الفصل الثامن عشر:يوحنّا الذهبيّ الفم والعالم السرياني

الفصل الثامن عشر
يوحنّا الذهبيّ الفم والعالم السرياني

نتذكَّر أولاً أنَّ كنيسة أنطاكية عرفت باكرًا اللغتين اليونانيَّة والسريانيَّة، خصوصًا في الليتورجيّا، وهي التي تبنَّت إنجيل متّى الذي تحدَّث التقليد عن «وجوده» في الأراميَّة، بجانب اليونانيَّة. ونتذكَّر أيضًا المجهود الكبير الذي قامت به الكنيسة السريانيَّة لكي تنقل الآثار اليونانيَّة إلى لغتها، فاحتفظت بنصوص لم يعد بعضها موجودًا اليوم في اليونانيَّة. نذكر رسائل إغناطيوس الأنطاكيّ أو النورانيّ ومن أوسيب أسقف قيصريَّة في فلسطين شهداء فلسطين وتقريظ إكرامًا للشهداء والظهور الإلهيّ أي تيوفانيا والأسمائيَّات  وأخيرًا التاريخ الكنسيّ الذي نشره بول بيجان في لايبسيك سنة 1897. وانتقل إلى السريانيَّة تيطس أسقف البصرة في كتابه حول المانويِّين الذي دُوِّن بعد سنة 363 بقليل وحُفظ في مخطوط قديم جدًّا. ونذكر أوسيب الحمصيّ وما بقي من عظاته في مخطوط بريطانيّ (14665) يعود إلى القرن 10-11، والتي لم تُطبَع بعد. لا مجال لذكر التعارفات البسودوإقليميَّة وأعمال الرسل المنحولة، والأناجيل المنحولة، ورؤيا بولس، وأوستات الأنطاكيّ وأمفيلوك الإيقونيّ وغريغوار النيصيّ وباسيل الكبير وأثناز بابا الإسكندريَّة وأوغريس البنطيّ ونيل الأنقيريّ. أتُرى لبث يوحنّا الذهبيّ الفم محصورًا في اللغة اليونانيَّة، أم انتقل إلى اللغات القديمة ومنها السريانيَّة؟ هذا ما سوف نجيب عليه.
بعد كلام عن يوحنّا الذهبيّ وآثاره وامتدادها في العالم القديم، نتوقَّف عند ما وصل إلينا من هذه الآثار في اللغة السريانيَّة. وننهي كلامنا في تأثير هذا الواعظ الكبير في عالم الشرق.

1-    يوحنّا الذهبيّ الفم وآثاره
هو ممثِّل كنيسة أنطاكية بين آباء الشرق الأربعة والمعلِّمين الثلاثة في الكنيسة اليونانيَّة، أصحاب النظرة المسكونيَّة. هو ذاك الذي لم ينعم مثله أحدٌ من الكتَّاب المسيحيِّين في القدامة، بعدد الذين كتبوا سيرة حياتهم. فبعد ثماني سنوات على وفاته التي كانت سنة 407 دوَّن بلاديوس أسقف هليوبوليس، في بيثينية (تركيا الحالية) الحوار حوال حياة القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، وهو أهمّ مصدر سيرويّ لسنوات القدِّيس الأخيرة.
هذا الذي بدأ العيش في العزلة بعد أن تعلَّم على يد ديودور الطرسوسيّ، رُسم شمَّاسًا سنة 381 وكاهنًا سنة 386. سلَّمه فلافيان بطريرك أنطاكية مهمَّة الوعظ في كنائس المدينة الرئيسيَّة، فقدَّم لشعبه وللكنيسة خلال اثنتي عشرة سنة أجمل عظاته وأشهرها.
هذا الذي ما جاراه أحد من الآباء في ما ترك من إرث أدبيّ، وهو من كان بين الأنطاكيِّين الوحيدَ الذي حُفظت آثاره كلُّها تقريبًا، عائد أوَّلاً إلى شخصه ثمَّ إلى أهمِّيَّة مؤلَّفاته. ما من كاتب في الشرق نال الإعجاب الذي ناله يوحنّا بحيث لبث حيًّا أجيالاً وأجيالاً بعد موته، بل في العالم الحديث حيث نُشرت آثاره وتُنشَر مع ما يُكشف من نصوص في الأديرة وآخرها العظات حول المعموديَّة. في القرن السادس دُعي «فم الذهب»، فحلَّ هذا اللقب محلَّ اسمه.
كتب الذهبيّ الفم أبحاثًا كثيرة ورسائل عديدة، ولكنَّ القسم الأكبر من تآليفه يتكوَّن من المواعظ. نُشرت المؤلَّفات الكاملة منذ القرن السابع عشر في باريس ثمَّ في القرن الثامن عشر أكثر من مرَّة مع التصحيحات اللازمة. وفي القرن التاسع عشر رافق النشر ترجمةٌ إلى اللغة الفرنسيَّة صارت في تسعة عشر مجلَّدًا.
باكرًا نُقلت هذه النصوص إلى اللاتينيَّة العتيقة فعرفها القدِّيس أوغسطين والبابا ليون الكبير وكاسيودور وبيدا المكرَّم، وإلى السريانيَّة موضوع حديثنا، وإلى العربيَّة وإلى الأرمنيَّة والجيورجيَّة والقبطيَّة والسلافيَّة والروسيَّة القديمة.
أمّا آثار الذهبيّ الفم فتنقسم إلى مواعظ. والقسم الأكبر هي مواعظ حول الكتاب المقدَّس والتأويل الكتابيّ في خطِّ مدرسة أنطاكية: هو يحدِّد دومًا المعنى الحرفيّ ويرفض كلِّيًّا المعنى الألِّيغوريّ أو الاستعاريّ، وفي النهاية يصل إلى المعنى الروحيّ بسهولة من أجل التطبيق المباشر والعمليّ في حياة المؤمنين. وهو من شرح أسفار العهدين، القديم والجديد.
•    في العهد القديم، العظات حول سفر التكوين مع سلسلتين. السلسلة الأولى تشرح الفصول الثلاثة الأولى من سفر التكوين، ما عدا العظة الأخيرة التي تُليت خلال صوم سنة 386. والسلسلة الثانية تشرح سفر التكوين كلَّه، ويبدو أنَّها تعود إلى سنة 388. وها نحن نورد بعض المقاطع القصيرة من هذه العظات. جاء كلام الذهبيّ الفم بحسب التقليد، فربط سفر التكوين بموسى منذ قراءة تك 1: 1:
إنَّ هذا النبيّ لمدهش. يا حبيبي، وهنا تتجلَّى ميزته. فالأنبياء جميعُهم أخبروا عمّا سيحدث في المستقبل، البعيد أو القريب. أمّا هذا المطوَّب، كونه وُلد بعد الحدث بأجيال كثيرة، فقد أُهِّل – بعد أن هدَتْهُ يمين العليّ – للكلام على تكوين السيِّد لكلِّ الخلائق. لذلك يبدأ بقوله: «في البدء خلق الله السماء والأرض». كأنَّه يصيح بنا أجمعين في ليلة واحدة: «أعلى يد الناس عُلِّمتُ أن أقول هذه الأقوال؟ لا! من خلقَ الوجود من العدم هو من حرَّك لساني بإعلانها». إنَّنا لا نسمع كلام موسى، بل كلامَ إله الكلِّ على لسان موسى. فأَصغوا إلى ما قيل وأناشدكم قبول ما نعبِّر عنه من أفكار برضى تامّ.
البدء أُعلن بموسى، ونحن نثق بما أعلنه موسى الذي دُعيَ كليم الله: «إقرارًا بالفضل، نقبل ما قيل، غير متجاوزين حدودنا، ومن غير أن نكون فضوليِّين: أعداءُ الحقِّ يرهقون نفوسهم بإخضاع كلِّ شيء لمنطقهم الذاتيّ، متناسين أنَّ الطبيعة البشريَّة عاجزة عن سَبْر غور خليقة الله».
ونصل في شرح سفر التكوين إلى تسمية العناصر:
أرأيتَ، أيُّها الحبيب، كيف كانت الأرض خاوية، غير منظورة ومغطَّاة بالمياه، فتجلَّى وجهُها، ودعاها الله باسمها؟ فسمَّى مجتمع المياه بحارًا. فأخذَتِ المياه اسمها الخاصّ بهذا الفنان الماهر الذي يبتكر شيئًا بعلمه، ويعطيه اسمًا بعد الفراغ من تجهيزه لا قبل إنجازه. هذا ما فعله السيِّدُ المحبُّ البشر... فبعد أن نالت الأرض اسمها وأخذت هيئتها، استحقَّت مجمَّعات المياه اسمها.
وسيكون لموسى أن يتحدَّث عن «ترتيب الخلق»، وذلك «بإلهام من الروح الإلهيّ»، فيبيِّن لنا «غنى خلائق الله» التي ليست فقط لسدِّ حاجاتنا، بل لمنفعتنا، وهكذا نُعجَب بقدرة الخالق ونَفرح بما أورثنا من غنى، وكلُّ هذا بحكمته ومحبَّته للبشر وإكرامه للإنسان. وإذ يصل هذا الواعظ المفوَّه إلى الإنسان يرينا الله متشاورًا بحيث يجعل الإنسان عظيمًا.
الجدير بالملاحظة هو أنَّ الله لم يَقُل لدى خلق السماء «لنصنع السماء»، بل لتكن السماء، ليكن النور... أمّا هنا فقوله «لنصنع»، فلا يشير إلى الرغبة والفكرة وحسب، بل إلى إعلان ما هو مساوٍ له في الكرامة. فأيٌّ من خلائقه أوتيَ هذا الشرف العظيم؟ إنَّه الإنسان، الكائن الحيّ العظيم والمدهش... وأشرفُ جميع خلائق الله... فهنا رغبةٌ وفكرة وإعلان، لا لأنَّ الله يحتاج إلى مشورة، حاشا، بل لأنَّ صيغة هذه الأقوال تُبرز كرامتنا.
نلاحظ كيف يشرح الذهبيّ الفم النصوص، ليصل إلى المعنى الروحيّ فيعطي أمثولة للسامعين. وها نحن ننهي بهذا النصّ حول سفر التكوين، حيث يستند الواعظ إلى كلام بولس الرسول، فيصف علاقة الإنسان بالله وعلاقة الرجل بالمرأة:
وثمَّة آخرون يستندون إلى أقوالنا، فيزعمون أنَّ لله صورةً مماثلة لصورتنا، وهم بذلك لا يفقهون ما قيل. إنَّه لم يتحدَّث عن صورة الجوهر، بل عن صورة القيادة والإمرة، كما سنُوضح في ما يلي: ليس للألوهة هيئة بشريَّة، فاسمع ما يقوله بولس: «لا يجوز للرجل أن يغطِّي رأسه، لأنَّه صورة الله ومجده. وأمّا المرأة فهي مجد الرجل، ولهذا ينبغي لها أن تغطِّي رأسها». أَوضَح في هذه الآية أنَّه لا اختلاف في الهيئة عن صورة الله. لذلك يبقى الإنسان صورة لله، لأنَّ الله يملكها بشكل كامل. في رأي هؤلاء صورة الله في الإنسان لا تخصُّ الرجل وحده، بل تخصُّ المرأة أيضًا. فالمرأة مماثلة للرجل من حيث الشكل والميزة والشبه. لماذا ينبغي اعتبار الرجل، لا المرأة، صورة الله؟ لأنَّ بولس لا يعني الصورة الظاهرة في الشكل، بل صورة القيادة التي أعطيَتْ للرجل لا للمرأة. الرجل لا يخضع لمخلوق، أمّا المرأة فتخضع للرجل. فالله يقول للمرأة: «إلى رجلك يكون اشتياقك وهو عليك يسود». لهذا السبب، الرجل هو صورة الله، إذ لا مخلوق أعلى منه، كما أنَّه ما من أحد أعلى من الله، فهو على كلِّ شيء يسود. أمّا المرأة فهي مجد الرجل، لأنَّها تخضع له.
ومن سفر التكوين ننتقل إلى المزامير. فالذهبيّ الفم وعظ فقط على ثمانية وخمسين مزمورًا، وفي نهاية حياته في أنطاكية وقبل الذهاب إلى القسطنطينيَّة كبطريرك فيها. مواضيع أحبَّها الواعظ: الرذائل والفضائل، كيف نصلِّي، الكرامة الكهنوتيَّة، البتوليَّة... وبين وقت وآخر، ردَّ على الأريوسيِّين أو المانويِّين أو بولس الشميشاطيّ... ونقدِّم نصًّا عنوانه: «لماذا نصلِّي؟»
رُبَّ قائل: «إن كنتُ بارًّا، فما حاجتي إلى الصلاة. فالبرارة تهديني إلى الصواب، والمستجيب عالمٌ بما أحتاج إليه». لماذا نصلِّي؟ لأنَّ الصلاة هي أسمى رُبُط المحبَّة التي توثقنا بالله، إذ تصوِّرنا في محادثته، وتهدينا إلى محبَّة الحكمة الحقيقيَّة. فإذا كان من يعاشر نبيلاً رفيع الأخلاق، يجني أعظم الفوائد، فكم بالأحرى من يلازم معاشرة الله الكلِّيِّ الكمال؟
وفي موضع آخر نقرأ: «الخير الأعظم هو الصلاة، أي التكلُّم بدالَّة مع الله. الصلاة علاقة بالله واتِّحاد به. وكما أنَّ عيني الجسد تُضاءان عند رؤية النور، كذلك النفس الباحثة عن الله تستنير بنوره غير الموصوف».
والعظات حول إشعيا هي ثماني عظات، وهي تصل إلى إش 8: 10. يبدو أنَّ الكاتب استعمل طريقة الاختذال sténo، كما فعل بالنسبة إلى الرسالة إلى العبرانيِّين. هذا في اللغة اليونانيَّة. ثمَّ كُشفَت ترجمة أرمنيَّة لهذه العظات التي تُليَتْ على ما يبدو قبل سنة 386 حين كان يوحنّا بعدُ شمَّاسًا. انطلق الواعظ من نصِّ السبعينيَّة، فأوضح معنى الألفاظ وشرح العبارات من وجهة الصرف والنحو. ومع أنَّه من مدرسة أنطاكية، إلاَّ أنَّه لجأ باعتدال إلى الألِّيغوريَّا أو الاستعارة، فقال مثلاً في العظة الخامسة:
ونجد أيضًا تعليمًا آخر لا يقلُّ أهمِّيَّة. فما هو إذن؟ هو أن يعلِّمنا متى ولأيّ مقاطع من الأسفار المقدَّسة ينبغي أن نلجأ إلى الألِّيغوريَّا، وأن يعلِّمنا أيضًا بأنَّنا لسنا أسياد هذه القواعد، لكن في الأمانة على فكر الكتاب المقدَّس ينبغي علينا أن نلجأ إلى الشرح الألِّيغوريّ. وإليك ما أعني. استعمل الكتاب هنا الألفاظ التالية: الكرمة، السياج، المعصرة. وهو ما ترك السامع حرًّا بأن يطبِّق كما يريد هذه الكلمات على أشياء وعلى أشخاص. غير أنَّ الكتاب فسَّر بعد ذلك نفسه بنفسه فقال: «كرمة الربِّ الصباؤوت هي بيت إسرائيل».
ويبقى المعنى الأنماطيّ الذي يلتقي فيه الذهبيّ الفم مع عدد من الأنطاكيِين، ومنهم أفرام السريانيّ. فيشرح يوحنّا 1: 26: «وبعد ذلك تُدعَين مدينة البرّ، صهيون العاصمة الأمينة»، فيقول:
ومع ذلك، لا نجد في أيِّ مكان هذا الاسم منطبقًا على مدينة أورشليم. فماذا في وسعنا أن نقول؟ الاسم الذي يعطيه النبيّ هنا، قد استلهمه من الواقع. هذه الملاحظة يمكن أن تكون لنا مفيدة جدًّا، حين يطلب اليهود منّا شرح لفظ «عمانوئيل». فإنَّ إشعيّا قال إنَّ المسيح يُدعى بهذا الشكل. والحال، أنَّه ليس كذلك في أيِّ موضع. إذًا نستطيع أن نجيبهم (= اليهود) إنَّه أعطى كاسمٍ تفسير الواقع، وهذا ما نقوله هنا.
ونقرأ في العظة الثانية حول 2: 2 («وجميع الأمم تأتي إليها») شرحًا مماثلاً:
لا يستطيع اليهود، بالرغم من وقاحتهم، أن يطبِّقوا هذا على الهيكل. فإذ كانوا يمنعون الأمم، كانوا يحرِّمون عليهم بشكل دقيق أن يلجوا الهيكل. وماذا أقول؟ أن يلجوا الهيكل ساعة منعتهم الشريعة وهدَّدتهم بأن لا يتَّحدوا مع الأمم، وطالبت بمعاقبتهم بأكبر عذاب. إنَّ النبيّ ملاخي كرَّس لهذا الموضوع نبوءته كلَّها، فاتَّهم وهدَّد وطلب حسابًا عن عقود زواج لاشرعيَّة. إنَّ هذا الوضع ليس وضعنا. فبدون أيِّ خوف، وسَّعت الكنيسة حضنها واستقبلت كلَّ يوم، بذراعين مفتوحتين، جميع شعوب المسكونة» (ص 211).
*  *  *
•    في العهد الجديد. كان بالإمكان أن نتوقَّف عند شروح أخرى، ولاسيَّما شرح سفر أيُّوب، ولكنَّنا ننتقل حالاً إلى العهد الجديد. فالذهبيّ الفم وعظ على إنجيل متّى وعلى إنجيل يوحنّا. بالنسبة إلى متّى، كانت تسعون عظة فمثَّلت أقدم تفسير كامل للإنجيل الأوَّل في الحقبة الآبائيَّة. تلا يوحنّا هذه العظات في أنطاكية سنة 390. ردَّ الواعظ على المانويِّين في كلامهم عن اختلاف بين العهدين القديم والجديد. وتحدَّث عن وصايا المسيح التي تكمِّل شريعة اليهود. كما ردَّ على الأريوسيِّين معلنًا أنَّ الابن مساوٍ للآب، لا أدنى منه. وشرح بعض العبارات على أنَّها ترتبط بالطبيعة البشريَّة. وفي شرح الأمثال الإنجيليَّة، كانت الإرشادات الخلقيَّة والنسكيَّة التي تدعو المؤمنين إلى حياة تستوحي تعاليم يسوع المسيح.
نذكر هنا شرح 7: 24-25: «فكلُّ من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أشبِّهه برجل عاقل بني بيته على الصخرة. فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبَّت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنَّ أساسه كان مؤسَّسًا على الصخر».
يعبِّر السيِّد مجازيًّا هنا بـ«المطر» و«الأنهار» و«الرياح» عن الكوارث والضيقات التي تقع للناس، مثل التهم الكاذبة والمؤامرات والحرمانات والميتات وخسارة الأصدقاء، والإزعاجات من الغرباء، وكلّ الأمراض في حياتنا التي يمكن ذكرها. ويدعو الثبات «صخرة»، لأنَّ أوامره في الحقيقة أقوى من أيَّة صخرة، وتضع الإنسان فوق أمواج شؤون البشريَّة كلِّها. لأنَّ الذي يحفظ هذه الأمور بدقَّة لن يقاوم فقط الناس الذين يغيظونه، بل حتّى الشياطين المتآمرين عليه. وليس الكلام هكذا افتخارًا باطلاً. فأيُّوب شاهدُنا الذي نال كلَّ اعتداءات الشيطان ووقف ثابتًا. والرسل شهودنا، إذ وقفوا راسخين أكثر من أيَّة صخرة، وبدَّدوا كلَّ أمواج العالم التي كانت تتلاطم ضدَّهم.
وجاءت العظات حول إنجيل القدِّيس يوحنّا ثماني وثمانين عظة. تُليَت سنة 391. هنا يبدو الجدال واضحًا أكثر ممّا في عظات إنجيل متّى، لأنَّ الواعظ يلتقي بنصوص استعملها الأريوسيُّون ليدلُّوا على الاختلاف الجوهريّ بين الآب والابن. ونورد مثلاً بعض ما في العظة الحادية عشرة:
بما أنَّه الابن الحقيقيّ للإله، فإنَّه صار ابن الإنسان، لكي يصبح أبناءُ البشر أبناء الله. فالعظمة الحقيقيَّة حين تتَّحد بالدناءة لا تشعر بأيِّ انتقاص، بل هي ترفع من حالة الحقارة هذه موضوع تنازلها، وهذا تمَّ بشكل رفيع في المسيح: هو ما قلَّل طبيعته حين نزل نحونا. ونحن الذين انغمسنا طويلاً في الانحطاط والظلمات، أصعدنا إلى كرامة لا تقابلها كرامة.
ووعظَ يوحنّا الذهبيّ الفم حول أعمال الرسل. كان ذلك سنة 400، أي ثلاث سنوات بعد وصوله إلى القسطنطينيَّة، ونشير هنا إلى أنَّنا نمتلك هنا التفسير الكامل الوحيد حول سفر الأعمال في القرون العشرة الأولى من المسيحيَّة.
أمّا عظات الذهبيّ الفم حول الرسائل البولسيَّة، فتشكِّل نصف عظاته: 32 عظة حول الرسالة إلى رومة، 44 عظة حول كورنتوس الأولى، 30 حول كورنتوس الثانية، 24 عظة حول الرسالة إلى أفسس، 12 حول كولوسّي، 34 حول الرسالة إلى العبرانيِّين...
نورد هنا العظة السابعة من الرسالتين إلى كورنتوس وهي شرح 1 كو 2: 6-7: «ولكنَّنا نتكلَّم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يُبطَلون. بل نتكلَّم بحكمة الله في السرّ، هذه الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا».
الظلمة تليق بشكل أفضل من النور للذين عيونهم مريضة. لهذا، يفضِّلون أن يمضوا في زاوية معتَّمة. ويكون الشيء غيره بالنسبة إلى الحكمة الروحيَّة. فحكمة الله لم تكن سوى جهالة للغرباء، فما عرفوا سوى حكمتهم الخاصَّة تلك التي ليست في الحقيقة سوى جهالة. فهم يشبهون ذاك الذي يعترف بأنَّه قائد سفينة ويلتزم بأن يمخر اتِّساع البحار بدون شراع وحتّى بدون سفينة. وفوق ذلك يحاول أن يبرهن بواسطة العقل أنَّ هذا يمكن أن يُصنَع. أمّا آخر، وهو جاهل كلَّ الجهل في هذا المجال، فيتوكَّل على السفينة، على قائدها، على البحّارة، وهكذا يسافر باطمئنان. فما يُدعى جهلاً عند هذا، يتفوَّق بلا شكّ على علم الأوَّل. في الواقع، فنُّ قيادة سفينة هو أمرٌ حلو. ولكن حين يعد بأكثر ما يقدر أن يفي، لن يكون أكثر من نوع جنونيّ. ويبقى كأن نقول الشيء عينه عن كلِّ فنٍّ لا ينحصر في حدوده. ولكانت الحكمة الغريبة استحقَّت اسم حكمة لو أنَّها لجأت إلى الروح (القدس): فحين استندت كلِّيًّا إلى ذاتها واقتنعت أنَّها لا تحتاج إلى أيِّ عون، صارت جهالة وإن بدت أنَّها حكمة.
وبعد العظات حول الأسفار المقدَّسة، هي عظات حول عدم إدراك الله، حول المعموديَّة، في كلام على اليهود. وبعدها الخطب الخلقيَّة حيث يقوم بمحاربة الرذيلة والخرافات والمعتقدات الباطلة التي تجري خصوصًا في رأس السنة. وكانت عظات بالنسبة إلى الأعياد واحتفالاتها، منها خيانة يهوذا التي تلاها يوم الجمعة العظيمة ثمَّ الصليب واللص، والمقبرة والصليب... عالم واسع جدًّا امتدَّ على مجلَّدات في الأصل اليونانيّ أو الترجمات. لهذا لا ننتظر أن يكون العالم السريانيّ أخذ مجمل آثار الذهبيّ الفم، كما كان الأمر بالنسبة إلى العالم اللاتينيّ.

2-    يوحنّا الذهبيّ الفم في السريانيَّة
يبدو أنَّ الذهبيّ الفم عُرف باكرًا في العالم السريانيّ، ونُقل، ولكن أكثر هذه الآثار لبث في المخطوطات. فإذا عدنا إلى كاتالوغ رايت نكتشف ص 465-468 مخطوطًا يعود إلى القرن السادس وهو يتضمَّن العظة 1-32 من إنجيل متّى. ثمَّ في ص 469-474، عظات حول إنجيل يوحنّا. وفي ص 471-479 عظات حول الرسائل البولسيَّة. أمّا المكتبة الوطنيَّة في باريس فامتلكت العظات حول الرسالة إلى أفسس في كاتالوغ زوتنبرغ رقم 69 .
ونطرح السؤال: لماذا لم تُنشَر هذه النصوص السريانيَّة؟ السبب الأوَّل وربَّما الأخير، لأنَّ النصوص اليونانيَّة وصلَتْ كلُّها تقريبًا وفي مخطوطات عديدة جدًّا. فإذا ذكرنا مثلاً العظات حول سفر التكوين، نكتشف مخطوطين في أثينة، واثنين في جبل آثوس، واثنين في مدريد، إسكوريال، المكتبة الملكيَّة، ومخطوطًا واحدًا في القسطنطينيَّة، وكذلك في أورشليم، ومخطوطين في مسِّينة من أعمال إيطاليا، وواحدًا في مودينا (إيطاليا أيضًا)، وأربعة مخطوطات في موسكو، وواحدًا في ميونيخ، وخمسة مخطوطات في البودلانيَّة في أوكسفورد، وستَّة مخطوطات في باريس، وواحدًا في فيلدلفيا (أميركا)، وواحدًا في سان بترسبورغ (روسيّا) وواحدًا في سيناء واثنين في الفاتيكان وأربعة في البندقيَّة Venise واثنين في فيينّا (النمسا).
ومع ذلك، نودُّ أن نقدِّم مقطعًا من إنجيل متّى في ترجمة عربيَّة حول ما بعد ذهاب يوسف ومريم والطفل إلى مصر (2: 13-23):
دخل المخلِّص إلى مصر ليلغي حداد الحزن القديم. فبدلاً من الضربات حمل الفرح. وبدلاً من الظلمة والليل وهبَ نور الخلاص. في الماضي، تلوَّثت مياه النهر بمقتل الأطفال وهم بعد أطفال. إذًا، دخل إلى مصر ذاك الذي من قبْل جعل المياه حمراء، وجعل مياه الأنهار قادرة على إنجاب الخلاص، مطهِّرا بقوَّة الروح ما كان فيها ملعونًا ومنجَّسًا. نال المصريُّون في الماضي العقاب في جهالتهم، وكانوا أنكروا الربّ. فدخل الربُّ إلى مصر وملأ النفوس المتديِّنة بمعرفة الله، وأعطى النهرَ بأن يُثمر أيضًا شهداء أكثر من سنابل قمح...
ماذا يمكنني أن أقول عن هذا السرّ؟ أشاهد عاملاً ومعلفًا وطفلاً وقمُطًا وولادة من عذراء محرومة من كلِّ ما هو ضروريّ. ونشاهد كلَّ علامات العوز وكلَّ ثقل الفقر. هل شاهدتم يومًا الغنى في مثل هذه الفاقة؟ كيف أنَّ ذاك الذي كان غنيًّا أضحى فقيرًا من أجلنا، بحيث حُرم من السرير ومن الأغطية، ومُدَّ في معلف قاسٍ.
يا للغنى العظيم تحت مظاهر الفقر! إذ يرقد في معلف يحرِّك الكون. إذ شُدَّ في القمط، حطَّم قيود الخطيئة. وإذ لا يستطيع أن يَلفظ كلمة واحدة، علَّم المجوس وجعلهم يبدِّلون طريقهم. ومرَّة أيضًا، السرُّ يجعل الكلام محبطًا.
ها هو الطفل ملفوفًا بالقمط، نائمًا في معلف. وهناك أيضًا مريم، التي هي في الوقت عينه عذراء وأمّ. وهناك أيضًا يوسف الذي يدعونه أباه. هذا خطبَ مريم، أمّا الروح القدس فغطَّى مريم بظلِّه. لهذا بدا يوسف قلقًا، وما عرف كيف يدعو الطفل.
هنا نلتقي مثلاً مع ديونيسيوس برصليبي الذي يتحدَّث عن الطفل حين أتى المجوس ليزوروه ويقدِّموا له هداياهم: «وأتوا إلى البيت فوجدوا الصبيّ مع مريم أمِّه. فخرُّوا ساجدين له، وفتحوا كنوزهم وقدَّموا له هدايا من ذهب ولبان ومرّ» (2: 11). قال ديونيسيوس:
فبقوله: «دخلوا البيت» لا المغارة، و«صبيًّا»، لا طفلاً في المذود، أعلن أنَّه كان ابن سنتين. والمجوس لم يرتابوا إذ رأوه صبيًّا متجرِّدًا متواضعًا، ليس له مجد كوكبه، وذلك لعظم أمانتهم وشهادة عظماء الكهنة والنبوءات المقولة عنه التي سمعوها من الكتبة، ومن ضجَّة واضطراب أهل أورشليم.
«فخرُّوا ساجدين له». لاهوتُه أضاء عليهم وجعلهم يسجدون له. ورؤية الكوكب المرشد آذنَتْ بالسجود له. فسجدوا له بالقلب، لا بالجسد فقط. فالرؤية أثَّرت فيهم، وجذبتهم إلى الندامة، والمعرفةُ زادتْهم فرحًا.
نلاحظ الروح عينه في التفسير اليونانيّ والتفسير السريانيّ. وها نحن نورد أفرام السريانيّ في شرح الدياتسّارون قبل العودة إلى الذهبيّ الفم. هو شرح مت 7: 1: لا تدينوا لئلاّ تدانوا. قال أفرام:
لا تحكموا بدون حقّ لئلاَّ يُحكم عليكم بسبب جوركم. اعفُوا فيُعفى عنكم. وهكذا حين يحكم الإنسان بحسب العدل، يكون أهلاً لنعمة الغفران. أو أنَّه بسبب القضاة الذين يحاولون أن ينتقموا بأيديهم قال: «لا تعاقبوا»، أي لا تطلبوا الانتقام لأنفسكم، أو لا تدينوا بحسب الظواهر وآراء الناس فتعاقَبوا في الحال، بل ابدأوا بالتوبيخ وقدِّموا التنبيه بعد التنبيه.
وشرح يوحنّا الذهبيّ الفم هذه الآية كما يلي:
ألا يجب أن نوبِّخ الذين يخطأون؟ لأنَّ بولس يقول الشيء ذاته بعينه، أو بالحريّ المسيح هو الذي يتكلَّم بواسطة بولس قائلاً: «وأمّا أنت فلماذا تدين أخاك؟» (رو 14: 10)، و«من أنت الذي تدين عبد غيرك» (آ4).
ويورد الذهبيّ الفم أكثر من مقطع من بولس الرسول ويطرح السؤال حول التعامل مع الأخ الذي يخطأ. وقال ديونيسيوس الصليبي: «لا تدينوا لئلاَّ تدانوا» أي لا تدينوا ظلمًا إذ أنتم ساقطون في الذنوب عينها. «ولا تحكموا على أحد بغضًا أو حسدًا، ولكن وبِّخوه توبيخًا وأصلحوا المذنبين، فإذا رأيتَ أخًا يزني فانصحه ووبِّخه، لا كالعدوّ بل بالمحبَّة واللين».
*  *  *
ونقلت العظات حول إنجيل يوحنّا إلى السريانيَّة وها نحن نورد شرحًا لما ورد في 3: 16:
«إنَّ الله أحبَّ العالم بحيث أعطى ابنه الوحيد. وهكذا كلُّ إنسان يؤمن به لا يهلك، بل ينال الحياة الأبديَّة».
ترون سبب مجيء ابن الله: جاء لكي يجد جميع الذين وجب أن يهلكوا، الإيمانَ به البلوغَ إلى الخلاص. من يسعه أن يتخيَّل مثل هذا السخاء الذي يتجاوز كلَّ مديح؟ فبعطيَّة المعموديَّة، منح الله لطبيعتنا غفران جميع خطايانا! هنا ليس الفكر وحده عاجزًا، والكلمة غير قادرة أن تعدِّد حسنات الله الأخرى. ومهما كانت كثيرة، فأنا مجبر أن أغفر أكثر أيضًا. وماذا يكون إذًا إن فكَّرنا أيضًا بهذه الطريق إلى الاهتداء التي منحها الله في حبِّه اللاموصوف للبشر، إلى الجنس البشريّ كلِّه، وبهذه الاهتمامات العجيبة التي بفضلها، إذا أردنا، نستطيع أن نجتذب النعمة العلويَّة حتّى بعد إحسان المعموديَّة.
ترون، يا أولادي، لجَّة حسنات الله! وترون كم تعدادها طويل، مع أنَّنا لم نذكر حتّى الآن سوى جزء بسيط! فكيف يستطيع اللسان البشريّ أن يحصي كلَّ ما فعله الله لأجلنا؟ ولكن مهما كانت هذه الحسنات كبيرة وعديدة فالتي وعدَ بها، للحياة المقبلة، أولئك الذين يسيرون في طريق الفضيلة، هي لاموصوفة بشكل أكبر وأكثر أيضًا...
قال أفرام السريانيّ في شرح هذه الآية مشدِّدًا على النمطيَّة. كما قدَّم إبراهيم ابنه إسحاق وما قدَّم واحدًا من خدَمه، هكذا فعل الله:
كان لإبراهيم عددٌ كبير من الخدم. فلماذا لم يَقُل له الله بأن يقدِّم واحدًا منهم؟ لأنَّ حبَّ إبراهيم ما كان كُشف بواسطة خادم. فوجب من أجل ذلك أن يقدِّم ابنه بالذات. وكذلك كان لدى الله خدَّام كثيرون، ولكنَّه لم يبيِّن حبَّه تجاه خلائقه بواسطة أيِّ واحد منهم، بل بالحقيقة بواسطة ابنه الذي بفضله أُعلن حبُّه لأجلنا: «إنَّ الله أحبَّ العالم حبًّا كبيرًا فأعطى ابنه الوحيد».
أمّا إيشوعداد المروزيّ ابن القرن التاسع فشرح هذه الآية في شكل لاهوتيّ ليدلَّ على الفصل بين الطبيعتين: «هكذا أحبَّ الله العالم فأعطى ابنه». إذًا هل تألَّمت الألوهيَّة؟ حاشا. ولكن كيف يُقال إنَّ الوحيد أسلم من أجل الجميع؟ ولأنَّ «الابن الوحيد» هو لقب عام للكلمة (الإلهيّ) أقول أيضًا عن الهيكل... فالمسيح من جهة، هو في الألوهيَّة، الوحيد. وفي الناسوت من جهة ثانية هو الوحيد والبكر، مثل لباس الكلمة. وكما في الولادة من البتول بدون إخوة...
ونورد نصًّا آخر من القدِّيس يوحنّا حول إرسال البارقليط:
«إن أحببتموني تكونوا أمناء لوصاياي» (يو 14: 15ي). أعطيتكم هذه الوصيَّة بأن تحبُّوا بعضكم بعضًا، بأن تمارسوا فيما بينكم ما صنعتُ أنا لأجلكم. وهذا هو الحبّ: الطاعة لهذه الوصايا والتشبُّه بذاك الذي تحبُّون. «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم بارقليطًا آخر». هو كلام جديد مملوء باللطافة. بما أنَّ الرسل ما كانوا بعدُ عرفوا المسيح معرفة كاملة، يمكن أن نظنَّ أنَّهم يتأسَّفون بقوَّة على الاجتماع معه، على حواراته، على حضوره البشريّ، وأن لا شيء يمكن أن يعزِّيهم عن ذهابه. «أنا أطلب من الآب فيعطيكم بارقليطًا آخر»، أي آخر يشبهني. وحين نقَّاهم المسيح بذبيحته، نزل الروح فيهم. ولماذا لم يأتِ حين كان يسوع بعدُ معهم؟ لأنَّ الذبيحة لم تكن بعدُ قدِّمت. وفقط حين انتُزعَت الخطيئة، أرسل الرسل لكي يواجهوا مخاطر القتال، فاحتاجوا إلى من يمرِّنهم. ولكن لماذا لم يأتِ الروح حالاً بعد القيامة؟ لكي يرغبوا رغبة حيَّة بتقبُّله وهكذا يتقبَّلونه بأكبر عرفان جميل. فحين كان المسيح معهم، لم يكونوا حزانى. وحين مضى، أغرقتهم عزلتُهم في خوف عميق. إذًا مضوا يستقبلون الروح بحرارة أقوى.
ونلتقي هنا مع ديونيسيوس برصليبي الذي يعطي معنى لفظ «بارقليط»، ويُفهِم المؤمنين كيف يمكن أن ينتظروا الروح القدس:
شاء يسوعُ حمْلَ رسله على إتيان الأعمال الصالحة، ولئلاَّ يظنُّوا أنَّ السؤال باسمه بدون أفعال برّ وقداسة كافٍ لنيل ما يريدونه، طلب منهم حفظ الوصايا الآمرة بالسيرة الحسنة والطهر والإحسان على الفقراء والصوم والصلاة وما أشبه، وأفهمهم أن حفظها هو نتيجة محبَّته لهم. لأنَّ من يحبُّ يصون ما يأمره به، وإن صانه نال محبَّته أيضًا والتفاتته. ثمَّ ما كان يخاف على المسيح أنَّ تلاميذه محتاجون إلى تقوية متواصلة لعمل البرّ. فبهذا المعنى وعدهم بإرسال الروح فقال: «أسألُ الآب ليعطيكم». ولم يقل: «أنا أعطيكم» خوفَ أن لا يقبلوا كلامه أو يداخلهم ريب في صحَّته. فتنازل في لطفه وخاطبهم طبق إدراكهم، وانتبه إلى وصف الروح. فهو معزٍّ آخر غير الآب والابن. إذن، هو أقنوم متميِّز عنهما، ولو أنَّه واحد معهما بالجوهر والذات والطبيعة. وكلمة البارقليط التي بها يُدعى الروح القدس، تأويلها المعزِّي، على أحجِّ الآراء. ولو أنَّ بعضهم فسَّرها بمعلِّم. وما أحنَّ يسوع على خاصَّته. فإنَّه سيبتعد عنهم، ولكنَّه لا يتركهم بدون تعزية وسلوان. بل التعزية التي يرسلها إليهم في أقنوم الروح، ستبقى معهم ومع الكنيسة حتّى منتهى الأجيال. وإن سألتَ لماذا لم يرسل الروح في حياته على الأرض، قلتُ: لم يكن له لزوم ويسوع حاضر، لاسيَّما وأنَّه لم تكن بعدُ ذبيحة ترضي الله عن العالم. ثمَّ لم يكن يسوع قام من بين الأموات.
*  *  *
وقبل أن نصل إلى القسم الأخير مع المقالات الخلقيَّة التي آثرها العالم السريانيّ على غيرها، نورد القليل من مواعظ الذهبيّ الفم في الرسالة إلى رومة وفي الرسالة إلى العبرانيِّين. من شرح الرسالة إلى رومة، نتوقَّف عند الشجاعة في نقل الكلمة إلى كلِّ مكان (ف 2):
يشهد بولس لإنجازين حقَّقهما أهل رومة: لإيمانهم، ولاقتران إيمانهم بشجاعة عظيمة، وانتشار خبره في العالم كلِّه، رغم وجود معوِّقات كثيرة أمام تعليمهم. فإيمانهم هو المعوَّل عليه لا حربهم الكلاميَّة ولا جدالهم ولا تفكيرهم. فإنَّهم تسلَّموا سلطة عظيمة تمتدُّ إلى آخر المعمور، وعاشوا في الغنى والتنعُّم. ثمَّ حمل الصيّادون البشارة إليهم، وهم يهود من يهود ينتمون إلى أمَّة يبغضها الجميع ويكرهونها. فأمروا أهل رومة، أن يعبدوا مصلوبًا ترعرع في اليهوديَّة. ومع هذه العقيدة، أعلن المعلِّمون لأناسٍ ألفوا البذخ والرفاهيَّة والرخاء المادّيّ، حياة نسكيَّة. ومبشِّرو الإنجيل كانوا فقراء، مساكين، تحدَّروا من عائلات لا نسبَ لها ولا حسب، لكن كلُّ هذا لم يُعِق طريق الكلمة، إذ إنَّ قوَّة المصلوب كانت عظيمة جدًّا حتّى تنقل الكلمة إلى كلِّ مكان.
نتذكَّر هنا أنَّ العظات حول الرسائل البولسيَّة، لبثت مخطوطة، شأنها شأن العظات حول إنجيلي متّى ويوحنّا. فمثلاً نقرأ المواعظ حول الرسالة الأولى إلى كورنتوس في المتحف البريطانيّ 14563 Add في مخطوط يعود إلى القرن السادس، يعني مئة سنة بعد وفاة واعظ أنطاكية الكبير، كما في الموضع نفسه 12160 Add وهو مخطوط يعود إلى سنة 584. والرسالة الثانية إلى كورنتوس نقرأها أيضًا في المتحف البريطانيّ 14564 Add (يعود إلى القرن 6-7). ثمَّ 12180 Add (القرن 6-7) . ونورد بعض المقاطع من القسم الثاني في الرسالة إلى رومة، وهي الأمور الحياتيَّة والعمليَّة.
إلزموا الخير (12: 9): إذا كانت فيك المحبَّة، فإنَّك لا تشعر بفقدانك المال، وبتعب الجسد، أو بجهد الكلام، أو بالعرق والخدمة، بل تحتمل كلَّ شيء بشجاعة.
كونوا مبادرين القريب بالإكرام (آ10) ويقول الرسول: أنتم إخوة وُلد كلُّ واحد منكم بعد أن قاست أمَّهاتكم أوجاع الطلق. أنتم أبرار إذا كنتم متحابِّين... ما من شيء يكسبكم الأصدقاء كمبادرتكم إيَّاهم بالإكرام.
باركوا ولا تلعنوا (آ14): إنَّ الذين يضطهدوننا يؤمِّنون المكافأةَ لنا. إذا كنتَ متعقِّلاً فإنَّك تُعدُّ لنفسك مكافأة أخرى بعد تلك. فعدوُّك سيجعلك تنال المكافأة على اضطهاده إيَّاك، وأنت ستنال مكافأة حين تباركه لأنَّك تبيِّن بذلك علامة محبَّتك العظيمة للمسيح. فكما يبيِّنُ لاعنٌ مضطهدَه بأنَّه لا يطفر من الفرح في تألُّمه من أجل المسيح، كذلك من يبارك مضطهده يُبرز عظمة هذا العشق.
ونقدِّم مقطعًا من العظة السابعة من الرسالة الأولى إلى كورنتوس:
لنغطِّ نفوسنا بالخجل، يا أحبّائي، ولنعِشْ حياة تليق بمثل هذه الكرامة. فالمعلِّم الإلهيّ ذاته علَّمنا أنَّ وحي أسراره هذا هو شهادة ساطعة على حنانه، لأنَّه قال: «لا أدعوكم بعدُ عبيدًا. منذ الآن أنتم كلُّكم أحبّائي لأنِّي كشفت لكم كلَّ ما سمعته من أبي» (يو 15: 15). نقلتُ إليكم بثقة تامَّة، والحال إن كان هذا برهان صداقة بأن نسلِّم هكذا أسرارًا تُترجَم في خطبة، فأيُّ صداقة تكون هذه التي وزَّعها لنا بالحقيقة، أسألكم؟ هذا ما يجعلنا نحمرُّ خجلاً. إذا كانت جهنَّم لا تقدر أن تجعلنا نرتجف، ليكن لنا نكرانُ الجميل تجاه صديق قدير جدًّا وسخيّ، أكثر هوْلاً من جهنَّم. فلا نتصرَّف مثل المرتزقة بل مثل أولاد الله، ولنعمل كلَّ شيء بمحبَّة من أجل أبينا، وأخيرًا لنتوقَّف من التعلُّق بالعالم، ولنسقط العار على الأمم.
سبق وذكرنا أنَّ العظات حول رسالة أفسس، موجودة في مخطوط من المكتبة الوطنيَّة في باريس وهو يعود إلى سنة 614-615. ونجده أيضًا في المتحف البريطانيّ 14565 Add وهو مخطوط يعود إلى القرن 6-7. وها نحن نقدِّم مقطعًا من العظة العشرين مع كلام عن علاقة الرجل والمرأة داخل الزواج المسيحيّ:
هل تألَّمتُم من أجلها (= من أجل المرأة)، لا توبِّخوها على ذلك. فالمسيح أما أعطاكم مثالاً في هذا المجال: «بذل نفسه لأجلها لكي يطهِّرها ويقدِّسها»؟ إذًا، كانت غير طاهرة، نجسة، مشوَّهة، بشعة. مهما تكن المرأة التي تأخذها، لن تكون أبدًا في الحالة التي فيها أخذ المسيحُ الكنيسة، لن تكون أبدًا بعيدة عنك بقدر ما الكنيسة كانت بالنسبة إلى المسيح. ومع ذلك هو ما أظهر لها قرفًا ولا بغضًا، بسبب تشويهها. ولكي تعرف إلى أيِّ حدٍّ كانت مشوَّهة، اسمع أيضًا كلام بولس: «كنتم من قبلُ ظلمة» (أف 5: 8) أيُّ سواد! وأيُّ شيء أسود من الظلمة ذاتها؟ وانظروا أيضًا وقاحتها: «كنتم تعيشون في الخبث والحسد» (تي 3: 3). وانظروا أيضًا دنسها وعدم طهارتها: «في التمرُّد وفي الجنون». وما قلتُ أيضًا ما فيه الكفاية. ففي جهالتها كان التجديف في فمها. ومع هذا كلِّه، بذل نفسه من أجل هذه العروس المشوَّهة كما كان سيفعل إن جذبته وسحرته بجمالها.
وننهي هذه العجالة البولسيَّة مع الرسالة إلى العبرانيِّين، التي هي رسالة بولسيَّة أكيدة بحسب كنيسة أنطاكية. نبدأ فنورد ما يتعلَّق بالشريعة والإيمان كما في مار أفرام السريانيّ حول الفصل الرابع من الرسالة إلى العبرانيِّين:
كان لنا وعدُ الدخول إلى الملكوت بإيماننا ونهْج حياتنا الروحيَّة، كمثْل الذين قبلوا ما أمرَتْهم به الشريعة... ليملكوا أرضًا فُتحَتْ لهم. «لكنَّ رسالة» الشريعة التي سمعوها لم ينتفعوا بها «لأنَّها كانت غير مدعومة عندهم بالإيمان». أمّا «نحن المؤمنين» بالمسيح وبعطاياه «فندخل» في تلك الراحة بكلِّ إيمان. إنَّهم لم يدخلوا في تلك الراحة نتيجة نذور قدَّموها بواسطة داود الذي قال: «أُقسمُ في غضبي أن لا يدخلوا في راحتي».
وفي الإطار السريانيّ أيضًا نقرأ إسحق النينويّ:
إنِّي أتكلَّم على سيل الدموع التي تُذرَف بلا انقطاع ليلَ نهار. من وجدها حقًّا، إنَّما وجدها في السكون، فتصبح عيونك ينابيع ماء جارية لسنتين أو أكثر، أي في زمن التحوَّل الصوفيّ، الموستيّ mystique. وتَدخلُ (أنتَ) بعد ذلك في سلام الفكر ومنه تدخلَ إلى الراحة التي تكلَّم عليها بولس على نور احتمال الطبيعة. ومن سلام الراحة، يبدأ عقلُك بمشاهدة الأسرار. بعد ذلك، يُظهر الروحُ القدس الأمور السماويَّةَ لك، فيسكن الله فيك ويُنمي ثمر الروح وتبدأ تراه بصورة باهتة... والطبيعة المتغيِّرة تتجدَّد... وعندما تدخل في سلام الفكر تجفُّ فيك ينابيع الدموع. إلاَّ أنَّها تعاودك بعد ذلك في وقت موافق. هذه هي حقيقة الأمر بكلِّ دقَّة، وبها تؤمن الكنيسة جمعاء.
ومن التراث السريانيّ ننتقل إلى التراث اليونانيّ مع الذهبيّ الفم في شرح الرسالة إلى العبرانيِّين، الوعظة السادسة، في موضوع عنوانه: ملكوت السماوات راحة. قال:
يقول الرسول: هناك «ثلاث» راحات. الأولى هي يوم السبت الذي فيه استراح الله من أعماله. والثانية هي راحة فلسطين التي دخلها اليهود ليستريحوا من مشقَّاتهم وآلامهم الكثيرة. أمّا الثالثة فهي الراحة الحقيقيَّة، أي ملكوت السماوات. فالذين ينالونه يرتاحون من تعبهم وعنائهم. هنا يَذكر تلك الأنواع الثلاثة. لماذا ذكرها فيما يتحدَّث عن راحة واحدة؟ ليبيِّن أنَّ النبيَّ يتحدَّث عنها. إنَّه لم يتحدَّث عن النوع الأوَّل. ولم يتحدَّث عمّا حدث من زمن بعيد. ومن النوع الثاني في فلسطين؟ فهو يقول: «لن يدخلوا في راحتي». يبقى إذًا النوع الثالث من الراحة.
وقبل العودة إلى أفرام السريانيّ، نورد بعض ما قاله تيودوريه القورشيّ: «ينبغي أن يبيِّن الراحات الثلاث المذكورة في الكتاب المقدَّس. أوَّلاً، اليوم السابع الذي أتمَّ فيه الله عملَ الخلق. ثانيًا، أرض الميعاد. ثالثًا، ملكوت السموات. ثمَّ يقدِّم برهانًا على ذلك من الشهادة النبويَّة فيقول: لو لم يُوجَد نوعٌ آخر من الراحة، فلماذا يحثُّ أهل الأرض الذين يقبلون النوع الثاني من الراحة أن لا يُقسُّوا قلوبهم ويهدَّدوا بالعقاب». وهكذا يلتقي العالم اليونانيّ بالعالم السريانيّ. وها نحن نعود إلى مار أفرام:
مع أنَّ يشوع بن نون أباح لهم وراثة الأرض، وأنزلهم فيها وأعطاهم الراحة، فإنَّهم ظلُّوا يتحدَّثون عن «يوم آخر للراحة». بالحقيقة، إنَّ يشوع أراحهم، لأنَّه أعطاهم الأرض ميراثًا لهم، لكنَّهم لم يستريحوا فيها كلِّيًّا، كما استراح الله من أعماله، لأنَّهم عاشوا المشقَّات والحروب. فإذا لم تكن تلك الراحةُ التي أعطاهم إيَّاها يشوع المحاربُ راحة حقيقيَّة، فلا يبقى لهم إلاَّ سبت الله الذي يعطي الراحة للداخلين إلى هناك كما استراح الله ممّا صنع من أعمال.

3-    الآثار المطبوعة
حتّى الآن توقَّفنا عند شروح الأسفار المقدَّسة، التي لبثت مخفيَّة في المخطوطات. ونودُّ الآن أن نشير إلى ما طُبع من آثار الذهبيّ الفم في السريانيَّة، وهي مقالات متنوِّعة تهمُّ المؤمن في حياته اليوميَّة. وها نحن نذكر بعضها.

أ‌-    في الكهنوت
هو مؤلَّف عُرف بشكل لم يعرفه أيُّ مؤلَّف آخر للذهبيّ الفم. قال فيه إيزيدور بعد موت يوحنّا ببضع سنوات: «ما من أحد قرأ هذا الكتاب إلاَّ واشتعل قلبه بحبِّ الله». جاء في ستَّة كتب أو ستِّ مقالات، وبدا بشكل حوار بين الكاتب وصديقه باسيل. حاول الكاتب أن يبرِّر موقفه ساعة اختيارهما إلى الأسقفيَّة حوالي سنة 373. قُدِّمت له هذه الكرامة، من قبول أو رفض، ولكنَّه طلب منه التوافق...»
هذا المؤلَّف الذي بدا كأنَّه سيرة القدِّيس يوحنّا، رأى فيه التقليد البيزنطيّ دستورًا يحدِّد طبيعة الكهنوت المسيحيّ وواجبات الكاهن والأسقف. لهذا كانت المخطوطات عديدة. ذكر ناشر النصّ 83 مخطوطًا. ولكنَّ أقدم نصٍّ في اليونانيَّة يعود إلى القرن التاسع. أمّا الأصل اليونانيّ فنُقل باكرًا إلى اللاتينيَّة منذ القرن الخامس، أي في القرن الذي توفِّي فيه الذهبيّ الفم. ونُقل النصُّ إلى السريانيَّة وإلى العربيَّة وغيرهما من اللغات: وها نحن نقدِّم بعض المقاطع:
إنَّ عظمة كرامة الكهنوت تفوق كلَّ كرامة أرضيَّة وبشريَّة. إنَّها خدمة الملائكة. لذا فعلى الكهنة أن يكونوا أطهارًا كالملائكة.
لقد كان الكهنوت في العهد القديم شريفًا ومثيرًا للمهابة. أمّا في عصرنا فقد صار وكأنَّه عديم الأهمِّيَّة وتافهًا.
إنَّ الربَّ الإله نفسه يُقدَّم كذبيحة. فما أعجب محبَّة الله! فشريك الآب في الكرامة يرضى لنفسه، في الذبيحة المقدَّسة، أن يُلمَس بأيدي الجميع ويُنظَر بأعين الكلّ.
لأنَّه إذا كان الكهنة والمعلِّمون غير خاطئين وليسوا معرَّضين لشهوات الحياة، فسوف يتغطرسون على الشعب، وسوف يَفقدون علاقات اللطف مع الآخرين، لذلك يسمح الله أن يكون الأساقفة معرَّضين لشهوات الحياة، حتَّى يتعلَّموا من اختبارهم الخاصّ أن يغفروا خطايا الآخرين، كما حدث لبطرس في العهد الجديد وإيليّا في العهد القديم.
وهذا مقطع عن فضائل الكاهن:
على نفس الكاهن أن تكون أطهر من شعاع الشمس حتّى يجعل الروح القدس منها مسكنًا دائمًا له، فيتمكَّن الكاهن أن يقول: «أحيا، لا أنا أحيا، إنَّما المسيح هو الحيُّ فيَّ» (غل 2: 20). إذا كان من يهرب إلى الصحراء بعيدًا عن المدينة والساحة العامَّة والضجيج الصاخب لا يقوى أن يعيش بدون زلَّة رغم هذه الحياة الآمنة، وإن كان من يُكثر من الحذر ومن الوسائط الدفاعيَّة محافظًا على قوانين قاسية بكلامه وتصرُّفاته يفعل كلَّ هذا للتقرُّب من الله بالثقة والطهارة الممكنة من الطبيعة الضعيفة، فبأيَّة شجاعة وبأيَّة قوَّة يضطرُّ الكاهن أن يتسلَّح ليصون نفسه من كلِّ شائبة ويحفظ لها جمالها الروحيّ بعيدًا عن كلِّ عيب!
على الكاهن أن يكون على السواء وقورًا بدون تكبُّر، مهيبًا طيِّبَ المعشر، يأمر ويؤنس، يتَّضع بلا مذلَّة، قويًّا، لطيفًا، يستطيع مع كلِّ هذه المزايا أن يصمد في الجهاد كي لا يبقى أمام عينيه إلاَّ شيء واحد: بناء الكنيسة بناء لا يدخله حقد ولا محاباة.
ب‌-    عظات ضدَّ اليهود والأنوميِّين
هي ثماني عظات تُليَتْ في أنطاكية سنة 386 وسنة 387 ووُجِّهت بشكل خاصّ إلى المسيحيِّين وبشكل جانبيّ إلى اليهود. كان المسيحيُّون يؤمُّون المجامع اليهوديَّة تجتذبهم بعض التمائم والخرافات التي يمارسها بعض اليهود العاديِّين. فنبَّهت العظة الأولى السامعين من عيد السنة الجديد والمظالّ ومن الأصوام. والعظة الثالثة هاجمت أولئك الذين يشاركون اليهود في عيد الفصح... عظات تبيِّن أنَّ اليهود رذلوا المسيح كما أنبأ الأنبياء بذلك، وأنَّهم نالوا عقابًا عادلاً.
أمّا العظات ضدَّ الأنوميِّين الذين يعتبرون أنَّه بالإمكان أن نعرف الله كما يعرف الله ذاته، فهي جزء من لاإدراكيَّة الله. هي ستُّ عظات فيها يدافع عن الطابع اللامدرك للطبيعة الإلهيَّة. كما يبرز المساواة بين الآب والابن. ونقرأ هنا بعض العظة الرابعة وعنوانها: لا تعرف القوَّات السماويَّة الله معرفة تامَّة:
هذا الباقي، علامَ يشتمل؟ على البرهان لكم أن لا قوَّات ولا سيادات ولا رئاسات ولا أيَّة قوَّة مخلوقة يمكنها أن تدرك إدراكًا تامًّا الله. وهناك حتّى أسماء الخدَّام، وهم يدَّعون تفحُّص جوهر السيِّد ذاته!...
وما المدهش في ألاَّ تستطيع هذه القوَّات فهم الجوهر الإلهيّ فهمًا تامًّا؟ فهذا أمر لا يصعب البرهان عليه أبدًا. وفي الواقع، هناك الكثير من مقاصد الله تجهله القوَّات العلويَّة والسلطات والسيادات والرئاسات. وبرجوعنا أيضًا إلى أقوال الرسول عينها، نبيِّن لكم أنَّ القوّات قد اطَّلعت في آن واحد معنا على بعض مقاصد الله التي كانت تجهلها قبلاً، وقد اطَّلعت عليها الآن لا في آن واحد معنا وحسب، بل بفضلنا أيضًا. يقول: «فهذا السرُّ لم يُعلَن لبني البشر، في الأجيال السابقة، كما أعلنه الآن الروح لرسله القدِّيسين وأنبيائه...»
سنة 2007، ظهرت طبعة ثانية لكتاب «مساوٍ للآب في الجوهر». هو يواصل «لا إدراكيَّة الله». هي ستُّ عظات. ونقدِّم مقطعًا من العظة الأولى وعنوانها: الاعتراض الأوَّل: تسمية السيِّد المسيح ابن:
إنَّهم يعترضون قائلين: ما هو الذي في غاية الوضوح: إن كان (الابن) من نفس جوهر الآب لأنَّه دُعيَ «ابن»، إذًا نحن أيضًا يمكننا أن نكون «واحدًا» مع الآب في الجوهر، لأنَّنا نحن أيضًا بالتأكيد دُعينا أبناءه، إذ يقول المزمور: «أنا قلت إنَّكم آلهة وبنو العليّ كلُّكم» (82: 6).
آه، كم إنَّهم وقحون! وكم جنونهم مُطبَق. وكيف يُظهرون بوضوح جنونهم بهذه الطريقة؟ عندما كنّا نبدأ أحاديثنا في عدم إدراك الله (في جوهره) كانوا يسعون بعناد بالادِّعاء لأنفسهم بما يختصُّ الابن الوحيد فقط، ألا وهو أنَّهم يعرفون الله بالتمام كما يعرف هو ذاته. والآن، عندما يختصُّ حديثنا بمجد الابن الوحيد، فإنَّهم يسعون باستماتة إلى إنزاله إلى تفاهة مستواهم ذاته عندما يقولون: نحن أيضًا دعينا أبناء.
لكنَّ هذه البنوَّة (بالنعمة) لا تجعلنا من جوهر الله (الآب) نفسه. أنت دعيتَ ابنًا، أمّا هو فإنَّه الابن. بالنسبة لك هي مجرَّد كلمة (لقب أُسبغ عليك) وبالنسبة له، الأمرُ حقيقيّ.
لقد دُعيتَ ابنًا، لكنَّك لم تُدعَ الابن الوحيد كما دُعي هو. أنت لا تحيا «في حضن الآب» (يو 1: 18). أنت لست «بهاء مجده» (عب 1: 3) أنت لست «رسم جوهره» (عب 1: 3)...
عندما أراد أن يُظهر أنَّ قوَّته معادلة لقوَّة الآب قال: «لأنَّه كما أنَّ الآب يقيم الأموات ويحييهم، كذلك الابن أيضًا يُحيي من يشاء» (يو 5: 21). وعندما أراد أن يُظهر أنَّه يتلقَّى عبادة (وإكرامًا) مماثلة كما الآب، قال: «لكي يكرم الابنَ جميعُ الناس كما يكرمون الآب» (آ23). وعندما أراد أن يُظهر أنَّ له نفس السلطان على إصلاح وتقديم الناموس (الطبيعيّ) قال: «أبي يعمل حتّى الآن وأنا أعمل» (آ17).
لكنَّ الهراطقة يتجاهلون كلَّ هذه النصوص. إنَّهم لا يفهمون لقب الابن في معناه الأصليّ، لأنَّهم هم أيضًا تمَّ إكرامُهم بتسميتهم على أنَّهم أبناء. لذلك هم يُنزلون الابن إلى المستوى الهزيل نفسه عند اقتباسهم كلمة المزمور... (82: 6).
ج- الأعياد السيِّديَّة
سنة 1998، نقل مار ملاطيوس برنابا القسّ يوسف من السريانيَّة إلى العربيَّة مختارات من عظات القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: يوم جمعة الآلام، الفصح، قيامة الربّ، قيامة المخلِّص، صعود الربّ إلى السماء. ثمَّ: أحد الشعانين، الوصول إلى الميناء، آلام المخلِّص... وها نحن نورد بداية العظة في الوصول إلى الميناء.
إنِّي أرى اليوم أنوارًا غير عاديَّة في المدينة وحسنًا فعلتم. وأقول لكم: لا تحملوا مشعلاً واحدًا في كلِّ يد، بل احملوا في كلِّ إصبع مشعلاً إن استطعتم. فإنَّ الختن بعد خمسة أيَّام يصعد من القبر ظافرًا تُحيق به القوَّات. وحسنًا تفعلون إذا هيَّأتم لاستقباله المصابيحَ النيِّرة. فكما أنَّ الملك الأرضيّ، إذا خرج لمحاربة أعدائه وانتصر وعاد إلى أرضه، يخرج الناس كلُّهم لاستقباله بالتكريم والتهليل، هكذا افعلوا أنتم لتستقبلوا الملك السماويّ الذي بيده كلُّ شيء وبه يقوم كلُّ شيء. فلننظر إليه وهو يرتدي ثياب الجسد، ولنراقب ثيابه المضرَّجة بالدم. فقد حارب الحيَّة وانتصر دون جنود، وحطَّم العدوّ القويّ وأنقذ الإنسانيَّة التي رزحت تحت عبوديَّته.
فكم من الأنوار علينا أن نهيِّئ لاستقبال الملك السماويّ الذي لم يحارب أعداء منظورين، بل الشياطين أعداء جنسنا البشريّ، وانتصر انتصارًا عظيمًا. وحسنًا فعلتم إذ زيَّنتم الكنيسة بهذه المصابيح. وباحتفالكم الروحيّ في هذا العيد، هيَّأتم أنفسكم للقيامة. فأرجو أن ألفت أنظاركم إلى أنَّه مع الأنوار الخارجيَّة هذه، علينا أن نشعل أنوار أنفسنا لنتطهَّر من أدناس الخطيئة. وإذ بدأت هذه المقدِّمة عن هذا اليوم، أطلب إليكم أن تتضرَّعوا من أجلي كي أستطيع التحدُّث عن هذا اليوم المقدَّس، لأنَّني أرى اندفاعكم وإيمانكم في الكنيسة.
أودُّ قبل أن نورد نصًا آخر حول جمعة الآلام، أن أوجز الطريقة التي بها انتقل الإرث اليونانيّ إلى السريانيّ. في البداية هي ترجمة حرفيَّة. بعد ذلك، تتحسَّن الترجمة في شكل أدبيّ وتصبح أكثر أمانة للأصل اليونانيّ. هذا واضح في نقل مواعظ سويريوس الأنطاكيّ. بدأ بولس الرهاويّ فنقل النصَّ إلى السريانيَّة. وجاء بعده يعقوب الرهاويّ الذي نقَّح هذه الترجمة. وفي محطَّة ثالثة، حاول الكتّاب السريان اللاحقون أن يوجزوا النصَّ اليونانيّ، وهذا نكتشفه في مواعظ الذهبيّ الفم، وما لنا إلاَّ أن نقارن النصَّ اليونانيّ مع النصِّ السريانيّ. ومن هنا، ينطلق كتَّاب آخرون فيبنون نصًّا جديدًا انطلاقًا ممّا كتبوا وينسبونه إلى يوحنّا الذهبيّ الفم أو غيره. عمل طويل شاقّ لمن يريد أن يرى العلاقة الوثيقة بين «يوحنّا السريانيّ» و«يوحنّا اليونانيّ». فإذا كانت نصوص كثيرة، في اليونانيَّة، نُسبَت إلى الذهبيّ الفم، فماذا نقول عن السريانيَّة والأمر معروف بشكل خاصّ على مستوى الأمور النسكيَّة والتقويَّة. هنا نشير إلى مجموعة المقالات ومجموعة العظات التي نُشرت مؤخَّرًا في طبعة لا تختلف عن الأصل. وننهي كلامنا في إيراد العظة حول يوم جمعة الآلام:
أحبّائي، اليوم ظهر السرُّ الذي كان خفيَ عن الأجيال على مدى الأزمان السالفة، وكُشف للملائكة، وبُشِّر به في الأمم. إنِّي أخاف وأفزع عندما أرى الإله معلَّقًا على الصليب، ربَّ الملائكة مجد الآب حمل الله الرافع خطايا العالم. أراه كمجرم محكوم عليه بالموت صلبًا. ففي هذا الليل، قبض عليه الكهنة والفرِّيسيُّون وأدخلوه إلى المحكمة. كانوا يضربونه على رأسه، ويبصقون على وجهه. دهش السماويُّون وارتجفَتِ الأرض وتزحزحت من مكانها. اليدان اللتان جَبلتا آدم تسمَّران على الصليب. الذي صنع وجهًا للإنسان وأتقنه، يَقبل البصاق على وجهه. وتتحقَّق كلمات إشعيا: «أعطيتُ جسدي للجلد، ووجهي للضرب ولم أزحْه عن خزي البصاق».
فماذا أقول وما أتكلَّم؟
إنَّ لسان النورانيِّين ضعُف منذهلاً أمام الحديث عن هذا اليوم. فكم بالأحرى نحن الأرضيِّين! هوذا حمل الله الرافع العالم يُساق إلى الذبح، وكنعجة أمام الجزّار ساكت لم يَفتح فاه. كان ساكتًا أمام الحاكم ذاك الذي خلق أفواه البشر ليمجِّدوا لاهوته. كان ساكتًا مَن خلق الألحان والنغمات. بتذلُّل اقتيد من السجن. كان محبوسًا في بيت حنّان، ذاك الذي حبس البحار والأنهار في قبضته. كان محبوسًا ذاك الذي فتح الأبواب للمسجونين وأخرجهم من شقوق الأرض.

الخاتمة
مسيرة طويلة سرناها مع القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، كاهن أنطاكية وبطريرك القسطنطينيَّة الذي توفِّي سنة 407. هذا الذي شرح الأسفار المقدَّسة ولاسيَّما العهد الجديد، ترك المواعظ العديدة والمقالات. فردَّ على الأريوسيِّين والأنوميِّين والمانويِّين وما نسيَ اليهود الذين كان تأثيرهم كبيرًا في عصره، بين تأليف تلمودين، تلمود أورشليم وتلمود بابل. حُفظَتْ آثاره كلُّها تقريبًا، ونقلَتْ إلى اللغات القديمة. ومنها السريانيَّة. فأردنا أن نعطي فكرة ولو ضئيلة عن العالم الواسع الذي نغوص فيه ونخاف أن نغرق. حاولنا قدر الإمكان أن نورد النصوص لنبيِّن كم اهتمَّ السريان بآثار اليونان. فالشروح الكتابيَّة هي الأولى، لا من مدرسة أنطاكية فحسب، بل من مدرسة الإسكندريَّة ولاسيَّما أثناز وكيرلُّس. ثمَّ الأمور العمليَّة. وكان بالإمكان أن نتحدَّث عن التوبة والتواضع والحسد والبغض والصلاة والصدقة والموت وانتهاء العالم. مجالات واسعة فتحنا نافذة عليها، وشدَّدنا خصوصًا على حرِّيَّة العالم السريانيّ، لا في الترجمة فقط، بل في التلخيص والاستنباط، خصوصًا حين انقطعت الاتِّصالات مع بيزنطية بعد مجمع خلقيدونية، وتعمَّقَ الشقاقُ يومًا بعد يوم مع وصول الجيوش العربيَّة. فانفصلت سورية ومصر بشكل خاصّ عن القسطنطينيَّة، وانعزلت «الكنائس» وحاولت كلُّ واحدة أن تعتبر نفسها «الكنيسة» مع أل التعريف، لا كنيسة في الكنيسة الجامعة الواحدة المقدَّسة الرسوليَّة. ولكن الحمد لله اليوم وإنَّ إشراقات أخذت تتداخل بين اليونانيَّة والأرمنيَّة والسريانيَّة والقبطيَّة والحبشيَّة. إنجيل واحد في نظرات متعدِّدة. انطلاق من الوحدة إلى الكثرة ومن الكثرة إلى الوحدة، من المسيح الذي هو البداية الواصلة إلى أقاصي الأرض إلى المسيح الذي هو النهاية. أما هو مبدئ إيماننا ومكمِّله، كما قال الرسول؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM