الفصل الثالث عشر:إلهنا يعمل

الفصل الثالث عشر
إلهنا يعمل

«أصنامهم ذهب وفضَّة. وهي من صنع أيدي البشر. لها أفواه ولا تتكلَّم، لها عيون ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها أنوف ولا تشمّ، لها أيدٍ ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشي، ولا تنطق بحناجرها. مثلها يكون صانعوها وجميع المتَّكلين عليها. يا بني إسرائيل، اتَّكلوا على الربِّ، فهو نصيركم وترسكم». ذاك ما نقرأ في مز 115: 4-9. اتَّكل أنبياء البعل والملك أخاب وشعب كثيرٌ على بعل: هو يرسل المطر، ويمنح الخصوبة للأرض، ويعطي الإنسان والحيوان أن يلدا. وماذا كانت النتيجة؟ لا شي. صرخوا منذ الصباح حتّى المساء، حتّى وقت الذبيحة (1 مل 18: 36)، «فلم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغٍ» (آ29). هزئ بهم إيليّا: «اصرخوا بصوتٍ أعلى. فربَّما إلهكم غارقٌ بتأمُّل، أو هو مشغول، أو في سفر، أو لعلَّه نائم فيفيق» (آ37). الآلهة الكاذبة لا تفعل خيرًا ولا شرًّا. والصنم يبقى صنمًا. أمّا الربُّ الإله فهو من يعمل. يرى الظلم ويتدخَّل. يرى الحاجة فيرسل من يلبِّيها. الربُّ الإله هو الحيُّ الذي قال فيه يسوع: «أبي يعمل في كلِّ حين وأنا أعمل مثله» (يو 5: 17).
وها نحن نكتشف عمل الله في الأفراد، في إبراهيم، في يعقوب وموسى، في جدعون ويفتاح. ويعمل في المجتمع فيحوِّله شيئًا فشيئًا. ينتبه إلى الغريب والفقير، إلى اليتيم والأرملة، إلى أولئك الذين لا يتحرَّكون لكي ينتَقلوا من المسؤوليَّة الجماعيَّة إلى المسوؤليَّة الفرديَّة. «ما بالكم تردِّدون هذا المثل في أرض إسرائيل: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين ضرست؟ حيٌّ أنا يقول السيِّد الربّ: لن تردِّدوا بعد الآن هذا المثل في إسرائيل... النفس التي تخطأ هي وحدها تموت» (حز 18: 2-4). عملَ الربُّ في شعبه منذ مسيرة الخروج، وتواصل عملُه هذا حتَّى المنفى البابليّ وما توقَّف. وعملَ في الشعوب، حيث هتف النبيّ: من أقام كورش؟ «من أيقظ ضميره؟» (عز 1: 1). فذاك الذي خلق السماوات والأرض، ذاك الذي صنع الكواكب والنجوم، ذاك الذي صنع الإنسان على صورته ومثاله، هو سيِّد الكون والتاريخ. عمل في الماضي ولا يزال يعمل، مهما تكبَّر وتجبَّر العظماء، مهما أرادت المنجل أن تتحرَّر من اليد التي تمسكها، والفأس أن تفتخر على من يقطع بها، والمنشار أن يتشاوف على من يحرِّكه (إش 10: 15). عندئذٍ يرسل الربُّ القدير على رجال ملك أشور نارًا، فيحرق «شوكهم وعوسجهم في يوم واحد» (آ17). حسبوا نفوسهم أقوياء، فإذا هم شوك وعوسج يحترق سريعًا حين تطلُّ نار الربّ.

1-    الله يعمل في الأفراد
كان إبراهيم راعيًا بين رعاة بلاد الرافدين. دعاه الربُّ من خلال الأحداث وأرسله يجوب بلاد الرافدين قبل أن يحطَّ الرحال في كنعان، أو ما سوف يُسمَّى أرض فلسطين، قرب معابد معروفة مثل شكيم وبيت إيل. هو الربُّ دعاه: انطلقْ فانطلق. وأعطاه الإيمان أوَّلاً لأنَّه لم يعرف في البداية الجهة التي يمضي إليها. قال له الربّ: انطلق وأنا سوف أريك المكان الذي أنت منطلق فيه ساعة يحين الوقت (تك 12: 1: «الأرض التي أريك»).
أرض غريبة. ولكنَّه ما خاف، لأنَّه أحسَّ بيد الربِّ توجِّهه يومًا بعد يوم. مضى إلى مصر وعمل هناك ما عمل، ولكنَّ الله أعاده إلى حيث يريده، وهو سوف يموت في حبرون (الخليل الحاليَّة) ويُدفَن هناك في أرض اشتراها ودَفن فيها ساره امرأته. بدأت إقامة شعب المؤمنين بشراء قبر يكون «ملكًا لإبراهيم» (تك 23: 18).
وعمل الله في يعقوب فحوَّل له حياته، يوم قال له: لن يكون اسمك يعقوب، أي ذاك الذي يتعقَّب أخاه فيأخذ منه بركة الوالد، بل يكون إسرائيل «لأنَّك غالبت الله والناس وغلبت» (تك 32: 29). لا بقدرتك، ولا بكذبك وحيلك، بل بقدرة الله الذي رأيتَه في فنوئيل، وهو مكان يعني: وجه الله. وسوف يذكر الله يعقوب باسمه الجديد. «وتراءى الله أيضًا ليعقوب حين جاء من سهل أرام وباركه وقال له: "اسمك يعقوب (هكذا كان في الماضي). لا يُدعى اسمُك بعد الآن يعقوب، بل إسرائيل". فسمّاه (الله إسرائيل). وقال له الله: "أنا الله القدير. أُنمُ واكثرْ، أمَّة ومجموعة أمم تكون منك...". ثمَّ "ارتفع الله عنه في الموضع الذي كلَّمه فيه"» (تك 35: 9-13).
ويوسف بن يعقوب. من كان يتخيَّل أنَّه سيصل إلى حيث وصل. بيع للإسماعيليِّين فوصل إلى مصر صبيًّا لا يعرف الكثير من ذاك البلد الواسع، وهو العائش في حضن الوالد أو مرافق إخوته إلى رعاية الغنم. أحداث تتلاحق في حياته، ونستطيع أن نتوقَّف عند كلِّ حدث بمفرده. أراد إخوتُه أن يقتلوه، وما قتلوه. جعلوه في بئر، في هذه البرِّيَّة الشاسعة. ثمَّ باعوه. وصل إلى فوطيفار وكان بالإمكان أن يعيش حياته كلَّها عند «كبير خدم فرعون ورئيس الطهاة» (تك 39: 1).
لو لم يبعه إخوته، لكان راعيًا بين الرعاة. ولكنَّ الله هيَّأ له طريقًا أخرى. لو كنّا مكانه لكنّا تذمَّرنا على الله. ولكنَّ الربَّ كان معه، كما قيل أكثر من مرَّة (آ3) ومنذ البداية، وهو ماضٍ إلى إخوته، تائهًا في البرِّيَّة، أرسل إليه رجلاً سأله ماذا يطلب. فأجاب: «أطلبُ إخوتي. أخبرني أين يرعون». فأرسله ذاك الرجل إلى إخوته. نقول في منطقنا البشريّ: يا ليته أضاع إخوته وعاد إلى البيت الوالديّ! ولكنَّ طرق الله غير طرق البشر. وحين دعته زوجة فوطيفار لكي يزني معها، كان بالإمكان أن يرضى وما كان مضى إلى السجن. ولكنَّ ذلك السجن قاده إلى قصر فرعون ليفسِّر له أحلامه، وهكذا صار الشخصَ الثاني في مصر. قال الربّ: «أفكاري غير أفكاركم، كما علت السماوات عن الأرض... علت أفكاري عن أفكاركم» (إش 55: 9). ويتواصل الكلام عن فاعليَّة كلمة الله. هي تشبه المطر والثلج اللذين لا يرجعان ثانية إلى السماء، بل يرويان الأرض... «وكذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي. لا ترجع فارغة إليَّ، بل تعمل ما شئتُ أن تعمله وتَنجح في ما أرسلتها لها» (آ10-11). هي تعمل على مستوى الأفراد، كما على مستوى الجماعات. ويعلن إشعيا بفم الربِّ: «بفرح تخرجون من بابل، وتُرشَدون في طريق السلامة. الجبال والتلال ترنِّم أمامكم، وأشجار الحقول تصفِّق بالأيدي» (آ12). من يعمل كلَّ هذا؟ الربّ.

2-    هكذا قال الربّ
حين يتكلَّم النبيُّ يختم كلامه: «هكذا قال الربّ». والربُّ عندما يقول يفعل. قال مز 33: 9: «قال فكان كلُّ شيء. وأوصى فثبَّت كلَّ كائن». أمّا عمله في شعبه فيعود إلى زمن الخروج من مصر. رأى الضيق يحلُّ بهؤلاء المهاجرين إلى مصر في وقت الجوع: الأشغال الشاقَّة! ثمَّ القرار بقتل كلِّ ذكر فيهم، لأنَّه إن كثر هؤلاء الغرباء يكونون حربة في خاصرنا. ولكن أُبطل قرارُ الملك بواسطة «القابلتين اللتين تخافان الله» (خر 1: 17). ما فعلتا ما أمرهما الملك، لأنَّ خوف الله عندهما تغلَّب على الخوف من الملك.
وموسى الذي سيكون مخلِّص شعبه، لم يُرمَ في النهر، بل جُعل عند شاطئ النهر. ومن ربَّاه؟ «ابنة فرعون نفسها» (خر 2: 5ي). تلك هي طرق الله حين يعمل في شعبه، في شعب المعذَّبين من أيِّ جهة أتوا. فإن هو اهتمَّ هنا بالقبائل العبرانيَّة وبرفاقهم الخارجين عن القانون، فسيأتي يوم يهتمُّ بالمصريِّين الذين داسهم العدوّ الآتي من الشمال.
«أطلقْ شعبي». هكذا طلب الربُّ من فرعون، وأطال روحه معه. ضربات عشر. على عدد أصابع اليدين. وأفهم موسى المصريِّين أنَّ الربَّ يعمل، وأنَّ الأمور ليست من قبيل الصدفة. وبعد الضربات، طلب الفرعون نفسه من موسى وهارون أن يُخرجا الشعب. هكذا يفعل الله في أهل الظلم ويأتي يوم يرفع الظالم يديه: «واستعجل المصريُّون بني إسرائيل على الرحيل عن أرضهم» (خر 12: 33).
ولكن كيف الهرب؟ البحر أمام الشعب. وها هو العدوُّ وراءهم بكلِّ أسلحته وعدَّته الحربيَّة. لا شيء يقف في وجه الله. قال الكتاب: انشقَّ البحر اثنين، وصارت أمواجه سورًا من هنا وهناك يحمي العابرين فيه. وكما كان الظلام في الضربة التاسعة يلفُّ مصر ساعة النور يضيء أرض جاسان موضع إقامة نسل يعقوب، وساعة مات بكر فرعون وأبكار المصريِّين، وما مات أحد لدى بني إسرائيل، كذلك في عبور البحر الأحمر: ما كان لجماعة موسى طريقًا إلى النجاة ومعبرًا إلى الحياة، صار للمصريِّين موضع الموت: «رجعت المياه فغطَّت المركبات والفرسان وجميع جيش فرعون الذين دخلوا وراء بني إسرائيل في البحر، وما بقي منهم أحد» (خر 14: 28). نحن هنا أمام رمز يكون امتدادًا للواقع: المؤمنون بالربِّ لهم الخلاص. والرافضون لله مصيرهم الهلاك.
عندما الله يعمل، لا يقف في وجهه الكون ولا البشر. أقوى دولة في ذلك الزمان لم تقدر على بضع قبائل. والبحر نفسه موضع الشرِّ تحوَّل إلى ممرٍّ لأهل الخير. ولكن أطلَّت صعوبة أخرى: الحياة في البرّيَّة. لا طعام، لا شراب. لا بأس. الطعام يأتي من السماء. هو المنّ. واللحم يأتي من البعيد ويمرُّ فوق البحار قبل أن يسقط لهثًا، تعبًا على الرمل. والماء. يُخرجه الربُّ من الصخرة. وهناك الأعداء الذين يمنعون الله من أن يسيِّر شعبه نحو أرضه. هم بنو عماليق. هل انتصر الشعب بواسطة يشوع ورجاله، أم بواسطة صلاة موسى وقدرة الله؟ قال سفر الخروج: «وكان إذا رفع موسى يده ينتصر بنو إسرائيل، وإذا حطَّ يده ينتصر بنو عماليق» (17: 11). وينتهي الخبر: «قال الربُّ لموسى: "اكتب خبر هذا النصر في الكتاب"» (آ14).
ورافق الربُّ شعبه في حقبة القضاة والملكيَّة. فكان يرسل روحه على أشخاص عاديِّين بل أقلَّ من عاديِّين، فينتصرون. ماذا يمثِّل يفتاح؟ هو «ابن امرأة بغيّ» (قض 11: 1). طرده إخوته وقالوا له: «لا ميراث لك في بيت أبينا، لأنَّك ابن امرأة غريبة» (آ2). ومع ذلك، هذا الرجل الذي احتقرتْه قبيلته صنع الخلاص لشعبه. أبقدرته؟ ربَّما. ولكن خصوصًا، بعد أن «حلَّ عليه روح الربّ» (آ29). وشمشون ذاك الراكض وراء النساء في مدن الفلسطيِّين، بروح الله كان قويًّا، وهو المكرَّس لله منذ صغره، ولم يُقصَّ شعره. ولكن حين خان الله، صار أضعف الضعفاء، وتلاعبت به دليلة كما بقطعة قماش (قض 16: 19: «وبدأت بتعذيبه».
ووجَّه الربُّ شاول إلى صموئيل. بشريًّا، هي الصدفة: كان يبحث عن الأتن. وحين أتى إلى صموئيل، جاء يسأله كمن يسأل أحد العرَّافين، «الرائين». ولكنَّ صموئيل احتفظ بشاول ومسحه بالزيت: «أخذ صموئيل قارورة الزيت وصبَّها على رأس شاول وقبَّله وقال: الربُّ مسحك رئيسًا على شعبه...» (1 صم 10: 1). عندئذٍ «تبدَّل قلب شاول» (آ9). فصار إنسانًا آخر. به منح الله الخلاص لشعبه. ومن أين جاء هذا التبدُّل؟ «حلَّ روح الله على شاول» (1 صم 11: 6). أعطاه حياة جديدة، قوَّة جديدة.
وترافق الله مع شعبه في عهد الملكيَّة بدءًا بداود. ولكنَّ العمل الكبير الذي قام به الربُّ في شعبه، هو مسيرة المنفى. لم يبقَ منهم شيء بعد أن أجلاهم البابليُّون وشتَّتوهم وجعلوهم يعملون في الأرض. لا خير يصدر منهم. صاروا كالأموات. فهل يحيون؟ هنا نقرأ الرؤية التي رآها حزقيال: العظام اليابسة (ف 37). «وضعني الربُّ في وسط الوادي وهو ممتلئ عظامًا... وقال لي: "يا ابن البشر (هكذا ينادى حزقيّال)، أتعود هذه العظام إلى الحياة؟"» (آ3). سمعَت هذه العظام كلمة الربّ... «فدخل فيهم روح الربّ، فعاشوا وقاموا على أرجلهم جيشًا عظيمًا جدًّا» (آ10).
هي رؤية وصورة. ولكن ماذا وراءها؟ ها هو الربُّ يشرح لنبيِّه: «هذه العظام هي بيت إسرائيل بأجمعهم. هم يقولون: "يبسَتْ عظامنا وخاب رجاؤنا وانقطعنا". فقل لهم: "سأفتح قبوركم وأُصعدكم منها يا شعبي، وأجيء بكم إلى أرض إسرائيل، فتعلمون أنِّي أنا الرب... وأجعل روحي فيكم فتحيون..."» (آ11-13).
وهكذا صار الموتى أحياء، وتحوَّل الشعب العتيق إلى شعب جديد، وانطلقت مسيرةٌ ما كان ليتخيَّلها إنسان: «ستأتي أيَّام، يقول الربّ، أعاهد فيها بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهدًا جديدًا. لا كالعهد الذي عاهدتُه آباءهم حين أخذت بأيديهم وأخرجتهم من أرض مصر... أمّا العهد الجديد... فهو هذا: أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها على قلوبهم... فلا يعلِّم بعدُ واحدهم الآخر...» (إر 31: 31-34). هذا ما يعمله الربُّ في شعبه. قال: «أعطيهم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا. أنزع منهم قلب الحجر وأعطيهم قلبًا من لحم» (حز 11: 19).

3-    إلى أقاصي الأرض
أيكتفي الربُّ بأن يعمل من أجل أفراد قلائل؟ أيتوقَّف خلاصه عند شعب من الشعوب بحيث يترك سائر الشعوب تمضي إلى الهلاك؟ هذا مستحيل لدى الذي خلق العالم كلَّه وما زال يدبِّره ويرتِّبه بقدرته وحكمته. لهذا حين أرسل عبده وعابده، أعطاه هدفًا رائعًا باسمه: «جعلتك نورًا للأمم بحيث يصل خلاصي إلى أقاصي الأرض» (إش 49: 6).
هذا ما نشهده أوَّلاً في إرسال يونان بن أمتاي إلى مدينة نينوى. مع أنَّها تعجُّ بالأوثان، مع أنَّها تركت وراءها السلب والقتل والنار، مع أنَّها، بشريًّا، لا تستحقُّ سوى أن تُسحَق، مع كلِّ ذلك أرسل الربُّ إليها نبيًّا: «قم، اذهب إلى نينوى، المدينة الظيمة، ونادِ بما أقوله لك» (يون 3: 2). وكم فرح الربُّ حين آمنت نينوى ونادت بصوم...
ونتطلَّع ثانيًا إلى كورش الملك الفارسيّ، الوثنيّ الذي لا يعبد الله: الربُّ هو من مسحه بالزيت وأرسله في عمل الخلاص لجميع الشعوب التي سباها البابليُّون. نقرأ في عز 1: 2ي: «أعطاني الربُّ، إله السماوات، جميع ممالك الأرض، وأوصاني أن أبني له هيكلاً في أورشليم... فمن كان منكم من شعبه، فليذهب إلى أورشليم...».
هذا ما يلتقي مع كلام إشعيا: «أقول لكورش: ارعَ شعبي وتمِّم كلَّ ما أشاء، لأورشليم: سأبنيك. وللهيكل: سأضع أسسك». الله يعمل في مدينته وفي هيكله كما يعمل في مملكة فارس. سلطته لا حدود لها، ويتواصل كلام إشعيا لكورش في الفصل الخامس والأربعين: «وهذا ما قال الربُّ لكورش الذي مسحه ملكًا (كما مسح شاول وداود وغيرهما)، وأخذ بيده (كما أخذ بيد الملوك في شعبه) ليُخضع له الشعوب... وقال له: "أسيرُ قدَّامك وأمهِّد الجبال... فتعلم أنِّي أنا الربّ..."».
وقال الربُّ لكورش أيضًا: «دعوتُك باسمك وكنيتك وأنت لا تعرف. أنا الربُّ ولا آخر. وسواي لا يوجد إله. ألبستُك وشاح الملك وأنت لا تعرفني، ليعلم البشر من مشرق الشمس إلى مغربها أنَّ لا إله غيري. أنا الربُّ ولا آخر. أنا مبدعُ النور وخالق الظلمة، وصانع الهناء وخالق الشقاء. أنا الربُّ صانع هذا كلَّه» (إش 45: 5-7). أجل، يجب أن يعرف كورش أنَّ الربَّ هو الله وحده، وأنَّ مردوك وغيره من الآلهة لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا. وكانت محاولة مع فرعون لكي يعرف من هو الربّ. السحرة اكتشفوا أوَّلاً إصبع الله حين عجزوا أمام «عصا موسى». وفي النهاية، فهم ملك مصر أنَّ يد الربِّ أقوى من يده. فتراجع وتراجع حتّى أعلن هزيمته.
أمّا النبيّ عاموس، فدلَّ على سلطان الله العامل في الشعوب المجاورة لأرضه. فسلطة الله تتعدَّى حدود فلسطين، كما لم تنحصر في البرِّيَّة، كما قال أوَّل الداخلين إلى أرض فلسطين، تاركة لبعل الأرض التي يرويها المطر. دان الربُّ دمشق وغزَّة وصور وموآب وعمون... كما دان شعبه في مملكة الشمال بعاصمتها السامرة، وفي مملكة الجنوب بعاصمتها أورشليم. كلُّهم ينتظرهم العقاب عينه. وهل يقدر أن يعاقب من ليس له سلطة؟ إذا كان الله هدَّد هذه الممالك، فلأنَّه يريد أن يدعوها إلى التوبة. فالشعوب كلُّها لله، وهو يريد لها الخلاص.
هنا نفهم مز 87 الذي بدأ وتحدَّث عن أورشليم: «الربُّ أسَّس مدينته على الجبل المقدَّس» (آ1). ولكن ألا يوجد سوى أبواب صهيون، المدينة المصونة؟ كلاّ. ويقول الربّ: «أذكر مصر وبابل». لا أنسى هذين الشعبين. هم يعترفون بي كما تعترف بي أورشليم، ويُنشدون أمجادي كما يفعل بنو يهوذا. الشعب العبرانيّ مميَّز لأنَّه ارتبط بأورشليم. وسائر الشعوب؟ يواصل المزمور: «وأعدُّ بين الذين وُلدوا في أورشليبم الفلسطيِّين (أعداء بني إسرائيل وغير المختونين. صاروا مختونين بالقلب كما قال بولس الرسول) وأبناء صور (عابدي بعل ملقارت) وأبناء الحبشة والسودان» (بالرغم من لون سحنتهم). كلُّ هؤلاء هم شعب الله. هم أولاد الله. كلُّهم وُلدوا في أورشليم وكلُّهم ينشدون: ينابيعنا هي هنا. من أورشليم تنطلق الشعوب، وإلى أورشليم مقام الربِّ تعود. لهذا يعلن إشعيا وميخا بصوت واحد: «يكون في الأيَّام الآتية أن جبل بيت الربّ يثبت في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال. إليه تتوافد جميعُ الأمم، ويسير شعوب كثيرون...» (إش 2: 2-3 ؛  مي 4: 3-1 ).
الخاتمة
الله يعمل. هذا ما اكتشفناه من خلال قراءتنا للكتاب المقدَّس. يعمل في الأفراد فيحوِّل قلوبهم، ويقلب لهم حياتهم، شرط أن يتجاوبوا معه. قال لإبراهيم: «ارحل». فرحل. أطاع وما تردَّد. ولو أنَّ إبراهيم رفض المسيرة مع الربّ، لكان الربُّ احترم حرِّيَّته كما احترم حرِّيَّة يهوذا الذي اختاره الربُّ ولكنَّه تخلَّى عن الخدمة (أع 1: 17). ثمّ حوَّل الله شعبه. نقله شيئًا فشيئًا من العبوديَّة للبشر إلى العبادة لله الواحد. أخرجه من اليأس والضياع، وأعاد إليه الثقة بالنفس وأفهمه أنَّه لا يمكن أن يتركه. وأخيرًا يعمل الله في الشعوب التي عُدَّت سبعين شعبًا وسبعين لغة. كلُّهم دعاهم الله باسمهم. ومع العهد الجديد، سيرسل الربُّ إليهم سبعين آخرين (غير الاثني عشر) إلى كلِّ مدينة، إلى كلِّ موضع (لو 10: 1). فالرسالة لا تتوقَّف عند هذا الشعب أو ذاك. ولا في أورشليم وفي اليهوديَّة، في السامرة وفي الأماكن المجاورة، بل تصل إلى أقاصي الأرض، كما أوصى يسوع رسله قبل صعوده إلى السماء. فمن يجسر بعد الآن أن يقول إنَّ الله لا يعمل؟!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM