(الرعيَّة، نيسان 2012)
ميخا، من مثلك يا الله!
الخوري أنطوان الدويهيّ
ذاك هو ميخا اسم هذا النبيّ، ميخا هو تصغير ميخائيل: من كالله. من مثل الله. وبدا هذا النبيّ وكأنَّه وقَّع كتابه في 7: 18: "من مثلك يا الله ينسى ذنوبنا! من مثلك يا الله يعفو عن كلِّ معاصينا!". لا، إله هذا النبيّ ليس إله الغضب ولا إله الانتقام، مهما قيل عنه. بل هو إله العفو والمسامحة والغفران. ما أجمله ينسى ما فعلناه من شرّ. هو يذكِّرنا بصلاة ذاك الخاطئ الذي قال للربّ: "يا ربّ، لا تذكر خطاياي!". فأجابه: "يا ابني، أنا نسيت خطاياك، ذكِّرني بها". كم نحن مساكين حين نتذكَّر خطايانا، ولا نريد أن ننساها، فتصل بنا الحالة إلى اليأس على ما حصل ليهوذا. لا شكَّ، هو باع الربّ! ولكنَّ الربَّ كلَّمه بمحبَّة حين جاء يسلِّمه: "دنا ليقبِّله" (لو 22: 47). حينئذٍ قال له يسوع: "يا يهوذا، أبقبلةٍ تسلِّم ابن الإنسان؟" (آ48). كأنَّه يقول له: "يا صديقي!" أمّا بطرس فاكتفى بنظرة لكي يندم على خطيئة النكران. ثمَّ خرج إلى الخارج وبكى بكاءً مرًّا" (لو 22: 62).
فربُّنا إله غفور، "يستر لنا ذنوبنا، وفي أعماق البحر يطرح جميع خطايانا" (مي 7: 19). إنَّه إله الرحمة. وبدلاً من أن نرجع نحن إليه، يرجع هو إلينا. ما أسعدنا! من مثلك يا الله! هكذا كانوا ينشدون الله في شعائر العبادة. في مز 35 الذي هو نداء إلى الله لكي يساعد المؤمن وينجِّيه من المعادين، يهتف المرتِّل معلنًا بهجته وانشراحه لخلاص ناله (آ9): "عظامي جميعُها تقول: من مثلك أيُّها الربّ، منقذ المساكين البائسين" (’10). أمّا مز 89 وفيه يعاتب المرتِّل الله ويسأله أين صارت مواعيده. ولكنَّه يعود إلى نفسه فيتذكَّر عظمة الله ورهبته (آ8). عندئذٍ يهتف في قلب صلاة الجماعة: "أيُّها الربُّ القدير، من مثلك؟ ربٌّ قويّ أنت وأمانتك تحيطك" (آ9). ومز 113 الذي هو مزمور الوضعاء يسمعنا نداء المؤمن: "من مثل الربِّ إلهنا، ذاك المقيم في الأعالي؟" (آ5).
* * *
ميخا نبيٌّ بين الأنبياء الاثني عشر. بلدته "مورشت". هي تبعد خمسة وثلاثين كيلومترًا إلى الجنوب الغربيّ من أورشليم. تقع في منطقة يهوذا الساحليَّة، التي عانت الكثير من الهجمة الأشوريَّة التي وصلت إلى أبواب أورشليم سنة 701 ق.م.، بقيادة تفلت فلاسر الثالث (747-727) ثمَّ شلمنصَّر الخامس (726-722)، ثمَّ سرجيون الثاني (722-705) الذي سقطت السامرة بيده سنة 722-721. وأخيرًا، جاء سنحاريب (704-681) الذي فرض الجزية على حزقيّا بعد أن عاث في الأرض خرابًا.
لا شكَّ، تألَّم ميخا كثيرًا لما حصل للمنطقة التي وُلد فيها. وكان حزنه الأكبر حين سقطت السامرة وراح أهلها إلى السبي بعد أن مات من مات. لا مجال لذكر ما حصل من قتل وجوع بحيث أكلت النساء أولادهنَّ. تحدَّث سفر الملوك الثاني عن أسباب سقوط السامرة: خيانة الربّ وعبادة آلهة أخرى. السلوك في طرق الأمم، في الطرق الرديئة التي "تميَّز" بها ملوك إسرائيل (أي القسم الشماليّ). وتحدَّث الكاتب الملهم عن "الأفعال السيِّئة"، وعن الإنذارات المتكرِّرة التي حملها رسل الربِّ وأنبياؤه، وعن النداءات إلى التوبة. ولكنَّهم ما أرادوا أن يسمعوا، بل عاندوا الربَّ، فحصل لهم ما حصل (2 مل 17: 7ي).
في هذا المناخ تكلَّم ميخا فأبرز فساد مملكة إسرائيل الخلقيّ. لهذا بكى النبيّ حين رأى ما صارت إليه هذه المملكة التي كانت مزدهرة في وقت من الأوقات. والبداية: "ويل لي!" (7: 1). ما أشقاني، ما أتعسني! ماذا بقي من الشعب بعد أن مرَّ الفاتح في السامرة ودمَّرها؟ بعض الحبوب التي تبقَّت في الأرض، بعد أن حصد الحاصدون، أو حبَّات عنب هنا وهناك. ولكن لا وجود لعنقود واحد، ولا لباكورة تين. ولكنَّ هذا الفراغ هو نتيجة الخطيئة المنتشرة في البلاد، بحيث لم يُوجَد عشرة أبرار، كما وعد إبراهيم الربّ قبل دمار سدوم (تك 18: 32).
وها هو النبيُّ يبحث عن شخص تقيّ، عن إنسان مستقيم (7: 2). ولكنَّه لم يجد. فالجميع ساروا إلى القتل والمكائد. هذا ما يجعل أمام أنظارنا ما يقوله مز 14 الذي يعلن منذ البداية إنكار الله: "فسُدوا ورجسوا بأعمالهم، وما من أحد يعمل الخير" (آ1). اليد تجتهد عادة للخير، أمّا هنا فللشرّ. وإن أراد المسؤولون أن يعملوا الخير، فهم يضعون شروطهم، ويطلبون الرشوة. فالجشع هو ما يحرِّكهم. قال النبيّ: "باد الصالحون من الأرض، وما في الناس مستقيم. جميعهم يكمنون للقتل وكلُّهم يصطاد أخاه، يصطاده بخروم الشباك. يطيب لأيديهم الشرّ: الرئيس يطلب الرشوة، والقاضي يقضي بالأجرة وكبيرهم يفعل ما يهواه فيتصرَّف بطريق ملتوية" (7: 2-3). هنا يلتقي ميخا مع إشعيا الذي يقول: "حكّامك قوم متحرِّرون وشركاء لقطَّاع الطرق. كلُّهم يحبُّ الرشوة ويسعى وراء الربح" (1: 23). وفي 5: 23: "ويل للذين يبرِّرون الشرِّير لأجل رشوة، ويحرمون البريء حقَّه".
* * *
نلاحظ هنا اقتراب ميخا من إشعيا. فيبدو أنَّ النبيَّين كانا معاصرَين. قيل في مقدِّمة إشعيا إنَّه تنبَّأ "في أيَّام عزيّا ويوتام وآحاز وحزقيّا" (1: 1). وفي مقدِّمة ميخا نقرأ: "هذه كلمة الربِّ التي كلَّم بها ميخا المورشتيّ في أيَّام يوتام وآحاز وحزقيّا" (1: 1). النبيَّان حكما على الشعب الذي وجب عليه أن يعيش بحسب العهد المقطوع من الربّ، وكلامها سيعلنان الخلاص لا لشعب واحد، بل للبشريَّة كلِّها.
قال إشعيا: "ويكون في الآيات الآتية أن جبل بيت الربِّ يثبت في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال. إليه تتوافد جميع الأمم ويسير شعوب كثيرون. يقولون: لنصعد إلى جبل الربِّ إلى بيتِ إله يعقوب فيعلِّمنا أن نسلك طرقه. فمن صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الربّ" (2: 2-3). هكذا يتحقَّق مشروع الله فيجتمع لديه الشعوب والأمم. لن يعود جبل صهيون محفوظًا لشعب واحد. ولا تبقى أورشليم منغلقة على العالم الوثنيّ. "الجميع" يأتون، لا البعض. أمّا لفظ "كثيرين" فيعني الشعوب الكثيرة وكأنَّه يقول الشعوب بكاملها، بحيث لا يبقى أحدٌ خارج المدينة المقدَّسة التي تتَّسع وتتَّسع وتبقى أبوابها مفتوحة من أربع جهات الكون (رؤ 21: 25).
أما هذا الذي قاله ميخا؟ بلى. وتقريبًا بشكل حرفيّ. ولكن إن قاله إشعيا بالنسبة إلى مملكة يهوذا، فميخا قاله لمملكة إسرائيل التي تشتَّت أهلها، ومضت النخبة منهم إلى المنفى. فالربُّ سوف يجمعهم أيضًا، لا في السامرة المهدَّمة، بل في أورشليم. فيتواصل قول النبيِّين. وها نحن نورد ميخا: "حيث الربُّ يرينا طرقه فنسلك فيها جميعًا. فمن صهيون تخرج الشريعة، من أورشليم كلمة الربّ" (4: 2-3). فالمدينة المقدَّسة شاهدة لطرق الله التي فيها يدعو البشر. وأورشليم تجتذب الشعوب وتعلِّمهم مبادئ العهد. وهنا تأتي المعجزة: لا وجود بعد للسلاح. وأجمل من هذا: يتحوَّل السلاح إلى أدوات الزراعة، وما كان آلة موت يُضحي آلة حياة. "يضربون سيوفهم سككًا (للفلاحة) ورماحهم مناجل (للحصاد) (من 4: 3). وهكذا تستعيد أورشليم اسمها: مملكة السلام. "فلا ترفع أمَّةٌ على أمَّة سيفًا، ولا يتعلَّمون الحرب من بعد".
* * *
هو كلام الرجاء والتمنِّي بالسعادة. ولكنَّ هذا لن يكون قريبًا. لأنَّه إذا كان الربُّ أمينًا لعهده مع شعبه، فالشعب ليس أمينًا لعهده مع إلهه. لهذا وجب على النبيِّ أن يحمل كلمة الربّ، ويقف في وجه العظماء من كهنة وقضاة وأمراء وأنبياء كذبة، بحيث يبدو وحيدًا في هذه الحرب على الفساد. ولكنَّ النبيَّ الصادق لا يتراجع، لأنَّه واعٍ أنَّه يقوم بمهمَّة أوكله بها الربّ، ولأنَّه يعرف أنَّ روح الربِّ يقوده فيبقى واثقًا بأنَّه يستطيع أن يقوم برسالته حتّى النهاية. قال: "أنا ممتلئ بروح الربّ قوَّة وحقًّا واقتدارًا، فأخذت، بمعصية يعقوب بخطيئة بيت إسرائيل" (3: 8). نتذكَّر هنا أنَّ "بيت إسرائيل" و"يعقوب" هما ترادفان، ويدلاَّن على مملكة الشمال بعاصمتها السامرة. وهذا ما يثبِّتنا مرَّة أخرى في فكرتنا، بأنَّ ميخا يشبه عاموس. فكلاهما انطلاقا من يهوذا ومضيا يتنبَّآن في إسرائيل. ميخا مضى من جنوبي بيت لحم، من تقوع. وميخا مضى من الساحل، من مورشت التي تقابل اليوم "تلَّ الجديدة". وسوف نقرأ أيضًا مي 3: 9 فنعرف أنَّنا في مملكة الشمال: "اسمعوا يا رؤساء يعقوب، يا قضاة بيت إسرائيل، يا من تمقتون العدل وتعوِّجون كلَّ استقامة".
تكلَّم ميخا في الأصل إلى السامرة فوصل كلامه إلى أورشليم وكأنَّه تنبيه لها، وإنَّ خطيئة مملكة الشمال هي خطيئة مملكة الجنوب. والعقاب الذي نالته تلك قد يصيب أورشليم. وفي الواقع سوف يصيبها، لا في الحال، بل في سنة 587-586، لا على يد الأشوريِّين، بل على يد البابليِّين ونبوخذ نصَّر (604-562).
هل تُبنى مدينة على الخطيئة والظلم؟ مستحيل. لهذا سقطت السامرة. ولهذا يواصل ميخا كلامه فيجمع في إضمامة واحدة الشمال والجنوب. "وتبنون صهيون بالدماء، مدينة أورشليم بالجور فرؤساؤها يحكمون بالرشوة، وكهنتها يعلِّمون بالأجرة. أنبياؤها يتنبَّأون بالفضَّة ويعتمدون على الربِّ قائلين: الربُّ قائمٌ في وسطنا فلا يحلُّ بنا شرّ. لذلك ستُفلَح صهيون، بسبب أعمالكم، كحقل، فتصير أورشليم خرائب وجبل بيت الربِّ وعرًا" (3: 10-12).
قد يكون بعض عذر للقضاة والرؤساء. أمّا الأنبياء الذين يُدعَون لكي يحملوا كلام الربّ، فصاروا مثل العرَّافين. ولهذا ينتظرهم العقاب الأكبر. هم يكرزون بالحلول السهلة ويدعون الناس لكي يضعون رؤوسهم في الرمال مثل طير النعام. ولكنَّ الخطر آتٍ، بل هو على الأبواب. نالت السامرة نصيبها وسوف تتبعها أختها أورشليم. فهؤلاء الأنبياء والذين يتبعونهم يثرثرون قائلين لي: لا نثرثر هكذا، لا هوان سيلحق بنا. أملعون بيت يعقوب؟ أم الربّ فقد صبره؟ أهكذا تكون أعماله؟ أما أقواله صالحة مع السالك بالاستقامة؟" (2: 5-7).
* * *
ولكن أين هي الاستقامة؟ أهكذا يكون شعب الله؟ أهكذا يتصرَّف المؤمنون مع إخوتهم وأخواتهم؟ قال النبيّ: "ويل للذين يعدُّون العدَّة للإثم وفي مضاجعهم يفتعلون الشرّ! في نور الصباح يصنعونه لأنَّه في متناول أيديهم. يشتهون حقولاً فيغتصبونها وبيوتًا فيستولون عليها. يظلمون الرجل وأهل بيته، والإنسان وما ملكت يداه" (2: 1-2). هوَّة كبيرة بين الأغنياء والفقراء، والربُّ لا يرضى عن هذا الوضع وما فيه من كبرياء وتشامخ ورفع أعناق. فالعقاب يأتي سريعًا، وهؤلاء "الوجهاء" سوف ينخفض رأسهم ويمضون إلى المنفى حفاة، عراة.
"من أجل هذا، هكذا قال الربّ: على هذه الزمرة أمثالكم أعدَّ العدَّة للشرّ، فلا تتمايل أعناقكم ولا تمشون متشامخين. في ذلك الزمن الرديء، حين يجعلونكم مثلاً ويندبونكم ندبًا..." (آ3-4).
ويصوِّر لنا ميخا بصور فاقعة كيف يعمل هؤلاء الظالمون، وما أشبه الأمس باليوم! "اسمعوا، يا رؤساء يعقوب، يا قضاة بيت إسرائيل! أما عليكم أن تعرفوا الحقّ؟ تبغضون الخير وتحبُّون الشرّ، فتنزعون الجلد عن شعبي، وتجرِّدون اللحم عن عظامه. تسلخونه وتأكلون لحمه، وتهشِّمون عظامه تهشيمًا. تمدِّدونه كالشرائح في القدر وكاللحم في وسط المقلاة" (3: 1). أترى الوحوش يتصَّرفون هكذا؟
والأنبياء؟ ويواصل النبيُّ كلامه: "وقال الربُّ على الأنبياء الذين يضلِّلون شعبه وينادون بالسلام، إذا كان لهم ما ينهشونه بأسنانهم، ويفرضون الحرب على من لا يملأ أفواههم" (آ5). غرقوا في الشرِّ فداهمهم الظلام: "يكون ليلكم بلا رؤيا وظلامكم من دون عرافة. فتغرب الشمس على الأنبياء وعليهم يظلم النهار. ويخزى الراؤون ويخجل العرَّافون ويعفُّون جميعًا على أفواههم" (آ6-7). يعتبرون أنَّهم يعرفون، فإذا هم لا يعرفون بعد. النبيّ هو "الرائي" على ما كان صموئيل، وهو يرى بعيني الربّ. أمّا "هؤلاء" فلا يرون ولا يقدرون أن يروا. لهذا، من الأفضل أن لا يتكلَّمون بعد. هم عادة يسألون الله، والله يجيبهم على ما حصل لناتان حين سأله داود حول مشروع بناء الهيكل (2 صم 7: 5). أمّا هنا "فلا جواب لهم من الله". فلا معنى لحياتهم بعد أن انقطعوا عن ينبوع الماء الحيّ، وفضَّلوا المال على الله.
وما حصل للأنبياء حصل للرؤساء والقضاة: استنجدوا بالربِّ فما أعانهم، وحجب وجهه عنهم لسوء أفعالهم (3: 4). أو بالأحرى الشرّ بدا كالعتمة فما عادوا يرون وجه الله. صاروا في شقاء ما بعده شقاء.
* * *
ما هذه القساوة من ميخا! وهي قساوة صارت مضرب مثل، فلبث الناس يتحدَّثون عنها ويتناقلونها في زمن إرميا. يبدو أنَّ الشبه جاء قريبًا بين نبيّ دمار السامرة، ميخا، وبين نبيّ دمار أورشليم، إرميا. كانت الصورة غامضة مع ميخا الذي عزلته "السلطة" بحيث لا يستطيع أحد أن يسمع صوته، وربَّما هُدِّد. أمّا مع إرميا فكانت واضحة.
طلب الربُّ من إرميا أن يقف في دار الهيكل ويعلن كلامه: "إن كنتم لا تسمعون لي ولا تسلكون في شريعتي... فسأفعل بهذا الهيكل كما فعلت بشيلو، وأجعل هذه المدينة لعنة لجميع أمم الأرض" (إر 26: 1-6). تهديد هائل. كلام قاسٍ! من يستطيع سماعه! فجاءت ردَّة الفعل على إرميا "فسمع الكهنة والأنبياء وكلُّ الشعب إرميا يتكلَّم بهذا الكلام في هيكل الربّ... فقالوا له: "موتًا تموت! كيف تنبَّأت باسم الربِّ أن يصير هذا الهيكل كمصير شيلو...؟" (آ7-9).
عندئذٍ "قام شيوخ الشعب وقالوا للحاضرين جميعًا: "في أيَّام حزقيّا، ملك يهوذا، تنبَّأ ميخا المورشتيّ وقال لشعب يهوذا: قال الربُّ القدير: ستُفلَح صهيون كحقل، وتصير أورشليم أطلالاً، وجبل بيت الربِّ تلالاً وعرة. فهل قتله حزقيّا ملك يهوذا أو قتله سكّانها"؟ (إر 26: 17-19).
اعتبر الشرَّاح أنَّ ميخا كان قاسيًا. ولكنَّ الحقيقة هي غير ذلك. فهو يتألَّم لآلام شعبه، كما سيفعل إرميا فيما بعد. كم من مرَّة أراد إرميا أن لا يتكلَّم بعد ويخبر شعبه بما ينتظره من شقاء! ولكنَّه ما استطاع. "فإن قلت: لن أذكر الربَّ ولا أتكلَّم باسمه من بعد، أحسستُ بنار محرقة، محبوسة داخل عظامي. أحاول كبتها ولا أقدر" (إر 20: 9). من قال لكم إنَّ الكلام عن شقاء الربِّ يُفرح النبيّ؟ إذا كان الله لا يريد موت الخاطئ، فالنبيّ الذي هو صوت الله، لا يريد له الموت، بل التوبة. لهذا كان يتألَّم إرميا كلَّ مرَّة "يُفرَض" عليه. "ليت الربَّ قتلني في الرحم حتّى تكون لي أمِّي قبرًا. فتبقى حبلى إلى الأبد! لماذا خرجتُ من الرحم لأرى البؤس والحزن وتفنى أيَّامي في العار" (إر 20: 17-18).
فماذا يفعل النبيّ عندذاك؟ يبكي. "ليت رأسي ملؤه ماء وعينيَّ ينبوع فأبكي نهارًا وليلاً على قتل أبناء شعبي" (8: 23). ذاك ما قال إرميا حين صار ألم الشعب ألمه. ولمّا رأى ما حصل قال: "تبكي نفسي في الخفية على كبريائكم وتُجرى العبرات من عينيَّ وتسيل بالدموع، لأنَّ قطيع الربِّ سيق إلى السبي" (13: 17).
وكما إرميا كذلك ميخا الذي أطلق مرثاته فذكر فيها اثنتي عشرة مدينة على عدد أسباط بني إسرائيل، وكلُّها واقعة على الطريق من الساحل إلى أورشليم، طريق سنحاريب (1: 8-11). "ها أنا أندب وأولول، وأمشي حافيًا عريانًا (علامة الحزن والضيق، كما علامة اليأس). أنتحب كبنات آوى وأنوح كبنات النعام. ضربةُ السامرة لا تُشفى، وارتدَّت فأصابت يهوذا..." (آ8-9). ووجَّه ميخا كلامه إلى المدن متلاعبًا على الكلام. "عفرة". تعفَّري في التراب" (آ10) تمرَّغي في التراب. ضعي الرماد على رأسك. "شافير" "اذرفي العبرات... وأنتِ عريانة بائسة" (آ11).
* * *
صورة مؤلمة يقدِّمها النبيّ، ولكنَّها من الواقع الأليم. سواء ما حلَّ في مدن الساحل، وخصوصًا ما حلَّ بالسامرة، تلك المدينة التي بدت مثل قلعة تحرس ما حولها (من "ش م ر"، حرس، سهر. كما في العربيَّة: سمر. ومن هنا دير شمرا). هي سقطت وسقط ما حولها. ولكنَّ الخراب ليس الكلمة الأخيرة، بل البناء. والموت ليس هدف الله في شعبه، بل الحياة. لهذا، فبين أقوال الدينونة وما تحمل معها من عقاب، يُطلُّ قول خلاص يتحدَّث عن جمع القطيع فلا يبقى مشتَّتًا مبعثرًا في كلِّ مكان.
"سأجمعكم جميعًا، يا بيت يعقوب، وأضمُّ الباقين من بني إسرائيل. وكغنم الحظيرة أجعلهم معًا، وكالقطيع في وسط مرعاه فيأمنون من بني أدوم (أدوم أو عيسو هو خصم يعقوب، وقد يكون الأشوريُّون سمحوا لبني أدوم باجتياح الأرض) (2: 12).. راح كلُّ واحد في طريقه. أو هو اقتيد من دون إرادته. وها هم يجتمعون، لا في السامرة، بل في أورشليم. عنها انفصلوا مع الملك يربعام (1 مل 12: 27ي)، وإليها يعودون بعد السبي. ففي حمى الربِّ يكونون في أمان ولا عدوّ يرعبهم. ولكن كيف يعودون؟ يقول الربُّ بلسان ميخا: "أتقدَّمهم (كما يفعل الراعي) وأصعد (فأعطي إلى أورشليم هو صعود) أمامهم (كما كان في البرِّيَّة، بعمود النار المضيء في الليل، وبالغمام في النهار فيكون ظلاًَّ لهم من حرارة الشمس)، فيتسابقون (كما الأشبال وراء الأسد، كما قال النبيّ هوشع) ويعبرون (نهر الفرات) سريعًا. يغلبون بي، أنا الربُّ إلههم، وهم يعبرون وأنا على رأسهم" (آ13).
مثل ميخا سيقول إرميا (23: 3-7: "أجمع بقيَّة شعبي) وحزقيال (34: 31: "وأنتم يا غنمي...). تداخل الماضي بالمستقبل. فما ترجَّاه تمَّ وها هو يقرأ ما حصل في العودة من السبي على ضوء أقوال ميخا الذي نسمعه أيضًا: "في ذلك اليوم، يقول الربّ، أجمع البعيدين من السبي، وألمُّ المشرَّدين من شعبي وأرعى الباقين منهم. أجعل العرج يمشون والبعيدين أمَّة عظيمة، فيملك الربُّ في جبل صهيون، من الآن وإلى الأبد" (4: 6-7).
هم قلَّة قليلة، لا بأس. هم في وسط الشعوب الكثيرة، لا خوف. كلُّ شعب يسير وراء إلهه ولا يعرف إلى أين يقوده هذا الإله الذي له عينان ولا يرى، وله أذنان ولا يسمع، وله قدمان ولا يقدر أن يمشي بل يُحمل على الأكتاف. أمّا شعب الله فيهتف: "ونسير نحن باسم الربِّ إلهنا إلى آخر الدهر" (4: 5). لا حاجة إلى الخيل ولا إلى المركبات التي ستسقط في النهاية أمام قدرة الله. فهؤلاء العائدون من المنفى يكونون لله في أواخر الأزمنة، حين يتدخَّل الله ويضع حدًّا للظلمة ويجعل نوره يُشرق إشراقًا.
"وتكون بقيَّة يعقوب في وسط شعوب كثيرين كالندى من عند الربّ، كقطرات المطر على العشب" (5: 6). نتخيَّل ما يكون الندى في الصحراء، وكيف يحوِّل المطر الأرض الجافَّة إلى غدير ماء. عندئذٍ "لا ينتظرون شيئًا من أحد ولا يترجَّون أيَّ إنسان". هم في غنى من البشر بعد أن أفاض الربُّ بركاته عليهم.
"وتكون بقيَّة بيت يعقوب (أي مملكة إسرائيل التي دمَّرها الأشوريُّون) في وسط شعوب كثيرين مثل أسد بين بهائم الغاب ومثل شبل بين قطعان الغنم..." (5: 7). من أين جاءتهم القوَّة وهم بدون ملك وبلا رئيس؟ من الله الذي عادوا إليه بعد أن بدا مثل أمٍّ تعاقب أولادها. "ماذا فعلتُ بك، يا شعبي؟ هل كنت عالة عليك؟ (هل أتعبتك؟) أجبني" (6: 3).. ماذا يستطيع الشعب أن يجيب؟ وماذا نستطيع نحن اليوم أن نقول للربِّ حين يذكِّرنا بالخيرات التي أغدقها علينا؟ "أصعدتكم من أرض مصر، افتديتكم من دار العبوديَّة. أرسلتُ أمامكم موسى وهارون أخاه ومريم. ألا تذكرون شعبي؟" (آ4-5). أجل، نذكر.
وما أحلى الشعب يعود فيعلن كما في ليتورجيا: "بماذا أتقدَّم إلى الربّ وأكافئ الله العليّ؟ (آ6). هناك العبادة العاديَّة من تقادم ومحرقات. قال الشعب: "أبمحرقات أتقدَّم إليه (= إلى الله)، بعجول حَوليَّة (عمرها حوْل أو سنة، إذًا رخصة وكأنَّ الربَّ يأكل) مسمَّنة؟ أيرضى بألوف الكباش والكثير من خيار الزيت؟" (آ7). وتذكَّر ما فعل إبراهيم حين راح يقدِّم ابنه إسحاق على الجبل. فواصل كلامه: "أأبذل بكري عن معصيتي، ثمرة بطني عن خطيئتي؟" كلُّ هذا لا ينفع، بل فيه يحاول المؤمنون أن يختبئوا وراء طقوس لا تلزم الإنسان بشيء. على ما قال إشعيا: "هذا الشعب يكرِّمني بشفتيه، وأمّا قلبه فبعيد عنِّي".
وها هو الربُّ يقدِّم شروطه: "أخبرتُك يا إنسان ما هو صالح وما أطلب منك، أنا الربّ: أن تصنع العدل، وتحبَّ الرحمة وتسير بتواضع مع إلهك" (آ8). هو فعل "أ ه ب"، وأحبّ. ثمَّ "ح س د"، اللطف. وبعدها: "تهتمُّ أن تمشي مع إلهك" فهو وحده الطريق التي تقود إلى الحقِّ والحياة.
* * *
وعود حلوة قدَّمها ميخا. ولكنَّ الوعد الأسمى هو عطيَّة المخلِّص. من أين يأتي؟ من حيث أتى داود الذي خلَّص شعبه من اجتياح الأمم المجاورة وأعدَّ السلام الذي سينعم به ابنه سليمان. لهذا، لا بدَّ من العودة إلى بيت لحم. فالسامرة سقطت بيد الأشوريِّين ولا أمل أن يخرج منها "المخلِّص". وأورشليم مهدَّدة. وفي أيِّ حال، لم يكن الملوك الذين خرجوا منها على قدر انتظار الربّ. فيقول سفر الملوك في هذا أو ذاك: "لم يفعل ما هو قويم في نظر الربّ".
فأرسل الله نبيِّه إلى بيت لحم. وارتبطت "أفراتة" بالثمر، فكانت اللقب الشعريّ لبيت لحم، كما قال سفر راعوت (4: 10). لهذا قال اليونانيّ: "بيت لحم، بيت أفراتة". غريب في عين البشر ما يصنعه الله! قرية صغيرة لا يُحسب لها حساب بين عشائر يهوذا، وإليها مضى ميخا، كما مضى قبله صموئيل واختار أصغر الإخوة، اختار داود راعي الغنم، والراعي لم يكن يُرجى منه شيء. وما اختار ألياب البكر الجميل المنظر والطويل القامة" (1 صم 16: 7).
وهكذا مضى النبيُّ إلى بيت لحم التي هي أصغر من أن تستحقّ هذا الشرف الكبير: "يخرج منها لي" (مي 5: 1). الربُّ يتكلَّم. ويريد هذه القرية له، ومنها يخرج من يختاره لكي يقود شعبه. ولو نعرف صفات هذا "الآتي". إنَّه "يكون منذ القديم، منذ أيَّام الأزل".
رأى التقليدان اليهوديّ والمسيحيّ في هذا "الآتي" المسيح الموعود به. وقرأ إنجيل متّى تحقيق هذا الوعد في ميلاد يسوع المسيح، ابن داود. قال: "وأنتِ يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا" (2: 6). غاب لفظ أفراتة ولبثت العبارة: "بيت لحم، أرض يهوذا". وتحوَّل النصّ من الإيجابيّ إلى السلبيّ: "أنت الصغرى" قال النصّ العبريّ. فقال متَّى: "لستِ الصغرى". لم تعودي صغيرة. والسبب؟ لأنَّ منك يخرج مدبِّر يرعى شعبي إسرائيل".
فالشعب ينتظر "حين تلد الوالدة"، مريم العذراء، أمَّ المسيح المختارة. يأتي هذا "المدبِّر" ويعيد البقيَّة إلى الأرض. "يقف ويرعى شعبه بعزَّة الربِّ إلهه وبجاه اسم الربّ، لأنَّ عظمته ستمتدُّ إلى أقاصي الأرض ويكون سلامه سلامًا (حقيقيًّا)" (آ3-4).
وتنتهي الليتورجيّا وصلاة الجماعة بكلام يدلُّ على لطف الله تجاه شعبه: "ارعَ شعبك بعصاك، شعبك غنم ميراثك، الساكنين وحدهم في الوعر، في وسط جبل الكرمل. ارعهم في باشان وجلعاد، كما في الأيَّام القديمة" (7: 14). هل يستحقُّ الشعب مثل هذا الخلاص والرعاية؟ كلاَّ. لهذا تهتف إليه الجماعة: "لأنَّك يا ربّ تحبُّ الرحمة ولا تحفظ إلى الأبد غضبك. الربُّ يرجع ويرحمنا، ويستر لنا ذنوبنا وفي أعماق البحر يطرح جميع خطايانا" (آ18-19).
الخاتمة
هذا هو النبيّ ميخا وهذه نبوءته. جمعها تلاميذه بعد موته، وقرأوها على ضوء الأحداث التي حصلت فيما بعد: سقوط السامرة سنة 722-721. سقوط أورشليم سنة 587-586. كارثتان جعلتا الشعب يفقد الأمل. ماذا يمكن أن ينتظروا بعد؟ لا الانتظار البشريّ. السامرة سقطت، ثمَّ أورشليم. والسلاح الذي استعمله المجتاحون لم يعد ينفع، لأنَّ الربَّ يحوِّله إلى أداة للفلاحة والزراعة والحصاد. والعودة إلى الوراء، إلى خروج الشعب من مصر؟ صارت بعيدة. فلا بدَّ من التطلُّع إلى الأمام. والجواب لا يكون في العهد القديم، بل في العهد الجديد، مع يسوع المسيح الذي وُلد في بيت لحم، في أيَّام هيرودس ملك اليهوديَّة. فهو وحده الراعي الذي يعرف أن يجمع شعبه، كما جميع الشعوب ليكونوا واحدًا، بعد أن أراد الآب أن "يجعل في المسيح كلَّ شيء في السماوات وعلى الأرض" (أف 1: 10). وعد ميخا ونظر إلى البعيد فجاء يسوع يحقِّق آمال الشعوب من قريبين وبعيدين بحيث يكون "لنا جميعًا الوصول إلى الآب في الروح الواحد" (أف 2: 17-18).