الفصل الرابع عشر:الأمل بالتحرير بالرغم من الطغاة

الفصل الرابع عشر

الأمل بالتحرير بالرغم من الطغاة

بين بابل التي اقترب يومها، و"يعقوب، إسرائيل" الذي يجعل رجاءه في الربّ، يرد كلام النبيّ. قال سفر الجامعة: لكلِّ شيء وقت (جا 3: 1-8)، وأتى الوقت الذي فيه تدمَّر بابل ويسقط الطاغي الذي سيطر على البلاد. "ن ج ش"، الظالم. متى يأتي يومه؟ متى يأتي يوم الربّ؟ ولكن ما الذي يُسند هذا الرجاء؟ "الربُّ يرحم". فعل "ر ح م". بدا الربُّ مثل أمٍّ تهتمُّ بأطفالها لأنَّهم لا يقدرون أن يستغنوا عنها.

بعد أن يعود الشعب من منفاه، وتعود الأمم إلى الربّ (14: 1-2) ينطلق رثاء فيه بعض الفرح، على ذاك الطاغي الذي زال من الوجود (آ3-23). كان هذا الكلام مثلاً وهو ينطبق على أشورية وملكها (آ24-27). واعتَبرت فلسطية أنَّها تستطيع أن تفرح، فجاءها الجواب: ما سوف يأتي أسوأ ممّا يحصل الآن: من الحيَّة تخرج أفعى، ومن الأفعى ثعبان (ش ر ف، حارق)، طيّار (م ع و ف ف) (آ28-32). أمّا شعب يهوذا الصغير فيثق بالربِّ الذي يحمي أورشليم، مدينته.

14: 1-2 أرض الربّ

"الربّ". هي الكلمة الأولى في هذا الفصل. هو الذي يفعل. على مستوى شعبه ثمَّ على مستوى الغرباء. ثلاثة أفعال تصف عمل الله بالنسبة إلى يعقوب: رحم، اختار (ب ح ر)، أراح. ماذا ينتظر يعقوب بعد؟ اختاره الربُّ مرَّة أولى في مسيرة الخروج. والاختيار يتواصل في مسيرة العودة من أشور بالنسبة إلى إسرائيل، ومن بابل بالنسبة إلى يهوذا. وأمّا "الغرباء" أو النزلاء (ج ر، يجاورونهم) الذين يغنجون في أرض الربّ فينضمُّون إلى شعب الربّ. يضافون إلى المؤمنين كمهتدين جدد (11: 10-12). هذا يعني أنَّ الذين في المنفى كانوا شهودًا للربِّ الإله في أرض الغربة، كما الذين لبثوا في الأرض (49: 22). يترافقون (ن ل و ه) مع بيت يعقوب ويشاركونهم في حياتهم اليوميَّة كما في ممارساتهم الدينيَّة.

"ويأخذهم شعوب" (آ2). انقلب الوضع: الذي سَجنوا سُجنوا، والذين كانوا عبيدًا صاروا أسيادًا. هنا نتساءل: أين الشموليَّة في سفر إشعيا، ساعة يُستعبد الذين خلَّصوا الشعب وأعادوهم إلى أرضهم؟ في أيِّ حال، هذا مستحيل على هؤلاء الذين كانوا في السبي ولا يملكون شيئًا. أتُرى الربُّ يأسرهم، يسبيهم ليكونوا في خدمته، فضاعَ "بيتُ إسرائيل" وما ميَّزوا بين سلطان الربِّ وسلطانهم (60: 4).

14: 3-23 مَثل على الطاغي

يأتي هذا المثل بين المقدِّمة (آ3-4أ) وبين الخاتمة (آ22-23).

المقدِّمة (آ3-4أ)

"في يوم يريحك" (آ3). أيّ يوم؟ بعد نهاية المنفى والعبوديَّة. ومن هو موضوع الرثاء؟ ملك بابل. ولا نعرف أيَّ ملك. هو "مَثل" بشكل هجاء على موت الظالم. هو رثاء في أربع قطع: الراحة بعد العاصفة (آ5-8)، الوصول إلى الشيول أو مثوى الأموات (آ9-11). هو كوكب سقط من السماء (آ12-15) ويعيش الآن في الشيول (آ16-21[RK1] ). ذُكرت بابل في آ4 وفي آ22 بحيث إنَّ الملك الذي "يُرثى" يمكن أن يكون سرجون الأشوريّ أو سنحاريب، كما يمكن أن يكون نبوخذنصَّر أو نبونيد (555-539) آخر ملوك بابل.

المَثل (آ4ب-21)

"بطل" (ش ب ت). لم يعد الظالم موجودًا. ويتكرَّر الفعل مع "م د هـ ب ه"، الغطرسة ومعها البلبلة والضياع. ولكن مع تصحيح الدال إلى الراء بحسب نصِّ مغاور قمران. أمّا الجذر فهو "رهب" الذي يدلُّ على قوى الشواش في وجه إله إسرائيل.

"كسر" (ش ب ر). الربُّ وحده استطاع أن يكسر العصا، القضيب، اللذين تحدَّثنا عنهما مرارًا في هذه النبوءة، وأن ينهي هذا الظلم. والنتيجة: الاستقرار، الراحة، الترنيم... لا البشر فقط الذين عرفوا السلام، بل الأشجار أيضًا (السرو، أرز لبنان). فهذا الملك المحارب كان أيضًا صاحب مشاريع بناء، ولهذا اعتاد على قطع الأشجار. أمّا وقد رقد، فلا خوف من "قاطع" (ك ر ت).

بدا "الشيول" (ش ا و ل) أو مثوى الأموات شخصًا يستقبل الآتين إليه (5: 14)، وأوَّلهم هذا الملك الذي لاقى استقبالاً خاصًّا. ضجَّة أيقظت الموتى: الأشباح (ر ف ا ي م)، التيوس (ع ت و و ي). التيس يسير في رأس القطيع، لهذا دُعيَ "العظماء"، بهذا الاسم. في زك 10: 3، يُذكَر "التيوس" مع الرعاة. يصل هذا "الملك" فينهض "ملوك الأمم" إكرامًا له. أو بالأحرى هزءًا به. كلُّ هذا الجاه: الفراش الوثير صار فراش الدود، والكساء صار العري. اعتاد أن يسمع صوت العود، بل العيدان وسائر آلات الموسيقى...

في آ12-15، مقابلة ساخرة: أين جعل ذاك الملك نفسه وأين صار؟ كان في السماء فصار على الأرض. عرشه فوق النجوم (الكواكب). كرسيُّه على جبل مجمَّع الآلهة. هناك يقرِّرون مصائر البشر. نتذكَّر أنَّ الشمال موضع الآلهة، لأنَّ من هناك يطلع الدبُّ الأكبر بنجومه. جبل حرمون بالنسبة إلى فلسطين، جبل الأقرع بالنسبة إلى أوغاريت (راس شمرا)، جبل الأولمب في اليونان. أين صار الآن؟ في الشيول، في مثوى الأموات، في البئر الأسفل بحيث لا يعود يذكرك أحد. ومن هو هذا الملك؟ هو الهلال (هـ ي ل ل) أي القمر في أوَّل طلعته. وهو ابن السحر (ب ن. س ح ر)، والسحر هو إله في أوغاريت يقابل نجمة الصبح، ويهيّئ الصباح. وبما شبَّه نفسه؟ بالعليّ. "ع ل ي و ن". جعل هذا الملك نفسه على مستوى الإله العليّ وصعد فوق السحاب الذي هو مركبة الله. تلك هي الخطيئة النموذجيَّة، وما من عقاب يكفيها (حز 28: 6-9 بالنسبة إلى ملك صور).

مثل هذا الإنسان المائت ظنَّ أنَّه يتسلَّق السماوات ويجلس وسط الآلهة، ولكنَّه أُنزل إلى الهوَّة، أُحدر إلى الشيول. عندئذٍ يتطلَّع فيه سكّان القبور ويندهشون من سقوط هذا الإنسان الذي أرعب الأرض وسكّانها.

اعتبر نفسه فوق سائر الملوك فإذا هو أدنى. الملوك رقدوا (ش ك ب و) بمجد وإكرام في قبورهم. دُعيَ هنا "البيت" (ب ي ت و)، لأنَّ القبر شابه البيت، وكان العظماء يبنون "بيوتهم" (أو: مدافنهم) قبل موتهم. أمّا هذا "الطاغي" فما كان له مثل هذا الإكرام: هل مات في ساحة الوغى ودُفن مع سائر الجنود؟ ذاك ما حصل لسرجون الأشوريّ. ويمكن أن يكون أُخرج الجثمان من القبر وحُقِّر. وهكذا لن يكون هذا "الظالم" مع سائر الملوك. هو "ن ص ر" "غصن مستقبح" (ن ت ع ب). هكذا ينتهي اسم نبوخذ نصَّر (يا نبو، احفظ نسلي). ولكن أين هذا النسل؟ هو إلى زوال. وهنا ينطلق الأمر إلى الميديّين: "هيِّئوا لبنيه قتلاً" (آ21). والسبب: خطيئة الآباء. عندئذٍ ينال هذا الظالم العقاب الذي يستحقُّه المجرمون الكبار: يُحرم من الدفن، يزول الاسم، ولا يبقى أحدٌ من نسله. لا مدفن لهذا الملك يُدوَّن عليه اسمه. والمدن التي بنيَتْ دُمِّرت ولا يمكن أن يُبنى غيرها على مثال ما حصل لبرج بابل في سفر التكوين (ف 11).

الخاتمة (آ22-23)

"أقوم عليهم". ملوك عديدون يستحقّون اسم "الطاغي، الظالم"، وبالتالي يستحقّون ميتة بشعة قال فيها النصّ اليونانيّ في آ19: "ترمى على الجبال مثل جثَّة فاسدة". سرجون قُتل في خورساباد سنة 705. سنحاريب ذبحه ابنه سنة 681. وأشوروبليت، آخر ملوك الأشوريّين سوف يموت بعد سقوط نينوى (سنة 612) موتًا شنيعًا سنة 609. ولكن يبدو أنّ تلاميذ النبيّ إشعيا استعادوا هذا[RK2] النصّ وطبَّقوه على نبوخذ نصَّر، المسؤول عن دمار أورشليم وسابي شعب الله. هو استحقَّ عقاب المتكبِّرين والظالمين، لهذا يزول نسله كما تزول مملكته، فتصبح مدينته خرابًا وقفرًا كما قرأنا في 13: 19-22.

14: 24-27 أحطِّم أشور في أرضي

يشبه هذا المقطع ما قرأنا في 10: 5-11، ويمكن أن يلمِّح إلى هجمة سنحاريب سنة 701 ق.م. فهذا الملك الذي قهر المدن العديدة، لم يقدر أن يدخل إلى أورشليم. مضى إلى أرضه بسبب المؤامرة، ويبدو أنَّ الوباء دبَّ في جيشه. "حلف" (ن ش ب ع) الربّ. هذا يعني أنَّه اتَّخذ قراره وسوف ينفِّذه: قصد، نوى. وماذا نوى؟ فعلان أيضًا: حطَّم، داس. هكذا يفعل المنتصر في القتال. وتتبدَّل الحال: لا مكان للنير، لا مكان للحمل، ويتكرَّر الفعل "زال" (س و ر) مرَّتين.

قصد الربُّ، وقصده لا يتبدَّل. ثمَّ: يده ممدودة. هي قديرة، وهي تفعل. موضوعان يتكرَّران في إشعيا (5: 25؛ 8: 10). فعلَ الربّ ضدّ أشور وهو سيفعل ضدَّ الأرض كلِّها، ضدَّ جميع الأمم. كلُّ هذا جاء في قسَم احتفاليّ ولا تراجع عنه: الربُّ قرَّر فمَن يكسر قراره؟ الربُّ مدَّ يده فمن يقدر أن يردَّها؟

14: 28-32 لا تفرحي يا أرض الفلسطيّين[RK3]

هو قول في مقطعين (آ29-30، آ31-32). يقابل فلسطية ويهوذا. هناك سياستان: آحاز خضع لأشورية طوال عهده. أمّا الفلسطيّون فعارضوا سنة 734. وهناك نظرتان دينيّتان: تحالف ضدَّ أشور فأَرسل وفدًا إلى حزقيّا (آ32). ماذا يكون الجواب؟ نصحه النبيّ: الاتِّكال على الربِّ الذي أسَّس صهيون أفضل من جميع التحالفات والمعاهدات.

"لا تفرحي" بسبب التحالف مع شعوب غربيّ الفرات. نزعَت النير فظنَّت أنَّها ارتاحت. كلاّ. يزول شرّ فيأتي شرٌّ أكبر منه (عا 5: 19). مثلاً، سنة 720 راح ملك غزَّة إلى السبي بيد سرجون "والآتي أعظم".

"المساكين" (آ30) هم يحتاجون إلى السلام والطمأنينة. فلماذا هذه السياسة "الكبيرة"؟ "من الشمال يأتي دخان" (آ31). هذا ما يشير إلى الهجمة الأشوريَّة القريبة: غبار الجنود، النار التي تحرق المدن. فلا مجال للمقاومة. ولا مجال للاستناد إلى قوى هذا العالم. الربُّ وحده ينجّي مدينته ويؤمِّن الحماية للساكنين فيها.


[RK1]تقسيم جيد.

[RK2]ما هو المقصود ب "استعادوا"؟

[RK3]من الضروري أن كل تفاسير الأسفار تعتمد هذه التسمية.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM