الميمر 159 على بنت يفتاح

(مجلَّة الإكليريكيَّة، حزيران 2012)

بنت يفتاح في التراث السريانيّ

الخوري بولس الفغاليّ

في الفصل الحادي عشر من سفر القضاة، نقرأ عن يفتاح الجلعاديّ ما يلي: "ونذر يفتاح نذرًا للربِّ قائلاً: إن دفعتَ بني عمُّون ليديَّ، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمُّون يكون للربّ، وأصعده محرقة" (آ3-31). ثمَّ أتى يفتاح إلى المصفاة، إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص. وهي وحيدة، لم يكن له ابن أو ابنة غيرها. فلمّا رآها مزَّق ثيابه وقال: "آه يا ابنتي! أحزنتني حزنًا وكدَّرتني، لأنَّي فتحتُ فمي (أي: أفرطتُ في الكلام) إلى الربِّ ولا يمكنني الرجوع". فقالت له: "يا أبي! أفرطت بكلامك أمام الربّ، فافعل بي كما خرج من فمك، بما أنَّ الربَّ انتقم لك من أعدائك بني عمُّون". ثمَّ قالت لأبيها: "فليتمَّ هذا الأمر. اتركني شهرين فأذهب (أو: أروح) على الجبال وأبكي عذريَّتي أنا وصاحباتي". فقال: "اذهبي". وأرسلها إلى شهرين، فذهبت هي وصاحباتها وبكت عذريَّتها على الجبال. وعند نهاية الشهرين رجعَتْ إلى أبيها ففعل بها نذره الذي نذره. وهي لم تعرف رجلاً. فصارت عادة في إسرائيل أنَّ بنات إسرائيل يذهبن من سنة إلى سنة لينحن على بنت يفتاح الجلعاديّ أربعة أيَّام في السنة (آ34-340).

كيف شرح العالم السريانيّ هذا الخبر المحزن، وكيف كان الحكم على يفتاح الذي لم يُمدَح ولم يُلم، وما كانت النظرة إلى ابنته التي شُبِّهت بإسحاق. قال النشيد الليتورجيّ: إبراهيم قدَّم ابنه، ويفتاح ابنته، أمّا شمونه فقدَّمت أسرتها كلَّها. نبدأ بالنصوص النثريَّة وننهي بالنصوص الشعريَّة.

  1. النصوص النثريَّة

أ‌.       أفراهاط الحكيم الفارسيّ

واضطُهد أيضًا يفتاح كما اضطُهد يسوع.

يفتاح طرده إخوته من بيت أبيه، ويسوع طرده إخوته ورفعوه صلبًا. اضطُهد يفتاح فصار رئيسًا لشعبه. واضطُهد يسوع فقام وصار ملكًا على الشعوب. نذر يفتاح نذرًا، وأصعد ابنته البكر قربانًا، ويسوع ارتفع قربانًا لأبيه من أجل كلِّ الشعوب.[1]

ب‌.   شرح حول سفر القضاة: نصٌّ منسوب إلى أفرام السريانيّ.[2]

"أناس بطَّالون أشرار اجتمعوا وراحوا إلى يفتاح (قض 11: 3). وشيوخ جلعاد قالوا له (آ5): "تعال، كن رئيسًا علينا فنحارب بني عمُّون" (آ6). ما اقتنع يفتاح بأن ينزل ويكون رئيسًا عليهم لأنَّه رأى أنَّ الشعب رذل أصنامه ولكنَّ توبتهم لم تُقبَل ولا طلبتهم. رأى أنَّهم لم يجدوا ارتياحًا في وضعهم المحزن. توسَّلوا، ولكنَّهم لم ينالوا جوابًا وما نجوا من العبوديَّة. فقال يفتاح في نفسه: "من أنا حتّى يسمع لي (الله) حين لم يسمع إلى إسرائيل الذين رفعوا الصلاة أمامه؟" عندئذٍ عزم في ذاته على ما يلي: نذر نذرًا للربِّ وقال: "إن أنت سلَّمتَ بني عمُّون إلى يديَّ، كلُّ من يخرج من باب بيتي ليلاقيني حين أرجع سالمًا معافى من عند بني عمُّون، يخصُّ الربّ وأنا أرفعه محرقة للربّ". أي، أنا أفتح فمي في طريق خفيّ باتِّجاه الربّ، أنَّ أوَّل من يخرج من بيتي للقائي، سأقدِّمه له (للربّ). وأنا أنذر هذا النذر بيني وبين الله. على هذا يكون على الله أن يهيِّئ ذبيحة لانتصار عبده، كما سبق له وهيَّأ كبشًا ليكون محرقة مكان إسحاق (تك 22: 13).

هذا يعني أنَّه من الواضح أنَّه نذر شخصًا واحدًا من بيته، وتخيَّل أنَّ الربَّ يهيِّئ له ذبيحة كما الإنسان يهيِّئ حملاً للمحرقة.

ولكن حين رجع يفتاح إلى المصفاة، خرجت ابنته الخاصَّة للقائه مع الدفِّ والصنوج (11: 34). تلك كانت عادة قديمة لدى العبرانيِّين: يعيِّدون عيدًا ويحتفلون شهادةً للنصر، كما كُتب في الماضي: كيف أنَّ النبيَّة مريم أخت موسى أخذت دفًّا في يديها وهي ورفيقاتها امتدحن الربَّ فتجاوب الواحد مع الآخر من أجل النصر الذي منحه الربُّ لشعبه حين فصَلَ البحر الأحمر وغرق فرعون وجيشه في البحر. كذلك حين سمعت بنت (يفتاح) أنَّ أباها انتصر، مضت لتلاقيه بالدفِّ والصنوج. وأيضًا بعد وقت، حين انتصر داود على جليات المحارب وهُزم الفلسطيُّون وعاد داود في رفقته الملك شاول وكلُّ الشعب، كُتب أنَّ الصبايا خرجن للقائهم وهنَّ يردِّدن مع الدفوف ويقولن: "شاول قتل ألوفه أمّا داود فعشرات آلافه" (1 صم 21: 12).

وكذلك بالنسبة إلى يفتاح الذي مزَّق ثيابه حين رأى ابنته آتية إلى الذبيحة (11: 35). تردَّد بين الشعب أنَّه حين رأى (في النبوءة) كيف جاء عمانوئيل الذي في أيَّام العالم الأخيرة قدَّم ذاته ذبيحة ذاتيَّة لكي يجعل الخطيئة غير ناجعة، واللباس الرمزيّ الذي كان فيه ملتحفًا كان ممزَّقًا. وأيضًا ثياب الرئيس الذي كان ممزَّقًا دلَّ على رداء عظيم الكهنة الذي كان ممزَّقًا حين قَتْل ربِّنا الذي وضع حدًّا لقيادة المجمع (اليهوديّ).

وقال يفتاح: "يا ابنتي، دمَّرتني اليوم تدميرًا" (آ35). ولكنَّها قالت له: "افعل بحسب ما خرج من فمك، الآن بعد أن أنجح الربُّ طلبك على أعدائك" (آ36).

وإذ لم يكن في اليوم عينه الذي فيه رآها يفتاح، أنَّه قدَّمها ذبيحة، هذا لأنَّه لم يكن الوقت الذي فيه عظيم الكهنة رآه أنَّه (أي: الله) سيجعل عمانوئيل للموت ولكن بدل ذلك تركوه يروح ويجيء في مناطق إسرائيل وجبال نسل يعقوب باكيًا على قساوة قلبهم.

والشهران اللذان لبثت فيهما كعذراء ولم تُنحَر فيهما، يدلاَّن على زمن الشريعة وزمن الأنبياء، خُتما (أي أكَّدا) أنَّ المسيح يأتي ويموت بعد الشريعة والأنبياء."

*  *  *

نلاحظ هنا "عمانوئيل"، يسوع المسيح. مرَّة أولى، بنت يفتاح هي صورة عنه في ذبحه. مرَّة ثانية في رمز الشهرين الاثنين اللذين يدلاَّن على الشريعة والأنبياء. وتمزيق الثياب عند يفتاح يشبه ما فعله رئيس الكهنة خلال محاكمة يسوع (مر 14: 63). جاءت مقابلة أولى بين بنت يفتاح وإسحاق بن إبراهيم، ومقابلة ثانية بين طريقة استقبال بنت يفتاح لأبيها، مع مريم أخت هارون التي أنشدت الربَّ مع رفيقاتها بعد عبور البحر، ومع النساء اللواتي استقبلن داود بعد انتصاره على جليات.

هذا النصُّ الذي نُسب إلى مار أفرام سيكون له تأثير على ما لحقه.

 

ج. تيودور بركوني (القرن الثامن)

"لماذا لم يُمدح يفتاح ولم يُلَم (في الكتاب المقدَّس) حين ذبح ابنته؟[3]

هو لم يُمدَح لأنَّه بلا تمييز وبدون تفكير بالنتائج. نذر نذرًا لله، قال: "كلُّ من يخرج من باب بيتي للقائي أوَّلاً، أقرِّبه للربّ". "ولكن إن خرج كلب أو حمار اللذان هما نجسان في الناموس، ماذا تصنع، يا يفتاح؟" وهو لم يوبَّخ لأنَّه ثبت على عهده ووقَّر بعينيه حبَّ الله أكثر من المراحم الطبيعيَّة. ولأنَّه ما مُنع مثل إبراهيم من قتل إسحاق. أوَّلاً، لكي يتعلَّم الإنسان أن لا يسرع ببساطة وراء طلبه الشخصيّ (أو: سؤال نفسه). ثانيًا، لأنَّ الله طالبَه أن يصوِّر في ذاته نمط الأمور المتعلِّقة بربِّنا. فالنصر الذي وُهب له على بني عمُّون لم يكن بسبب نذره، لكن ليغلِّب الشعب ويهزم الشعوب. هناك الذين يقولون – وخصوصًا الهراطقة –: نذر ابنته ليقابل ذبحها (بذبح) ابن الله. ما فهم الضالُّون ولم يفهموا أنَّه لو لم يكن نذرها لما قال: "آه، يا ابنتي، سحقتني سحقًا". ليس لموتها تحدُّ العبرانيَّات في شهر آب، كما يفكِّر الناس، لكن لخراب أورشليم.[4]"

د. إيشوعداد المروزيّ (منتصف القرن التاسع)[5]

يبدو أنَّه من الخوف ومن الضياع، سقط يفتاح في هذا النذر البليد. فهو عرف، حسب العادة، أنَّه في وقت النصر تخرج النساء للقائهم بالدفّ والطبول. وقد يحصل أيضًا أنَّ كلبًا يخرج من البيت أو أيُّ حيوان نجس. من المعروف في كلِّ هذه أنَّه ينبغي أنَّه لا يكون النذر مصنوعًا بخفَّة. لهذا، فالنذر الذي كان ليفتاح لم (يكن) من أجل نذره، لكن أو أجل اسم الله ونعمته، أو من أجل توبة شعب وتأديبه وذنوب الشعوب الضالَّة.

لم يُمدَح (يفتاح) ولم يُلَم. لم يُمدَح لأنَّه نذر لله بدون تمييز وبخفَّة (حرفيًّا: كيفما جاءت). ولم يوبَّخ لأنَّه ثبَّت عهده وتوقَّر في عينيه الحبُّ الإلهيّ أكثر من المراحم الطبيعيَّة. ما مُنع مثل إبراهيم من قتْل (ابنه). أوَّلاً ليتعلَّم الإنسان ألاَّ يُسرع ببساطة وراء سؤال نفسه. ثانيًا، لأنَّ الله طلب لكي يصوِّر به مثال ربِّنا. وآخرون امتدحوه (= يفتاح) كما الرسول أيضًا عدَّه بين الفضلاء، مع صموئيل وداود وآخرين (عب 11: 32). والعبرانيَّات لم يلبسن الحداد في آب كما ظنَّ أناس، بل لخراب أورشليم. أمّا الوثنيُّون فوقَّروا بنت يفتاح وسجدوا لها ودعوها اللات.[6]"

أوَّاه. (لفظ) يعرِّف بألم قاسٍ. "ما انتصرتُ اليوم، لكنَّ هزيمة هُزمتُ"، وهذا الكلام هو الكلام الكفر.

*  *  *

لاحظنا هنا التقارب بين إيشوعداد وتيودور. يبدو أنَّهما عادا إلى المرجع عينه خصوصًا في أنَّ البكاء لم يكن في النهاية على بنت يفتاح، بل على خراب أورشليم.

 

هـ- ديونيسيوس برصليبي، شرح حول سفر القضاة.[7]

أوَّلاً: المعنى الحرفيّ التاريخيّ:

حلَّ روح الربِّ على يفتاح، لا من أجل الخوف، ولكن بحيث أصبح شجاعًا. لم يكن مثل شيء طُلب، ولكن لكي لا يخاف.

ونذر نذرًا. أي لم يوضَّح هذا النذر، لأنَّه لم يعرف ماذا يريد الربُّ. فقال (لله): "نذرتُ أنا وأنت تفرز من بيتي من تريد: أنت تختار الذبيحة وأنا أتمُّها. وإذ رأى الثلاَّب طبيعة النذر اللامحدَّدة، استنبط طريقًا بها يضع فخًّا ليفتاح (فينتج عنها) الخطأ والابتعاد عن الله. حثَّ بنت (يفتاح) أن تخرج لتلاقيه بحيث يُشفق عليها. وهكذا يحطِّم يفتاح نذره فيحكم عليه.[8] أمّا هو فحين رآها تبلبل ومزَّق ثيابه بسبب حبِّه لها. ولكن رغم أنَّ حبَّه الطبيعيّ كان كبيرًا، أتمَّ الإرادة (الإلهيَّة)، وعبْر حبِّ الله تجاوز الحبَّ (الطبيعيّ).

"أنت دمَّرتني". فبيَّن أنَّه يلومها.

"افعل لي بحسب ما خرج من فمك" أي: ليس لي أن أتمنَّى أن أبني بيتك بقدر ما يجب أن يكون كلامك صادقًا.

هو ما ذبحها في ذاك اليوم عينه بحيث لا يفكِّر فيه أنَّه فخور (أو متعالٍ). فهذا مدهش أيضًا بأنَّه امتلك نفسه وما ذبحها (في الحال). ولكنَّه لم يضعف أمام نذره وأمام واجبه تجاه الله.

ما امتُدح يفتاح لأجل نذره، لأنَّه نذرَه بدون تمييز. فلو أنَّ كلبًا أو حمارًا اللذين هما نجسان بحسب الشريعة، أتيا للقائه، هل كان ذبحهما؟ وما نال لومًا لأنَّه كان صادقًا تجاه نذره، فأكرم الله أكثر من ابنته. وسمح الله أن تُذبَح ابنة يفتاح وإن لم يكن راضيًا: بهذا يتعلَّم الشعب أنَّ الإنسان لا ينذر نذرًا غير محدَّد. ثمَّ أيضًا نذر يفتاح، فظهر أنَّه يحبُّ الله. ولا يفكِّر أنَّ هذه الذبيحة كانت خطيئة له وقبل الله معاملة الفتاة على أنَّها شهيدة.

ثانيًا: المعنى الروحيّ

ومضت إلى لقائه، مثل مريم ورفيقاتها حين انقسم البحر، فقرعن الصنوج وكما حصل أيضًا في زمن داود.

مزَّق يفتاح ثيابه. رمز إلى الشعب الذي، حين رأى إلهنا، تمزَّقت ثياب الفضيلة مع رداء عظيم الكهنة الذي تمزَّق.

ما ذبحها يومَ رآها. رمز إلى المسيح الذي لم يُصلَب في الحال بيد اليهود، ولكنَّه مضى يسير وهو يبكي على خرابهم.

بعد ذلك أتت كذبيحة تنحر. رمز إلى المسيح الذي أسلم نفسه طوعًا للموت.

بكت رفيقاتها. رمز إلى النفوس التي ناحت على قتل الابن.

عملت النسوة ذكرانة لبنت يفتاح. رمز إلى الكنيسة التي تصنع تذكار موت ربِّنا في الفصول الأربعة من السنة.

لا تبكي النساء العبرانيَّات في آب من أجل بنت يفتاح، بل من أجل دمار أورشليم.

و- غريغوريوس ابن العبريّ، مخزن الأسرار[9]

لم يُمدَح يفتاح من أجل نذره، لأنَّه نذر نذره بدون أيِّ تمييز: "كلُّ من يخرج للقائي من باب بيتي، سأقدِّمه محرقة". افترضْ أنَّ كلبًا أو حمارًا خرج، فماذا تفعل؟

ولا هو نال لومًا، لأنَّه كان صادقًا تجاه عهده. أو لأنَّه اعتبر حبَّ الله أكثر كرامة من شفقة الطبيعة (البشريَّة).

ما مُنع كما كان الوضع مع إبراهيم، بحيث يُمنَع الشعب من أن يفعل نذرًا غير محدَّد مثل هذا.

من زمن إلى زمن، اعتادت بنات أورشليم أن يمضين ويبكين في رثاء لبنت يفتاح الجلعاديّ، أربعةَ أيَّام كلَّ سنة. اليوم يبكين في رثاء لا من أجل بنت يفتاح، بل من أجل خراب أورشليم.

 

  1. نصوص الشعراء

أ‌.       أفرام: نشيد نصيبين[10] 70: 7-12

7- ويفتاح أيضًا ذاك العجيب، ذاك الفلاَّح الذي قطف

العنقود الذي نضج   وقرَّبه لربِّ الكرم.

8- انتصر فقرَّب مراحمه      أكره حبَّه وأصعدها (محرقة)

ما جُنَّ في ألمه             لأنَّ إيمانه سندَه.

9- خمر الموت                ثمالةٌ أفسدها الألم

بالدموع أروت الأشدَّاء      وبالبكاء المدعوِّين.

10- إذًا تعزية كبيرة نمطُ      يفتاح العظيم

الذي بالسيف قرَّب كنز الحياة لربِّه.

11- يمينَه مدَّ                  يفتاحُ وأصعد الذبيحة

رأته الحمامة حزينًا فشجَّعته بصوتها.[11]

12- يليق بالكاهن              الذي يكهن بالدم الذي منه

أن يكون نمطًا لربِّه الذي كهن بدم نفسه.

 

ج- الدياتسّارون[12]

الناس يقتدون بفاعلي الصالحات، لا لأجل حبِّهم للصالحات، لكن من أجل فائدتهم. فبلعام الذي بنى سبعة مذابح لأنَّه سمع حول هؤلاء الأقدمين أنَّه بالذبائح التي قرَّبها له (أي: لله) يأخذ منه ما يسأل، تبلبل هو أيضًا. وملك موآب نظر إلى يفتاح، ولكن لأنَّه قتل بكره (2 مل 3: 27) وإنسانًا من الناس، لا حيوانًا، حنَّ عليه الله، لأنَّه في الألم فعل هذا لا في الحبّ. ويفتاح، لو أنَّ واحدًا من عبيده كان أوَّل من يأتي إلى لقائه لكان قتله. ولكن لئلاَّ يذبح الناس رفاقهم، جعله يلتقي ابنته لكي يخاف الآخرون من أن ينذروا لله أناسًا. هذا ما كان في وضع إبراهيم، لكي تعرف الآن (في زمن أفرام) أولئك الذين يذبحون أبناءهم. فحين يموت أبناؤهم، لا يجنُّون بل يفرحون، بدل واحد قرَّب (الله الآب) ابنه في الفرح. من أجل هذا، فتح الله أبوابًا كثيرة ليكون الناس يحبُّونه مثل إبراهيم صديقه ومثل كلِّ واحد من أصدقائه الآخرين. فعندما نصنع أعمالاً، من الضروريّ أن نكون مثلهم.

 

ب- أفرام السريانيّ: في البتوليَّة[13]

10     بنت يفتاح التي أحنَتْ عنقها للسيف

عزَّتها مرجانتُها (أي البتوليَّة)

لأنَّها أفلتت من كلِّ الأخطار وكانت لديها (محفوظة)

ولكن هنا (في زمن أفرام) حين تُبيد (فتاة) مرجانتها (بتوليَّتها)

الحزن يكون رفيقَها في موتها.

وفي يوم الانبعاث يكون الحزن أيضًا (حاضرًا)

قدَّام ذاك الديَّان حين تتوب.

11     بنتُ يفتاح رغبت أن تموت ليَتمَّ نذرُ أبيها

يا بتول، أنت لا تبطلين بعينيك النذر الذي نذره فمك

فيفتاح أفاض دم ابنته

لأنَّ خطيبك (يسوع) أراق دمه حبًّا بك.

ها منذ الآن دم (الابن) الوحيد اشترى

لنفسه هذا الدم الذي به تُختَم أبوابك (أبواب بتوليَّتك)

12     أرادت الزوجة (سوسن) أن تموت لتُبطل الفجور (دا 13)

والبتولة ماتت لكي يكتمل نذرُ أبيها.

الأمُّ رغبت أن تموت ولا تشارك في زرع

لئلاَّ تتقبَّل زرعًا مسروقًا.

لأنَّ زارعه ملعون

والبتول لا تسرق في الخفاء زرعًا نجسًا.

لأنَّ الطفل الذي في داخلها طفلٌ نقيّ.

 

 

د- مار إسحاق: سواغيت على يفتاح البارّ وعلى ابنته[14]

1      الناس الذين ينذرون     نذورًا في ضيقتهم

ينبغي أن يفوا للربِّ في طريقهم

2      إن نذرتَ نذرًا          فأعدَّ ماذا تهب

لئلاَّ يُهمَل قربانك       ويُلقى قربانك (أرضًا)

3      انظر إن كنت نذرتَ    نذرًا للعليّ

ليكن من قبْل الوقت    متقنًا وموضوعًا حسنًا

4      يفتاح فتح فمه          وهكذا قال لهم (= لرفاقه):

يا أبنائي قوموا في جهادكم      وتثبَّتوا في حربكم

5      والله الذي يراكم يضيف (قوَّة) على قوَّتكم

فيخجل مضطهدُكم      ويفرح مخلِّصكم

6      نساؤكم كلُّهنَّ           في الطلبات يكنَّ

وبصلاتهنَّ كلِّهنَّ        يرضى الربّ

7      بلغ الشعب إلى الشعب والجانب اقترب من الجانب

الأقداس امتدَّت والحربُ ترتَّبت

8      السيوف برقت في العالم وهي ومنظورة

والسهام مثل الكواكب   طارت في المعسكرين

9      الإشارة (الإلهيَّة) أمرتها (أي السهام) فقتلت بتمييز

فقتلوا المضايقين        وحفظوا إسرائيل

10     جلس الشيوخ في الحداد لأنَّ أبناءهم قتلوا

والنساء لبسن الحزن            لأنَّ رجالهنَّ هلكوا

11     وابنة يفتاح             كانت واحدة وحيدة

حين سمعت كلام       أبيها عادت بأمان

12     جمعت رفيقاتها وخرجت للقائه

نصفُهنَّ بالغناء ونصفُهنَّ بالمزمار

13     دخل يفتاح النجيد       في الرأس مثل راعٍ

ورعيَّته وراءه          تشبه البروق

14     الفرسان يصفِّقون       بالكفِّ ويقولون:

ما كانت النيازك (الرماح)      أفضل من مخافة الربّ

15     الأرجل ترفس          الأعقابَ وهي تقول:

مبارك الربُّ الذي أعادنا        إلى العيون التي تنظرنا

16     رفعت الصبيَّة عينيها   فشاهدت والدها

وبسرعة صاحت هكذا  نحو أبيها وقالت

17     "تعال بسلام أيُّها الراعي        المبارَك والمبارِك

الذي وهب نفسه للموت بدل شعب الربّ

18     يا شجرة خالية  اقتنت فقط ثمرة واحدة

مبارك الربُّ الذي أعادك        بالنصر إلى منزلك"

19     ويفتاح رفع عينيه       إلى وحيدته وهو يقول:

وشرع هكذا، قال       بحزن عظيم:

20     "يا ابنتي، يا ليت أباك   قُتل في الحرب

ومات وتلاشى وقُبر    وما شاهد موتكِ

21     حتّى هذه الساعة        اتَّكل أبوك، يا ابنتي

فلو حصل ومتُّ                لكنتِ وارثتَه

22     نذرتكِ للعليّ،           إذًا ماذا نفعل؟

لله نُذرتِ               إذًا ماذا تصنعين؟"

23     والصبيَّة التي سمعت   كلام أبيها هذا

ابتهج وجدانُها          وقلبُها امتلأ فرحًا

24     وأجابت وهي ترقص   وقالت لأبيها:

"يا والدي لا تتضايق    لأنَّك نذرتَ نذرك للربّ

25     ما أكرهك إنسان لتنذر  فأنتَ من قلبك نذرت

من فمك صرتُ مصطادة       فلماذا تتذمَّر الآن

26     أما سمعت الذين يقولون                عن إبراهيم ماذا صنع،

إذ اقتاد وحيده           وما كُشف شيء لأمِّه؟

27     فالله أعاده       بسلام إلى منزله،

ونبعَ كبشٌ في الجبل    ووُهب قربانًا

28     ما عرفتَ حين نذرتَ   أنِّي أنا ألتقي بك

فالله الذي أحبَّني         جعلني له أمة

29     طوباي لأنِّي حُرِّرتُ    من صغارة العالم

وها أنا أمضي إلى ربِّي رسالة مختومة

30     لو حصل وغُلبت أنت  وربَّما قُتلتَ

لاقتادوني إلى السبي    وخرب كلُّ دارنا"

*  *  *

31     إن اقترب ليذبحها       رأف على بنت أمعائه

وإن هو لا ينحرها      يُوجَد كاذبًا

32     شيوخ الشعب سمعوا   أنَّ يفتاح حزين جدًّا

واجتمعوا كلُّهم          وبالكلام عزَّوه

33     "يفتاح، لا تتضايق      لأنَّك نذرتَ للربِّ نذرًا

ميِّز الموهبة وهبْها     وقرِّبْها للربّ

34     هب نصف أملاكك     واترك وحيدتك

لأنَّ كلَّ ما لك لا يُحبّ  مثل البنت التي لك"

35     قامت الصبيَّة وقالت    قدَّام ناصحيه كلِّهم:

"ما أسوأ نصحكم        وما أبغضه قدَّام الربّ".

 

في البيت 13، يفتاح هو الراعي. هي صورة نجدها أيضًا عند السروجيّ (310: 11)

البيت 14 الفرسان. قد نكون أمام تلميح إلى خر 15: 1 (نشيد البحر الأحمر).

البيت 26 رج تك 22: 3، تبع إسحاق أفرام (شرح سفر التكوين 22: 1) الذي قال بأنَّ إبراهيم لم يُعلم سارة بالذبيحة التي يقدِّم.

البيت 27. بنت يفتاح هي أمة الربِّ. ومثلها ستكون مريم (لو 1: 38). وهي مباركة مثلها (لو 1: 48).

البيت 29. بنت يفتاح رسالة مختومة. وهذا ما يُقال عن مريم. راجع الشحيمة ليل الجمعة، القومة الأولى، باعوت مار يعقوب: "مثل رسالة مختومة تراءت لنا مريم. فيها أخفيَتْ أسرار الابن وأعماقه. ما كانت رسالة كُتبت ثمَّ خُتمت، لكن ختموها ثمَّ كتبوها من بيت الله".

 

ما هو مضمون هذه السواغيت؟

بعد كلام عامّ حول النذور (1-3) توجَّه يفتاح إلى الشعب وألحَّ عليه بأن يبقى ثابتًا والربُّ يعينه، وطلب صلاة النسوة من أجل الانتصار (4-6). وتُصوَّر المعركة بإيجاز (7-8) مع ذِكر دور الله الذي يعمل بإشارة منه (ܪܡܙܐ). وبكى الشيوخ والأرامل موتاهم (9-10). وإذ سُمع بعودة يفتاح سالمًا، مضت ابنتُه إلى لقائه (11-12) وانتظرت وصوله (13) ساعة كان الفرسان يمتدحون الله لأنَّهم عادوا سالمين (14-15). ومضت بنتُ يفتاح تستقبل أباها الذي خاطر بحياته (16-18). وإذ رآها بكى وتمنَّى لو أنَّه مات. أمّا الآن فلن يكون له من يرثه (19-22). أعربت الفتاة عن فرحتها لأنَّ والدها نذر نذرًا بملء حرِّيَّته. ذكَّرته بإبراهيم وإسحاق (26-27). واستعملت كلمات مريم العذراء لتحسَّ أنَّها حرَّة من هذا العالم. ما العمل؟ (31). جاء الشيوخ ونصحوا يفتاح بأن يقدِّم نصف أملاكه ولا يقدِّم ابنته (32-34). فردَّت هي في الحال رافضة مثل هذه النصيحة (35).

نكتشف هنا أوَّلاً صورة الأب. (1) تسرُّع في نذره. فلو أطلَّ كلب للقائه، هل كان يذبحه إكرامًا للربّ؟ (2) وامُتدح لأنَّه نذر ووفى نذره (3) نذر وانتظر أن يعامله الله كما عامل إبراهيم حين مضى ليذبح ابنه إسحاق (4) هذا الحدث يقدِّم نمطًا من الخلاص يجد كماله في يسوع المسيح.

ونكتشف بنت يفتاح. ماتت وهي محافظة على بتوليَّتها. هي صورة عن اللواتي استشهدن في زمن شهبور الثاني، ملك الفرس.

ونكتشف أنماط هذا الحدث (1) يفتاح هو نمط الآب السماويّ. هكذا فعل يعقوب السروجيّ (ص 315) وتيودور بركونيّ (2) يفتاح هو نمط المسيح الذي اضطُهد. هنا نجد أفراهاط. (3) بنت يفتاح هي نمط الابن. هكذا قال التفسير المنسوب إلى أفرام، ويعقوب السروجيّ (ص 313) وتيودور بركوني وديونيسيوس برصليبي. (4) يفتاح وابنته يمثِّلان معًا نمط المسيح، كما أفرام في أناشيد نصيبين (نشيد 70) ثمَّ مكسيم المعترف حيث يفتاح يقابل ألوهيَّة المسيح وابنته بشريَّة المسيح.

(5) هناك موازاة بين إبراهيم وإسحاق من جهة، ويفتاح وابنته من جهة أخرى. هذا ما نجده في كتاب العاديّات البيبليَّة. (6) هناك مقابلة بين بنت يفتاح في طاعتها، ومريم العذراء في وقت البشارة وما بعد.

 

هـ- يعقوب السروجيّ

الميمر 159[15]

على بنت يفتاح

 

يا ربَّ المقتولين، الذي صار قتلُه حياة لعبيده

هب لي الكلمة التي تبلغ فنتلو مدائحهم.

أيُّها الوحيد[1] الذي قُرِّب له الوحيدون

أُمسكُ أنا كلمتك وبها أتكلَّم على مآثرك.

5      يا من قبل نذر يفتاح، اقبلْ أقوالي

لكي أصوِّر بألوانك جمالات إيمانه.[2]

يا ابن البتول الذي قرِّبت له بتولٌ ذبيحة

هبْ لي أن أتكلَّم على مآثر المكلَّلة.[3]

يا ولدًا وحيدًا ذبح له وحيدتَه

10     أكثر أقوالي لأقول خبرها في قول غنيّ.

يا واحدًا من واحد الذي نُحرَتْ له بنتُ واحد[4]

(هبني) أن أكون لك إناء واحدًا مملوءًا بالكثرة.

سرُّك[5] ذبح الوحيدة بيد أبيه

ليفتحْ صوتُك بابًا لكلامي على مآثرتها.

يفتاح صورة عن الآب

15     مدهشة الذبيحة التي قُرِّبت لك بيد يفتاح:

بتولٌ محبوبة تُنحَر بيد والدها.

الأب قرَّب ابنته للقتل لأجل حبِّك،

أنتَ الذي وهبك الآبُ لأجل خلاصنا.

ظلُّك[6] سقط على بنت العبرانيِّين هذه

20     فمدَّت رقبتها قدَّام سكِّين يفتاح أبيها.

دمُك صوِّر على هذا الجسم، جسم النقيَّة،

لهذا كفَتْ فكانت ذبيحة من (يد) والدها.

بك التصق سرُّ القتل من البداية،

وبالجميلين الذين راحوا للقائه ذبحَك.

25     نمطك تطلَّع على الذبائح وأخصبها،

لكي يسعى إلى إكثار المقتولين في كلِّ مناسبة.

 

ذبائح العهد القديم صورة عن ذبيحة المسيح

زأرت الخطيئة مثل اللبوة في كلِّ الأجيال

فسكبوا لها دم الذبائح ليُسكنوا روعها.

سرُّ قتلك اهتمَّ بأن يبيِّن نفسه

30     وفي المناسبات سكب الدم ليصوِّر له نمطًا.

فكما لوقاره سكب الدم ليصوِّر له نمطًا

ليصنع معالم[7] دم في الطريق التي يسير فيها.

الثيرانَ والنعاج، اليمام وابن الحمام

ذبحَ ليصوِّر بدمها رسمًا لذبيحته.

35     فالخطيئة كانت ترول بالدم من ذلك الوقت،

ولمّا كانت تحمي يرشُّون الدم فتنطفئ.

الغفران للإنسان لا يكون إلاَّ بالدم[8]

ومن أجل هذا كانت الذبائح كثيرة.

السرُّ بلَّل طريق قتله بدم الذبائح

40     لتكون كلُّها ممهَّدة بالحاش (بالآلام) من البداية.

 

وبما أنَّ الثيران والنعاج لم تكفِه لتصوِّره

أعدَّ وحيدة يفتاح لكي تصوِّره.

دم البتول حسُنَ له أن يَسكب بيد أبيها

لتكون شبهًا لقتلك العظيم، أيُّها الابن مخلِّص الجميع.

45     لو لم يصوِّر يفتاح سرَّك، يا ربَّنا،

لما كانت قُبلتْ ذبيحته ووُقِّرت.

حبُّ الأب توقَّد فيها وحمّاها

ليهب ابنته كما سلَّم الآب ابنه.

داس الناموس وبلا ناموس قرَّب ذبيحة

50     لأنَّ الإيمان أرفع كثيرًا من الناموس.

كُتب هكذا: من يسفك دم إنسان

فدمه يُسفك بيدَي إنسان ولا ينجو.[9]

إذًا من الناموس يفتاح يستوجب الموت

فكيف ما مات؟ لكنَّه بالأحرى نال المديح.

55     بالإيمان تجاوز الناموس وما انتقص

وسكب الدم لئلاَّ يخضع للوصيَّة.

 

بين يفتاح وابنته

عليه[10]، على هذا الفاعل العظيم، فاعل الإيمان

ينبغي لي أن أتكلَّم، فأعدُّوا إذًا أفكاركم.

وعلى الجميلة التي نُحرَت بيد والدها

60     تحرَّكت الكلمة لتتلو خبرها وذبْحها.

على هذا البحر، بحر الأبوَّة المليئة بالرحمة

كيف تحصَّن ليرى حبيبته تحت السكِّين.

على غليان الإيمان هذا الذي شبَّ كالنار

وصنع قتلاً وحماوتُه ما خمدَتْ.

65     على المقاتل الذي تعارك مع نفسه

وبإيمانه غلب مراحمه ونال الإكليل.

هذا هو هدف ميمر الحاش[11] الذي تعلَّقت به

والحاش يطلب بأن يُختَم به، بوقار.

واشتدَّ القتال

في أيَّام يفتاح، اشتدَّ القتال على العبرانيِّين

70     فحيَّرهم خطر كبير من العمونيِّين.

استعدَّت الصفوف للحرب والعراك

لتكونَ للنصر مناسبة في معاركها.

أتى السالبون ليدخلوا إلى أرض بني يعقوب

وما كان هناك في الشعب ملك يمضي للقائهم.

75     تحرَّكت الجيوش إلى المعركة

لتكون مناسبة ليقرِّب يفتاح ذبيحته.

أرسل ملك بني عمُّون تهديدًا على العبرانيِّين

ليتعدَّى على تخومهم وفي المعركة يهزمهم.

مخلِّصو الشعب توفُّوا وأبعدوا عن النصر

80     وها الشعوب القلف[12] دخلوا ليسلبوهم.

دُعي يفتاح فنذر للربِّ نذرًا

وإذ تضايق قطيع يعقوب بفعل السالبين

دعوا يفتاح ليكون الراعي الذي يتدبَّرهم.

وإذ دُعيَ هذا الحكيم إلى المعركة

وهب القتال للربِّ ليقوم (ويكون حاضرًا) على النصر.

85     تطلَّع في السلاح فإذا هو لا شيء باتِّجاه النصر

فنذر المتميِّز للربِّ نذرًا لكي يحارب هو (الربّ)

نذر أن يقرِّب لله ذبيحة سلامة

بدل النصر الذي طلبه منه في الخطر المداهم.

استأجر الملك ربَّه بذبيحة لينزل معه

90     على معركة العمونيِّين لكي ينتصر فيها.

ما ميَّز النذر فوهبه لله وهو عارف

أنَّه لا يعرف ماذا يريد أن يأخذ منه

"إن تسلَّم يا ربّ في يديَّ بني عمُّون

هذا النذر هو لك فأقرِّبه لك من عندي.

95     "من يأتي إلى لقائي من باب بيتي حين أدخل،

أقرِّبه ليكون ذبيحة بدل النصر.

أوَّل من يخرج قبالتي ويستقبلني

أقرِّبه لك وأنا فرح على الخلاص.

أنا لا أعرف من تحبُّ أنتَ ليقرَّب لك

100   اختر لك الذبيحة وأنا لا أشفق مهما كانت محبوبة

ميِّز لك شيئًا لائقًا وجميلاً، مختارًا ومحبوبًا.

وحين تميِّزه أذبحه أنا ولا شيء يمنعني

ما تختاره من كلِّ ما هو لي، أنا أهبه لك

فميِّز لك نذرًا وجئ به إلى يديَّ لأقرِّبه لك

105   نذرتُ وأنا أعطي، ولا أعرف من أهبُ لك

جليٌّ لك النذر ويكون معَدًّا حسب إرادتك

كلُّ ما تجيء به من كلِّ ما هو لي، أقرِّبه لك.

وإن كريمًا وإن حبيبًا، يُقرَّب لك

هذا النذر هو لك من قِبلي حين تنصرني

110   هذا الذي أنت وحدك تعرف ما هو."

أيُّها المتميِّز الذي نذر نذرًا وما عرفه،

مُعدٌّ ليُذبحَ وذبحه خفيٌّ عن تفكيره.

هذه الهديَّة من قائد جيش هذه المعركة فرضها

ليقرِّبها لمن يَنصر الكلَّ حين ينال مأثرة.

115   وضع يفتاح هذا الشرط باتِّجاه الله

وعندئذٍ بدأت المعركة في خطر بلغَ إليه

بالإيمان وهب القتال للربِّ وتخلَّص

من أن يهيِّئ لوازم السلاح بكثرة

دُعيَ مثل جبّار لينزل معه.

120   إذ وضع وجهه (صمَّم) على مقاتلة العمونيِّين

ذاك الذي دُعيَ، أبان جبروته في ما يخصُّه،

ليفي دم ذبيحة يفتاح بدل الكثيرين

نزل الجبّار على معسكر العمونيِّين

وبواسطة الرمز كُسِر قدَّام العبرانيِّين.[13]

 

125   قام يسرئيل على النصر داخل القتال

لأنَّ نذر يفتاح جاء بالربِّ ليكون منه

ثُلمَت صفوف أعداء الشعب

من هذا الشرط الذي عمله يفتاح مع الله

للصلب خُتمَتْ بتول الآلام (والحاش)

130   ومن أجل هذا نال الظفر شعبُ أبيها.

اختار السرَّ تلك الجميلة لكي يذبحها

ورمى الخراب في آلاف الجيش ليُنهي ذبيحته

دمَ الصبيَّة اختار هناك اختيارًا سرِّيًّا

فاشتدَّت الحرب على فرسان بني عمُّون

135   رأى البرُّ أنَّ الذبيحة المحبوبة أعدَّت

فقتل لأجلها ربوات البشر.[14]

 

هذه الذبيحة ترمز إلى ذبيحة المسيح

أخذ يفتاح ثمنَ ابنته دم الكثيرين

لتكون أفضل ذبيحة للخلاص.

وزن الحقُّ دم الدنسين مع دم (الصبيَّة) الطاهرة

140   فخرب الآلاف، وهي رجّحت على صفوفهم

بين الصفوف سقطت جثث الوثنيِّين الكثيرة

فما وفت (هذه الجثث) جثَّة واحدة، جثَّة المؤمنة

أجر الذبيحة أسقط الخراب بيدَيْ يفتاح

وهو ما شعر بأيِّ ألم يُقيمه له نذره.

145   تسلَّط ليخرِّب ويُلقي قدر ما يشاء

لأنَّه حقٌّ له أن يرمي الآلاف بدل قربانه.

اختيرت اللادنسة لتكون ذبيحة

ولأنها حسنَتْ (لله) سقطت صفوف (الأعداء) لأجلها.

أتى موتُ المليئة أسرارًا وقام على الشعب

150   وزجر الموت عن الكثيرين لئلاَّ يُخربوا.

حييَ (أو: عاش) الشعب لأنَّها ماتت بدل الشعب كلِّه

على مثال الابن الذي صعد الصليبَ بدل العالم.

 

انتصر يفتاح في الحرب وتعزَّز

وغلب المبغضين الغاضبين على معسكره.

155   قام بنشاط بين صفوف الأعداء، مثل (إنسان) ذكيّ

لأنَّه رمى في الحرب العمونيِّين وملوكهم

سيَّج ثلمات[15] الشعب بنذره لأنَّه تنقَّى

وبدا جبَّارًا في قتاله حتّى النصر.

سقطت على صفوف (الأعداء) قوَّة عظيمة من لدن الإيمان

160   وكسرتهم كما الأعشاب قدَّام اللهيب.

انتصر في الحرب، وعادت قوسه بقوَّة، وأتى

وسُمِّيَ ظافرًا لدى كلِّ الشعوب.

وإذ حمل النصر وأتى من القتال

قام الوعد ليطالب بما يخصُّه من الصادق.

165   دخل السرَّ بحشى النذر ليتحرَّك ويخرج

لئلاَّ يمضي آخر ويسبق محبوبته.

وأسرعت بنت يفتاح

بسبب البشائر أسرعت بنتُ يفتاح

وتمنَّت بأن تكون الأولى من ترى أباها

تاق القربان ليقابل الكاهن الذي يقرِّبه[16]

170   وخرج للقائه لئلاَّ يتأخَّر عن وعده

الدفَّ حملَتْ صبيّة الذبح لتقابل أباها

وبالتراتيل ترى وجهه لأنَّه أتى وظفر

قام القربان ليمشي قبالة الكاهن

وهو يُزيَّح بمربَّعات تخرج معه.

175   عجلة الذبيحة أتت باتِّجاه الحبر من ذاتها

إذ كانت العبرانيَّات ينقرن دفوفهنَّ.

الوحيدة قبالة القتل، كانت مشتاقة

لأنَّ (الابن) الوحيد اجتذبها في سرِّه لتكون ذبيحته

تميَّز نذرٌ مختار من بيت يفتاح

180   ليخرج ويفي ذاك النصر الذي من أجله

حُملت تلك الباكورة المليئة بالمحاسن

ومشت لتخرج صوب الكاهن المملوء تمييزًا.

جلا (أو: كشف) السرُّ المخفيَّة (المغطَّاة) بنت الأحرار

لتطير وتخرج وتمسك الطريق صوب السكِّين.

185   في يوم العرس لا وجود للغطاء للمخطوبات

وحلَّ زفاف عروف الدم لتكشف وجهها.

البتولُ العفيفة قبالةَ صفوف الشعب خرجت

وقدَّام الشعب حملت الدفَّ من أجل الغناء

لو أنَّ السرَّ لم يحرقها قبالة القتل

190   لثقل عليها أن تكشف وجهها على عيون الكثيرين.

بلغ زواج الذبيحة لخطيبة الآلام (والحاش)

وكُشف (وجهها) ليرى الشعب كم هي جميلة.

وهي الأولى التي رآها أبوها

وهي اختيرت لتكون ذبيحة بدل النصر.

الحبر أمام عظمة الذبيحة

195   أتت بنتُ يفتاح فرآها أبوها في زينتها،

فارتعد الكاهن من عظمة ذبيحة السلامة.

رأى الحبرُ هذا القربان فمزَّق ثيابه

ليبيِّن أنَّه (أي القربان) أعظم منه وليس كفوءًا له.

الآب وحده وهب وحيده بدل الخلاص

200   وبدون ألم (حاش) ما كان يفتاح ليصنع هذا

صورةَ الدم رأى يفتاحُ الحبرُ في ابنته

فارتعد وولول من هول الصلب.

من القربان التهب الألم قبالته

ونطحه الوجع فما تمكَّن من احتماله.

205   رأى الذبيحة شفّافة ونقيَّة، وديعة ومحبوبة

بهيَّة وطاهرة، لائقة وثمينة، مقدَّسة وعفيفة

بتولاً وفاضلة، متواضعة وساكنة، صبيَّة ومزيَّنة.

حسنة ونقيَّة، ممجَّدة وزاهية، مذهلة ومكلَّلة.

قبالة هذه الذبيحة، اضطرم يفتاح صاحبُ القلب

210   ومن قلب الألم بصرخات البكاء رجمه (أي القربان).

 

نذر يفتاح وعليه أن يفي

أتى البارُّ[17] ليطالب بالنذر من الصادق

فذكَّره بالشرط الذي كان من أجل الذبيحة.

قيلت هذه الأمور من قبل البرّ

للكاهن يفتاح لئلاَّ يُلقي (أرضًا) في الألم نذره.

215   في وقت الخطر استجابك الله كما سألتَه

في وقت الذبيحة استجبْ أنتَ الآن كما إرادته.

الطبيعة تحارب معك، أيُّها الرجل، لتكون متألِّمًا

فرُشَّ على الألم محبَّة الربِّ وها هو يتلاشى.

القتال من الخارج كان (قتال) الله، وهذا (قتالك) أنت

220   هو غلب صفوف (الأعداء) فاغلبْ أنت الألم وفِ نذرك

كسر قوس الشعوب وسلَّم لك فرسانهم

فاغلب حبَّ الولد (ابنتك) وجئه بالذبيحة التي أحبّ.

استجابك في الحرب فهب له في الأمان ما يتوجَّب عليك

لئلاَّ تُسمَّى من جانب ناكري الجميل.

225   ها نذرك مختار، فقرِّبه حسب وعدك

رأيتَ إرادته فلا تتأخَّر من (تقدمة) قربانه.

بكى يفتاح وندب ابنته

تشدَّد يفتاح وبكى ورعد

لأنَّ الطبيعة ضايقته فما استطاع أن يحتمل

التهبت المراحم المحرقة قبالة الولد

230   وحثَّت الأبَ العاطفةُ ليولول من أجل ابنته.

أتت الطبيعة وقامت على يفتاح كمن يطالبه

ليعيد لها بكاءً يخصُّها، مثل مذنب

شرع الكاهن يتكلَّم قبالة الذبيحة

بأقوال الألم التي تقلب أرحام سامعيها.

 

235   قال: "يا ابنتي، سحقتِني اليوم سحقًا

ومن خروجك صرتِ لي من الساحقين.

انتصرتُ في حربٍ خرَّبتُ الآلاف، والآن غُلبتُ.

فأنا أقتلك، فماذا يبقى لي من الانتصار

يا ابنةً محبوبة، سحقني محيَّاك حين رأيتُك.

240   فكيف أقول حزني عليك؟ لا أعرف

الوحيدة التي وُهبَتْ لنا هي وحدها،

بخروجك اليوم حرمتِني من الوارثين

يا ابنتي، آلمتني وها أنا في الحزن قائم

وسهام حبِّك تضربني من كلِّ جانب.

لا يفكِّر أحد

245   لا يفكِّر إنسان أن يفتاح المدهش الذي بكى[18]

دخل النقصُ على قربانه بسبب الألم الذي وصل إليه.

انظر في عمله ولا تكن مرتابًا حول تمييزه

فهو نذر وقتلَ، ومع أنَّه تألَّم كثيرًا لم يمنع نذره.

طالبَتْه الطبيعة فوهب لها البكاء مثل حبيب

250   ونذر لله فأصعد الذبيحة مثل صادق.

وَفى ما للأبوين فبكى ابنته بحبٍّ

وأنجز ما للكاهن وأتمَّ ذبيحته بإكرام.

حلَّ الطبيعة بقليل من الدموع سكبها

وأرضى الربَّ بذبيحة ابنته الفاضلة.

255   محبَّةً بالربِّ قتل بتولاً وأتمَّ نذره

وحبيبتَه بكى بألم كما يليق.

بيَّن لابنته أنَّه أحبَّها بالدموع التي أفاض

وتجاه الله أكمل وعده بالدم الذي أهرق.

بالبكاء بيَّن أنَّ محبَّة الوالد مغروزة فيه

260   ومحبَّة الربِّ حلَّت البكاء بالقتل الذي صنعَتْ.

 

رأى ابنته فبكى وقال: "سحقتِني!

نذرًا نذرتُ ولا أقدر أن أكذب فيه.

حين كنتُ أحارب نذرتُ بأن أذبح كلَّ من يأتي للقائي

والآن إذ انتصرتُ لن أتراجع عمّا قلتُ

265   الربُّ اختارك له ولا أقدر أن أمنعه عنك

ولأنَّك ذبيحة ولا وسيلة لي بألاَّ أذبحك

ها وعدي وُضع لي رهينة لدى الله

أنا مَدين بدمك وإن لم أفِ أكون ناكر الجميل.

ما وعدْتُ من أجلك حين نذرتُ

270   فالربُّ ميَّزك لتكوني ذبيحة، فماذا أفعل؟

المذبح خطبك لتكوني حمل الحقِّ لربِّك

فتعالَي إلى المحرقة وأتمِّي شرط خطبتك.

للربِّ نذرتُك، لا أنت، لكن من يأتي للقائي

وإذ كنتِ الأولى، تجلَّى أنَّك أنت تلك الذبيحة.

 

275   "حبيبتي لي أنت، لأنَّك وحيدة وأنا شحذتك[19]

ولكنَّ حبَّ الربِّ عندي أعظم منك، فكيف تكون (الأمور)؟

العهد صادق والربُّ عزيز (قدير) وأنتِ حبيبتي أنتِ

وبين هذه الأمور زُربتُ فكيف تكون (الأمور)؟

أنا لا أُنكر وعدي أنا مثل ناقص،

280   والنذر الذي نذرت لا أمنعه عن الله.

إن أقتلك، مراحمي تصرخ لأجل حبِّك"

... ... ...

ما استطعتُ إلاَّ أن أعمل لكِ كما وعدتُ[20]

وما تراجعتُ عن الوعد قدَّام الربّ."

قالت الصبيَّة: نعم، يا أبي

285   قالت الصبيَّة: "نعم يا أبي، حقِّقْ كلَّ ما وعدتَ

وتمِّم نذرك لدى الله بدون حزن.

وهب لك أن تنتصر على العمّونيِّين كما سألتَه

فهَبْ له الذبيحة كما اختار له ولا تحزن.

هو وهبني لكَ فلا تتضايق بعدُ إن هو أخذني[21]

290   من خاصَّته أنا وله أنا، إذًا اشكرْ وأنت تعطي.

كنتُ لك ابنة، وبسببي أنت أبٌ

وأكون ذبيحة ولأجلي أيضًا تكون حبرًا.

حتّى الآن كنتَ تُسمَّى فقط أبًا

ومن الآن وصاعدًا أبًا وحبرًا تبانُ أنتَ.

295   لو غلبك العمُّونيُّون في ذاك القتال

ربَّما اقتادنا الغُلف معهم في السبي

فاشكر الربَّ الذي وهبك أن تكون من الظافرين.

وعدَّني أيضًا في ذبائح السلامة، ذبائحه، وقرابينه.

كانوا دعوك أبا بتول مثل الكثيرين.

300   وبعد قليل (يدعونني) امرأة رجل مملوءة بالأوجاع.[22]

 

"من الآن وصاعدًا، (تُدعى) أبا مقتولة صارت ذبيحة

وحبرًا قرَّب ثمرات بطنه بدل القربان،

وكاهنًا ولدَ ذبيحة وربَّاها بمحبَّة

وما سأل فذبح، لكنَّه نحر ولده للمحرقة.

305   من يهب لك أن تكون أبًا للقربان

وبمحبَّة تأتي بولدك نذرًا للربّ.

كنتَ لي أبًا فكنْ لي حبرًا وتمِّمْ نذرك

أنت ولدتني، فقرِّبني أحسن قربان.

منك خرجتُ وبك أقرَّب لمُقتبل الجميع

310   فأكون ذبيحة جديدة في العالم، ومثلاً عظيمًا".

يليق بهذا القربان الذي تكلَّم

قبالة الكاهن الذي يقرِّبه ولا يتمزَّق

ويجمل بالذبيحة أن تقول قبالة الحَبر

فتُبيِّن له أنَّها لا تحزن لأنَّه يقرِّبها.

315   محبوبًا كان الخبر الذي رتَّلته لأبيها سيِّدة الآلام

إذا كانت لا تخاف السكِّين الذي خُطبَت له.

مدهش القول: إذ قالت الذبيحة الناطقة

وكلَّمت أباها الكاهن بكلام عذب.

تعجَّبت صفوف (الملائكة) بشجاعتها أمام السكِّين

320   وأيضًا بيفتاح نفسه الذي ميَّز أيَّ نذر لله.

وطلبَتِ الصبيّة أن تبكي

فتكلَّمت وما توسَّلت لكي تُنجَّى (من الموت)

لكنَّها (قالت): "اصنع كما وعدتَ لدى الله.

شهرين اثنين هب لي فقط لأمضي وأبكي[23]

أنا ورفيقاتي بين الجبال، وبعدها أُذبَح بيدك.

325   أصنعُ حدادًا بين الصبايا كما سألتك

وبعدها أبرك أمام السكِّين حسب مواعيدك.

كنتُ وريثتك ولا أتضايق إن لم أرثك

هب لي أن أبكي ليكون البكاء بدل الميراث."

رأت البتول طريق القتل فارتاعت منها

330   وإذ هي ارتاعت جدًّا ما طلبت إلاَّ أن تبكي.

مخيفًا كان الموت إذ لم تكن (الذبيحة) مقتولة بيدي ربِّنا.

وبلغت الصبيَّة إلى الموضع وخافت من السكِّين.

لم يكن الثعبان الملعون قد شُدِخ بعدُ بواسطة الصليب[24]

ولهذا خافت منه الفتاة لأنَّه نفخ فيها.

335   مضيق الشيول لم يكن آمنًا بسبب اللصوص،

وإذ أسقطتها الطريق إلى هناك ارتجفت كثيرًا.

فالصليب ما كان رصَّ (بعد) الصلّ المفسد

فدخل الرعب على الصبيَّة وطلبت أن تبكي.

الأسد المخيف ما كان بعدُ داس غابة الشيول[25]

340   وإذ رأر قليلاً ارتجفت بنتُ العبرانيِّين وسقطت

لم تكن استُؤصلت (بعد) أسوار الشيول وحصن الموتى

وإذ دُعيت الصبيَّة لتدخل، طلبت البكاء.

وإذ كان الموت حيًّا جدًّا ومريرًا، وموضعُه مخيفًا

لم تُسأل لكنَّها طلبت أن تبكي من الألم.

345   طالبها أبوها بالقتل والدم والذبح،

فسألتْه أن تمضي وتبكي بتوليَّتها.

فاقتنع يفتاح

اقتنع الكاهن بأن يطيل روحه (أو: أناته) على القربان[26]

وبهذا أيضًا كثُر تمييزه وازداد.

بإطالة أناته هذه بيَّن غليان إيمانه

350   وخلال ستِّين يومًا لم يبرد لهيب حماوته.

التهب الرجل بمحبَّة الربِّ واتَّقد،

وطولُ الألم لم يجعل لهيبها يبرد.

فلو قتلها في اليوم الذي دخل (بيته) من القتال

كان نذره أبسط من إطالة روحه هذه.

355   ولو لم يبكِ ويمزِّق ثيابه كما سمعتم

لكان تبيَّن أيضًا أنَّه لا يحبُّ ابنته.

لو أنَّه أسرع وقام بعمله، لكان من قال:

"إنَّ حماوة الرسالة حملته فأتمَّ نذره.

وإذ هو انتفخ بالنصر الذي دخل معه

360   ذبح الصبيَّة وما حزن عليها حين قتلها.

إذ ارتوى بدم قتل العمُّونيِّين

رمى الجثَّة بحماوة نفسه إذ دخل.

استطعم الدم وأهلك الآلاف وصار رئيسًا،

ولأجل هذا قتل ابنته وما حزن.

365   وإذ هو تشامخ بالاسم الذي حمل بين الصفوف

التقى بابنته وفي تشامخه جعلها ذبيحة".

ما من سبب لنقول هذه الأقوال على الصادق

ففي كلِّ هذه الأمور تراءى صدقُه.

بكى على ابنته وكرز مراحمَ أبوَّته

370   ومزَّق ثيابه ووهب للطبيعة ما يخصُّها.

سألته أن تبكي فوهب لها مثل الصالح، كما طلبَتْ

لبثت أيَّامٌ فبيَّن أن طولها لم يضعفه.

عبرَ خبرُ هذا القتال والحزن قائم

وإذ كان معجونًا جدًّا بالحزن كلَّ يوم، حبُّه لم يبرد.

375   نزل من رفعة هذا الانتصار بالألم الذي بلغ إليه

وغليان حبِّه لم يخمد فكان ملتهبًا.

ترك الصبيَّة تمضي فتبكي كما سألتْ

وثبت في ما يخصُّه وما تبدَّل عن وعده.

دعَتْ رفيقاتها ومضت لتبكي

دعَتْ إليها البتولات، بنات العبرانيِّين

380   وخرجت تبكي بتوليَّتها بين الجبال.

خرج سرب الحمام لينوح ويُرعد

على فرخة[27] يفتاح المحبوبة التي تُنحَر.

رتَّلن هناك بألم عظيم أقوال البكاء

التي تناسب ألم الوحيدة التي تُنحَر.

385   ولولوت الحجول الجميلة بكنّاراتهنَّ

على انفصال الفاضلة من عندهنَّ.

طريق العالم تبكي بفم الفتيات

إذ الحزن لم يؤثِّر في ذبيحة يفتاح.

قالت لأبيها: "أمضي وأبكي بتوليَّتي"

390   فصنع حدادًا على الزواج لا على الذبيحة

على طريق الشركة المحبوبة التي قُطعَتْ

بحيث لن يخرج أطفال إلى العالم من الزواج.

على هذا الثمر الذي يأتي في طريق كلِّ الأرض

لأنَّ الحكم قطعه بنذره (= نذر يفتاح) فما سار مسيرته.

395   على الأولاد الذين حسبت أنَّها تحبل بهم

فأتى السيف وما تركها تلدهم.

على الزواج الذي صوَّرته بأحلام وبرؤى

فدُعيَتْ صوب السكِّين وتعطَّل الزواج.

على الأبناء الذين تلاطفهم في فكرها

400   فأتى السيف وأخذ أمَّهم في بتوليَّتها.[28]

هكذا صنعت الحداد لأبنائها إذ ليسوا موجودين

لأنَّها ما تزوَّجت ليكونوا ثمر (بطنها) كما حسبَتْ

كم مرَّة غنَّتهم بأسماء

وإذ سلَّمت أنَّها تكون ذبيحة بكتهم.

405   مسكن العالم نال البكاء لأنَّه لبث خاليًا

ولم ينقص شيء من الوعد بالنذر.

على استعدادات صباها التي رُميَتْ لها

فأتى القتل ليحلَّ الشرط الذي صُنع.

على تسلسل العشائر الذي توقَّف وما سار بعد

410   فمُنعت طريق الأجناس بحيث لا تسير فيها

ستِّين يومًا تقوَّى الحداد هناك

وإذ اكتمل جعلت وجهها (توجَّهت) صوب السكِّين

بكَتْ على العالم الذي، بخبره، يُضلُّ من يحبُّه

ورجعت لتأتي فتكون ذبيحة كما نُذرَتْ.

415   بألم رثت الشركة (الزواج) ومعاشرته

وصوب السكِّين عادت كما دُعيَتْ.

احتقرت شرط النساء ورجالهنَّ

لأنَّ الأشكال تبطل مع تبدُّل الأزمنة.

ببكائها وهبت كرهًا (كرهت) للعالم، هي ورفيقاتها

420   لأنَّه محبوب كثيرًا ولا يثبت لأحبّائه.

أتمَّت طريق الحداد بحزن عظيم

وبلغ اليوم الذي فيه تأتي لقتلٍ كان ينتظرها.

مآثر يفتاح

خبر يفتاح يجتذبني أيضًا فأسير فيه

فكونوا لي رفاقًا بأصوات الألم لنمشي فيها.

425   هو رجل العجاب وخبره ليس ببسيط لكي يحتقره إنسان

اسمعوه بإعجاب وأنتم معجبون بشجاعته.

الفم الأصغر بأن يتكلَّم عليه كما هو

واللسان أيضًا بأن يروي أخباره بأشكالها (المتعدِّدة).

أهملتُ شيئًا إذ قلتُ خبره، أنا الشقيّ

430   ليس لي أقوال تكفي لتمجيده.

قصيرًا كان الوقت لبولس العظيم ليتكلَّم عليه[29]

وأنا الشقيُّ كيف أقترب من قصَّته!

كنّارة الرسل هذا رأى جماله

وعلَّق حجاب سكوت على خبره لئلاَّ يُهان.

435   "الوقت لي قصير لأتكلَّم من أجل يفتاح".

قِسْ قصَّته وانظر! فهي أرفع من الأزمان.

نظرَ في أخباره التي هي أطول من الأيّام

والعالم كلُّه لا يكفي[30] ليتكلَّم عنها.

رأى أنَّ لا انتهاء إن شرع يتكلَّم عليها

440   فالميمر طويل والوقت أقصر من (سرد) قصَّته.

ولئلاَّ يفسد الميمر الكبير بالأشياء الصغيرة

قال إنَّ الوقت صغير للكلام في شأن يفتاح.

بيَّن أنَّ مدى الأيّام أقصر من قصَّته

فما شرع لئلاَّ يُقال فيها: هي مختصرة.

445   الرسول العظيم فضح صغر الوقت

ووقَّر قصَّة يفتاح واحترز.

فأنا أيضًا ينبغي لي أن أسكت عن (ذكر) مآثره

فما قلتُ ولا أقول شيئًا من مدائحه.

كان الوقت قصيرًا لأصبع الرسول (بولس) الماهر

450   ليصوِّر جمالات إيمانه كما هي.

فإن تمنَّع كنّارةُ الرسل عن خبره

فأيُّ أقوال تبلغ إليه لتتكلَّم عنه.

وأنا ما تكلَّمتُ عنه إلاَّ لأسكت

بسبب عظمة الميمر الذي لا حدود له.

هذا الرجل العجيب

455   لأنَّه صار كاهنًا لابنته وأصعدها ذبيحة

وما تألَّم ليسحب يده من السكِّين.

لأنَّه لبس الإيمان وهو يحارب،

ودعا الربَّ وما ارتاب من خلاص (يمنحه) له.

لأنَّه نذر وأصعد الذبيحة وأتمَّ نذره

460   وهب القربان المقطوع منه بحبٍّ كبير.

عجبٌ أن نقول حين[31] حمل السكِّين على ابنته

ليقتل أحشاءه المغروزة فيه (ليقتل) حبيبته.

حين تمَّت أيَّام حزن المشحودة

وأتت لتكون ذبيحة سلامة من قبل والدها

465   حين نظر فيها أبوها الذي دعاها صوب السكِّين

فأجابت (نعم) ومدَّت عنقها للذبح.

حين ضربته أمواج المراحم ليسحب يده

ويرفع مجاذيف الحبِّ على الأمواج ويحتقرها.

حين صاحبَ الطبيعة بألم قبالة الولد

470   ومحبَّة الربِّ أوثقت الذبيحة لكي تقرَّب.

حين نظرت الفتاة إلى أبيها ورعدت

وهو يمسك رقبتها ويقرِّبها من السكِّين.

حين ولول بألم حبُّ الأبوَّة

فأسكته حبُّ الألوهيَّة العظيم.

475   حين تقاتل الحبُّ والحبّ: أيُّهما ينتصر؟

غلب (حبُّ) الربِّ (حبَّ) البنين ورمى القتل.

حين حاربت الطبيعة بغليانها وكأنَّها تبطل،

وما استطاعت أن تمنع يده عن السكِّين.

حين نزلت المحبَّتان باجتهاد إلى المعركة

480   غلبت (محبَّة) الله (محبَّة) الولد وذبحته.

حين كانت المراحم مشتعلة، مستعرة قبالة الثمرة

ورشَّ ندى الإيمان وبه خمدَتْ

حين التفتت الابنة المحبوبة لترى أباها

الذي يحمل السيف ويقف فوقها مثل قصَّاب

485   حين دعتِ المراحمُ اليد لئلاَّ تنزل

وقام الإيمان، مجتهدًا، بما يخصُّه

حين صنعت الحساباتُ الجهادَ في الفكر

وانتصر هناك من كان مأسورًا في الله

حين ارتجف العنق المحبوب تحت السكِّين

490   والكاهن الشجاع لا يتوقَّف عن عمله.

حين ارتجفت البتول في الذبح، من خوفها،

ويد الأب لا تتخلَّى عن السكِّين،

حين ارتجفت الفتاة وارتاعت من قتل تراه

ويفتاح الشجاع يرمي الجثَّة ولا يضطرب.

495   حين تصاعدت نوحات سيِّدة الآلام من الذبيحة

وما أهمل أبو القتيلة من إهلاكها.

حين شقلت (أو: رفع) حماوةُ الإيمان العظيمة

وما استطاعت المراحم أن تقوم وتمنعه

حين ربط المشحودة لتكون ذبيحة

500   شقل السكِّين بشجاعة ووضعه على عنقها.

حين سال دمُ البتول ولطَّخه

وقطع عنقها فما اضطرب من عمله.

حين أتمَّ يفتاح الحبر عمل ذبيحته

واصطبغ بالدم الذي أراقه هناك من قربانه

505   حين تكاثرت ولولات العبرانيَّات

وهو بشجاعته أهملها وداسها

حين رجمته مراثي بنات الشعب

ما سمعها، واستمرَّ في ما يخصُّه

وفى وعده ووهب قربانه وأصعد ذبيحته

510   مبارك المقتول (يسوع المسيح) الذي قُرِّبت له ذبيحة يفتاح.

كمل (ميمر) بنت يفتاح


[1] المقالة 21: 12، المقالات، قدَّم لها ونقلها إلى العربيَّة الخوري بولس الفغاليّ، دار المشرق، بيروت، 1994، 2007، ص 325. هي مقابلة بين يسوع ويفتاح: اضطُهد يسوع واضطُهد يفتاح وكلاهما انتصر في النهاية.

[2] السمعانيّ، الجزء الأوَّل، ص 321-322.

[3] ܟܬܒܐ ܕܐܣܟܘܠܝܘܢ: كتاب الدريسات (إسكوليون)، نشره أداي شير، CSCO 55, p. 205-206، سنة 1910.

[4] نتذكَّر أنَّ أورشليم سقطت بيد الرومان سنة 70 ب.م. في شهر آب. هذا ما سوف نقرأه في النصوص اللاحقة.

[5] Éd. C. VAN DEN EYNDE, CSCO 229/Syr 96, p. 32-33, Louvain, 1963

[6] إلاهة عند العرب. ذاك ما قال إبِّيفان، أسقف سلامينة في Panarion, 55, 10, 1، إنَّ أهل السامرة اعتبروا بنت يفتاح إلاهة وعبدوها.

[7] منغانا سريانيّ، 152 وريقة: 78 ظهر – 79 وجه. جاء الشرح في عمودين. في العمود الأوَّل، المعنى الحرفيّ والتاريخيّ ܣܘܥܪܢܐܝܬ. وفي العمود الثاني، المعنى الروحيّ ܪܘܚܢܐܝܬ.

[8] ذاك تفكير إبليس مع الفخّ الذي نصبه.

[9] ܐܘܨܪ ܪ̈ܐܙܐ طبعة J. Y. ÇIÇEK, p. 122-123

[10] النشيد 70: 7-12 CSCO 240/102, Louvain, 1963.

[11] نتذكَّر هنا أبا فراس الحمدانيّ: "أنوح وقد كانت بقربي حمامة".

[12] 10: 3 The Chester Beatty Monographs, Dublin, 1962, p. 36-37..

[13] 2: 10-12.CSCO 223, Louvain, 1962

[14] Br. Mus. 17141 (8e- 9e), 1042-1052, Hugoyé, vol 14, no 1, Winter 2011, p. 10-11.

[15] P. Bedjan, V, p. 306-329

 


[1] أي الابن الوحيد يسوع المسيح. والوحيدون هم إسحاق وبنت يفتاح.

[2] إيمان إسحاق. فيفتاح نذر نذرًا وهو سيفيه.

[3] البتول هي بنت يفتاح. رج قض 11: 37: "أبكي بتوليَّتي" كما في السريانيَّة. وهي الآن سوف تُكلَّل.

[4] تلاعب على لفظ ܚܕ: فيسوع هو الواحد من الإله الواحد. ويفتاح يبدو وحيدًا، لا أهل له ولا اقارب، بعد أن طُرد من القبيلة. رج قض 11: 2.

[5] وهكذا وصل السروجيّ سريعًا إلى المعنى السرّيّ، حيث بنت يفتاح صورة بعيدة عن يسوع، شأنها شأن إسحاق.

[6] الظلُّ هي بنت يفتاح. والحقيقة يسوع المسيح. رج كو 2: 17؛ عب 10: 1.

[7] ܡܝܠܐ. هي علامات تُوضَع كلَّ ميل لكي تظهر الطريق.

[8] رج عب 9: 22: "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". بالنسبة إلى ذبائح الثيران، رج لا 1: 10؛ 5: 7؛ ق عب 9: 13.

[9] تك 9: 6. قيل هذا الكلام بعد الطوفان.

[10] يتكرَّر حرف الجرّ "على" ستَّ مرَّات. هي طريقة السروجيّ في التشديد على دراميَّة الخبر.

[11] ܚܫܐ. passion. يقابل الآلام ويتعدَّاه.

[12] أو: غير المختونين. نتذكَّر أنَّ شعوب الشرق كلَّهم عرفوا الختان. وحدهم الفلسطيُّون الآتون من جزر اليونان لم يكونوا مختونين. وأصحاب الغرلة هنا هم غير العبرانيِّين.

[13] وهكذا نزل يفتاح إلى المعركة، وهو إن نال النصر فبفضل النذر الذي نذره.

[14] ما يتوقَّف عنده السروجيّ هو النذر والذبيحة التي تتبعه من وجهة السرّ. فكلُّ ذبيحة تتطلَّع إلى ذبيحة المسيح الذي بها افتدى البشر جميعًا.

[15] رج حز 13: 5؛ 22: 30. "من يقف في الثغر...".

[16] صار يفتاح الكاهن وابنته الذبيحة أو القربان.

[17] حرفيًّا: البرّ والعدالة ܟܐܢܘܬܐ

[18] هو صراع بين حبِّ الوالد لابنته وواجب الكاهن تجاه ربِّه، ولاسيَّما أنَّه نذر نذرًا ووعد وعدًا.

[19] ܫܚܕ. طلبتك مثل شحّاذ فكنتِ لي هديَّة.

[20] هنا تشجِّع الصبيَّة والدها لكي ينفِّذ ما وعد به الربَّ. نقرأ في قض 11: 36: "يا أبي، أفرطتَ في كلامك قدَّام الربّ، فعاملْني بحسب الكلام الذي خرج من فمك، لأنَّ الربَّ انتقم من أعدائك، بني عمُّون".

[21] إشارة إلى ما قال أيُّوب بعد أن خسر كلَّ ماله. رج أي 1: 21.

[22] رج تك 3: 16 وكلام الربِّ إلى المرأة: "بالأوجاع تحبلين".

[23] لبثت بنت يفتاح على شجاعتها، ولكنَّها طلبت أن تمضي لتبكي صباها: "اتركني شهرين فأذهب وأنزل على الجبال وأبكي عذريَّتي أنا وصاحباتي" (قض 11: 37).

[24] رج رؤ 12: 7ي، 13: 3 (جُرح).

[25] ܫܐܘܠ: مثوى الأموات قبل الكلام عن القيامة.

[26] فقال يفتاح: "اذهبي". وأرسلها إلى شهرين، فذهبت هي وصاحباتها وبكت عذريَّتها على الجبال (قض 11: 38).

[27] ܦܪܘܓܬܐ: فرّوجة مؤنَّث فرُّوج. هي الدجاجة الصغيرة.

[28] تكرار  (على) في توازن تعارضي: انتظرت فإذا انتظارها يخيب.

[29] رج عب 11: 32: "وماذا أقول أيضًا؟ ينقصني الوقت لأخبر عن جدعون وباراق وشمشون ويفتاح...".

[30] تذكَّر السروجيّ هنا ما قاله الإنجيل الرابع: "وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع، إن كُتبت واحدة واحدة فلست أظنُّ أنَّ العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة".

[31] ܟܕ: حين، إذ. تتكرَّر هذه الأداة 24 مرَّة فتأتي بشكل طلبة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM