الفصل الخامس عشر:إلهنا يتألّم

الفصل الخامس عشر
إلهنا يتألّم

أوَّل خبرة عرفها المعذَّبون في أرض مصر، هي أنَّ الله يرى، يسمع، وفي النهاية يتألَّم لألم عبيده. قبائل عبرانيَّة وصلت إلى مصر «أثمَروا وتوالدوا ونموا وكثروا...» (خر 1: 7). هم يعملون عبيدًا. لا بأس. مهما كثر العبيد كثر النتاج. ولكن تواصل الكلام: «... كثيرًا جدًّا فامتلأت الأرض منهم». وبالتالي شكَّلوا خطرًا على البلاد. وضعوا عليهم مسخِّرون يذلُّونهم بالأثقال، جعلوا حياتهم مرارة. وفي النهاية، أقرُّوا أن يقتلوا كلَّ ذكر يُولَد... الفرعون هو الأقوى. وهو يفعل! لا، الله هو الأقوى وسيأتي يوم فيه يفعل.
صرخ الشعب: «التفتْ إليَّ وارحمْني، انظر إلى ذلِّي وتعبي...، انظر إلى مُعاديَّ...» (مز 25: 16ي). فوراء هذا الصراخ فعل إيمان: «من السماوات ينظر الربُّ ويرى جميع البشر. من مكان سكناه يتطلَّع إلى جميع سكّان الأرض» (مز 33: 13-14). وإلى من يتطلَّع أوَّلاً؟ إلى المسكين، إلى الغريب، إلى المعذَّب... إلى أولئك الذين طلب منّا يسوع أن نهتمَّ بهم لأنَّنا سنُدان بالنظر إلى أعمالنا في هذا المجال: كنت جائعًا، عطشان، مريضًا، في السجن... (مت 25: 31ي).
قد يقول قائل: أين إلهك، أيُّها المؤمن؟ إلهك في السماء، وهو بعيد بعيد. يعيش سعادة ما بعدها سعادة. فلماذا تُفسد سعادته؟ ولكنَّ إيمان المرتِّل يختلف عمّا الناس يقولون: «أولئك صرخوا والربُّ سمع، ومن كلِّ شدائدهم أنقذهم. قريب هو الربُّ من المنكسري القلوب، ويخلِّص المنسحقي الروح. كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها ينجِّيه الربُّ» (مز 34: 18-20).
ذاك ما حصل مع موسى في البرِّيَّة، فهذا الذي سيكون قائدًا، هرب إلى البرِّيَّة وأقام هناك. تزوَّج، رُزق ولدان لا يهدِّدهما أحد، كما كان الأمر في مصر. وفي النهاية، نسيَ إخوته وأخواته. أمّا الله فلا ينسى. جاء موسى من خلال العلَّيقة الملتهبة: «رأيتُ مذلَّة شعبي في مصر، وسمعتُ صراخهم من أجل مسخِّريهم. عرفت أوجاعهم وآلامهم فنزلت لأنقذهم من أيدي (مسخِّريهم) المصريِّين» (خر 3: 7، 8).
إلهنا يرى، إلهنا، يسمع، وإذ يرى أولاده يتألَّمون فهو يتألَّم، لأنَّ قلبه قلب أب وأمّ، بل هو يتفوَّق عليهما بعض المرَّات حين يمارسان القساوة على ابن لا يسمع لهما فيطلبان له الموت. حدَّثه مرَّة موسى الذي تعب من قيادة الشعب: أنت حبلتَ بهذا الشعب، أنت ولدتَهم وأنت تهتمُّ بهم. أيحتاج الربُّ أن نذكِّره أنَّه أبونا وأمُّنا، يفرح لفرحنا ويتألَّم لألمنا ويهتمُّ بكلِّ واحد منَّا؟ قال إشعيا: «وكفرح العريس بعروسه هكذا يفرح بك إلهُك» (62: 5).
*  *  *
الله تألَّم مع سارة. أراد زوجها أبرام أن ينجو بنفسه فقال لها: «أعرفُ أنَّك امرأة جميلة... يراك المصريُّون فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنَّك أختي». والنتيجة، تتألَّم سارة، تُباع، تذلّ. والنتيجة بالنسبة إلى الرجل: «يكون لي خير بسببك، وأنجو بحياتي بفضلك» (تك 12: 10-13). في الواقع، نجا أبرام. كُرِّم، ونال الخير الكثير من «غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال» (آ16).
هل كان الله مع أبرام؟ كلاّ. والخير الذي ناله أما هو بركة من الله؟ بل عطاء ممَّن سيكون المُعادي لله لأنَّه يظلم المساكين. فالله كان مع سارة. وتألَّم لألمها. هي شيء يتصرَّف به الرجل، يبيعه، يشتريه. أمّا الربُّ فلا يتصرَّف كالإنسان مهما بلغت قوَّته. كان بإمكانه أن «يضرب» أبرام. ولكنَّ أبرام ضعيف ولهذا تصرَّف بأنانيَّة. عندئذٍ «ضرب» فرعونَ وبيته. نبَّهه. فعادت سارة إلى زوجها.
وتألَّمت سارة لأنَّها لم تلد ولدًا لأبرام. هو يطلِّقها! أو يأخذ امرأة أخرى تلد له ولدًا. كلُّ امرأة تتألَّم، لأنَّ رسالتها منذ البداية أن «تكون أمَّ كلِّ حيّ». أمَا هذا معنى اسم حوّاء، وكلُّ امرأة هي حوّاء. مضى زوجها إلى «جاريتها» فتشاوفت هذه عليها. فطلبت سارة طردها. فسمع لها إبراهيم. نلاحظ الجوَّ في هذا البيت: إبراهيم أقوى من سارة. سارة أقوى من هاجر... وكما كان الله مع سارة في وجه إبراهيم، ها هو مع هاجر في وجه سارة.
فحين قدَّمت ساره هاجر لزوجها وحبلت هاجر، في كلِّ هذه المرحلة، بدا الله غائبًا، وكأنَّه غير راضٍ على ما يُفعَل... ومتى يحضر الله؟ حين تُرمى هاجر في البرِّيَّة. «وجدها ملاك الربِّ على عين الماء» (تك 16: 7). هو ذلٌّ موقَّت، وبعده تكون هاجر أمَّ قبائل عديدة: «نبايوت، قيدار...» هي القبائل العربيَّة (تك 25: 13).
«ولدت هاجر لأبرام ابنًا» (تك 16: 15). فرح به أبوه وأعطاه اسم «إسماعيل»، لأنَّه اعتبر أنَّ الله سمع له. وارتاحت هاجر. فابنُها هو البكر وهو من يحمل اسم أبيه. ولكن لا. فحين تلد سارة إسحق، تطلب من زوجها أن يطرد الجارية وابنها. «فمضت هاجر وتاهت في برِّيَّة بئر سبع». رافقها الربُّ في تيهانها وما تخلَّى عنها. لم يبقَ لها ماء. فقالت: «لا أنظر موت الولد». لا أستطيع أن أرى ابني يموت عطشًا. عندئذٍ «جلست مقابله ورفعت صوتها وبكت». الله سمع صوتَها، لا شكّ، فهو معين اليتامى والأرامل. ولكنَّ النصَّ الكتابيّ يأخذنا إلى الطفل: «فسمع الله صوت الولد» (تك 21: 16-17).
هذا هو إلهنا. تألَّم مع سارة في ضيقها، وفي الوقت الذي حدَّده هو وهب لها ابنًا اسمه إسحق، فجعلها تضحك. ورافق هاجر في هجرتها، مرَّة أولى وحدها، ومرَّة ثانية مع ولدها. وسوف تصرخ راحيل متألِّمة وكأنَّها تودُّ أن ترى حياتها تنتهي. قالت ليعقوب: «هبْ لي بنين، وإلاَّ فأنا أموت!» فأجابها: «ألعلِّي أنا مكان الله...؟» (تك 30: 1-2). ردَّها إلى الله. وسوف يعطيها الله ابنًا، اسمه يوسف، أين منه سائر الأبناء. وحنَّة أمُّ صموئيل، لا ولد لها، ساعة فننة تنال ولدًا بعد ولد. «تمرمرت نفسُها، فصلَّت إلى الربِّ وبكت بكاء» (1 صم 1: 11). ويتواصل الخبر: «كانت حنَّة تتكلَّم في قلبها، وشفتاها فقط تتحرَّكان وصوتها لا يُسمَع. فظنَّها عالي سكرى...» قلبُ الإنسان قاسٍ، ينظر إلى الخارج ولا يصل إلى القلب. أمّا الله فهو من يعرف الكلى والقلوب، يعرف شعور الإنسان وموطن قراره. قالت حنَّة للكاهن: «أنا امرأة حزينة... أسكُب نفسي أمام الربّ...» (آ15).
*  *  *
الله يتألَّم لآلامنا. فقال عنه إشعيا في نبوءة طبَّقها القدِّيس متَّى على يسوع: «أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا» (8: 17). ولهذا رأينا يسوع يهتمُّ بالمتألِّمين. فلا يكتفي بأن يشفق عليهم، كما نفعل نحن: حرام! مسكين! ونحسب نفوسنا أفضل منهم لأنَّنا في صحَّة جيِّدة، لأنَّنا لم نخسر قريبًا ولا حبيبًا. ونتحاشاهم، مثل تلك المرأة التي رفضت أن يكون ابنها مع الأولاد اليتامى...
كان يسوع أبعد ما يكون عن مثل هذه المواقف. إنسان أبرص... بعيد عن المدن والقرى... يطلب من الناس أن يبتعدوا عنه. وفي أيِّ حال، إن اقترب لاحقوه بالحجارة... أمّا يسوع فمضى إليه، لمسه، جعله طاهرًا على مستوى الجسد وعلى مستوى النفس. وامرأة فيها نزف دم يمنعها من أن تكون أمًّا. وتلك الأرملة التي تحمل وحيدها إلى القبر. قال القدِّيس لوقا عن يسوع: «تحرَّكت أحشاؤه» (7: 13)، كما الأمُّ على ابنها. أوقف الحاملين وردَّ لها ابنها.
«من رآني رأى الآب». إذا أردنا أن نعرف الله، أن نعرف الآب، يكفي أن ننظر الابن. ولكن ما لبث خفيًّا علينا إلاَّ في بعض الأوقات في العهد القديم، صار واضحًا في العهد الجديد. إنَّما نودُّ أن نتذكَّر ما عملت تلك المرأة التي مات ابنها وكيف مضت إلى أليشع، رجل الله، إلى جبل الكرمل (2 مل 4: 25). «نفسها مُرَّة». أشفق النبيُّ عليها، وشفقتُه هي من شفقة الله. وفي النهاية، دعاها النبيُّ وقال لها: «احملي ابنك» (آ36).
الله يتألَّم بسبب أمراضنا، والمرض كان يقود في الماضي إلى الموت. والموت هو ثمرة الخطيئة التي قادت الإنسان إلى الهلاك. قال الرسول: «بخطيئة الإنسان دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت، وهكذا عمَّ الموت جميع الناس لأنَّهم جميعهم خطئوا» (رو 5: 12). أتُرى الله أراد الإنسان للموت أم للحياة، للشقاء أم للسعادة، للمرض أم للصحَّة؟ قال النبيّ: الله لا يريد موت الخاطئ بل أن يعود إلى الربِّ ويحيا. وما يضايق الربّ، لا موت الجسد فقط، بل موت النفس أيضًا. الهلاك. فالمؤمن لا يخاف ممَّن يقتل الجسد، بل يخاف ممَّن يُهلك النفس والجسد في جهنَّم، يخاف من الذي يريد له الموت الثاني. فكيف يرضى الله أن يهلك أحدُ أبنائه؟ أما يتألَّم هذا الإله؟ بلى وألف بلى.
*  *  *
هنا نفهم نوعًا آخر من الألم الإلهيّ. يضع الله ثقته في إنسان من الناس ويوكله بشعبه، فلا يكون على قدر الرسالة التي انتُدب لها. اختار شاول، ذاك الشابَّ الجميل، الطويل القامة. «كان أطول من كلِّ الشعب من كتفه فما فوق» (1 صم 10: 23). قال عن نفسه: هو من قبيلة بنيامين، أصغر القبائل. وهو من أصغر العشائر في قبيلته. وكيف اختاره الله؟ كان يبحث عن أتن أبيه وما فكَّر يومًا بأن يكون ملكًا. ومع ذلك اختاره. وأعطاه النصر. وعلَّمه كيف لا يهتمُّ بكلام الناس، بل يغفر للذين رفضوا حكمه بسبب أصله وحجم قبيلته.
ولكنَّ هذا الملك الذي كان كبير القلب، خان الربّ. رفض أن يسمع كلامه. فضَّل صوت الجنود، صوت الشعب، على صوت الله. لهذا وبَّخه صموئيل: «بحماقة تصرَّفت، فما حفظت وصيَّة الربِّ إلهك...» (1 صم 13: 13). وضاع شاول في تصرُّفاته. فأراد أن يقتل ابنه يوناثان لأنَّه اعتبره عصى أوامره. ولاحقَ داود بعد أن حسده لانتصاره على جليات، وبدَّد قوى المملكة في حرب داخليَّة كان في غنى عنها. ولذا، لمّا كانت المعركة انهزم شاول. وقطعوا له رأسه وسمَّروا جسده على سور بيت شان. وهكذا ترك الربَّ وراح في طريق الموت. حزن الربّ. تألَّم. أهذا الذي اخترتُه صار مرذولاً؟ شابه يهوذا أحد الاثني عشر. اختاره الله كما اختار سمعان بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنّا. ولكنَّه ترك الجماعة واختار طريقًا أخرى. حزن الربّ. تألَّم. وهذا ما نفهمه حين نسمع كلام يسوع له: «يا يهوذا (دعاه باسمه دون وصفه بالماكر والخائن)، أبقبلة تسلِّم ابن الإنسان؟» (لو 2:2: 48). أمّا في إنجيل متَّى فيدعوه «يا صديقي» (26: 50).
فشل الربُّ حين اختار شاول. قال لشاول: «لأنَّك رفضت كلام الربّ، رفضك الربُّ من أن تكون ملكًا» (1 صم 15: 26). كلام فيه كثير من الألم في أعماق القلب. أمّا بالنسبة إلى يهوذا، فقال الربّ فيه: «ليته لم يُولد». وفي صلاته الأخيرة كما أوردها يوحنّا نقرأ: «الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم إلاَّ ابن الهلاك» (17: 12). كان لشاول مقامه، خسره. حزن الربّ. وكان ليهوذا مقامه في أساس الكنيسة، شأنه شأن سائر الرسل، فخسره فقال فيه بطرس عائدًا إلى المزمور: «تصير دارُه خرابًا ولا يكون فيها ساكن، وآخر يأخذ وظيفته» (أع 1: 20). فحلَّ متيَّاس محلَّ يهوذا، ومحلَّ شاول حلَّ داود.
واختار الله داود. وقال فيه صموئيل: «انتخبَ الربُّ رجلاً حسب قلبه» (1 صم 13: 14). وهكذا مضى صموئيل إلى بيت لحم. فأطاع أمر الربّ: «املأ الوعاء زيتًا وتعال أرسلك إلى بيت يسَّى، لأنِّي رأيتُ في بيته ملكًا» (1 صم 16: 1).. ومن هو هذا الملك؟ لا هو مقاتل مثل إخوته ولا هو التحق بشاول. ولا هو طويل القامة وجميل المنظر مثل أليآب البكر (آ7). تقريبًا، لا ينفع شيئًا. فأُرسل إلى رعاية الغنم. ما اختار الله أحدًا من أبناء يسَّى السبعة. وما أراد صموئيل أن يجلس إلى الطعام قبل مجيء الصغير. حينئذٍ قال له الربّ: «قم امسحْه، لأنَّ هذا هو» (آ12). وما إن مسحه حتّى حلَّ عليه روح الربّ (آ13). فبدا مثل إنسان آخر. وأوَّل شيء قام به، أزال التحدِّي عن الشعب وعن الله، وقتل جليات في مبارزة، بوسيلة هزيلة جدًّا: مقلاع وحجر. وسار داود مسيرته، ونجَّاه الله من شاول. وفي النهاية صار ملكًا على مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل. جعل الربُّ ثقته فيه. وأعطاه الانتصار بعد الانتصار. ماذا بقي له أن يعمل؟ أن يؤمن بالله كما آمن الله به، أن يحفظ وصايا الله بحيث يبيِّن أنَّه يحبُّ الله.
ولكن، تألَّم الله في قلبه. ماذا فعلتَ يا داود؟ أنت حبيب الله فصرتَ حبيب الخطيئة، حبيب الشرِّ والقتل والموت. حزن الربّ. تألَّم. أهذا الذي اخترتُه؟ وذكَّره ناتان بإحسانات الله له: «أنا مسحتك ملكًا، وأنقذتك من يد شاول، وأعطيتك بيت سيِّدك... وأعطيتك بيت إسرائيل ويهوذا. وإن كان ذلك قليلاً، أزيد لك كذا وكذا. لماذا احتقرتَ كلام الربِّ لتعمل الشرَّ في عينيه؟ قتلتَ أوريّا، وأخذت امرأته لك...» (2 صم 12: 7-9).
أعطاه الربُّ المُلك فصار عبدًا، لأنَّ من يعمل الخطيئة يصبح عبدًا للخطيئة. أعطاه المجد فطلب الانحدار في الزنى وفي القتل. غمره بالخير فإذا هو يمضي إلى الشرّ. هل كان الله راضيًا عمَّن اختاره؟ لا. تألَّم، حزن. أهذا هو مَن مسحتُه ليقيم الأحكام في البلاد، «ليدين الشعب بالعدل والمساكين بالسلام؟» (مز 72: 2).
وماذا كانت النتيجة؟ حلَّ الموت في بيت الملك. وسال الدم في كلِّ مكان، في تسابُق إلى الملك. أهذا ما يريده الله؟ كانت عاطفته كما قبل الطوفان حين رأى شرَّ الإنسان يكثر على الأرض. ندم، تأسَّف، يا ليت...
وبعد داود، أتى سليمان الذي نال الحكمة كما طلبها، وزاد له الربّ «الغنى والكرامة حتّى إنَّه لا يكون رجلٌ مثلك في الملوك، كلَّ أيَّامك» (1 مل 3: 13). هل يحافظ سليمان على ما ناله من عطايا؟ الشرط واضح: «إن سلكتَ في طريقي وحفظتَ وصاياي...» (آ14). ولكنَّ سليمان أضاع حكمته. أكثرَ من النساء اللواتي ملن بقلبه عن عبادة الله الواحد، فبنى لكلِّ واحدة منهنَّ «هيكلاً» تجاه هيكل الإله الواحد. أمّا بالنسبة إلى الشعب، فعمل عكس ما يقول المزمور الذي ارتبط باسمه: «يقضي لمساكين الشعب، يخلِّص البائسين، يسحق الظالم» (مز 72: 4). أمّا سليمان فكان الظالم: «أبي أدَّبكم بالسياط» (1 مل 12: 14). ذاك ما قاله عنه ابنه رحبعام. وحوَّل شعبه إلى عبيد، كما فعل فرعون، من أجل أبنيته وقصوره. ترك الشعب مصر ولكنَّ سليمان أتى بمصر إلى الشعب فكانت النتيجة انقسام المملكة بعده، حين قامت عليه ثورة، وأكثر من ثورة. وقال فيه ابن سيراخ بعد أن امتدحه في شبابه، متأسِّفًا: «سلَّمت جسمك للنساء، صرت عبدًا لجسمك. جعلتَ وصمةً في مجدك ودنَّستَ نسلك» (سي 47: 19-20).
*  *  *
هذه العاطفة عند الله، نقرأها بشكل خاصّ في نبوءة هوشع. هنا يظهر الربُّ كالعريس تجاه عروسه أي شعبه. والزواج هو اتِّحاد بين اثنين. فما يحسُّ به المؤمنون يحسُّ به الله. يبتعدون عنه، فيقعون في الهلاك وفي الموت. ماذا يستطيع أن يفعل سوى أن يتألَّم، أن يبكي كما فعل إرميا آخذًا عيني الربّ: «كآبتي لا دواء لها، قلبي فيَّ سقيم. أسمع صوت استغاثة شعبي من أرض بعيدة» (إر 8: 18-19). ويتواصل الكلام: «يا ليت رأسي ينبوع ماء وعينيَّ نبع دموع فأبكي نهارًا وليلاً قتلى شعبي» (آ23) الله يبكي، نعم. ويطيل بكاءه مثل أمٍّ خسرت ابنها أو أولادها. فالله هو، في سفر هوشع، أب أيضًا، فيقول: «من مصر دعوتُ ابني» (هو 11: 1). فأيُّ أب لا يتألَّم على ضياع ابنه.
ويصوِّر هوشع طريق الله في تعامله معنا. يدعونا فنهرب. نمضي إلى الأصنام. فالصنم يمثِّل البلد والملك، ونحن نتعبَّد للملك بدل التعبُّد لله. أمَا كان هذا شعور بني إسرائيل حين طلب موسى تحرُّرهم فضيَّق عليهم الفرعون؟ فماذا فعلوا؟ طلبوا رضى فرعون وعبيده (خر 5: 21). وكلَّ مرَّة كانوا يحنُّون إلى مصر وخيراتها من طعام وماء ويودُّون أن يتركوا طريق الربِّ ويعودوا وكأنَّهم يتمنَّون أن يغرقوا في البحر كما غرق جيش فرعون ومركباته (خر 14: 28). عبادة الآلهة الكاذبة، هي عبوديَّة للإنسان. وحدها عبادة الله تعني لنا الحرِّيَّة، ولكنَّنا في أيَّامنا نفضِّل أن يسيطر الغير علينا. المهمّ أن نعيش مطمئنِّين. لا تفكِّروا، فالزعيم يفكِّر عنكم. لا تتكلَّموا فالرئيس يتكلَّم عنكم. أنتم تسمعون صاغرين. هكذا تصرَّف الشعب الألمانيّ. ترك قيادته لهتلر، الذي جعلهم يعيشون «ليتورجيّا» يوميَّة في ظهور سريع يختفي بعده بشكل أسرع. وقال أحد المفكِّرين: «تلك كانت عبادتهم». أما هكذا عُبد ماوتسي تونغ في الصين، فكانوا ينظرونه يسبح في النهر؟ ولا حاجة إلى الكلام عن عالمنا العربيّ. ومن لا «يقتنع»، نُفهمه كيف يقتنع. لا مجال للإرادة، إرادتي إرادة رئيسي، إرادة صنمي. حرِّيَّتي! تخلَّيت عنها. ويحزن الله من علياء سمائه.
«أنا علَّمت أفرائيم أن يمشي». أما هكذا يعمل الأب والأمّ؟ أنا أخذتُ بيده، بذراعه. ولكنَّهم رفضوا الاعتراف أنِّي أنا من يهتمُّ بهم. أهكذا نعامل أبانا السماويّ؟ ما اجتذبتهم بالقوَّة ولا بالعنف. «اجتذبتم بحبال الرحمة وروابط المحبَّة». الأمُّ تكون قريبة من ابنها (ومن ابنتها) لأنَّه ابن رحمها. والأب يحبُّ ابنه على مثال ما صوَّر لنا سفر التكوين علاقة إبراهيم بإسحق. ويتواصل الكلام الذي يصف حنان الله: «كنتُ كمن يرفع الرضيع على وجهه ويمدُّ يده ويطعمه» (هو 11: 3-4).
ومع ذلك، يريدون العودة إلى مصر، إلى أرض العبوديَّة. يريدون العودة إلى أشور التي هشَّمتهم. دمَّرتْ بيوتهم، سبتْ نساءهم وأطفالهم. بماذا يتعلَّق شعب الله؟ تأتيهم الدعوة للاقتراب من الله، فإذا هم يرتدُّون عنه (آ7). رفعَنا الربُّ على ذراعه، حمانا من الخطر، ونحن نفضِّل أن نمضي إلى من يدوسنا ويدوس كرامتنا ويتاجر بنا، ونحن نسير وراءه مثل الغنم. عندئذٍ يهتف الربّ: «قلبي يضطرب في داخلي، مراحمي (ربَّما أحشائي التي هي أحشاء أمّ) تشتعل كلُّها» (آ8). فقلب النبيِّ هو قلب الله، وقلب الله هو قلب النبيّ. هنا نستطيع أن نسمع صرخة إرميا مرَّة أخرى: قلت: «لا أذكر الربَّ ولا أنطق بعدُ باسمه». فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي «تعبتُ فما استطعتُ أن أضبطها» (20: 9).
تألَّم الربُّ. فماذا فعل؟ عاد إلى شعبه مثل أسد، مضى إليهم حيث هم بالرغم من الكذب الذي يلفُّهم والمكر الذي يسيطر عليهم. قال: «وراء الربِّ يسيرون (مثل أطفال وراء أمِّهم)، مثل أسد يزأر الربُّ فيُسرع البنون من جهة البحر، من الغرب. يسرعون كالعصافير من مصر، وكالحمائم من أرض أشور، فأُسكنهم في بيوتهم» (هو 11: 10-11). وهكذا جمع الله شعبه، كما الراعي يجمع قطيعه. بعد صورة الزوج وصورة الأب، ها هي الصورة الثالثة عن الله في نبوءة هوشع: هو الراعي الذي يمضي وراء الخروف الضالّ، ولا يرضى أن يبقى خروفٌ واحد في الخارج. هكذا تكون الرعيَّة واحدة، مجموعة، لا مشتَّتة. فالله يتألَّم إن تشتَّت الخراف، إن تشتَّت المؤمنون. فكلُّ همِّه أن يجمع في شخص ابنه «كلَّ ما في السماء وما على الأرض» (أف 1: 10).
نريد أن يبقى الله هناك! أمّا هو فلا يريد. نقول: السماء هي لله والأرض هي للبشر! أمّا هو فلا يقول. منذ البداية، وفي كلِّ مرَّة يحصل أمرٌ، نراه ينزل على الأرض. خطئ آدم وحوّاء، ضلاَّ بفعل الشيطان، فجاء الربُّ وخاط لهما قميصين من جلد. وحين قتل قايين هابيل، جاء يُفهم قايين ما وقع فيه من شرّ. وحين كثر شرُّ البشر، جاء الله إلى نوح. ويوم بناء برج بابل، نزل الربُّ ليرى ما يعملون ويكتشف جنونهم. ولكن ما نلاحظ هو أنَّ الله في نزوله على الأرض لا يُظهر قدرته، بل ضعفه. ونسأل: لماذا لم يمنع قايين من قتل أخيه؟ هو نبَّهه. ولماذا لم يمنع أهل سدوم من الضياع في الخطيئة؟ يستطيع أن يجعل منّا أدوات تتحرَّك مثل آلة. ولكنَّه لا يفعل. يستطيع أن يحطِّمنا كما يفعل عظماء العالم، ولكنَّه لا يفعل. يريدنا أن ننمو بملء حرِّيَّتنا، يريدنا قريبين منه، يريد أن يرافقنا. هم يعاندون وهو يطيل روحه، هم يرفضون وهو يطلب أيضًا. طريق الربِّ طويلة وهي محفوفة بالألم، وكانت ذروتها صليب الربِّ يسوع. غير أنَّ الألم لا يكون الكلمة الأخيرة، بل المجد. والصليب لم يكن النهاية، بل إنَّ ذاك الذي مات عليه قام في اليوم الثالث ومنح العالم الحياة والقيامة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM