الفصل الحادي عشر :سفر القضاة ،أو عمل الروح فـي الجماعة

(الرعيَّة، آذار 2012)

سفر القضاة أو عمل الروح في الجماعة

الخوري بولس الفغالي

غريبٌ سفر القضاة لمن لا يعرف أن يقرأ الكتاب المقدَّس.

غريبٌ في أرقام الجنود والقتلى التي لا يصدِّقها عقل. كانت القبائل تعيسة. ولكن حين قتل أهود، أحد القضاة، الملك، نفخ في البوق، فقتل بنو إسرائيل عشرة آلاف من الموآبيِّين "ولم يُفلت منهم أحد" (3: 29). أمّا شمجر فقتل ستّ مئة رجل بمنخس (آ31). هل هذا معقول إذا قرأنا النصّ قراءة حرفيَّة؟ كلاَّ. جيش باراق، رفيق دبُّورة، هو عشرة آلاف. وتجاهه العدوّ: 900 مركبة وعلى رأسهم سيسرا الذي "قُتل جميع عسكره بحدِّ السيف" (4: 15). أمّا جدعون فجمع في الأصل 32،000 جنديّ. وفي النهاية صاروا ثلاثمئة. هذا هو الرقم المعقول. ولكنَّ "القائد بدأ يصرفهم". أوَّلاً رجع اثنان وعشرون ألفًا وبقي معه عشرة آلاف. هل نعرف أنَّ جيش مصر أكبر إمبراطوريّات الشرق، كان يَعدُّ حوالي عشرين ألفًا!

غريبٌ في عدد السنوات التي تفصل "مخلِّصًا" عن آخر. بعد عتنئيل: أربعون سنة (3: 11) بعد أهود: ثمانون سنة (3: 30). بعد دبورة وباراق: أربعون سنة (5: 31). هو جيل أو جيلان، والجيل أربعون سنة، أو نصف جيل (20 سنة).

غريب سفر القضاة، وما اهتمَّ أحدٌ بممارسة القضاء وإعلان الأحكام سوى دبُّورة التي كانت تجلس تحت نخلة تسمَّت باسمها في الرامة القريبة من أورشليم.

غريب ماذا يفعل الروح بهؤلاء "المختارين" لخلاص شعبهم. نتذكَّر فقط شمشون: بفكِّ حمار قتل ألف رجل. أو سُجن في غزَّة، فحمل مصراعَي الباب اللذين يزنان مئات الكيلوغرامات وراح إلى حبرون التي تبعد عن غزَّة قرابة سبعين كلم.

بعد الردِّ على التساؤلات، نتوقَّف عند هذه الوجوه التي دعاها الربُّ فحملت الخلاص إلى فلاّحين يريدون أن يعيشوا بأمان. وننهي كلامنا فنعرف ما حصل للجماعات حين غاب الروح.

  1. ردٌّ على التساؤلات

ونبدأ باسم هذا السفر الإلهيّ: القضاة. ونعود إلى القاموس العربيّ مع فعل "قضى": أتمَّ الأمر، دبَّره. صنعه بإحكام. "القاضي" في سفر القضاة هو "مدبِّر" الشعب أو قبيلة من القبائل، وخصوصًا حين يُطلُّ الخطر. ذاك ما فعله جدعون. والفعل العبريّ "ش ف ط" يعني "حكم" في المحكمة بشكل قاضٍ، وحكم في البلاد كما يفعل الملك. هو الحاكم. وهكذا نراه يتصرَّف ولو كان قاسيًا مع بعض الفئات. ذاك ما حصل بين يفتاح ورجال أفرائيم الذين قالوا "للقاضي": لماذا ذهبتَ لمحاربة بني عمُّون وما دعوتَنا لنذهب معك؟" (12: 1). ونال بنو أفرائيم العقاب، وهو رقم مضخَّم جدًّا: "اثنان وأربعون ألفًا" (آ6).

إذًا "القاضي" هنا هو الحاكم كما كان الأمر في صور وفي قرطاجة وفي مدن فينيقية أخرى زُرعَت على شواطئ البحر الأبيض المتوسِّط. نقرأ في سفر القضاة أكثر من مرَّة: "فأقام الربُّ عليهم قضاة فخلَّصوهم" (2: 16). وفي آ18: " فلمّا أقام الربُّ عليهم قضاة كان الربُّ القاضي، الذي كان يخلِّصهم من أيدي معاديهم طول أيَّامه".

في الحقيقة، العمل الأصليّ لهؤلاء القضاة هو حمل الخلاص إلى الناس. لهذا، كما قيل عن "القضاة" قيل عن "مخلِّص". نقرأ في 3: 9: "صرخوا إلى الربِّ فأقام لهم مخلِّصًا فخلَّصهم". ونقرأ العبارة عينها في آ15. وإذا كان الموصوف (= مخلِّص) يرد مرَّتين فقط، فالفعل يرد مرَّات عديدة بالنسبة إلى جدعون مثلاً. التفت إليه الربّ: "أنا الذي أرسلك. فاذهبْ بقوَّتك هذه وخلِّصْ بني إسرائيل من قبضة مديان". فقال له جدعون: "ناشدتك، يا سيِّدي، بماذا أخلِّص بني إسرائيل...؟" (6: 14-15). أجل، القاضي هو إنسان يختاره الله ويرسله لكي يخلِّص شعبه.

أعلن جدعون أنَّ قبيلته ضعيفة وهو الصغير في بيت أبيه، فكيف يستطيع أن يقوم بالمهمَّة؟ أجابه الربّ: "أنا معك" (آ16). وكيف تتجلَّى قوَّة الله؟ بواسطة روحه. قيل عن أحد القضاة واسمه عتنيئيل إنَّه أُرسل كمخلِّص. فما الذي حصل له لكي يتحوَّل هذا الإنسان العاديّ إلى ما يريد منه الله؟ "وحلَّ روح الربِّ عليه، فتولَّى القضاء لبني إسرائيل وخرج للحرب فسلَّم الربُّ إلى يده... ملك أدوم وتغلَّب عليه" (3: 10). وجدعون ذاك الخائف الذي يحاول التهرُّب "حلَّ روح الربِّ عليه فنفخ في البوق فخرج أهل أبيعزر وتبعوه" (6: 34). وهذا الروح حلَّ على يفتاح فصار رجلاً آخر (11: 29). كما حلَّ على شمشون فأعطاه قوَّة غير عاديَّة. ولكن لمّا "تركه" الروح حين خان عهده مع الربّ، صار ضعيفًا جدًّا، تحرِّكه دليلة مثل قطعة قماش.

أمرٌ مهمّ جدًّا أن يفهم "القاضي" أنَّ الخلاص يتمُّ بيد الله، لا بقوَّة البشر، ولا بعدد المحاربين. جمع جدعون اثنين وثلاثين ألف مقاتل. قال له الربّ: ما هذا العدد؟ سيفتخر بنو إسرائيل ويقولون: "أيدينا خلَّصتنا" (7: 2). وهكذا صار المقاتلون مع جدعون ثلاثمئة مقاتل. أبهذا العدد ينتصر هذا "المزارع" الذي التقاه ملاك الربّ وهو "يدوس سنابل القمح في المعصرة (لا على البيدر) خوفًا من المديانيِّين؟" (6: 11). لبث متردِّدًا لاسيَّما وأنَّ العدوَّ كان "بكثرة الجراد"، وجمالهم "كالرمل على شاطئ البحر" (7: 12). تسلَّل فسمع من يقول: "الله دفع إلى يد (جدعون) بني مديان وكلَّ المعسكر" (آ14).

هو خبر ملحميّ مع أعداد تتكاثر. والمجد لا يكون للإنسان، بل لله. وسوف نرى أنَّ رجال جدعون لم يحاربوا، "نفخوا في الأبواق وكسروا الجرار" (آ20). والأعداء أخذوا يقتتلون "فيطعن الواحد رفيقه بالسيف" (آ22). أمّا النداء فكان "حرب لأجل الربّ وجدعون" (آ20).

في مثل هذا الفنِّ الأدبيّ، لا نتوقَّف عند الجيوش التي كانت في الحقيقة بضع مئات، كما نعرف في تاريخ العرب، حيث الحرب تترك قتيلاً أو قتيلين. ولنا في الكتاب المقدَّس نفسه صورة عن هذا الوضع في مبارزة داود وجليات (1 صم 17). فحين صرع داود جليات هرب الفلسطيُّون واختبأوا في مدنهم (آ52).

فسفر القضاة ليس كتاب حرب، لكنَّ كتابًا دينيًّا، يريد أن يُفهم الشعب أهمِّيَّة الأمانة له. فبُني الكتاب كلُّه حول أربع ألفاظ: خيانة، تعاسة، ثمَّ ندامة، خلاص. ونحن نقرأ هذه الروحانيَّة في الفصل الثاني: "ففعل بنو إسرائيل الشرَّ في عيني الربّ، وعبدوا البعل، وتركوا الربَّ إلهَ آبائهم" (آ11-12). تلك هي المرحلة الأولى. ماذا فعل لهم البعل؟ لا شيء مع أنَّهم اعتبروا أنَّه يعطيهم المطر والخصب وكثرة المواليد. يا لتعاسة هذا الشعب الذين "أغاظوا الربّ، تركوه وعبدوا البعل وعشتاروت" (آ12-13). ماذا كانت ردَّة فعل الربّ: "غضب" وغضبه ألم لأنَّ أولاده ماضون إلى الهلاك. مثل الولد الذي يترك البيت خلال الليل. فماذا تكون آخرته؟ مثل الخروف الذي يترك الحظيرة ويمضي إلى الغابة. ماذا ينتظره هناك؟ الذئب بلا شكّ. هذا هو "غضب" الربّ. وسيقول مرَّة من المرَّات: "ماذا فعلتُ بكم، يا شعبي؟ هل كنتُ عالةً عليكم؟ أجيبوا" (مي 6: 3). هو عتاب وحزن. "اسمعوا، يا شعبي..." (مز 81: 9). وما كانت النتيجة؟ "ولكنَّ شعبي لم يسمعوا" (آ12). ويتأوَّه الربُّ مثل أب غادره ابنه إلى البعيد: "لو سمع لي شعبي! لو سلك بنو إسرائيل في طرقي!" (آ14). وفي أيِّ حال، هو لا يتركهم. بل يمضي في إثرهم كالراعي الذي أضاع بعض غنمه. ذاك هو "غضب" الربّ.

ولكن كيف عرف الشعب أنَّ الربَّ غاضب؟ لأنَّ أعمال السلب والنهب حلَّت بالبلاد. فالشرق معروف منذ القديم وهو لم يتغيَّر كثيرًا. ولكنَّ طريقة الكلام التي بها يعيدون كلَّ شيء إلى الربّ، تجعل المؤمن يضيِّع وجه الله ويشوِّهه. قالوا: "سلَّمهم إلى أيدي الناهبين" (2: 14). "باعهم". ومن هو الذي باعهم؟ الله. من يصدِّق أنَّ الله يبيع شعبه؟! هي فكرة لا تزال حاضرة إلى اليوم: الله أعطاني المرض. الله أخذ لي ابني. الله جعلني أخسر أموالي... والكلمة القاسية: لم تكن يد الله معهم، بل كانت "عليهم" بسبب شرِّهم، لهذا "تضايقوا جدًّا" (آ15).

وكانت المرحلة التالية: صرخوا إلى الربِّ فأرسل الربُّ لهم من يخلِّصهم. نقرأ في آ16: "فأقام الربُّ عليهم قضاة فخلَّصوهم من أيدي الناهبين". هو الربُّ يشفق. يسمع صراخ المتألِّمين. ولكن ما إن يبتعد الخطر حتّى يعود الشعب إلى الآلهة الكاذبة، فيسجد لها ويحيد عن الطريق التي سلكها آباؤهم على طاعة وصايا الربّ" (آ17).

هنا نفهم أنَّ سفر القضاة ليس كتاب الحرب بالدرجة الأولى، ولا خبر السلاح، وهؤلاء الآتون من البرِّيَّة، لا سلاح لهم سوى العصا أو السكِّين أو ما أشبه ذلك. فالحرب روحيَّة على ما يوصلنا إليه بولس الرسول في كلامه إلى أفسس: "لذلك احملوا سلاح الله الكامل لتقدروا أن تقاوموا في يوم الشرّ... البسوا درع الاستقامة... احملوا الإيمان ترسًا..,. البسوا خوذة الخلاص، وتقلَّدوا سيف الروح الذي هو كلام الله" (6: 13-17). فالأعداء ليسوا من لحم ودم، والله لا أعداء له يحاربهم. فجميع البشر مولودون على صورته ومثاله. كلُّهم أولاده وهو لا يعرف محاباة الوجوه.

هنا نقرأ ما قال أوريجان: "لنحذر حذرًا: ما ورد عن بني إسرائيل يمكن أن يكون صحيحًا عنّا... فكلَّ مرَّة نقترف الخطيئة، نصبح عبيدًا تحت شريعة الخطيئة، ونحني ركبنا أمام البعل. فنحن ما دُعينا إلى هذا، ولا آمنّا من أجل هذا: أن نكون من جديد عبيدَ الخطيئة، وأن نركع أيضًا أمام إبليس. فنحن دُعينا لنحني ركبنا باسم الربِّ يسوع الذي أمامه تنحني كلُّ ركبة في السماء والأرض...". ويقدِّم لنا أوريجان أيضًا "صفات المقاتل" فيقول: "اجتمع جمهور كبير على بني إسرائيل، نحسبه اجتياح الجراد... فكيف يستطيعون أن يغلبوا جيش العدوِّ الكثير جدًّا. لنتفحَّص هذا، قال النصّ: مع جدعون خرج اثنان وثلاثون ألف مقاتل، ليحاربوا هؤلاء الأعداء الذين لا يُحصَون. ولكنَّ الله توجَّه إلى جدعون: رفاقك عديدون جدًّا. لماذا؟ هل هذا ضرر بأن يكون عدوُّنا كبيرًا؟ في الحرب، أما يقدِّم الجيش الغفير اطمئنانًا أكثر؟ قال الله: كلاَّ. لأنَّنا لسنا هنا أمام قتال بشريّ. فالحروب الإلهيَّة لا تكون مثل الحروب البشريَّة. وعمل القدرة العلويَّة لا يكون واضحًا إذا استند إلى وسائل بشريَّة...

  1. بعض الوجوه في سفر القضاة

تحدَّث سفر القضاة عن اثني عشر "قاضيًا"، على أحد أسباط إسرائيل الاثني عشر. أمّا نحن فنتوقَّف عند ثلاثة منهم ونستخلص العبرة الروحيَّة، لأنَّ هذا ما يهمُّ الكتاب المقدَّس. أمّا لغة الحرب فهي أسلوب بشريّ يعود إلى العالم القديم ليكتشف فيه المؤمن العائش بعد زمن المنفى حيث غاب الأمان من أرض الربّ، أهمِّيَّة مخلِّصين. ونحن من خلال هؤلاء الأشخاص الذين امتزجت عندهم الفضائل مع الشرّ والشجاعة مع الخطيئة، نتطلَّع إلى المخلِّص الذي انتظرته البشريَّة وتنتظره كلَّ يوم وتنشد له: "يا مخلِّص خلِّصنا".

أ‌.       جدعون

ودعا الربُّ جدعون. كان مختبئًا يدوس سنابل الحنطة، لا على البيدر، بل في المعصرة. جاءه الربّ. ما كان ينتظر أبدًا مثل هذه الدعوة: "عشيرتي أضعف عشيرة في قبيلة منسَّى، وأنا الأصغر في بيت أبي" (6: 15). هذا لا يهمّ؟ وإن كان جدعون الأصغر، فداود أيضًا كان أصغر إخوته. فأتوا به من وراء الغنم. وجدعون صار "الجبّار" بعد أن قيل له: "الربُّ معك" (آ12). وتكرَّر القول من قبل الربّ: "أنا أكون معك وستضرب..." (آ15). الله معك، يا جدعون وأنت تتردَّد. ثمَّ أنت لا تنطلق وكأنَّ المشروع مشروعك. هو مشروع الربّ: "أنا الذي أرسلك، فاذهب بقوَّتك هذه (الجديدة) وخلِّص بني إسرائيل من قبضة بني مديان" (آ13).

أهذا أمرٌ حقيقيّ؟ ما هذا الكلام يصل إلى جدعون في قلب اليأس. طرح جدعون سؤالاً أوَّل: "إن كان الربُّ معنا، فلماذا أصابنا ما أصابنا؟" أين معجزاته منذ الخروج من مصر؟ ها هي النتيجة التي تراها: نحن في قبضة مديان، تلك القبائل الآتية من عند خليج العقبة. أهكذا يكون الله معنا؟ ما أن نحصد حصادنا حتّى يأتوا ويأخذوا تعب السنة كلِّها. هدَّأ الربُّ من روْع هذا الشابَّ الممتلئ حياة، ولكن جاء السؤال الثاني: "بما أخلِّص بني إسرائيل؟" ما هي الوسائل التي في يدي؟ أين الرجال؟ أين السلاح؟ مسكين جدعون! حسب أنَّه سينتصر بكثرة الرجال: عشرات الآلاف. ابتسم الربّ. لماذا هؤلاء كلُّهم؟ "أنا معك!" هل فهمتَ.

من يكلِّم جدعون؟ هل هي أضغاب أحلام؟ وها هو الشرط الأوَّل: إذا كان الله حاضرًا، فهو يدلُّ على حضوره في ما يدلُّ بواسطة النار. وضع جدعون التقدمة على الصخرة "فمدَّ ملاك الربِّ طرف العصا التي بيده ومسَّ اللحم والفطير، فصعدت النار من الصخرة وأكلت اللحم والفطير" (آ21). نلاحظ هنا: تارة يقول الربّ، وطورًا: ملاك الربّ. فالإنسان لا يعرف أن يتكلَّم حين يكون في حضرة الله، فيخاف أن يموت إن هو نظر إلى الله، تلك النار المحرقة. المهمّ أنَّ الله حاضر هنا وهو يدعو جدعون ليقوم بمهمَّة خلاص من أجل شعبه.

*  *  *

وكان أوَّلَ عمل قام به، وذلك قبل الحرب، هو هدم مذبح البعل وقطع الشجرة المقدَّسة التي ترمز إلى الإلاهة عشتروت. وقدَّم ثورين. ولكنَّه لم يجسر أن يفعل ذلك نهارًا ففعله ليلاً. في الصباح، عرف "رجال المدينة" أنَّ جدعون فعل ذلك، فطلبوا من والده أن يسلِّمه إليهم. فأجابهم: "أتدافعون عن البعل وتنجدونه؟... إن كان البعلُ إلهًا، فلينتقم لنفسه ممَّن هدم مذبحه" (6: 31).

اندفاع رائع من قبل هذا الذي دعاه الربّ. قال الناس الذين كانوا حول إيليّا: "الربُّ هو الإله، الربُّ هو الإله". أمّا قبيلة منسَّى فاهتمَّت بالبعل أكثر من "مخلِّصهم"، وتعلَّقت "بالشجرة المقدَّسة" التي لها عيون وتنظر إليهم! بعل هو السيِّد! الويل لمن يمسُّ "السيِّد" والمتسلِّط فيها. فهو يُقتل. فالناس في أيَّامنا يطلبون "أصنامًا" يركعون أمامها، يعبدونها، يمسحون الأرض بجباههم قربها. وعشتاروت تمثِّل عالم الزنى. ومن أجلها نضحِّي بكلِّ شيء. وبعد ذلك، نبحث عن "مخلِّص" بل عن "فرعون" مستبدّ نعمل لأجله ونضحِّي بحياتنا له.

تحرَّر جدعون فحمل الحرِّيَّة إلى شعبه. قيل: "حلَّ روح الربِّ على جدعون". دعا الناس فصاروا أحرارًا ومشوا معه. من أربع قبائل: منسَّى، أشير، زبولون، نفتالي. فشابه موسى حين قاد شعبه من مصر. أمّا الحرب فتبدَّلت وجهتها وتوسَّعت: مديان، عماليق، أهل الصحراء. "عبروا الأردنَّ وخيَّموا في وادي يزرعيل" (آ33). هي أرض الربّ. جاء هؤلاء ومعهم آلهتهم وأصنامهم. هل يخضع لهم شعب الربّ. هنا نفهم المعنى الروحيّ للحرب، لا المعنى المادّيّ. وإذ يمضي جدعون إلى الحرب يطلب منه علامة: "ها أنا واضع جزَّة صوف على البيدر، فإذا سقط الندى على الجزَّة وحدها وكان على الأرض حولها جفاف، علمتَ أنَّك مخلِّص بني إسرائيل على يدي" (آ37). وكان له ما أراد: "خرج الماء ملء سطل" (آ38). وفي الغد طلب علامة معاكسة: جفاف على الجزَّة وندى على الأرض. عندئذٍ عرف جدعون أنَّه منتصر لا محالة.

ولكن بعد الانتصار، كان رجوع إلى الوراء. كأنِّي بجدعون حنَّ من جديد إلى عبادة الأوثان، هو والذين معه: "يعطيني كلُّ واحد الخواتم التي غنمها" (8: 24). كانت كمِّيَّة كبيرة من الذهب. "فصنع جدعون من ذلك صنمًا ووضعه في مدينة عفرة، فخاف الربَّ كلُّ بني إسرائيل" (آ37).

ولم تتوقَّف الخيانة هنا. فحين يترك الإنسانُ الربَّ الإله، سيأتي وقت يصبُّ غضبه على إخوته ذاك ما حصل لجدعون بعد أن عيَّره أهل سكوت وشيوخها ورفضوا أن يعينوه: "قبض على شيوخ المدينة وعاقبهم بأشواك البرِّيَّة والمندارج". ثمَّ "هدم برج فنوئيل وقتل رجال المدينة" (8: 13-21). اعتبر جدعون نفسه أنَّه انتصر بيده وأنَّه صار السيِّد المطلق، فانتقم الانتقام المريع. كم اختلف عن شاول بعد انتصاره على بني عمُّون تجاه الذين رفضوا أن يملك عليهم: "لا يُقتَل أحدٌ في هذا اليوم، لأنَّ فيه خلَّص الربُّ بني إسرائيل" (1 صم 11: 13).

ويا ليت القتل توقَّف عند جدعون، فهو وصل إلى ابنه أبيمالك الذي قتل إخوته السبعين على صخرة واحدة، ولم يسلم سوى واحد وهو يوتام (قض 9: 5). هل روح الربِّ هو من يوجِّه الذين اختارهم الله، أم روح الشرّ؟

ب‌.   يفتاح

وكما انتصر جدعون، كذلك انتصر يفتاح. فهذا الرجل الجبّار نبذته قبيلته لأنَّه "ابن امرأة غريبة" (11: 2). ولكن عند الحاجة عادوا إليه. "كن لنا قائدًا". ووضع شروجطه بأن يكون رئيسًا عليهم. فكأنِّي به يواصل مسيرة أبيمالك الذي قتل إخوته ليكون وحده الملك. أهذا هو "المخلِّص" الذي يدعوه الله، ليقضي في شعبه ويتدبَّر أمورهم؟ يبدو أنَّه جاء ليتدبَّر أموره الخاصَّة.

وحلَّ روح الربِّ على هذا "القائد" فانتصر انتصارًا كبيرًا. وكان التخضيم أيضًا وأيضًا ضرب عشرين مدينة وانهزم الأعداء. ولكن من نصره؟ جعل اسم الربّ الإله؟ يبدو أنَّ البعل هو الذي نصره. ولهذا أراد أن يذبح ابنته شكرًا لهذا الإله! لا صبيّ له يذبحه من أجل النصر كما فعل ميشع حين أخذ ابنه البكر وقدَّمه محرقة على السور لإله موآب" (2 مل 3: 27). ماذا يفعل؟ نذر نذرًا: "أوَّل من يخرج من بيتي حين رجوعي سالمًا من عند بني عمُّون، يكون للربِّ وأصعده محرقة" (11: 31). وهكذا عاد يفتاح إلى ممارسات الذين مضى ليحاربهم. وكما حصل مع جدعون حصل مع هذا "القاضي" الآخر، فحارب رجالُه رجل بني أفرائيم. فعلاً هو الخلاص من إخوتنا! هل يُعطى لنا روحُ الربِّ لنترك الربَّ ونقيم القتال فيما بيننا، أم هو الذي يرسل إلينا لكي يوحِّدنا في طريق الخير؟ صفحة بشعة أخرى، بل صفحات. وعزُّوا السبب: "في تلك الأيَّام، لم يكن لبني إسرائيل ملك، فكان كلُّ واحد منهم يعمل على هواه" (قض 21: 25).

ج. شمشون

وهذا ما حصل لشمشون. ذاك "القاضي" الآتي من قبيلة دان، والذي ارتبط اسمه بالشمس. كرَّسه والداه للربِّ منذ الحبل به والطفولة. وكانت علامة التكريس أنَّ شعره لا يُقصُّ "لأنَّه يكون نذيرًا لله من بطن أمِّه" (13: 5). والمهمَّة المعطاة له: "خلاص بني إسرائل من أيدي الفلسطيِّين"، وهي قبائل أتت من الجزر اليونانيَّة. وبعد أن هاجمت مصر ثمَّ تراجعت، أقامت في خمس مدن ساحليَّة هي: غزَّة، عسقلان، أشدود، جتّ (أو: تلّ الصافي) وعقرون (أو: خربة المقنَّع).

ولكنَّ هذا الذي حلَّ روح الربِّ عليه، وأعطاه قوَّة ما بعدها قوَّة، أراد أن يعمل على هواه. فراح يبحث عن زوجة عند الفلسطيِّين. نبَّهه والداه، ولكنَّه لم ينتبه. قدَّم للشباب هناك لغزًا، فخدعته امرأته وقدَّمت الحلَّ بعد أن "بكت لديه سبعة أيَّام... وضايقته كثيرًا".

مسكين شمشون! هو ممزَّق بين الطاعة للربّ والعمل بمشيئته، وبين ملاحقة النساء في فلسطية. الأولى، أُخذَتْ منه وأُعطيَتْ لآخر بعد أن خدعته. والثانية هي بغيّ أطال الوقت عندها فأُغلقت عليه أبواب المدينة. والثالثة كانت دليلة التي استطاعت أن تدخل في سرِّه. فهذا الرجل متَّحد بالربّ. أمّا الشعر الذي لم يُقصّ فيرمز إلى "عهد" بينه وبين الربّ. لهذا لا يستطيع أحدٌ أن يغلبه. ولكنَّه أفشى سرَّه وقُصَّ شعره فصار موضوع هزء بين يدي دليلة (16: 19). وأتى الفلسطيُّون وفقأوا عينيه، وقيَّدوه بسلسلتين من نحاس، وجعلوه يطحن في سجن (آ21). تلك كانت آخرة من خان الربَّ. تلك كانت آخرة من أراد العيش على هواه ونسيَ المهمَّة التي كلِّف بها. وما أشبه اليوم بالأمس! وكم من أشخاص يُدعَون للقيام بعمل من أجل إخوتهم، فيعملون من أجل نفوسهم ونزواتهم ورغباتهم الدنيئة وتنتهي بهم الأمور إلى الهاوية. كما حصل لشمشون الذي أُعدَّ لرسالة رفيعة: أن يخلِّص شعبه من الضيق والاستبداد، فإذا هو يزيد له ضيقًا فوق ضيق.

  1. وغاب روح الربّ

سفر القضاة هو كتاب نرى فيه الروح عاملاً في قلب الشعب من أجل عمل الخلاص. هو يشبه إلى حدٍّ بعيد سفر أعمال الرسل في العهد الجديد. جاء بعد سفر يشوع، ولكن كان الفرق شاسعًا بين سفر القضاة وسفر يشوع. هنا نجد شعبًا يؤدِّي الشكر لله لأنَّه دخل في أرض الموعد، وجدَّد باندفاع فريد عهده مع الله، واستعدَّ لأن يعبده. قال لهم يشوع: "أنتم شهود على أنفسكم أنَّكم اخترتم الربَّ لتعبدوه". فقالوا: "نحن شهود" (يش 24: 22). وبعد أن نزعوا الآلهة الغريبة هتفوا: "الربَّ إلهنا نعبد ولصوته نسمع" (آ24). أمّا في سفر القضاة فنعود إلى البداية. لا شكَّ في أنَّ الأرض أُعطيَتْ من قبل الله، ولكن يبقى على الشعب أن يكون أهلاً لكي يقيم فيها، أن يتجنَّب هجمات الغرباء، أن يبتعد عن آلهة الأمم وعباداتها، أن يعطي لنفسه حكّامًا يوجِّهونه باسم الربّ.

وكما الربُّ يسوع لم يترك رسله الاثني عشر، بل أعطاهم روحه ليكون معهم، كذلك أعطى الله روحه إلى القضاة الاثني عشر لكي يرافقهم في المهمَّة الموكلة إليهم. في سفر الأعمال، كان الروح القدس هو الموجِّه والقائد في الجماعة، فسمعوا له وأوصلوا البشارة إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8). أمّا في سفر القضاة، فهذا الروح الذي كان حاضرًا فأعطى القوَّة لهؤلاء "القضاة" والفهم للمؤمنين ليمتنعوا عن كلِّ ما هو شرٌّ في عينَي الربّ. هم لا يعرفون أن يحكموا نفوسهم ولا يريدون أن يتعلَّموا. جُعلَتْ أمامهم طريق الحياة وطريق الموت، فتركوا طريق الحياة وأخذوا بطريق الموت. من يدلُّهم على الطريق القويم؟ الربُّ وحده. ولكنَّهم مرارًا لم يسمعوا له. فالبعل هو السيِّد الذي يجعلهم يسودون على إخوتهم، كما يجعل الصغار عبيدًا للكبار. وعشتاروت تفتح أمامهم طريق الزنى والبحث عن الملذَّات. فلماذا يختارون إلهًا يحسبونه "بعيدًا"، إلهًا قاسيًا يمنعهم من العيش بحسب نزواتهم. القاضي هو هنا فيعودون إلى الربِّ ويلتزمون بوصاياه. يموت القاضي فيعودون إلى آلهتهم وأصنامهم، وبالتالي إلى عبوديَّة الشعوب المجاورة.

كانت البداية رائعة مع "دبُّورة النبيَّة" (4: 2) التي بدأت فمارست القضاء. "وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم" (آ5). وكانوا يثقون بها. بل إنَّ الشخص الذي دعته باسم الربّ وقالت له: "الربُّ إله إسرائيل أمرك..." (آ6)، قال لها: "إذا أنت ذهبتِ معي أنا أذهب، وإلاَّ كلاَّ" (آ8). وكان الخلاص للشعب، وأناشيد الفرح بفم هذه المرأة: "واستراحت الأرض أربعين سنة من الحروب" (5: 31). لا نَقُل أين الرجال، أين الأبطال؟ فالله يستفيد من الذين يختارهم. استفاد هنا من دبُّورة ومن ياعيل زوجة جابر القينيّ (4: 17). أمّا باراق الذي  دعته دبُّورة "فلم يكن له فخر في هذه المهمَّة" (4: 9).

ولكنَّ النهاية راحت من سيِّئ إلى أسوأ. جدعون رجع إلى عبادة أصنامه. يفتاح ذبح ابنته فتصرَّف مثل الشعوب التي تحيط بأرض الربّ، مع أنَّ الله منع إبراهيم: "لا تمدَّ يدك إلى الصبيّ ولا تفعل به شيئًا" (تك 22: 12). أمّا شمشون فانتهت به الأمور إلى سوء الأحوال ويا ليت الأمور لم تتطوَّر. فنهاية سفر القضاة مأساويَّة. حقًّا، هرب روح الله من بين الشعب "لأنَّهم قساة الرقاب"، لأنَّهم لا يريدون أن يسمعوا.

فالحدث الأوَّل يرينا لاويًّا يجعله أحد التجّار الأغنياء "مشيرًا وكاهنًا" (17: 10) والحدث الثاني، جاء بعض قبيلة دان فأخذوا ذاك اللاويّ مع "الأصنام" واحتلُّوا مدينة لائيش الآمنة، وقتلوا أهلها. أمّا الحدث الثالث وهو الأفظع فعنوانه: جريمة بنيامين في جبعة. هنا اندلعت الحرب، فكادت تفني قبيلة من القبائل. جاءت الأرقام مضخَّمة جدًّا، للدلالة على الشرِّ الذي حلَّ بالبلاد، وللإشارة إلى أنَّ الحرب لم تعد حرب الله بل حرب البشر. لم تعد الحرب على الأصنام، بل على الإخوة والأخوات. ويأتي التضخيم: رجال بني إسرائيل هم أربعمئة ألف، كلُّهم رجال حرب" (20: 17). جنود بنيامين: ستَّة وعشرين ألف مقاتل. في اليوم الأوَّل، سقط من بني إسرائيل ستَّة وعشرون ألف. وفي اليوم الثاني، ثمانية عشر ألف. عندئذٍ مضى بنو إسرائيل إلى بيت إيل وبكوا... نلاحظ أنَّ الحرب هي روحيَّة، وأنَّ الربَّ هو الذي يطلب من شعبه أن لا يتوقَّف، بل يواصل القتال "من أجل انتزاع الشرِّ من شعبه".

الخاتمة

ذاك هو سفر القضاة. فيه الصعوبات لكي نفهم المعنى الروحيّ الذي يمكننا أن نستخلصه من هذه الوجوه التي تمرُّ أمامنا، ومن الأحداث التي كانت موزَّعة في القبائل فجمعها الكاتب الملهم يومَ كانت أشور مسيطرة في البلاد ثمَّ بابل. لا مجال للقبول بسلطة الأصنام على أرض الله. والروح هو الذي يعمل فيعطي القوَّة لأشخاص يختارهم الله من أجل مهمَّة محدَّدة في قبيلة واحدة أو في عدد من القبائل. اكتشفنا دبُّورة هذه النحلة التي لا تتوقَّف عن خدمة شعبها والآتين إليها. وجدعون الذي يطلب العلامة بعد العلامة، لأنَّ إيمانه ضعيف، فيعطيه الربُّ ويطيل معه روحه. غير أنَّ هذا الإيمان تزعزع حالاً بعد الانتصار، فرجع هذا "المخلِّص" إلى أصنامه. حسب نفسه قويًّا، فإذا هو ضعيف. كان قويًّا بقدر ما تعلَّق بالله. وحين اعتدَّ بنفسه نسيَ ذاك الذي دعاه لخدمته ولخدمة إخوته وأخواته. وكلام الرسول واضح: من هو واقف فليحذر من أن يسقط (1 كو 10: 12). واختيار الله ليفتاح يدهشنا. فهو يمضي إلى الخطأة ويحوِّل حياتهم لأنَّ الربَّ لا يختارنا لأنَّنا صالحون، بل هو يختارنا لكي يجعلنا صالحين. ينطلق ممّا نحن ويَنحت فينا الإنجيل الذي نحمله إلى الآخرين. أما هكذا فعل بالرسل الذين لم يفهموا مرارًا كلامه ولا الطريق التي يأخذها؟ أمّا شمشون هذا المختار من الله، فهو يدعونا إلى الشفقة. أهكذا يتعامل المؤمن مع عطايا الله؟ أعماله بطوليَّة، بل هي من عالم الخيال. فكأنَّ الكاتب أراد أن يبيِّن كم تفعل فينا قدرة الله، ويفهمنا كم نحن نفضِّل الذهاب إلى أصنامنا، إلى نزواتنا. قال لنا الكتاب: "لم تعرفوا بعدُ الجهاد حتّى الدم بإزاء الخطيئة". أمّا شمشون فما تجاوب مع الروح، ولا سمع من والديه، ولا أحسَّ بالضيق الذي يعانيه شعبه وقبيلته بسبب تصرُّفاته الرعناء. ومع ذلك، احتمله الله واحتمله حتّى في أقصى سقوطه، وقبِل له توبته وأعاد له بعض قوَّته. فالله لا يتخلَّى عنّا مهما انحدرنا في أعماق الخطيئة. فهو رافق شمشون في عماه بعد أن فُقئت عيناه، ورافقه في عمله كالعبد المشترى بالمال بعد أن صار عبدًا للخطيئة. تلك هي العبر التي نستخلصها من سفر القضاة. بعض المرَّات تغمرنا الخطيئة كما تغمر آباءنا في الإيمان فلا نعود نعرف أن نكتشف وجه الله. ولكنَّ أخبار هؤلاء الذين دعاهم الربُّ قادتنا شيئًا فشيئًا إلى التشوُّق إلى ملك يسير أمام شعبه، على مثال شاول وداود، بانتظار ذاك الملك يسوع المسيح الذي أحبَّ العالم فبذل نفسه لئلاَّ يهلك أحد، بل تكون للجميع الحياة الأبديَّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM