الفصل الأول:التفاسير المتاوية

الفصل الأول
التفاسير المتاوية

أوَّل من قدَّم تفسيرًا للعهد الجديد كاملاً، من أناجيل ورسائل وأعمال الرسل، كان أفرام السريانيّ. وصل إلينا تفسير الإنجيل الرباعيّ أو الدياتسّارون، كاملاً في الأرمنيَّة وناقصًا في السريانيَّة. نشرهما ونقلهما لويس لالوار. وفي مرحلة ثالثة، قدِّم ترجمة كاملة في الفرنسيَّة. أمّا أعمال الرسل فوصل تفسيره في الأرمنيَّة وكذا نقول عن الرسائل البولسيَّة.
نورد هنا ما يتعلَّق بيوحنّا المعمدان، الذي أعدَّ الطريق ليسوع:
كان الصوت صوت يوحنّا، أمّا الكلمة التي تمرُّ في الصوت، فهي ربُّنا. الصوت أيقظهم (= اليهود)، الصوت هتف فجَمَعهم، والكلمة وزَّع عليهم مواهبه. والعقاب الذي يعلَن يتوازى مع خطاياهم. ابتعَدوا قليلاً عن مخافة الله (ܕܚܠܬܐ ܐܠܗܐ، أي الدين) فعاقبهم الله قليلاً: «يُسقط أغصان الغاب بالفأس» (إش 10: 34)، كما قال إشعيا. تحدَّث عن الأغصان لا عن الجذور. ولكن حين فاض كيلُ خطاياهم، عاد يوحنّا (المعمدان) ليقتلع، لينتزع جذور الشجرة، قال: «ها هي الفأس على جذع الأشجار» (مت 3: 10)، وهذا ما تنكَّف إشعيا عن قوله. ومتى يكون هذا إلاَّ في ظهور هذا الإله الحقيقيّ، التي تدلُّ عليه صورةُ الساق والزهر، وعلى الذي عليه يحلُّ الروح السباعيّ الأشكال.
كان يوحنّا مرتديًا لباسًا من شعر الجمل (مت 3: 4)، لأنَّ خروفنا (المسيح) لم يكن بعدُ جُزَّ صوفه.
من هذه الحجارة، أي من عبّاد الحجارة والخشب، يستطيع الله أن يقيم أبناء لإبراهيم (مت 3: 9)، بحسب ما قال الكتاب: «جعلتك أبًا لأمم كثيرة» (تك 17: 4) .
يقرأ أفرام النصّ، وحالاً يجعله في حياة المؤمنين، في زمن الإنجيل كما في زمننا نحن القرّاء. وأخيرًا يصل إلى المسيح. هو الخروف، هو الحمل الذي يُساق إلى الذبح، كما قال إشعيا. ويأتي العهد القديم مع إبراهيم وإشعيا ليمتزج بالعهد الجديد من أجل الصلاة والتأمُّل. ونقدِّم مقطعًا آخر يعود فيه أفرام إلى العهد القديم ليستخلص العبرة للمؤمنين بمناسبة الكلام عن تجارب يسوع المذكورة في إنجيل متّى (4: 1-11) وفي إنجيل لوقا (4: 1-12).
كما أنَّ فرعون أُغرق في المياه (خر 14: 23-28) حيث سبق له وأغرق الأطفال (خر 1: 22)، هكذا قطع داود رأس جليات بالسيف الذي استُعمل لقتل العديد من الرجال (1 صم 17: 1-51). وثق موسى بسرِّ الصليب فشقَّ البحر (خر 14: 27)، وداود وثق بسرِّ الحجر  فجندل جليات (1 صم 17: 49). وربُّنا حكم على الشيطان الذي جرَّبه بالكلمة الخارجة من فمه (تث 8: 3). أَغرَق فرعونُ (الأطفال) فأُغرق. قُتل جليات بالسيف الذي كان يَقتل به. وقُهر إبليس وأُقنع أنَّه ليس إلهًا في (جسم) بشريَّ يستعمله لكي يهلك الناس.
جُرِّب الفادي ثلاث مرَّات، على مثال التغطيسات الثلاثة التي بها عُمِّد: «قلْ لهذه الحجارة أن تصير خبزًا» (مت 4: 3)، لأنَّه (أي: الخبز) يُقيتُ البشر. وأيضًا: أعطيك الممالك ومجدها (لو 4: 6)، لأنَّ ذلك هو وعدُ الشريعة. وأخيرًا: ألقِ بنفسك إلى الأسفل (مت 4: 6)، ممّا يعني نزول الموت. أمّا هو (أي: يسوع) فما تبلبل بعرضٍ من هذه العروض، ولا ابتهج أبدًا حين كان إبليس يمالقه، كما أنَّه ما تعذَّب حين حاول أن يرعبه. بل سار في طريقه لكي يُتمَّ مشيئة أبيه.
فرعون أُغرق. من أغرقه؟ هو المجهول الإلهيّ: الله. جليات، من قتله؟ حجر داود، وبالتالي «الحجر الذي رذله البنّاؤون». وأخيرًا موسى. توقَّف أفرام عند رموز بسيطة: حجر المقلاع، عصا موسى، المياه. وبعد ذلك أورد نصَّ الإنجيل مع التجارب الثلاث. ونقدِّم مقطعًا أخيرًا هو شرح التطويبات، الذي بدا بشكل عظة، أغناها بنصوص من العهدين:
حين وزَّع ربُّنا تعليم التطويبات، نظر إلى تلاميذه: رفع يسوع عينيه نحوهم وشرع يقول: سعدًا للذين هم فقراء في أنفسهم (مت 5: 3) أي للفقراء الذين تجرَّدوا (من كلِّ شيء). ولكي لا يتكبَّروا في هذا الفقر، قال: سعدًا للودعاء (5: 4). «كان موسى أكثر وداعة من كلِّ أبناء شعبه» (عد 12: 3). و«إلى مَن أَنظرُ وفي مَن أَسكنُ إلاَّ في الودعاء ومتواضعي القلب» (إش 66: 2). و«اذكرْ يا ربّ داود وكلَّ وداعته» (مز 132: 1). و«كونوا تلاميذي لأنِّي أنا وديع ومتواضع القلب فتجدون راحة لنفوسكم» (مت 11: 29). سعدًا للجياع والعطاش إلى البرّ (5: 6)، بحسب ما قال النبيّ: «لا جوع إلى الخبز، ولا عطش إلى الماء، بل إلى سماع كلام الله» (عا 8: 11). سعدًا لأنقياء القلوب لأنَّهم يعاينون الله (5: 8)، كما طلب النبيّ في صلاته: «اخلُقْ فيَّ قلبًا نقيًّا، يا الله» (مز 51: 2). قلبُ الأبرار نقيّ. يعاينون الله. مثل موسى. سعدًا لأنقياء القلوب، لأنَّ القلب هو عضو التنفُّس، وهو لا يني يدقّ. إن كان قدِّيسًا خلال الحياة، أرسل القداسة إلى جميع الأعضاء. «في القلب تجد جميع الأفكار الشرِّيرة» (مت 15: 19). سعدًا للباكين لأنَّهم يضحكون (مت 5: 4؛ لو 6: 21). بحسب ما يقول الرسول: «إذا تألَّمنا معه، نتمجَّد معه أيضًا» (رو 8: 17).
سعدًا للمساكين، لأنَّهم يُدعَون أبناء الله (5: 9)، بحسب ما قال الملائكة ساعة أعلنوا الخبر الطيِّب: «المجد لله في الأعالي، والسلام على الأرض» (لو 2: 14). «صنع السلام بدم صليبه، كلُّ ما في السماوات وكلُّ ما على الأرض» (كو 1: 20). وحين بعث يسوع رسله قال لهم: «أيَّ بيت تدخلونه، قولوا أوَّلاً: السلام لهذا البيت» (مت 10: 12؛ لو 10: 5). فالمسالمون يُدعَون أبناء الله، حسب كلمة الرسول هذه: «الذين يسيرون بحسب روح الله، هؤلاء هم أبناء الله» (رو 8: 14). سعدًا للذين ينالون الاضطهاد من أجل البرّ (5: 10)، حسب كلام الربّ: «يضطهدونكم ويسلمونكم» (لو 21: 12) و(حسب) كلام الرسول: «الذين يريدون أن يحيوا حسب برِّ يسوع المسيح، هم أيضًا ينالون الاضطهاد» (2 تم 3: 12). لهذا، حين احتُقر التلاميذ، «كانوا فرحين لأنَّهم أُهِّلوا لينالوا الشتيمة من أجل اسمه» (أع 5: 41)، كما الربُّ أوصاهم: «ابتَهِجوا وافرَحوا لأنَّ أجركم عظيم في السماء» (5: 12) .
أسلوب التفسير السريانيّ هو هو. ترد آية من الإنجيل، ثمَّ يكون التعليق عليها، انطلاقًا من نصوص العهد القديم أو العهد الجديد. هنا ذُكر المزمور مرَّتين. وإشعيا مرَّة واحدة. ذُكر الإنجيل أكثر من مرَّة ومثله الرسائل البولسيَّة كما ذُكر سفر الأعمال مرَّة واحدة. لا ذكر للرسائل الكاثوليكيَّة أو العامَّة، ولا لسفر الرؤيا.
*  *  *
في خطِّ مار أفرام، يأتي تلميذه مار آبا. هذا وضع شرحًا للدياتسّارون وأمورًا أخرى في العهد القديم، منها خطبة في أيُّوب البارّ. قيل عنه في وصيَّة أفرام: «آبا، رجل مدهش، كرَّم الله ذكرَه وأشعَّ وجهَه مثل الملائكة. كنْ شبيهًا بشعاع موسى بحيث إنَّ جميع الذين ينظرون إليك يفهمون أنَّك خادم الله. ونقرأ منه هذا المقطع:
الحبُّ والرحمة في الوسط
ولتكن لنا الثقة والمخافة
المخافة من أجل الحبّ
والثقة من أجل الرحمة.
*  *  *
سنة 610 توفِّي حنانا المولود في مقاطعة حدياب، في منتصق القرن السادس. هذا العالِم شرح العهد الجديد، فضلاً عن المزامير وأيُّوب والأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد... ولكنَّه ترك النسطوريَّة وعلَّم أنَّ في المسيح أقنومًا واحدًا في طبيعتين، فرُفضت تعاليمه لاسيَّما وأنَّه ترك «المفسِّر»، تيودور المصيصيّ، وأخذ بنصوص الذهبيّ الفم. نورد هنا ثلاثة مقاطع منه وردت في تفسير متّى لإيشوعداد:
على هذه أنَّ ربَّنا كان في قلب الأرض ثلاثة أيَّام وثلاث ليال، قال الملافنة القدماء وحنانا هكذا: النهار (ܐܝܡܡܐ) جزء من نهار الجمعة، والليل، الظلمة التي كانت في الوسط، والنهار، ثلاث ساعات بعد الظلمة. وليل ونهار السبت، وليل الأحد. هذه كلُّها ستٌّ: ثلاثة من النور وثلاثة من الظلام.
كان سؤال حول إقامة يسوع في القبر، فجاء الجواب أنَّ الجزء من النهار هو نهار وكذلك الجزء من الليل. وهذا مقطع آخر حول مثل الخمير الذي ورد في عظة الأمثال (مت 13: 33).

والآن بمثل الخمير علَّمنا حول وفرة الكرازة، وكيف تُبطلُ كلُّ التعاليم تلك هي أيضًا طبيعة الخمير الذي يحمِّض كلَّ الجبلة التي فيها ضُمَّ. كنّى العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ والعالم السامريّ ثلاثة أكيال. في الحقيقة هو تفسير لذاك الذي (ورد) أعلاه. أمّا حنانا وآخرون فقالوا: ثلاثة أكيال هي أبناء نوح الذين منهم قامت الشعوب والأمم.
نلاحظ أنَّ إيشوعداد لا يذكر حنانا وحده، بل يجعله مع الآخرين، أو مع المعلِّمين الآخرين ليُظهر أنَّ تعليمه ليس بالضالّ كما قالوا عنه.  وتوخَّى أيضًا أن لا يذكره وحده لئلاَّ تقع عليه صواعق «الحرومات» التي حلَّت بحنانا «الأوريجانيّ» كما قالوا. والمقطع الثالث يحدِّثنا عن مجيء موسى وإيليّا ليرافقا يسوع في تجلِّيه:
استعمل ربُّنا ثلاثة أنواع على الجبل: تبدُّل جسمه كلِّه وإنارة وجهه وتجلِّي ثيابه، وهي أمور لم تُستعمل لدى إنسان آخر. ولكنَّه بيَّن هذه الأمور على نفسه، لا كأنَّه كان يحتاجه. فكيف توجد الكلمة الإله والنور من الحشا (ܡܪܒܥܐ) ومن بداية كلام الملاك، والمجد الذي لا يُرى ولا يُقال إلاَّ ليعرِّفنا أنَّ كلَّ الصدِّيقين (ܙܕܝܩ̈ܐ، أو الأبرار) تساووا في هذا النور وفي هذا المجد. فبحسب وعد ربِّنا: «عندئذٍ يضيء الصدِّيقون مثل الشمس»، والباقي (مت 13: 43). تراءى موسى وإيليّا، لا بشكل جسديّ، بل بالأحرى في تجلٍّ كما بيَّن الروح القدس للأنبياء، تلك التي كانت خفيَّة وبعيدة، كما صُوِّرت قدَّام عيونهم. هو ما بعث (أقام من الموت) موسى ثمَّ أماته كما قال حنانا الحديابيّ ورفاقه. ولا ما قاله آخرون إنَّ إيليّا جاء شخصيًّا، ولكن بدل موسى ملاكه. فمن العبث أن نتخيَّل أنَّه بواسطة ملاك غير مائت يُرمَز إلى قيامة الموتى من الموت. لهذا شُخِّص الاثنان، في التجلِّي، فأُظهر موسى من بين الأموات وإيليّا من بين الأحياء في تجلِّي ربِّنا. ففي مجيء ربِّنا، يقوم الأموات بصوته، والأحياء الباقون يتجدَّدون إلى الاموات. وأيضًا موسى المتزوِّج وإيليّا البتول شُخِّصا، نمطًا تامًّا لقيامة الأموات التي ستكون من الأزواج الصدِّيقين (أو: الأبرار) والبتولين الأعفّاء. وكلا الجانبين يرثان ملكوت السماء وخيراته.
عاد إيشوعداد إلى حنانا ولكنَّه لم يوافقه الرأي في أنَّ يسوع أقام موسى من بين الأموات ثمَّ أعاده إلى القبر. وتذكَّر أفرام السريانيّ في تفسير الدياتسّارون، حيث نقرأ: «هنا رجال يقفون قربي ولا يختبرون الموت» (مت 16: 28). دلَّ بهذا أنَّهم سوف يُخطَفون أحياء في الهواء. دعا إيليّا الذي خُطف في الماضي إلى السماء (2 مل 2: 10-12)، وموسى القائم من الموت (مت 17: 3)، والشهود الثلاثة بين الرسل... ما كان باستطاعتهم (أي: الثلاثة) أن يروه، ومع ذلك أراد لهم أن يعرفوا أنَّهم سيتحوَّلون أيضًا. وأتى بهذين الاثنين، موسى وإيليّا، لكي يؤمنوا بالقيامة الأخيرة. فالذين ماتوا مثل موسى يقومون، والذين يكونون أحياء عند ذلك، يطيرون مثل إيليّا، لأنَّ للربِّ العلوَّ والعمق (رو 11: 33).
*  *  *
ونذكر بشكل عابر باباي الكبير (ܒܒܝ ܪܒܐ، 553-628) الذي شرح كلَّ نصوص الكتاب المقدَّس. فهذا المشهور بين الكتّاب النساطرة، ترك 83 أو 84 كتابًا، ولكن لم يبقَ منها سوى القليل لسبب لا نعرفه. نشير بشكل عابر إلى كتابه الشهير في الاتِّحاد أي اتِّحاد الألوهيَّة بالناسوت في المسيح.
أمّا إيليّا مطران مرو، الذي عاش في القرن السابع، فوضع خطبًا في كلِّ الأناجيل، وشرح سفر الأمثال والتكوين والمزامير والجامعة...
*  *  *
وقبل أن نصل إلى الكنيسة السريانيَّة الغربيَّة، التي دُعيَتْ يعقوبيَّة، نشير إلى النصوص اليونانيَّة التي انتقلت إلى السريانيَّة، فاستقى منها الشرّاح العديدون. أوَّلهم، يوحنّا الذهبيّ الفم (344-407) الذي وصلت شروحه سريعًا إلى العالم السريانيّ. ونذكر في هذا المجال العظات في إنجيل متّى. جاءت تسعين في اليونانيَّة. أمّا في السريانيَّة، فوصل منها المواعظ 1-32 في مخطوط يعود إلى القرن السادس. دعا يوحنّا الأناجيل «رسائل الملك الإلهيّ»، وقابل بين إنجيل وإنجيل، فوجد اختلافات بسيطة بحيث دلَّ كلُّ إنجيليّ أنَّه مستقلّ عن الآخر، وإلاَّ لا حاجة إلى أربعة أناجيل إذا كان الإنجيل منسوخًا عن أخيه.
وتقولون لي، في هذه الحالة، أما كان يكفينا إنجيليٌّ واحد ليروي لنا كلَّ شيء؟ لا شكَّ في أنَّ (إنجيليًّا) واحدًا كان كافيًا. ومع ذلك، هناك أربعة، ما كتبوا في الوقت عينه، ولا في المكان ذاته. هم ما اجتمعوا ولا توافقوا فبدَتْ أقوالهم فيما بعد وكأنَّها خارجة من فم واحد. هذا صار شهادة رائعة من أجل الحقيقة.
وتقولون لي أيضًا: بل حصل عكس ذلك، وهم يختلفون مرارًا الواحد عن الآخر. فهذا يبرهن أيضًا بشكل ساطع أنَّهم يقولون الحقيقة. فلو كانوا متَّفقين كلَّ الاتِّفاق، وفي كلِّ الظروف، وفي أدقِّ التفاصيل وحتّى في التعابير عينها، فما من مُعادٍ إلاَّ وظنَّ أنَّ هذا كان نتيجة اتِّفاق مسبق، لا نتيجة صدقٍ كامل. فالاختلافات، وهي صغيرة جدًّا، التي نجدها عند هؤلاء الكتّاب، تجعلهم في الحقيقة بمنأى عن الظنون، وتُبرز بشكل مدهش صدق نيَّتهم.
هو كلام دفاعيّ عن صحَّة الأناجيل في وجه الذين اعتبروا أنَّ الكتّاب لم يكونوا صادقين، لأنَّ هناك اختلافات بين إنجيليّ وإنجيليّ. ونودُّ أن نذكر مقطعين من الذهبيّ الفم وردا عند إيشوعداد المروزيّ، وهكذا نفهم أنَّ الشرّاح اليونان كانوا حاضرين في العالم السريانيّ. الأوَّل، نأخذه من التوطئة:
ويُسأل إن كان هذا أُخذ على يسوع المسيح، أو على داود أنَّه ابن إبراهيم. قال يوحنّا الذهبي الفم إنَّه دعا يسوع المسيح ابن إبراهيم كما دعاه ابنَ داود. قيل: يسوع ابن داود و(ابن) إبراهيم. وقال المفسِّر (تيودور المصيصيّ): دعا داود، ابن إبراهيم لكي يكون القول هكذا. يسوع المسيح ابن داود، وداود (ابن) إبراهيم وها هو ابن اثنيهما.
وها هو المقطع الثاني في إطار الكلام عن يوحنّا المعمدان:
وهذه: «ما قام من مواليد النساء أعظم من يوحنّا، ولكنَّ الصغير في ملكوت السماء هو أعظم منه» (مت 11: 11). قال أناس: الصغير هو يوحنّا بن زبدى. وآخرون قالوا: متيّا لأنَّه كان بدل الأسخريوطيّ (أع 1: 23-26). وآخرون قالوا: آدم الذي كان أصغر من الملائكة (مز 8: 6). وقال سويريوس: هو المسيح الذي كان الصغير وصار في الملكوت أكبر من يوحنّا. وأتى بشهادة من الذهبيّ الفم. ولكنَّ هؤلاء جميعًا ضلُّوا عن الحقيقة لأنَّ الكتاب يعلِّمنا عن ولادتين: واحدة، وهي هذه، من امرأة. وأخرى، تلك التي من القبر، وبعد ذلك نسير في الحياة الجديدة التي نَمطُها المعموديَّة، لأنَّ المعموديَّة دُعيَت الولادة الجديدة (ܡܢ ܕܪܫ، يو 3: 5).
سوف نتعرَّف فيما بعد إلى إيشوعداد. ولكن منذ الآن نكتشف شخصًا ذا رأي خاصّ حين يكون هناك آراء متعدِّدة. ذكر الآراء العديدة، ومنها رأي سويريوس، أسقف أنطاكية (512-518) المستند إلى يوحنّا فم الذهب. وفي النهاية، أوصلنا إلى ولادتين، واحدة في الجسد وثانية في المعموديَّة في خطِّ الإنجيل الرابع: من لم يُولَد...
*  *  *
وبعد الذهبيّ الفم نذكر المفسِّر، تيودور أسقف المصيصة. ذاك الذي ضاعت مؤلَّفاته في اليونانيَّة فوُجدت باكرًا في السريانيَّة، بل سيطرت. هذا الذي وُلد في أنطاكية، مثل معلِّمه ديودور، وبدأ حياة نسكيَّة مع الذهبيّ الفم، ورُسم كاهنًا سنة 383 على يد فلافيان، أسقف أنطاكية، ثمَّ أسقفًا على المصيصة سنة 392، وتوفِّي سنة 428 فكرِّم أعظم إكرامٍ لتعليمه العميق والقويم، قاسم خطَّ معلِّمه، ديودور أسقف طرسوس، فحُرم على أنَّه هرطوقيّ،  125 سنة بعد موته.
كان تيودور الممثِّل المميَّز لمدرسة أنطاكية التفسيريَّة. وكرَّمته الكنيسة النسطوريَّة على أنَّه «مفسِّر الكتب المقدَّسة الكبير»، بل هو «المفسِّر» فقط. كتب تفاسير على جميع الأسفار المقدَّسة وعُرف بحكمه الصائب. بقي لنا من العهد الجديد تفسير يوحنّا كاملاً في السريانيَّة، وشروح حول عشر رسائل بولسيَّة، نُقلَتْ إلى اللاتينيَّة منذ القرن السادس وجُعلت على اسم أمبرواز أسقف ميلانو  وإلاَّ كان نصيبها نصيب سائر مؤلَّفات تيودور.
ونعرف بحسب عبديشوع أنَّ تيودور شرح إنجيل متّى، فبقيت منه نتف في اليونانيَّة وفي السريانيَّة. أمّا نحن فنعود إلى إيشوعداد لنكتشف المقاطع العديدة في تفسير متّى، الموضوعة على اسم المفسِّر. وأوَّل مقطع حول مصير يوحنّا المعمدان بعد أن هرب يوسف ومريم ويسوع إلى مصر:
قال آخرون: خطفه الملاك من حضن أمِّه، فما عرفت هي ولا أبوه ولا إنسان آخر موضع سكنه. وقال آخرون: في وقت واحد، وقبل سيف هيرودس، هرب ربُّنا ورسوله، ذاك إلى مصر وهذا إلى البرِّيَّة. واحد (يسوع) ركب حمارًا، وآخر بقوَّة الريح مثل حبقوق (دا 14: 36. أخذ الطعام إلى دانيال). (وقال) المفسِّر: انتقل بعد أن اقتبله الكهنة. وقال آخرون: حين شعر زكريّا أبوه بسيف هيرودس، ربَّما طُلب الصبيّ، ولكنَّه كان على حدود بيت لحم، أو سكن في أورشليم لأنَّ عظيم الكهنة أخذ الصبيّ ووضعه على مذبح الغفران، حيث استقبل الحبل (لإليصابات) بواسطة الملاك. وإذ ركع للصلاة، خطفه الملاك ونقله إلى البرِّيَّة الداخليَّة (أو: الجوّانيَّة).
أوردتُ هذا النصَّ مطوَّلاً، مع أنَّ فيه إشارة سريعة إلى تيودور، لأنَّ فيه أكثر من رأي في إطار العالم السريانيّ. والكلام لا يتوقَّف هنا، بل يأتي اليهود إلى زكريّا ويسألونه عن ابنه. وتساءل الشرّاح عن طعام يوحنّا
كان طعامه (مأكله، ܡܐܟܘܠܬܐ) الجراد وعسل البرّ (3: 4). ولكنَّ الدياتسّارون قال: كان طعامه العسل ولبن الجبال. وقال آخرون: إنَّ الجراد كان جذورًا طريئة تشبه الإسطفلين (الجزر الأبيض، ܐܣܛܦܠܝܢ). أي الجزر، ولم يكن حلوًا جدًّا. يدعونه أناس: ܩܡܣܝܣ. وآخرون: ܩܡܣܝܢ. وفي الفارسيّ ܡܢܓ وآخرون قالوا: هي جذور تُدعى ܩܘܚܐ التي تشبه الجراد في الشكل، أمّا بالطعم فهي حلوة مثل العسل (ܕܒܫܐ). آخرون: هي فروع النبتات (تنمو هنا وهناك). ويقولون إنَّ هذا الدبس ليس حلوًا بل هو مرّ وكريه، ويصنعه النحلُ البرّيّ. بحسب المفسِّر، كان الجراد طيّارًا، والعسل طبيعيًّا، الذي هو من حرارة المكان ومزيج الهواء، وهو يُوجد هناك دومًا. فالأسرار خفيَّة في كلِّ أمور يوحنّا: البشارة بالحبل به في يوم الغفران، مشاهدة الغفران الذي وُهب لكلِّ إنسان في المسيح.
هي دراسة في علم النبات كما يحبُّ أن يعمل تيودور، مع قراءته الحرفيَّة للأسفار المقدَّسة في خطِّ مدرسة أنطاكية. وفي النهاية، يتأمَّل في شخص يوحنّا لكي يصل إلى المسيح. وفي مناسبة عماد يسوع، يرد اسم المفسِّر.
قال أحد اللاهوتيِّين: ربُّنا الذي هو رأس الأنماط، عُمِّد في المياه ثلاث مرَّات، بحسب ما أُسلم في النهاية، وباسم الثالوث: الروح نزل، الابن اعتمد، والآب هتف: ها هو ابني. قيل، ثلاثة أسماء عمَّدت آدم الثاني، والباقي. وأيضًا نزل الروح بحيث أنَّ النبوءة تثبَّتت. وقيل: يخرج قضيب من جذع يسَّى ويتفرَّع فرخٌ من جذره فيرتاح عليه روح الله ويحلّ، والباقي من المقطع (إش 11: 1).
قال المفسِّر: بانت ليوحنّا وحده رؤيةُ الروح، كما قال: «وأنا رأيت وشهدت»، والباقي (يو 1: 34)، مع أنَّهم كلَّهم سمعوا الصوت. ويوحنّا الذهبيّ الفم قال: الاثنان رأيا الاثنين، وإلاَّ يُظنَّ أنَّ هذا القول: ها هو ابني الحبيب، أتى على يوحنّا.
مع نرساي الذي سوف نعود إليه، ورد رأي يوحنّا الذهبيّ الفم مع المفسِّر. وفي إطار الكلام عن تجارب يسوع في البرِّيَّة:
قال أناس: في يوم واحد الذي هو نهاية الأربعين يومًا من صوم ربِّنا، جرَّب الشيطان ربَّنا، واقترب منه ثلاث مرَّات في هذه الحرب، وإن كان لا، فهو ما صام أربعين يومًا بلياليها، بل أكثر، وبعد التجربة أتى إلى مساكن البشر. وسرّ القتال هذا؟ ما جلاه لتلاميذه ولا لإنسان آخر. وحتّى تقبَّل الروح في العلِّيَّة (أع 2: 1ي)، ما عرف إنسان (بذلك). وبعد ثلاثة أيَّام أو أربع على عودته، صنع الخمر واختار التلاميذ. أمّا المفسِّر وآخرون فقالوا: صنع الخمر بعد أن عُمِّد بثلاثة أيَّام. وسُئل: ما كان القتال الأوَّل، وما كان الآخر.
وفي سياق شرح الصلاة الربِّيَّة:
وأيضًا: لمشاهدة الثالوث: مثل هذه أنَّ ملكوت الله لا يأتي بالرصد. «ملكوت الله هو في داخلكم» (لو 17: 20، 21). أي، ما هو خارج المعرفة وتحرُّكات العارفين للنفس. بل هنا الملكوت كما (قال) المفسِّر هو نعمة الروح القدس التي قبلنا كعربون في المعموديَّة وبشكل خفيّ. والآن يأمرنا لنسأل أن نحتفظ بثماره فينا جليًّا، فتُعطى لنا بشكل كامل في العالم الجديد، والباقي.
ونقدِّم النصَّ الأخير، مع أنَّ نصوصًا أخرى أخذها إيشوعداد من المفسِّر، وفيه كلام عن أفرام وعن يوسيفس في العاديات (18/5: 4). أمّا الموضوع فهو توبيخ يوحنّا لهيرودس، وهو توبيخ سيقود المعمدان إلى السجن وإلى الموت.
ويُسأل: هل فجَر هيرودس بهيروديا في حياة فيلبُّس أم بعد موته؟ وكيف أنَّ هيرودس الذي لم يكن يهوديًا، بل من الوثنيِّين، وبَّخه يوحنّا؟ قال مار أفرام وآخرون: أخذها بعد أن مات فيلبُّس. ما كان سلطان فيلبُّس، الذي حُرم مضجعه خلال حياته وسكت، مساويًا لسلطان أخيه. ولكنَّ سلطانه كان سلطانين على أخيه، لأنَّ حصَّة أرخيلاوس وُهبَتْ له. قالوا: وبَّخه يوحنّا، مع أنَّه حقًّا من الأمم (لا من اليهود)، سواء كان فلسطيًّا بأبيه الذي كان كاهنًا أو أدوميًّا بتربيته، كما قلنا أعلاه. لأنَّه انتظر هو وأبوه وإخوته أن يُحسَبون ويعدَّون يهودًا ويطيعون ناموس الله. وأيضًا قالوا إنَّه (= يوحنّا) وبَّخه، ومع أنَّ الناموس نصحه بأن يأخذ امرأة أخيه ويقيم له زرعًا، لأنَّه كان لفيلبُّس ابنة. وهكذا يتواصل زرعه من بعده. ولكنَّ المفسِّر قال: في حياة أخيه زنى بهيروديا وبابنتها التي دعيَت أيضًا هيروديا. والكاتب يوسيفس شهد أيضًا: في حياة أخيه فجر بامرأته، وفصلها عن زوجها وهو حيّ. وظلم (امرأته) الأولى التي كانت بنت أريتاس، ملك الفرتويِّين، فحارب هذا هيرودس لأنَّه احتقر ابنته، وبسبب هيروديا سقط من مُلكه، ومعها طُرد إلى المنفى في فيينا، مدينة في غاليا.
أوردنا هذا العدد من النصوص التي يرد فيها اسم تيودور المصيصيّ، لكي نعوِّض بعض ما ضاع من هذا الكبير في أنطاكية، الذي تبعثرت أعماله بين السريانيَّة واللاتينيَّة مع قلَّة قليلة في اليونانيَّة. ويبقى أنَّ العالم السريانيّ اغتذى منه في شرح الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد.
*  *  *
ونذكر من الآباء اليونان أيضًا أثناز، بابا الإسكندريَّة، الذي وصلت بعض عظاته عن متّى إلى العالم السريانيّ، ونُشرت تلك التي حول التجديف على الروح القدس (مت 12: 32).
من أجل الكلمة التي في الإنجيل، إذ كتبتَ لي عرَّفتني في شأنها. اغفر لي، يا حبيبي، بعد أن بيَّنتَ لي عواطفك الصالحة. فأنا خفتُ بعض الوقت أن أقترب إليها وأنزل إلى عمق الفكرة وأشرع في البحث فيها. لا أستطيع أن أصل إلى عمق المدلول التي فيها. إذًا أردتُ أن أصمت ملء الصمت فأكتفي فقط بالأمور التي كتبَت من قبل. ولكنِّي راعيت أنَّك قد تكتب لي مرَّة ثانية لكي تتبيَّن تفسير الكلمة، فأَكرهتُ نفسي أن أكتب لك بعض ما في فهمي الصغير. وأنا واثق أنِّي إن أدركت المعنى لا أُلام من قبلك لأنَّك تعرف اجتهادنا وضعفنا.
بعد هذه المقدِّمة التي فيها بيَّن الأسقف ضعفه مع اهتمامه بأن يوصل الشرح إلى من طلبه منه، ها هو يدخل في الشرح:
أمّا الكلمة فهي هذه: إذ رأى الفرِّيسيُّون الآيات التي صنعها ربُّنا والتي كتبَتْ في الإنجيل المقدَّس، قالوا: «هذا لا يُخرج الشياطين إلاَّ ببعل زبوب، رئيس الشياطين» (مت 12: 24). عرف ربُّنا أفكارهم فقال لهم: «كلُّ مملكة تنقسم على نفسها تخرب» (آ25). وقال: «إن أنا بروح الله أُخرج الشياطين، فقد اقترب إليكم ملكوت الله» (آ28). ثمَّ أضاف: «من أجل هذا أقول لكم: كلُّ الخطايا والتجاديف تُغفر لكم، للبشر، أمّا التجديف على الروح القدس فلا يُغفر لكم، لا في هذا العالم ولا في الآتي» (آ31-32). فتساءلتَ: لماذا التجديف على الابن يُغفَر، وأمّا التجديف على الروح القدس فلا يُغفَر في هذا العالم ولا في الآتي؟
بعد أن أورد النصَّ الإنجيليّ، عاد أثناز إلى أوريجان، معلِّم الإسكندريَّة، وإلى تيوغنوستي الذي ترأَّس المدرسة في وقت من الأوقات.
هناك الناس القدماء، أوريجان المتضلِّع بالعلم، ومحبّ العمل، وتيوغنوستي المدهش والمجدّ. نظرت في أقوالهما. من أجل هذا حين كتبتَ إليَّ (رسالة)، كتَبا إثناهما أنَّ هذا هو التجديف على الروح القدس، فقالا هكذا: حين يصبح الإنسان أهلاً، بواسطة المعموديَّة، لموهبة الروح القدس، وبعد ذلك يعود فيصنع الخطيئة، فلا غفران له. كما قال بولس في الرسالة إلى العبرانيِّين: «لا يقدر أولئك الذين نزلوا إلى جرن المعموديَّة مرَّة، واستطعموا (= ذاقوا) الموهبة من السماء، وأخذوا الروح القدس واستطعموا كلمة الله الصالحة وقوَّة العالم الآتي، ثمَّ خطئوا، هؤلاء لا يمكن أن يتجدَّدوا بالتوبة» (6: 4-6). هذان الاثنان قالا هذه الأمور سواسية. ثمَّ أضاف كلُّ واحد رأيه.
أمّا أوريجان فقال: إنَّ علَّة الدينونة على المجدِّف هي هذه: فالله الآب هو في الكلّ وضابط الكلّ، من لا نفس له (الجامد) ومن له نفس، سواء كان ناطقًا أو غير ناطق. أمّا قدرة الابن فتمتدُّ فقط إلى (الخلائق) الناطقة، وبينهم السامعون  والوثنيُون أيضًا الذين لم يؤمنوا. فالروح القدس هو فقط في الذين تقبَّلوه بواسطة موهبة العماد. إذًا، حين يخطأ السامعون والوثنيُّون ضدّ الابن، لأنَّه فيهم كما قيل، فيستطيعون أن ينالوا الغفران حين يستحقُّون الموهبة بواسطة الولادة من جديد. وعندما يخطأ الذين اعتمدوا، فهم يخطأون ضدَّ الروح القدس، لأنَّهم خطئوا بعد أن كانوا فيه، فلا عذر لهم في الدينونة التي تأتي عليهم.
وأضاف تيوغنوستي هذه أيضًا: من عبر (أو: تجاوز) التخوم الأوَّل و(التخوم) الثاني، يُدان بشكل أقلّ. ولكن من (عبر) الثالث، ليس له عذر. الأوَّل والثاني قيلا في الآب والابن. أمّا الثالث ففي الروح القدس. وإذ أراد أن يكمِّل كلامه قال هذه التي قيلت من قبل ربِّنا إلى تلاميذه: «لي أيضًا أشياء كثيرة أقولها لكم، لكن لا تستطيعون الآن أن تقبلوها. فعندما يأتي الروح القدس، فهو يعلِّمكم» (يو 16: 12-13). إذًا هذه قالها مخلًِّصنا إلى أولئك الذين لا يقدرون أن يتقبَّلوها في كمالها إذ يحدر صغارتهم. أمّا الذين كمُلوا فهم يتقبَّلون الروح القدس ولا يعبرون (يتجاوزون) تعليم الابن، بل إنَّ الابن يتنازل لدى أولئك الذين لم يكملوا، والروح هو الختم بالنسبة إلى الذين كملوا، والآن، ها هو التجديف على الروح القدس، لا لأنَّ الروح يتجاوز الابن، بل من أجل الذين لم يكملوا هناك عذر. أمّا الذين كملوا واستطعموا الموهبة (الآتية) من السماء، فلا يبقى لهم عذر. هذه قيلت عن هؤلاء.
توافق رأي أوريجان ورأي تيوغنوستي، حين ميَّزا بين الكاملين واللاكاملين، أو بين المعمَّدين من جهة، والوثنيِّين والموعوظين (أو: السامعين) من جهة أخرى. وها هو أثناز يعطي رأيه:
أمّا أنا وانطلاقًا ممّا تعلَّمت، وأظنُّ أنَّ رأي كلِّ واحد منهما ينقصه البحث، فلا بدَّ من أن نرى إن كان لا يُوجد فيه معنى أكثر خفاء وعمقًا. من المعروف أنَّ ما هو الآب هو الابن أيضًا. وما هو الآب والابن هو الروح القدس أيضًا، لأنَّ الثالوث القدُّوس هو بلا تمييز وكامل. ثمَّ، إن وُجد كلُّ شيء بالابن، وإن كان كلُّ شيء قائمًا به، فكيف يكون خارج ما وُجد به؟ إذًا، بما أنَّ لا شيء خارجًا عنه، ينبغي (القول) إنَّ الذي خطئ ضدَّ الابن وجدَّف، خطئ أيضًا ضدَّ الآب وضدَّ الروح أيضًا. والمعموديَّة المقدَّسة إن وُهبَتْ بالروح فقط، يجب القول إنَّ الذين اعتمدوا وخطئوا، خطئوا ضدَّ الروح القدس وحده. ولكن بما أنَّ المعموديَّة توهَب بالآب والابن والروح القدس، وهكذا كلُّ من اعتمد يكمِّل هذه الطريقة. إذًا الوقوع في التجديف يفترض بعد المعموديَّة أن يكون تجديفًا ضدَّ الثالوث الأقدس بلا انقسام.
بما أنَّنا نلنا العماد باسم الثالوث، فكلُّ تجديف من قبلنا يكون ضدَّ الثالوث، لا ضدَّ الروح القدس وحده. وها هو الشارح يعود إلى الإطار الإنجيليّ، والكلام توجَّه إلى الفرِّيسيِّين.
وينبغي أيضًا أن نَحسب هذه ونفكِّر فيها: إن كان الفرِّيسيُّون، بعد أن نالوا العماد وسبقوا فقبلوا موهبة الروح القدس، يكون هذا الرأي مقبولاً، عادوا أيضًا وخطئوا ضدَّ الروح القدس. ولكن إن هم ما نالوا العماد، بل احتقروا أيضًا معموديَّة يوحنّا، فكيف يُلامون أنَّهم جدَّفوا على الروح القدس، الذي لم يكن لهم بعدُ شركة معه؟ فربُّنا ما قال هذا فقط لكي يعلِّمنا، بل إنَّ ربَّنا قال هذه الكلمة فأتى بالاستنكار لهذه الدينونة، ولام بالحقيقة الفرِّيسيِّين الذين كانوا من قبْل تحت دينونة هذا التجديف العظيم. وإذ كان الفرِّيسيُّون متَّهمين بهذا وقبل أن ينالوا العماد، فمن الواضح أنَّ هذا الكلام لا يسري على الذين تجاوزوا (الوصيَّة) بعد المعموديَّة. فهو ما استنكر هذه الأمور فقط بسبب الخطايا، بل بسبب التجديف أتى بهذا الاستنكار (أو: التوبيخ) عليهم. وفي هذا فرق (كبير). فالذي تجاوز الناموس والذي جدَّف عمل شرًّا (ܡܪܫܥ) ضدَّ الألوهة. إذ وُبِّخوا من قبل مخلِّصنا بسبب أمور كثيرة، حين تجاوزوا وصيَّة الله في ما يتعلَّق بآبائهم (مت 15: 3-6) وفي محبَّة الفضَّة (لو 16: 14)، وفي الابتعاد عمّا قيل بفم الأنبياء (مت 23: 29ي)، وفي أنَّهم جعلوا من بيت الله بيت تجارة (يو 2: 16). نبَّههم لكي يتوبوا. وحين قالوا إنَّه يُخرج الشياطين ببعل زبوب، بيَّن أنَّ هذه ليست مجرَّد خطيئة بل تجديف، بحيث إنَّ الذين يتجرَّأون ويقولون مثل هذه الأشياء، لا يمكن أن يتجاوزوا (الدينونة) وليس لهم عذر في الدينونة.
*  *  *
ونعود إلى الكنيسة السريانيَّة الغربيَّة، والبداية مع فيلوكسين المنبجيّ المتوفِّي سنة 523. هذا الذي حُسب عَلمًا من أعلام الأدب السريانيّ، وُلد في المنطقة الفارسيَّة، في بلدة «تحل» الواقعة في مقاطعة بيت كرماي. في 16 آب 485، أقيم أسقفًا على منبج، وحارب النسطوريَّة بضراوة، يوم كان الحكم الدينيّ والمدنيّ مؤاتيًا، ولمّا انقلبت الأحوال، تخلَّى عن كرسيِّه وراح إلى المنفى سنة 519 وهناك توفِّي.
ترك فيلوكسين المؤلَّفات العديدة، أمّا ما يتعلَّق بالكتاب المقدَّس، فقد اهتمَّ بنقل العهد الجديد بمساعدة الخوري بوليكربس سنة 507 أو 508 . ثمَّ شرحَ الأناجيل لا بشكل متواصل، بل اختار المواضيع الهامَّة التي تدفعه لإثبات عقيدة أو تعينه في الجدالات في ردٍّ على النساطرة أو على تيودور المصيصيّ. وما نلاحظ هو أنَّ إنجيلَي متّى ولوقا هما معًا، وكأنَّ مرقس لم يُشرَح بيد أسقف منبج.
ضاع تفسير فيلوكسين لمتّى ولوقا، وبقيت مقاطع وُجدت عند ابن الصليبي  أو موسى بركيفا في مقاله حول خلق الملائكة أو البطريرك جرجس البعلتاني، المتوفِّي سنة 790: هذا شرحَ إنجيل متّى مستندًا إلى الذهبيّ الفم وملافنة الكبادوك، وخصوصًا إلى فيلوكسين. ونورد أوَّلاً ما ورد عند موسى بركيفا، وهو يتعلَّق بما في مت 13: 16-17.
والذي نقوله يُظَنّ أنَّه كبير، ولكنَّ الكتاب يُعرِّف في شأنه أيضًا من القوى المقدَّسة، أنَّه كان خفيًّا، أنَّ لله ابنًا في الطبيعة وهو مزمع أن يتجسَّد (ܢܬܒܣܪ: يصير بشرًا) «وبواسطة الكنيسة تجلَّت حكمة الله المملوءة تمييزًا للرئاسات وللسلاطين الذين في السماء، التي [أعدَّها]  قبل العوالم والتي صنعها في يسوع المسيح» (أف 3: 10-11). وإذ كُتب في النبيّ أنَّهم قدَّسوا الله ثلاثًا، فهذا لا يعارض كلمة الرسول (= بولس)، لأنَّهم إذ يقدِّسونه (أو: يقولون له قدُّوس) لا يعرفون هكذا السرَّ المخفيَّة قدرته (أو: معناه)، ولا الشياطين أيضًا عرفوا هذا السرَّ. ويشهد على ذلك «أنَّهم لو عرفوا لما كانوا صلبوا ربَّ المجد» (1 كو 2: 8). وتجدُ أنت أقوالاً كثيرة قيلت من قبل الروح بالأنبياء حول الثالوث والتجسُّد، فما فهمها الأنبياء، لأنَّ تكرارها يسلِّم فقط الروح لا تفسيرها.
كما قال ربُّنا لتلاميذه: «أنبياء كثيرون وصدِّيقون (ܙܕܝܩ̈ܐ، أو أبرار) اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون فلم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون فلم يسمعوا» (13: 17). والذي يرافع لكي يسمع ويرى، من الواضح أنَّه يشتهي لأنَّه يحسّ. إذا تعلَّمَ الأنبياء من الروح أقوالاً على السرِّ ولكنَّه ما جلا لهم تفسير الأسرار، لأنَّه يبيِّن للبشر كلَّ ما ينبغي وما يليق (أن يبيِّن). تارة يسلِّم الكلمة، وطورًا التذكير بها، مرَّة ترداد الكلمة ومرَّة أخرى إدراكها، وأيضًا بعد ذلك تفسيرها. هي تتجاوز مساحة تفكيرنا بحيث نعرف كم هي الاختلافات والتمييزات والدرجات والمراقي والإحساسات المختلفة التي هي في التعليم الإلهيّ الحكمة الموضوعة في طبائع الأجسام. فما من إنسان يعرف وحتّى لا ملاكًا من الملائكة.  
انطلق فيلوكسين في شرحه الذي ورد عند موسى بركيفا، فقدَّم حديثًا لاهوتيًّا حول الله الذي لا يدركه البشر ولا الملائكة ولا الشياطين. كم نحن قريبون من يوحنّا الذهبيّ الفم في كتابه: في أنَّ الله لا يمكن إدراكه.  بمناسبة كلام الإنجيل بين مثل الزرع وشرحه، وصلنا إلى لاهوت الثالوث والتجسُّد. تلك هي طريقة فيلوكسين التي نكتشفها أيضًا في مخطوط من المكتبة البودلانية في أوكسفورد. أمّا المقطع فهو شرح مت 16: 16-17: «فأجاب بطرس: أنت المسيح ابن الله الحيّ. فقال له يسوع: هنيئًا لك، يا سمعان بن يونا! ما كشف لك هذه الحقيقة أحدٌ من البشر، بل أبي الذي في السماوات.
كان اعتراف بالمسيح من نتنائيل: «رابِّي، أنت هو ابن الله، أنت هو ملك إسرائيل» (يو 1: 49). من أندراوس. بشَّر سمعان أخاه وقال: «وجدنا المسيح» (يو 1: 41). من السامريَّة: «تعالوا، انظروا، رجلاً قال لي كلَّ ما فعلت. أما يكون هو المسيح؟» (يو 4: 29). من مرتا: «أومن أنَّك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم» (يو 11: 27). من سمعان بطرس: «لا مثل هؤلاء، بل في وحي (ܓܠܝܢܐ) قال: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ» (مت 16: 16؛ مر 8: 29). فهؤلاء بالاختيار والنعمة كرزوا بالمسيح والابن، وليس هؤلاء فقط، بل أيضًا كلُّ اليهود حسبوا المسيح إنسانًا بارًّا (ܙܕܝܩܐ) وكاملاً، فانتظروا أن يكون أعظم وأمجد وأعلى من كلِّ إنسان بالتدابير وبالمعرفة وبالإيحاءات وبالوقار. والذي هو أفضل من جميع الأبرار هو في الحقيقة مسكن الله.
وكما قيل المسيح بفم هؤلاء: نتنائيل وأندراوس والسامريَّة ومرتا، اعترفَ به اليوم النساطرة أيضًا. ومثل بطرس الذي اعترف (به)، نعترف ونؤمن نحن أصحاب الإيمان القويم (ܐܪܬܘܕܘܣܘ). ولكن يقول لنا أبناء نسطور: «لماذا تعتقدون بالمسيح في رأي أعظم من رأي اليهود؟ فإن قالوا: هو أصدق وأبرّ من جميع البشر، فاليهود أنفسهم يعتقدون هكذا. وإن قالوا: هو مسكن الإله بسبب النقاوة والقداسة وطهارة أفكاره وأعضائه، فهم يرتأون أيضًا على الأبرار الذين كانوا معهم، ويعتقدون بنفوسهم أنَّهم هياكل الله وأنَّ لهم قيلَتْ كلمةُ الله. وإن كان الأنبياء كلُّهم والأبرار الذين حفظوا وصايا الله هم هياكل الله، فأيُّ فضل يهب هؤلاء لذاك الإنسان الذي سُمِّي (أو: أعطي اسمًا) لديهم؟ وإن دعوه أيضًا (تُضاف: ܬܘܒ) المسيح، فكلُّ من مُسح أيضًا (ܐܦ) هكذا، إمّا للملك أو الكهنوت. يُكنّى أيضًا بهذا الاسم. وإن دعوه يسوع، فهناك أيضًا يشوع بن نون، ويشوع بن يوصاداق وآخرون كثيرون كانوا (هكذا).
تحدَّث فيلوكسين عن «أبناء نسطور» (ܒܢܘܗܝ ܕܢܣܛܘܪܝܘܣ)، أي تبّاعه. ونحن لا ننسى أنَّ هذا المعلِّم الكبير وُلد في أرض فارسيَّة، وبالتالي متأثِّرة بالتعليم النسطوريّ. وإذ درس في مدرسة الرها، أخذ بتعاليم تيودور التي كانت شائعة هناك. ولكن ما عتَّم أن ترك التعاليم النسطوريَّة بتأثير من الأسقف نونا، الذي بدَّل التعليم في الرها، وقوَّى المذهب المونوفيسيّ. وكما سبق لفيلوكسين وهاجم التعليم المونوفيسيّ، ها هو يهاجم التعليم النسطوريّ بكلِّ ما أعطيَ من قوَّة، بحيث لعب دورًا كبيرًا في إغلاق مدرسة الرها في عهد أسقفها قورا. ولمّا قويَ الضغط عليه، ذهب إلى ما وراء الفرات، واتَّجه نحو أنطاكية.
ما الخلاف بين أصحاب الطبيعة الواحدة وأبناء نسطور؟ هؤلاء يشدِّدون على الطبيعتين في المسيح، بحيث تحاشوا الكلام عن مريم أنَّها أمُّ الله. هي فقط أمُّ المسيح. أمّا أولئك (دُعوا اليعاقبة) فيعتبرون أنَّ الطبيعة البشريَّة ذابت في الطبيعة الإلهيَّة، وفي هذا الخطِّ عينه نقول عن المشيئة البشريَّة، وإلاَّ تعرَّض يسوع للوقوع في الخطيئة.
هذا ما اكتشفناه في هذا النصِّ الفيلوكسينيّ، وفيه يهاجم «الأسقفُ» موقف النساطرة الذين يشدِّدون على الوجه البشريّ في يسوع، ويفحمهم ببلاغته، ويبيِّن لهم أنَّهم لا يختلفون عن اليهود. ويتواصل النصُّ في كلام عن تيودور الذي اعتُبر معلِّم النسطوريَّة، ساعة هو ممثِّل مدرسة أنطاكية أفضل تمثيل.
أمّا تيودور الشرِّير (ܪܫܝܥܐ) فقال إنَّ عبارة «أنت هو المسيح» تشير، كما يقول، إلى الإنسان. فالمسيح، كما يقول، هو اسم الإنسان. ولكن قراءة «ابن الله الحيّ» تشير إلى الله الكلمة. فمن يقبل هذا منك، أيُّها الجاهل (ܣܟܠܐ) والأحمق (ܦܛܥܐ) إلاَّ الذين جُنُّوا (ܫܢܘ) مثلك؟ إذ الآب كشف (ܓܠܐ، جلا) عن واحد (ܚܕ)، وسمعان أيضًا اعترف بواحد (ܒܚܕ) أنَّه هو الابن وهو المسيح، فهو ما تنكَّر لوحي سمعان ولا لكشف الآب، وفهم أنَّ المسيح هو اثنان (ܬܪܝܢ) بدل واحد (ܚܕ). ولكن نسألك أيُّها المضلِّل (ܛܥܝܐ)، هل هذه «أنت هو» التي وُضعَتْ في رأس الكلمة، قيلت عن واحد أو عن اثنين؟ إن وُضعَتْ على اثنين، فلماذا لم يقل «أنتم هم» بل «أنت هو». فإن رُفعت عن واحد كما كُتب، فأيٌّ منهما يكون «أنت هو»؟ المسيح أم الابن؟ فإن التحمت «أنت هو» بالمسيح، فهي لا تنطبق على الابن. وإن لاق بالابن أن يأخذها، فهي لم تُقَل عن المسيح.
ما نلاحظ هنا هو التهجُّم مع الكلام النابيّ: الشرِّير، الجاهل، الأحمق، المجنون، المضلِّل. ذاك الذي اعتاد عليه القدماء، لم يعُد يليق بعصرنا. ولا هو يليق بالإنجيل الذي يمنع مثل هذه المفردات (مت 5: 22). وما نلاحظ أيضًا هو التشديد على «واحد» تجاه اثنين. فالمونوفيسيُّون اعتبروا أنَّ الفئة الثانية تجعل المسيح مسيحين والابن ابنين. فإذا أردنا أن نتكلَّم اللغة اللاهوتيَّة اليوم، نقول إنَّ فيلوكسين شدَّد على الأقنوم الواحد، ونسطور على الطبيعتين. فاجتمع الفكران في مجمع خلقيدونية دون أن تجتمع الفئتان. والسبب الأساسيّ يرتبط بالعالم اليونانيّ والألفاظ التي استعملها والتي تعارضت مع معاني الألفاظ السريانيَّة.
إذًا ما هو المسيح الذي قال عنه أندراوس لأخيه إنَّه وُجد لهم؟ (يو 1: 41) من هو؟ أهو إله أم إنسان؟ إن هو الله، لماذا طلب في سؤاله لتلاميذه ووحي الآب واعتراف سمعان؟ ها هم عرفوا هذه حتّى قبل الوحي. وإن هو إنسان وأندراوس قال إنَّه وجد المسيح، فلماذا وهب يسوع الطوبى لسمعان على هذا الاعتراف. فقال له: «لا اللحم ولا الدم كشفا لك، لكنَّ أبي الذي في السماوات»؟ (مت 16: 17). فكيف وُهب الطوبى لذلك الذي اعترف به كإنسان، وإن هو أخذ الطوبى لأنَّه اعترف بأنَّ هذا الإنسان هو المسيح، فيجب أيضًا أن توهب هذه الطوبى للسامريَّة، وأن تنقل أيضًا الطوبى، قبل سمعان، إلى نتنائيل الذي اعترف بالمسيح قبل كلِّ إنسان، وإلى أندراوس وإلى اليهود لأنَّهم هم أيضًا اعترفوا هكذا بالمسيح واعتقدوا هذا بالنسبة إليه أنَّه إنسان مُسح وكُرِّم من قِبَل الله وصار مخلِّص شعبهم ومدبِّره. وتُوهَب الطوبى أيضًا لمرتا أكثر من سمعان، لأنَّها، بإرادة حكيمة ومملوءة حبًّا، سُئلت إن كانت مؤمنة بأنَّه يُقيم الموتى، فقالت له بصوت متواضع وسامع: «نعم يا ربّ. أنا مؤمنة أنَّك أنت المسيح ابن الله الحيّ الآتي إلى العالم» (يو 11: 27). وإن تطلَّع إنسان بدقَّة (يرى) أنَّ اعتراف مرتا أكثر عافية وأكثر دقَّة من (اعتراف) سمعان، وإن كان قربان المشيئة موقَّرًا قدَّام الله كما كُتب، فاعتراف هؤلاء الذين عدَّدنا يستحقُّ الطوبى وهو موقَّر قدَّام الله أكثر من اعتراف سمعان، لأنَّ هؤلاء ميَّزوا وعرفوا المسيح وابن الله بإرادتهم (أو: طوعًا)، لا بعمل الوحي كما فهم سمعان.
نكتفي بهذا القدر من فيلوكسين حيث اكتشفنا اللاهوت والجدال قبل أن نكتشف الشرح الإنجيليّ. فهو من يُعمل المنطق لكي يدافع عن الموقف المونوفيسيّ، الذي يري سيطرة اللاهوت في شخص يسوع على حساب الناسوت.
*  *  *
في إطار العالم السريانيّ الغربيّ نذكر ماروتا التكريتيّ المتوفِّي سنة 649. أقام في دير زكّى المجاور للرقّة (قالونيقي) يدرس الكتب اليونانيَّة ولاسيَّما مؤلَّفات غريغوار النازينزيّ. نسب إليه بعض تفاسير الإنجيل التي نُشرت في الآثار السريانيَّة.
*  *  *
أمّا يعقوب الرهاويّ فهو «أخصب كاتب قام في الكنيسة السريانيَّة الأرثوذكسيَّة في القرن السابع»، كما قال الأب ألبير أبونا في أدب اللغة الأراميَّة (ص 334). وُلد في عيندابا القريبة من أنطاكية، سنة 633 تقريبًا. لا مجال للكلام عن آثاره، ولكن نشير إلى أنَّه صحَّح الترجمة البسيطة، وقسَّم الكتاب إلى فصول، وصدَّر كلَّ فصل بمضمون وجيز. لم يبقَ من شروحه سوى النزر اليسير المشتَّت هنا وهناك.
*  *  *
وُلد جرجس أسقف العرب في منتصف القرن السابع، وتوفِّي سنة 724. أكمل كتاب الأيّام الستَّة Hexaéméron الذي بدأه يعقوب الرهاويّ، كما كتب الشروح لبعض أسفار الكتاب المقدَّس، جاءت مقاطع منها في سلسلة الراهب ساويرا. وفي شرح ابن الصليبي وفي مخزن الأسرار لابن العبريّ.
*  *  *
إنَّ شمعون المعروف بابن كيفا، هو من مشهد كحيل. «تبحَّر في الكتاب المقدَّس والفلسفة واللاهوت، ونال شهرة في التفسير». كتب الشروح في العهدين القديم والجديد، ذكرها ابن العبريّ في مخزن الأسرار. وصلنا منها تفاسير في سفر التكوين والأناجيل ورسائل القدِّيس بولس.
*  *  *
لنا عودة إلى ديونيسيوس ابن الصليبي وتيودور بركوني. وكان بودِّنا أن ننهي كلامنا مع غريغوريوس ابن العبريّ (1126-1228)، الذي هو أشهر أعلام الأدب السريانيّ. قال عنه السمعانيّ: «منذ العشرين من عمره وحتّى نهاية حياته، لم يكفَّ عن القراءة والكتابة». ننهيه مع كتاب مخزن الأسرار ܐܘܨܪ̈ܝ ܪܐܙܐ، الذي شرح فيه أسفار العهدين. يبدو أنَّ هذا الكتاب نُقل إلى العربيَّة بيد راهب من دير الزعفران اسمه دانيال الآمديّ سنة 1286  ولكن ابن العبري يستحق أكثر من مقال.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM