الفصل الثالث: وأرسل الربُّ ناتان

الفصل الثالث

وأرسل الربُّ ناتان

ذاك ما قال سفر صموئيل الثاني عن أحد الأنبياء الذين كانوا في زمن داود (12: 1). اسمه ناتان أي العطيَّة، عطيَّة الله. متى دُعي؟ هذا ما لا نعرفه. من أيِّ بلد هو؟ ذاك ما لا يهمُّ الكاتب. كيف انتهت حياته؟ أمثل إشعيا أو حزقيال؟ هل تألَّم مثل إرميا؟ هذا ما لا يقوله الكتاب. ولكنَّنا نتوقَّف عند ثلاث محطّات تدخَّل فيها. هنا، جاء «يوبِّخ» داود على أعماله الشنيعة، ويبدو أنَّه ما خاف، لاسيَّما وأنَّ داود قبِلَ التوبيخ وندم على فعلته. فارتبطت به صلاة مز 51: ارحمني يا الله. قبْل هذه الحادثة، حين أراد داود أن يبني هيكلاً لله، كان ناتان نبيَّ الملك، ولكنَّه استمع لصوت الله وقال كلام الله. وفي الحقيقة، كان توبيخ من نوع آخر. لا يستطيع داود أن يبني الهيكل لأنَّ يديه تلطَّختا بالدماء من جرّاء الحروب (1 أخ 22: 8). وفي المرَّة الثالثة، استعمل نفوذه لكي يكون سليمان هو الملك الذي يخلف داود، لا أدونيا.

1. كان رجلان

خبر أو بالأحرى مَثل حمله ناتان إلى داود الملك. «كان رجلان في إحدى المدن» (2 صم 12: 1). واحد غنيّ هو داود، وآخر فقير هو أوريّا الحثّيّ، أحد القوّاد في الجيش. هو الحثّيّ، أي من بقايا الذين أتوا من تركيّا الحاليَّة في القرن الثالث عشر. إذًا هو غريب، ومع الغريب نستطيع أن نتصرَّف كما نشاء لأنَّ لا أحد يدافع عنه. وقد يكون من المرتزقة الذي اشتراه الملك فاعتبره عبدًا له، ولهذا استطاع أن يأخذ له امرأته ويأخذ له حياته. وهذا مع أنَّ الله قال: «لا تضايق الغريب، فأنتم تعرفون حقيقة ما يشعر به الغريب، لأنَّكم كنتم غرباء في أرض مصر» (خر 23: 9).

ماذا فعل الملك بهذا «الغريب»؟ استفاد من غيابه وزنى بامرأته بتشابع التي يعني اسمها «بنت الشبع» والتي يبدو أنَّها من بنات إسرائيل. فوالدها إليعام (1 صم 11: 3)، أي الله عمِّي. تزوَّجت هذا القائد الذي ربَّما اتَّخذ اسمًا يرتبط بشعب يهوذا: أوريّا، أي نور الربّ.

وبعد الزنى، صارت بتشابع حاملاً. ولهذا «حين أحسَّت أنَّها حبلى أعلمته بذلك» (آ5). فكيف يستطيع داود أن يُخفي جريمته؟ دعا أوريّا وطلب منه أن يرتاح يومين في بيته. ولكنَّ أوريّا تحلَّى بالشهامة والتضحية. جاءته هديَّة من عند الملك، ولا نعرف إن كان أخذها أم لا. وفي أيِّ حال. «نام على الأرض على باب القصر مع الحرس ولم ينزل إلى بيته» (آ9). دعاه الملك فأجابه: «تابوت العهد ورجال إسرائيل ويهوذا مقيمون في الخيام، ويوآب وقادة سيِّدي الملك في البرِّيَّة، فكيف أدخل بيتي وآكل وأشرب وأنام مع زوجتي؟ لا وحياتك لا أفعل هذا» (آ11).

ولبث أوريّا ليلة ثانية في أورشليم، ولكنَّه لم يذهب إلى بيته، بل نام عند باب القصر. يا ليت داود تعلَّم منه كبر النفس! ولكنَّه راح يغوص في الشرّ. طلب من يوآب أن يجعل هذا القائد في موضع خطر بحيث «يضربه العدوّ ويموت» (آ15). واستقبل داود الخبر بقلب بارد وكأنَّه لم يفعل شيئًا. فكتب إلى يوآب: «لا يحزنك ذلك، لأنَّ السيف لا يرحم أحدًا» (آ25).

مات أوريّا، فصارت بتشابع لداود. هل رضيَ الربُّ عن فعلة هذا الملك، مع أنَّ اسمه يعني: من يحبُّه الله؟ وقيل عنه: «هو بحسب قلب الله؟» كلاّ ثمَّ كلاّ. فأوَّل واجبات الملك أن يحفظ الوصايا، وأوَّلها لا تقتل، ثمَّ لا تزنِ، ثمَّ لا تسرق، ثمَّ لا تشهد بالزور. ولهذا قال الكتاب: «واستاء الربُّ ممّا فعله داود» (آ27) عندئذٍ، أرسل ناتان.

أوَّل ما نلاحظ هو أنَّ ناتان لم يمضِ إلى داود من عنده. فالربُّ أرسله. حمَّله رسالة. كان بالإمكان أن يتردَّد ناتان، أن يعبِّر عن خوفه. هذا ما لا يقوله الكتاب. وما نلاحظ هو أنَّ داود لا يُعطَى صفة «ملك». قال النصّ: «فأرسل الربُّ ناتان إلى داود» كان الملوك في البلدان المجاورة، وفي أيَّامنا أيضًا، يحسبون نفوسهم فوق الشريعة، فوق الحقِّ والعدل. كما كان يقول ملك فرنسا: «الدولة أنا». أموالها لي. رجالها ونساؤها لي. خيراتها لي وأنا أتصرَّف بكلِّ هذا بحرِّيَّة ولا أسمح أن يسألني أحد. وإن كان هناك من نبيّ، أسكته بالوسائل السلميَّة قبل أن يأتي العنف، كما حصل مع الكثيرين الذين تحدَّث عنهم يسوع: «ويل لكم، أيُّها الكتبة والفرِّيسيُّون المراؤون، لأنَّكم تبنون قبور الأنبياء، وتزيِّنون مدافن الصدِّيقين، وتقولون: لو كنّا في أيّام آبائنا، لما شاركناهم في دم الأنبياء» (مت 23: 29-30). وما قاله يسوع للشعب، قاله لأورشليم «قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها» (آ37).

ومضى ناتان إلى داود وأخبره ماذا فعل الغنيّ صاحب «الغنم والبقر الكثير» (2 صم 12: 2)، بالفقير الذي ليس عنده سوى «نعجة واحدة صغيرة اشتراها وربَّاها وكبرَتْ معه ومع بنيه، تأكل من لقمته وتشرب من كأسه وترقد في حضنه، وكانت عنده كابنته» (آ3). ماذا فعل الغنيّ؟ لم يأخذ من قطيعه، بل «أخذ نعجة الرجل الفقير وهيَّأها طعامًا له» (آ4). أي لضيفه.

فجاءت ردَّة الفعل قاسية عند داود. أحسَّ بالظلم يصدر عن أحد الناس. قال: «حيٌّ هو الربّ! الرجل الذي صنع هذا يستوجب الموت» (آ5). وعليه خصوصًا أن يعوِّض بحسب ما تفرض الشريعة. الوقت حرج. ماذا سيفعل ناتان؟ هل يجرؤ أن يدلَّ على هذا «الذي صنع هذا؟» كإنسان هو ضعيف. ولكنَّ الربَّ أرسله. لهذا هو قويّ بقوَّة الله. عندئذٍ قال لداود: «أنت هو الرجل» (آ7).

بعض المرّات لا نريد أن نقرأ العهد القديم. ولماذا؟ هناك بعض المشاهد القاسية، هناك الخطايا والعقاب، هناك القتل. ذاك هو تاريخ البشريَّة منذ بداياتها وسيتواصل حتّى نهاية العالم. ولكن هل يرضى الربُّ عن ذلك؟ كلاّ. ولهذا يرسل «نبيًّا» يُذكِّرُ القويّ بوصايا الله. وهكذا جاء ناتان. وفي أيّامنا، من يجسر أن يقول لرئيس أو مسؤول أو شخص قدير خطأه؟ هذا الخبر هو درس لنا لكي لا نخاف أن نقول الحقيقة مهما كلَّفنا الأمر. وخصوصًا أن يتقبَّل المسؤول، مدنيًّا أو دينيًّا، التنبيه من قبل الله، بحيث لا ينتقم من النبيّ لأنَّه لا يقدر أن «ينتقم» من الله الذي وضع هذه الوصايا. ولا مجال للكلام عن الانتقامات التي نراها اليوم وكلَّ يوم.

وذكَّر ناتان الملك بإحسانات الله له. استنتج فقال بفم الله: «لماذا احتقرتَ كلامي، وارتكبتَ القبيح في عينيّ، فقتلت أوريّا الحثّيّ... وأخذتَ امرأته زوجة لك؟» (آ9). لم يعرف الناس ما فعل داود. أمّا الله فعرف، وأرسل من يقول لداود ويوبِّخه على عمله.

تدخَّل ناتان وما خاف. ودلَّ داودَ على الطاعة لوصايا الله، فندم على فعلته.قال: «خطئتُ إلى الربّ» (آ13). وهنا نكتشف أيضًا رحمة الله. يكفي أن يقرَّ الإنسان بخطيئته، حتّى يغفر له الله. فقال ناتان حالاً: «الربُّ غفر خطيئتك». فبقيَ على الملك أن يكفِّر، أن يعوِّض. وربط النبيّ ما حصل لداود فيما بعد، من قتل وزنى في بيته، على أنَّه النتيجة المنطقيَّة لما فعل بأوريّا. فكم نحن بحاجة اليوم إلى ناتان وإلى داود، إلى من يقول كلام الله وإلى من يسمع كلام الله، ولو مُسَّت «كرامته» كرئيس وملك وعظيم!

2- ولمّا سكن الملك في قصره

يروي أيضًا سفر صموئيل الثاني كيف انتهى داود من الحروب في الداخل وفي الخارج. أزال شاولَ ونسله بحيث لا يطالب أحد من أبنائه بالمُلك. ثمَّ حارب الشعوب المجاورة وأجبرها على دفع الجزية، كما قتل من قتل لينهي المقاومة هنا وهناك.

«ولمّا سكن الملك في قصره» (7: 1). قبل ذلك، كان في جبهات القتال هنا وهناك، ولاسيَّما حين احتلَّ أورشليم التي كانت بيد اليبوسيِّين. ودعاها باسمه: «مدينة داود» (2 صم 5: 9). هو الهدوء والسكينة والسلام في البلاد. وها هو يتفرَّغ لكي يبني «قصرًا» لله بعد أن بنى قصرًا له ولحاشيته. دعا ناتان وقال له: «انظر! أنا مقيم في بيت من أرز، وتابوت العهد مقيم في خيمة» (2 صم 7: 2).

هنا نتذكَّر أنَّ داود تعاهد مع «حيرام ملك صور، فأرسل له أخشاب أرزٍ ونجّارين ونحّاتين فبنوا له قصرًا» (2 صم 5: 11). نلاحظ هنا وجود الفينيقيِّين، وجود أهل صور وصيدا الذين هم قرب داود، كما سوف يكونون قرب سليمان. والخشب ليس أيَّ خشب كان. هو أرفع خشب، ويُستعمَل من أجل هياكل الآلهة. وها هو داود يفكِّر بالله بعد أن أمَّن لنفسه ما يليق به.

«تابوت العهد» هو ذاك الصندوق الذهبيّ الذي يحوي لوحي الوصايا، رمزًا إلى كلام الله وسط شعبه. ويحوي المنَّ، الذي هو منَّة الله وعطيَّته لشعبه حين كان في البرِّيَّة، والذي يدلُّ على عناية الله بشعبه. وأخيرًا، يحوي تابوتُ العهد عصا هارون التي تدلُّ على الكهنوت الذي كان من المفترض أن يكون صوت الله في الشعب، فإذا هو يصبح في خدمة الملك، فلا يعود يتميَّز عن الكهنة في صيدا وصور، حيث الملك يعيِّن الكهنة، فيكونون في خدمته ويأكلون على مائدته، على ما نرى في خبر أخاب وإيزابيل (1 مل 18: 19).

وتابوت العهد، يدلُّ على حضور الله وسط شعبه. كان في خيمة وسط جماعة البرِّيَّة، فيأتي إليه موسى ويسأله من أجل شعبه. ولمّا أخذه الفلسطيُّون وأعادوه، صنع له داود خيمة (2 صم 6: 17)، وقدَّم أمامه الذبائح والمحرقات.

ولكن أخذ الحياء مأخذه من داود: هو في قصر والله في خيمة! يجب أن نبني لله «قصرًا». ما رأيك يا ناتان؟ هنا بدا ناتان نبيَّ الملك، فتسرَّع وأجاب: «اذهبْ وافعل كلَّ ما في بالك لأنَّ الله معك» (2 صم 7: 3). أهكذا يكون الكلام النبويّ، حين يوافق «من يرسله الله» سيِّدَه ولا يعارضه في شيء؟ أهكذا يرضى عنه؟ بماذا افترق ناتان هنا عن «أنبياء» أخاب؟ أراد أن يمضي إلى الحرب، سألهم فأجابوا: «اذهب لأنَّ الربَّ يسلِّمها إلى يدك» (1 مل 22: 6). وحده ميخا بن يملة لم يوافقهم: «ما يقوله لي الربُّ أقوله» (آ14). وكان له العقاب الذي يستحقُّ من الأنبياء الكذبة (آ24: لطمه صدقيّا بن كنعنة) ومن الملك (آ27: وُضع في السجن مع الخبز والماء).

لا، يا ناتان. أسرعتَ وما سألتَ الربّ. ما صلَّيتَ قبل أن تقول كلام الله. ويواصل الكتاب: «وفي تلك الليلة كان كلام الربِّ إلى ناتان» (2 صم 7: 4). بدا الكلام مثل شخص حيّ، مثل رسول من عند الله. ونحن نعرف أهمِّيَّة الليل بالنسبة إلى الله الذي يوصل كلامه إلى البشر.

«اذهب». من يأمر النبيّ؟َ لا البشر بل الله. قال له: «اذهب»، فذهب. وقال له: «قل لعبدي داود»، فمضى يقول لعبد الربّ داود. نلاحظ أنَّ الملك ليس السيِّد أمام الله، بل «العبد»، أي صنعة الله. ما كان داود شيئًا، ولكنَّ الله «صنعه» (من فعل "ع ب د" في اللغات الساميَّة). صيَّره على ما هو الآن. ذاك ما ذكَّره به ناتان: "أنا مسحتك، قال الربّ، ملكًا على إسرائيل، وأنقذتُك من يد شاول..." (2 صم 12: 7). أجل، الملك هو «عبد» الله، وواجبه أن يكون في خدمة «عبيد الله».

اذهب، قل. ماذا؟ «هذا ما يقول الربّ» (2 مل 7: 5). فالنبيّ يحمل كلام الربّ، وهذا أكبر شرف له، وأكبر مسؤوليَّة. هنيئًا له إن كان أمينًا للكلام الذي يحمله. والويل له إن أضاف أو نقَّص، كما قال سفر الرؤيا (22: 18).

أراد داود أن يبني بيتًا لسكن الربِّ ووافقه النبيّ. أمّا الآن، فعلى النبيّ أن يقول عكس ما سبق له وقال. أهكذا يتراجع الإنسان عن كلامه؟ على مستوى البشر، لا بأس إن تراجعنا، ولكنَّ هذا يعني تواضعًا من قبلنا، ووعيًا بأنَّ الإنسان يخطئ، والفاضل الفاضل هو من يعرف أن يتراجع عن خطإه، وخصوصًا على مستوى الله! على النبيّ أن يتوب حالاً عن كلام قاله من عنده. وهذا ما فعله ناتان، عائدًا إلى تاريخ الشعب في البرِّيَّة، حيث لم يكن للربِّ قصر، بل خيمة بين الخيام. فالله ليس إله مدينة من المدن، كما كان الأمر في العالم القديم، مع بعل في جبيل وملقارت في صور وأثينة في مدينة أثينة... الله هو مع شعبه. يتوقَّف الشعب فيتوقَّف الله، وينطلق الشعب فينطلق معه إلهه، على مثال ما حصل مع إبراهيم. كما نتذكَّر أنَّ الربّ، حين أخذَتْ أورشليم، سار مع شعبه الماضي إلى المنفى البابليّ. ولمّا عاد المنفيُّون عاد الله معهم وأقام في هيكله حيث يقيمون.

«أأنت تبني لي بيتًا لسكناي؟ ما سكنتُ بيتًا من يوم أخرجتُ بني إسرائيل من مصر حتّى الآن، بل في خيمة كنتُ أنتقلُ معهم على الدوام، وفي كلِّ ارتحالي مع جميع بني إسرائيل لم أسأل أحدًا من رؤسائهم: لماذا لم تُقمْ لي بيتًا من الأرز؟» (2 صم 7: 5-7).

ذاك هو كلام الربِّ الذي ردَّده ناتان على مسامع داود. أراد الملك أن «يمنِّن» الله بحيث يشكره لأنَّه يبني له بيتًا. أفهمه الربُّ أنَّه هو من يبني بيتًا لداود. والبيت في المعنى الرمزيّ هو السلالة، ممّا يعني بركة تدوم له ولنسله. عندئذٍ انطلقت الصلاة من قلب الملك، لأنَّه سمع كلام الله: «من أنا، يا سيِّدي الربّ» (آ18).

ولكن إذا كان الله راضيًا عن داود، فلماذا لم يسمح له بأن يبني هيكلاً ساعة سمح لسليمان؟ هل يجسر النبيُّ أن يقول له الحقيقة؟ نحن لا نقرأ الجواب في سفر صموئيل الثاني، بل في أخبار الأيّام الأوَّل (17: 1-15). قال الربُّ بفم نبيِّه: «ويكون متى كملَتْ أيَّامُك لتذهب مع آبائك (في الموت)، أنِّي أقيم بعدك نسلك الذي يكون من بيتك وأثبِّت مملكته. هو يبني لي بيتًا وأنا أثبِّتُ كرسيَّه إلى الأبد» (آ11-12). وقع هذا الكلام وقوع الصاعقة على داود. لماذا لا أبني بيتًا للربّ؟ هل أعود أنا إلى الخيمة؟ وكان الجواب للملك من عند الربّ: «سفكتَ دمًا كثيرًا وحاربتَ حروبًا كثيرة، لذا لن تبني هيكلاً لاسمي لأنَّك سفكت دمًا كثيرًا على الأرض أمامي» (1 أخ 22: 8). فاليد النجسة لا تستطيع أن تقدِّم ذبيحة في الهيكل. فهل تستطيع يدان تنجَّستا بسفك الدم أن تبنيا هيكلاً لسكنى الربّ «إله السلام والأمان»؟ (آ9).

هو درس ثانٍ لنا. نظلم الناس، نجمع المال بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة، ثمَّ نبني معبدًا للربّ، من أيِّ نوع كان ولأيَّة طائفة. أهكذا نسرق الناس لكي نعطي الله؟ أيرضى الربُّ بذلك؟ لا شكّ، كلاَّ. ولكنَّ الناس يغمِّضون العيون لأنَّ الله «استفاد» في نظرهم، وهم يمكن أن يستفيدوا؟ فلماذا المعارضة؟ فنتبع المثل: «نضع رؤوسنا بين الرؤوس ونقول: يا قطّاع الرؤوس». أو أبشع من هذا: «إذا رأيتَ الناس يعبدون العجل، حشَّ واطعمه». هكذا يكون كلُّ واحد منّا غنمًا بين الأغنام، التي لا يمكن إلاّ أن تقاد إلى الذبح. فأين النبيّ؟ أين حامل كلام الله؟ عندئذٍ يقول لنا إشعيا: «الكاهن والنبيّ ترنَّحا بالمسكر، ابتلعتهما الخمر» (28: 7). عيونهم مغمَّضة فلا ترى (29: 10). أو لا يريدون أن ترى. والأنكى، حين يخضع النبيّ لطلب الشعب حين يقولون له: «لا تتنبأ!». أجل، لن نتنبَّأ! لا نرى ولا ننظر إلى الأمور على ضوء شريعة الله. يقول الشعب للأنبياء: كلِّمونا بالأمور الناعمة. اكذبوا علينا. «حيدوا عن الطريق (طريق الله)، ميلوا عن السبيل، خذوا من قدَّامنا قدُّوس إسرائيل» (30: 10). ما أطيب الصمت! هكذا نكون في راحة بحيث لا نزعج أحدًا وتكون النتيجة أنَّنا نزعج أنفسنا!

3- دخل ناتان النبيّ

وصل داود إلى نهاية حياته، ولا بدَّ أن يخلفه واحد من أبنائه. وكان أكثر من واحد ماتوا في صراع بين الإخوة. ولم يبقَ في الحلبة سوى أدونيا وسليمان. الأوَّل اسم أمِّه حجَّيت، تلك المولودة في يوم الحجّ، يوم العيد. هو الرابع بين الذين وُلدوا لداود في حبرون. ومعنى اسمه: ربِّي هو يهوه، أمّا سليمان، فوُلد في أورشليم. وارتبط اسمه باسم أبيه «يديديا» أي الذي يودُّه الربّ، يحبُّه.

حزبان وُجدا لدى داود الذي صار شيخًا وما عاد يسيطر على الأحداث. حزب أوَّل مع أدونيا فيه أبياتار الكاهن، ويوآب قائد الجيش. وحزب ثانٍ ضمَّ إلى ناتان النبيّ صادوق الكاهن، بنايا بن يوياداع، وكلُّ هذا تحت غطاء بتشابع. ما نلاحظ هو أنَّ ناتان يُقال له كلَّ مرَّة «النبيّ». فماذا يفعل هذا النبيّ في «زواريب» السياسة؟ ولماذا يأخذ جانب فئة دون الأخرى؟ هل الربُّ هو إله فئة على فئة ثانية؟ وبنايا هو أحد الأبطال الذين رافقوا داود. سيكون له أن يقتل أدونيا في الهيكل (1 مل 2: 25)، ثمَّ يوآب (آ29-34). عندئذٍ أقامه الملك سليمان مكان يوآب قائدًا على الجيش. وصادوق الذي كان كاهنًا مع أبياتار، سيصبح وحده الكاهن، مع أنَّه لم يكن من بني إسرائيل، بل كان كاهنًا لمدينة يبُّوس التي ستصبح أورشليم. أمّا أبياتار فعزله سليمان وأرسله إلى المنفى (آ26-27). هي مجزرة لا شبيه لها، وما ذكرنا إلاَّ الرؤساء لا الذين كانوا مع أدونيا. ما كان دور ناتان النبيّ؟ هل دخل في سرِّ الله عبر الصمت والصلاة؟ وهل وصل إليه كلام الله؟ لا يقول الكتاب شيئًا من ذلك. في أيِّ حال، هي صفحة سوداء في سفر الملوك الأوَّل بحيث لن يذكرها كتاب الأخبار الذي تحفَّظ فما ذكر خطايا داود ولا خطايا سليمان.

أيُّ انحدار لهذا النبيّ؟ شابه ذاك الطير الأبيض الرائع الجمال الذي يرافق البواخر في سيرها. ولكن يحصل له أن ينزل حيث تُوضَع القماقم فيغوص فيها ويخسر جماله، بل يلتصق بأرض السفينة ولا يستطيع بعدُ أن يطير. صار بعضًا من هذه القماقم فما عاد يتميَّز عنها. هو يشبه أشخاصًا ينظر الناس إليهم بكبَرٍ واحترام ويتطلَّعون إلى ما يمكن أن يعملوا لهم. ولكنَّهم ينحدرون في متاهات هذا العالم مع ما فيها من كذب وخداع وبحث عن المصالح الخاصَّة والمنافع. أين نقاؤهم الأوَّل؟ ضاع. أين أيديهم التي لا عيب فيها وقلوبهم الطاهرة التي لا تميل إلى السوء (مز 4)؟ راحت إلى غير رجعة. صاروا مثلهم مثل الذين اختلطوا بهم. فالربُّ يرسل نبيَّه ليكون مثل الملح في الطعام. هنيئًا له إن لبث ملحًا يطيِّب الطعام. والويل له إن خسر طعمه. عندئذٍ لا يعود ينفع شيئًا، فيُرمى في الخارج وتدوسه الناس (مت 5: 13).

في تاريخ الكنيسة الحديثة، مضى الكهنة «العمّال»، لكي يكونوا مع الذين يعملون في المصانع الكبيرة. ولكن بعد زمان قصير، الغيَتْ هذه الخبرة. وتساءل الناس: لماذا أوقف هؤلاء الكهنة وأُرسلوا إلى الرعايا؟ والجواب: أُرسلوا لكي يكونوا خميرًا في الطحين، بحيث يختمر كلُّه. ولكنَّهم لم يعودوا خميرًا. بل صاروا طحينًا وعجينًا من أتعس عجين (مت 13: 33). أُرسلوا ليكونوا نورًا فإذا النور الذي فيهم ينقلب ظلامًا (لو 11: 35). فبدلاً من أن يدلُّوا الناس على المسيح، أخذوه في طرق جديدة أطلقها فلاسفةُ هذا العالم. طلبوا رضى الناس وتركوا رضى المسيح (غل 1: 10). نسوا صليب المسيح وأخذوا بمنطق العالم لئلاَّ يرفضهم العالم، على ما قال الرسول عن نفسه: «أنا أرى أنَّ الله جعلنا نحن الرسل أدنى الناس منزلةً كالمحكوم عليهم بالموت علانية، لأنَّنا صرنا مشهدًا للعالم، للملائكة والناس. نحن حمقى من أجل المسيح، وأنتم عقلاء في المسيح. نحن ضعفاء وأنتم أقوياء، أنتم مكرَّمون ونحن محتقَرون، ولا نزال إلى هذه الساعة نعاني الجوع والعطش والعري والضرب والتشرُّد. ونتعب في العمل بأيدينا، نردُّ الشتيمة بالبركة، والاضطهاد بالصبر، والافتراء بالنصح. صرنا أشبه ما يكون بقذارة العالم ونفاية كلِّ شيء» (1 كو 4: 9-13).

ذاك هو موقع النبيّ. فمن يريد أن يكون معه؟ من يقبل بهذه الحالة؟ هو أمر صعب جدًّا. لهذا نرفضه عادة، خصوصًا نحن الذي نجلس مرتاحين فلا يزعجنا أحد. وأبشع شيء هو أن نترك الآخرين يجذبوننا إليهم ولا نجذبهم نحن باتِّجاه ذاك الذي دعانا فتركْنا كلَّ شيء وتبعناه.

أمّا ناتان، فاجتذبته السياسة ونال ما نال الآخرون من إنعام. صار وحده نبيَّ الملك سليمان. وكما ارتفع مقام صادوق وبنايا، كذلك حصل لناتان. فشارك الملك الجديد وربَّما وافقه على انتقامات عديدة لم تسمح الظروف لداود بأن يقوم بها، فأوكل بها ابنه. قُتل يوآب قائد الجيش الذي أحبَّ داود كما لم يحبَّه أحد. ثمَّ شمعي بن جيرا (1 مل 2: 36ي). وغيرهما وغيرهما.

وهكذا شابه ناتان نبيًّا آخر. اسمه «ياهو«، أي: هو يهوه. يعني صار صوتَ الله وسط الشعب، مثَّل الله بحضوره وأعماله. وماذا أعلن ابن حناني، ابن الحنان والنعمة؟ (1 مل 16: 1ي). مقتل بيت بعشا، ملك إسرائيل. ومن قتَل هؤلاء؟ ملك اسمه أيضًا ياهو. ملك سنة 841-814، ولمّا وضع يده على المُلك فعل ما لم يفعلُه احدٌ قبله. ولو نعرف من مسحه ملكًا؟ إليشع أرسل واحدًا من جماعة الأنبياء. قال لياهو: «اضرب بيت أخاب انتقامًا لي من إيزابل لدماء جميع أنبيائي وسائر عبيدي» (2 مل 9: 6). ما هذا الإله الذي ينتقم الانتقام المريع. والذي يتكلَّم هذا الشابُّ باسمه؟ هكذا يمكن للنبيّ أن ينحدر ويجعل كلام الله في فمه وكأنَّ الله تكلَّم. عندئذٍ يصبح النبيّ نبيًّا كاذبًا، ويتبرَّأ الربُّ من كلامه.

من قال إنَّ دعوة النبيّ نزهة؟ هل نتذكَّر كيف اقتُلع عاموس من أرضه في الجنوب وعرف الخطر في معبد بيت إيل، في الشمال؟ من قال إنَّ النبيّ هو من «يلبس الثياب الناعمة» (مت 11: 8). فيا ليت يوحنّا المعمدان قَبِلَ الحياة في قصر الملك هيرودس، لكان نال ما أراد على مستوى الأرض، ولطالت حياته ورضيَت عنه هيروديا وابنتها. ومن قال إنَّ النبيَّ إنسان ضعيف يشبه «قصبة تهزُّها الريح»؟ (آ7). لا. فعبد الربِّ يقول لنا: «أجعل كالصوّان وجهي» (إش 50: 7). هو لا يتراجع مهما كانت الصعوبات. أمّا فمه «فسيف قاطع» (إش 49: 2). لا يُثلَم ولا يلين. ويده «سهم» في يد الله، مخفيَّة في جعبة الله. وما الذي يُنتظرمن عابد الله هذا؟ أن «يردُّ الباقين من بني إسرائيل، ويكون نورًا للأمم، وخلاصًا إلى أقاصي الأرض» (آ6).

الخاتمة

قدَّمنا وجه ناتان، ذاك النبي الذي أرسله الله إلى داود. مرَّة منعه من بناء هيكل للربِّ لأنَّ يديه تلطَّختا بالدماء. ولكنَّه وعدَه بأن يتواصل نسله على العرش، فينال البركة إن سار في خطِّ وصايا الله، أمّا إن حاد عنها «وفعل الشرَّ يؤدَّب بعصا» (2 صم 7: 14). ومرَّة ثانية، راح ناتان إلى داود فوبَّخه على خطيئته التي هي عدَّة خطايا: سرق بتشابع وزنى بها. قتل أوريّا. وفي النهاية، كان كاذبًا فجعل الناس لا يظنُّون أنَّه هو الذي قتل أوريّا. ولكنَّ وجه النبيّ هذا كان فيه الصعود والانحدار، مرَّة تكلَّم باسمه، ومرَّة تكلَّم باسم الربّ. مرَّة كان مرسَلاً من عند الله، ومرَّة كان مرسلاً من عند الناس فدخل في «مؤامراتهم». هكذا الأنبياء في كلِّ عصر وجيل. يكونون تارة لله وطورًا للملك. أمّا النبيّ النبيّ فلا شيء يزعزعه. هذا ما نكتشفه عند إرميا الذي نزل إلى عمق الآلام وعرف الاضطهاد. ولكنَّه ما تراجع ولا لآن. السبب: الله جعله «مدينة حصينة» (إر 1: 18)، فما استطاع أحد أن يقهره. فهو من عرف أنَّ الألم يصيب الجسد، ولكن في النهاية ما يجعلنا قريبين من الله هو أن تكون الروح ثابتة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM