهم" أحد (مز 103: 5).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM