الفصل الثاني : والآن هلمَّ فأُرسلك

الفصل الثاني

والآن هلمَّ فأُرسلك

ذاك كان كلام الربِّ لموسى في البرِّيَّة وهو يرعى غنم حميِّه يترو. ما هذه الحياة التي تعيشها في اطمئنان، بعيدًا عن الناس ومشاكلهم، دون أن تهتمَّ بإخوتك وأخواتك الذين يعانون الضيق؟ ومتى كان الهربُ الوسيلةَ التي بها يكون الإنسانُ إنسانًا؟ ابن آوى يهرب وينجو بحياته ويلجأ إلى جحره في الصخور، والحيَّة تهرب وتختفي عندما تحسُّ بالخطر. أمّا الإنسان فلا يهرب، بل يجابه الصعوبات ولا سيَّما إذا كان الأمر يعني زوجته وأولاده وبيته ومقتنياته. وفي أيِّ حال، لا يسمح الربُّ له بأن يفعل. هذا غاندي ابن تلك العائلة الميسورة في الهند، الذي تعلَّم في إنكلترا، وحاول أن يمضي إلى أفريقيا الجنوبيَّة، التي كانت مستعمرة إنكليزيَّة، هو يعود إلى بلده لكي يحرِّره. وهذا هو مارتن لوثر كينغ، ذاك القسّ البروتستانتيّ يدافع عن الذين سحْنتهم مثل سحنته ويطلب لهم الحقوق التي يتمتَّع بها الجميع، ويموت بيد الذين دافع عنهم. من دفعه إلى ذلك؟ لا شكَّ همَّته. ولكنَّ الأساس الأساس هو الربُّ الذي دفَعه إلى الجهاد ومنَحه القوَّة. فما عاد أقلَّ من إنسان يطلب راحته وحياته الرغيدة ومصلحته الخاصَّة ومصلحة أفراد بيته. كان بإمكانه أن يوقف «الثورة» بعد أن أُغريَ بالمال، فما أوقفها. عُرضَتْ عليه المناصب لقاء التخلِّي عن هذا التحرُّك «المريب» بحسب النظام الموجود، رفض كلَّ هذا. ولو قبل، لكان واحدًا من أمثاله الملايين، ولكان صار ميتًا قبل أن يموت ويُدفَن. وهكذا كان موسى الذي دعاه الربُّ من عمق الصحراء والهدوء: «فالآن هلمَّ فأرسلك إلى فرعون فتُخرج شعبي من مصر» (خر 3: 10). كفى ما يعانونه من العبوديَّة! أنا في السماء سمعتُ صراخهم، وأنتَ أما سمعت؟

1- موسى من النسل الملوكيّ

اسمه الأصليّ رعمسيس، أي خادم الإله رع، أو ذاك الذي ولده رع، الذي يملك على الأرض وسط البشر وبين الآلهة. تربَّى تربية ملوكيَّة بعد أن اهتمَّت به أخت الملك المصريّ. أجل، فربَّته تربية مميَّزة، وعلَّمته كلَّ حكمة المصريِّين، المشهورة في ذلك الزمان. كان بإمكانه أن يبقى في القصر الملكيّ ولا يعرِّض حياته للخطر، حين أراد أن يدافع عن «مهجَّر» في وجه ابن البلاد، أو يضع السلام بين أخوين يعملان كالعبيد في أرض غريبة (خر 2: 11-14). كان بإمكانه أن يقول: ما لي ولهؤلاء الرجال وما يفعلونه؟ مثل هذا الكلام يدلُّ على أنانيَّة قاتلة للشخص ذاته وللمجتمع الذي يعيش فيه. ما استطاع أن يرى الظلم دون أن يتدخَّل! وبما أنَّه القدير، فهو يستطيع أن يظلم الآخرين كما يفعل الفرعون، الذي اسمه يعني «البيت الكبير» ممّا يعني أنَّ مصر كلَّها له وهو يتصرَّف بها كما يشاء، أرضًا وشعبًا. فالأرض ملكه والشعب عبيد له. «هو الربُّ والحياة والصحَّة والقدرة».

لو لبث موسى في قصر الملك، من كان يعرفه اليوم؟ لا أحد. لهذا رفض حياة القصور، فقال فيه الكتاب: «بالإيمان رفض موسى، بعدما كبر، أن يُدعى ابنًا لابنة فرعون، وفضَّل أن يشارك شعب الله في الذلِّ على التمتُّع الزائل بالخطيئة» (عب 11: 24-25). قيل لي مرَّة: هذا يولد هنا، وآخر هناك. هذا من تلك الأسرة وآخر من أسرة ثانية. وهكذا يبقى الإنسان كما هو ولا يتجاوز محيطه، على مثال ما نعرف عن الطبقات في بلاد الهند. وكذا نقول عن الدين. فالديانة ليست مجرَّد شعائر وعادات وأعراف نبقي عليها، ولا نفكِّر في ما نستطيع أن نعمله لكي ننتقل من الدين إلى الإيمان. كان الأنبياء منبِّهين الشعب: تتعلَّقون بالهيكل وتعتبرون أنَّ فيه خلاصكم. ومتى يُهدم هذا الهيكل، هل تتعلَّقون بحجارته وبما يبقى من أسواره أو أساساته؟ وكذا نقول عن الختان. ماذا ينفع ختانك إذا كنتَ لا تعيش بحسب الوصايا؟ فمن يعيش بحسب الوصايا هو أفضل منك يا من تحسب نفسك أفضل منه لأنَّك من هذه الديانة «الرفيعة» التي لا تجاريها ديانة.

قيل: الديانات تتلاقى. هذا خطأ فادح. فالديانات تتصارع، منذ الماضي واليوم وإلى نهاية الكون، بعد أن صارت الديانة حزبًا من الأحزاب، والطائفة كذلك. وأصحاب الديانات يتوافقون بقدر ما تتوافق مصالحهم. وإلاَّ هي الحرب. عرفت أوروبّا الحرب بين المسيحيِّين أنفسهم، بين البروتستانت والكاثوليك. واللاتين احتلُّوا القسطنطينيَّة الأرثوذكسيَّة واسبتاحوا كلَّ ما فيها. والصراع بين الطوائف المسيحيَّة لم يتوقَّف منذ الأريوسيَّة، حيث يقف كلُّ واحد في موقعه، ويعتبر أنَّه في «الحقيقة» والآخر على ضلال. فيجب أن يكون الجميع من ديانتي، وإلاَّ فهم هالكون!

لا، الديانات لا تتلاقى، بل المؤمنون من أيِّ ديانة كانوا. لهذا نستطيع القول: المتديِّنون عديدون، أمّا المؤمنون فقليلون. المؤمنون وحدهم هم أهل للاحترام، لا المتعصِّبون الذين يقتلون باسم الدين لكي يسيطروا على الآخرين.

وهكذا انتقل موسى من «الديانة» إلى الإيمان. كان بإمكانه أن يرافق الملك لعبادة الإله رع، كما طلب نعمان السوريّ من إليشع أن يفعل بعد أن شُفيَ من برصه (2 مل 5: 18). هي عادة اجتماعيَّة لا صلة لها بعمق الإنسان وحياته. مثل احتفالاتنا اليوم. هي لقاءات اجتماعيَّة نريد فيها أن يكون لنا مقامنا ومركزنا وإلاَّ نرفض المشاركة: من يمشي في المقدِّمة؟ من يكون له مركز الصدارة؟ من يكون «في أوَّل المتَّكآت في الولائم؟» (مت 23: 6). وفي «المجامع» من يكون له كراسي الشرف؟

آمن موسى فترك مركزه وراح يعيش مع شعبه. وسوف نرى من هم هؤلاء الذين قبِلَ أن يكون معهم. فالكتاب نفسه يدعوهم «الرعاع». جُمعوا من هنا وهناك، وما كانوا من نسل واحد، بل جمعتْهم العبوديَّةُ التي يعيشون فيها والحرِّيَّة التي يتوقون إليها. نحن نتذكَّر أنَّ أناسًا كثيرين من آسيا (سورية، لبنان، فلسطين...) هاجروا على دفعات إلى مصر، بسبب الجفاف الذي كان يحلُّ بالأرض. هذا ما فعله إبراهيم (تك 12: 1-11) ويعقوب مع أسرته (تك 46: 1ي)، وكاد يفعله إسحاق، إلاَّ أنَّ الربَّ باركه حين «حصد في تلك السنة مئة ضعف» (تك 26: 12). هؤلاء المهاجرون صاروا عبيدًا يعملون للملك. هم الذين أرادوا الآن الخروج من مصر. ولكن من يخرجهم؟ موسى. الربُّ دعاه: «هلمَّ أرسلك». راح موسى يعيش يومًا بعد يوم في هذا الإرسال. وسوف يحسُّ أن يد الله هي بيده ترافقه في كلِّ حين، في الفشل والنجاح، في الأمور الصعبة كما في الأمور السهلة. هل تصرَّف دومًا بحسب كلام الربّ؟ كلاّ. نحن كلُّنا خطأة. حين دافع عن ذاك العبرانيّ، ما كان له أن يقتل «المصريّ». فهل نقاوم الظلم بالظلم والقتل بالقتل؟ وماذا تكون النتيجة؟ الموت لا الحياة. وحين عبد الشعب العجل الذهبيّ، هل كانت الحاجة إلى هذه «المجزرة»؟ أفلتَ «بني لاوي»، جنوده المقرَّبين إليه فقتلوا عددًا كبيرًا دعاهم: «على كلِّ واحد منكم أن يحمل سيفه ويطوف المحلَّة من باب إلى باب ويقتل أخاه وصديقه وجاره» (خر 32: 27)، أهكذا نحافظ على «الدين» ؟أهكذا ننسى الإنسان ونهتمّ «بالسبت» كما قال الربّ، بهذا ننسى أنَّه جُعل من أجل الإنسان (مر 2: 27). هكذا ندافع عن الدين: نقتل من ليس من ديننا، نظلمه، نسيء معاملته، نفرض عليه ما لا نفرضه على نفوسنا إلى أن يركع ويسير في القافلة معنا. فنحن لا نريد أصواتًا نشازًا. أما كان ذلك مشروع الإمبراطور قسطنطين حين دعا إلى المجمع المسكونيّ؟ كان همُّه توحيد الشعب تحت رايته، بمن فيهم الأساقفة، فأرسل مركباته إلى المناطق. وإن هو جعل عيد الميلاد في 25 كانون الأوَّل، فقد كان همُّه أن يجمع تحت رايته المسيحيِّين والوثنيِّين. ماذا لا نعمل باسم الدين لكي نصل إلى فائدتنا البشريَّة!

2- من أنا حتّى أذهب

ذاك كان جواب موسى، وفي هذا الجواب أكثر من مقصد. هناك ربَّما كان تواضُعه يشبه تواضع الكثيرين، ولاسيَّما بين الإكليروس والرهبان والراهبات. نتواضع لكي ننال مديحًا أكبر. ندعو الآخر لأن يمرَّ بحيث يدعونا لكي نمرَّ قبله. كم نحن بعيدون عن الروح الإنجيليَّة المميَّزة ببساطتها، والعارفة أنَّ كلَّ ما فينا هو من الربّ، بحيث لا نتكبَّر ونحسب أنَّ مواهبنا هي من عندنا. نحن «نتواضع» فنقول: نحن لسنا بشيء. هكذا يُقالُ لنا: أنت، ألا تدري من أنت؟ الربُّ أعطانا المواهب وإن نحن ترافقنا معه، فهو يعمل بيدنا العجائب. من كان إبراهيم؟ راعي غنم. سمع كلام الربِّ فصار بركة للشعوب. وكذا نقول عن موسى الذي لجأ إلى كاهن في مديان وتزوَّج ابنته لكي يستطيع أن يؤمِّن حياته. فماذا صنع به الربّ؟ والرسل الذين كانوا صيَّادي سمك. بماذا يتكبَّر بطرس؟ ويوحنّا؟ ويعقوب؟ ووبَّخنا بولس الرسول: «ما هو لك خذه». وقال: «اختار الله ما يحتقره العالم» (1 كو 1: 28). فيبقى أنَّ «من أراد أن يفتخر ليفتخر بالربّ» (آ31). ومريم العذراء دعَتْ نفسها «أمة الربّ» (لو 1: 38) وأنشدت: «الله نظر إليَّ أنا خادمته الوضيعة» (آ48). ولكنَّها أعلنت بملء فمها: «جميعُ الأجيال تهنِّئني لأنَّ القدير صنع بي عظائم».

قال موسى: «من أنا حتّى أذهب؟» هو أيضًا جواب الخوف من الله كما من البشر. خوف من الله لأنَّه متطلِّب ولا يرضى بأنصاف الحلول. من لا يعطيه كلَّ شيء كان وكأنَّه لم يعطه شيئًا. لا شكَّ في أنَّه يرضى بالقليل الذي نعطيه ويأخذه. ولكنَّه يطلب ويطلب. فإن كان أعطانا ابنه الوحيد، فلماذا لا يطلب منّا كلَّ ما لدينا؟ نتذكَّر هنا الملك أحاز الذي قال له إشعيا: «إن لم يُؤمنوا لن تأمنوا» (7: 9). أي إن لم يكن عندكم إيمان بالله، لا تنتظروا أن تكونوا في أمان وسلام. فهذا الملك عاش القلق، فجاءه النبيّ وقال له: «اطلب لنفسك آية من عند الربِّ إلهك، إمّا من أعماق الهاوية، وإمّا من أعالي السماء» (آ11). ما وضع له حدودًا. فالربُّ الذي هو خالق السموات والأرض، يعرض على الملك مساعدة في احتياجاته. كان بإمكان الملك أن يعبِّر عمّا في قلبه، فلم يفعل، بل تهرَّب مختبئًا وراء الكتاب المقدَّس الذي يمنع المؤمن من أن يجرِّب الله (تث 6: 6). قال أحاز الملك: «لا أطلبُ ولا أجرِّب الربّ» (إش 7: 12). فإن طلب من الربِّ، طلب الربُّ منه أن يترك «أصنامه»، أن يترك الاتِّكال على ملك أشور الذي ليس ببعيد عن أورشليم ولكن ها هو يستعدُّ ليمضي إليه ويأخذ الأوامر، منه لا من الله بواسطة النبيّ.

خاف هذا الملك من الربّ. ومثله موسى. في أيِّ مغامرة يدخلني الله؟ فأنا مرتاح هنا ولا أحد يقلقني. ولكنَّ الربَّ سيسير مع موسى في تردُّده حين يقدّم أكثر من عذر. الأوَّل: «من أنا حتّى أذهب إلى فرعون؟» (خر 3: 11). ولكنَّك ابن فرعون. بشريًّا أنت على مستواه. ثمَّ هل تعرف باسم من تذهب؟ ألا تؤمن أنَّ الذي يرسلك أقوى من فرعون وأهمّ؟ وأعلن الربُّ له بشكل احتفالي: «أنا أكون معك» (آ12). نتخيَّل! الله معه وهو ما زال يتردَّد. وهذا درسٌ لنا بعد أن صار الله لنا «عمانوئيل» أي إلهنا معنا!

وجاء العذر الثاني الذي هو أخطر: «ما اسمك لكي أخبر به الشعب؟» لا شكَّ في أنَّ الربَّ لا يعطي اسمه. «أنا هو الذي هو» (آ14). أنا حاضر معك. أنا أعمل معك. وما الحاجة إلى اسمي وكأنَّك تريد أن تسيطر عليَّ! يجب أن نعرف أنَّ الإنسان لا يقدر أن يسمِّي الله، بل إنَّ «التسميات» التي نعرف هي صفة من صفاته: فلفظُ الله، أو إيل، يدلُّ على قدرته. و«عليون» هو العليّ. و«شدّاي» هو إله الجبال. لهذا قالت التوراة: إله إبراهيم. أي ذاك الذي تعبَّد له إبراهيم. وكذلك إله إسحاق وإله يعقوب. فهؤلاء الآباء يربطون نفوسهم بذاك الذي يحتمون به ولا يعرفون اسمه. أمّا في المسيحيَّة، فالله هو أبٌ، مثل آبائنا وأمَّهاتنا، وإن يكن متساميًا عنهم بما لا حدود له. والله هو ابن الله الوحيد وأخ لجميع البشر «وهو لا يستحي أن يدعوهم إخوته» (عب 2: 11). شابههم في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة، وأشركهم في كلِّ ما هو وما يملك: هو ابن وهم أبناء وبنات. هو كاهن وهم نسل كهنوتيّ. هو شفيع وهم يتشفَّعون معه. هو وسيط وهم وسطاء معه. هو افتدانا بآلامه ونحن نشاركه في هذه الآلام من أجل جسده الذي هو الكنيسة (كو 1: 24).

والعذر الثالث. أرسل الربُّ موسى إلى الشيوخ، فأجاب: «ها هم لا يصدِّقونني ولا يسمعون لقولي» (خر 4: 1). ولماذا لا يسمعون؟ أتُرى كلامه غير صادق؟ هل حياتك لا توافق أقوالك، فتكون من فئة الذين يقولون ولا يفعلون؟ (مت 23: 3). ومع ذلك، أعطى الربُّ موسى القدرة بأن يقوم بأعمال تُدهش الناس، وهي أقرب إلى السحر. وأطلَّ العذر الرابع: «لستُ أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أوَّل من أمس، ولا من حين كلَّمتَ عبدك، بل أنا ثقيلُ اللسان» (خر 4: 10). أخذ يتلعثم في حضرة الله، وهذا أمر طبيعيّ من قبل كلِّ إنسان. ففي حضرة من هو القدير والقدُّوس، نحن كلّنا ضعفاء وخطأة. ونحن نتذكَّر أنَّ زكريّا والد يوحنّا المعمدان ما عاد يقدر أن يتكلَّم بعد أن رأى في الهيكل رؤيا (لو 1: 22). غير أنَّ الصعوبة التي ادَّعى موسى أنَّها موجودة عنده منذ يومين فقط، هي مخبأ فيه يتهرَّب من تأدية الرسالة. ومع ذلك، أطال الربُّ عليه روحه، وأعطاه الجواب الشافي: «من صنع للإنسان فمًا، أو من يصنع الأخرس أو الأصمّ أو البصير أو الأعمى؟ أما هو أنا الربّ؟» (آ11). وأعاد الأمر مرَّة أخرى: «فالآن اذهب» (آ12). هل عندك بعد أعذار؟ «اذهب وأنا أكون فمك وأعلِّمك ما تتكلَّم به» (آ12).

ماذا ينتظر موسى لكي ينطلق في الرسالة التي يدعوه الربُّ إليها؟ يرسَل لكي يتكلَّم؟ يكون الله مع فمه. يجعل في فمه الكلام الواجب قوله. فماذا ينتظر بعد؟ ولكن ما زال الخوف مسيطرًا عليه. الخوف من البشر! الخوف من الفشل! الخوف على نفسه إن وجد معارضة. وسوف يقولون في وقت من الأوقات: «نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر» (عد 14: 4). بل هدَّدوه بالقتل. لهذا جاء رفضُ موسى قاطعًا: «استمع أيُّها السيِّد، أرسل بيد من ترسل» (آ13). أي أرسلْ من تريد واتركْني وشأني! نلاحظ «الجسارة»، وكدت أقول «الوقاحة» في الرفض. الله يريده كبيرًا، مميَّزًا، وهو يريد أن يبقى صغيرًا، عاديًّا، عائشًا في أنانيَّته! فهذا الذي «رأى» الربَّ من خلال العلَّيقة الملتهبة، وسمع صوته من خلال النار، وخلع من رجليه وركع لامسًا الأرض بجبهته، ها هو يقول لله: كلاَّ. لستُ مستعدًّا أن أمضي إلى حيث تريدني، وهذا مع أنَّه نال كلَّ الضمانات.

ويقول الكتاب: «حميَ غضبُ الربِّ على موسى» (آ14). هي طريقة بشريَّة في الكلام على الله، فيبدو مثل أب «يغضب» على ابنه، أي ينزعج لأنَّه يريده أن يكبر وينمو. ونستطيع القول: إنَّه تأسَّف. نتذكّر ذاك الغنيّ الذي جاء يطلب من يسوع تعليمات لكي ينال الحياة الأبديَّة. حدَّثه الربُّ عن الديانة وعن الوصايا. نجح في الفحص: «هذا حفظته منذ صباي» (مر 10: 20). حياته حياة إنسان لطيف مع الأهل والأصدقاء، لا يزعج أحدًا ولا يريد أن يزعجه أحد. وخصوصًا لا يريد أن يزعجه الله ذاتُه. غير أنَّ يسوع يعمل كما عمل الربُّ مع موسى. فهو لا يتوقَّف في منتصف الطريق. قال: «يعوزك شيء واحد» (آ21). إذا أردتَ أن تكون «بطلاً» من أبطال السماء، «يعوزك شيء واحد». تجرَّدْ من كلِّ ما تملك «وتعال اتبعني». عندئذٍ مضى حزينًا واختفى خبره. كان بالإمكان أن يكون بين الاثني عشر الذين يجلسون على اثني عشر كرسيًّا ويدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر (مت 19: 28)! كان بإمكانه أن يرافق يسوع في تجاريبه فينال الملكوت الذي أعطاه الآب لابنه (لو 22: 28). ولكنه مضى. دُعي إلى فرح العطاء فأختار الحزن ولجأ إلى أنانيّة قاتلة.

وموسى مضى حزينًا بعد أن قال للربّ: «أرسلْ من تريد». ولكنَّ الله وضع عينه على موسى فما أراد أن يتراجع، لهذا أرسل إليه أخاه هارون: «أليس هارون اللاويّ أخاك؟ أنا أعلمُ أنَّه هو يتكلَّم، وأيضًا ها هو خارج لاستقبالك. فحين يراك يَفرحُ قلبه فتكلِّمُه وتضع الكلمات في فمه. وأنا أكون مع فمك ومع فمه، وأعلِّمكما ماذا تصنعان» (خر 4: 14-15).

وهكذا استطاع موسى أن ينطلق في الرسالة. لا وحده، بل مع أخيه. تلك تكون العادة التي وصلت إلى الإنجيل. فالربُّ يسوع ما أرسل شخصًا واحدًا وحده. قال الإنجيل: «أرسلَهم اثنين اثنين يتقدَّمونه إلى كلِّ مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه» (لو 10: 1). هكذا مضى شاول (أو بولس) مع برنابا، ثمَّ مع سيلا، هذا إذا لم يكن فريقٌ رسوليّ واسع. عندئذٍ لم يَخَفْ موسى من فرعون: «هكذا يقول الربّ: أطلقْ شعبي ليعيِّدوا لي في البرِّيَّة» (خر 5: 1). كما لم يخف من رؤساء القبائل. مضى إليهم وكلَّمهم فكان النجاح كاملاً: «آمن الشعب لمّا سمع أنَّ الربَّ افتقد شعبه، ونظر إلى مذلَّتهم، فخرُّوا ساجدين» (خر 4: 31).

3- مسيرة الحرِّيَّة

بدأ موسى فتحرَّر من كلِّ خوف، كما تحرَّر من غنى مصر، فبقيَ عليه أن يحرِّر الماضين معه، وما أدراك ما نوعيَّة الذين يرافقونه؟ يتحدَّث الكتاب عن «شعب»، ولكن أين هو هذا الشعب؟ فالكتاب يحدِّثنا أوَّلاً عن عبور البحر الأحمر. فالهاربون عاشوا الخطر معًا، ونجوا معًا من فرعون، وخصوصًا من البحر الذي لم يعد حاملاً الموت، بل كان سورًا لهم يحميهم عن اليمين وعن اليسار، ويفتح لهم الطريق. والسبب: لأن قدرة الربِّ تسير أمامهم وعصا الريح توجِّههم. ولكن لا نستطيع أن نتكلَّم عن شعب منظَّم إلاَّ بعد عبور الأردنّ والختان الذي مرَّ فيه الذكور، فعرف كلُّ واحد أنَّه ينتمي إلى الربّ، لا إلى الأصنام ولا إلى ملك من الملوك. فالربُّ هو ربُّهم وهو ملكهم. وهذا ما سوف يعلنه يشوع في نهاية المسيرة ونهاية الكتاب. ذكَّرهم بالمسيرة مع الربِّ فقالوا: «حاشا لنا أن نترك الربَّ لنعبد آلهة أخرى، لأنَّ الربَّ إلهنا هو الذي أصعدنا وآباءنا من أرض مصر، من بيت العبوديَّة» (يش 24: 16-17).

هي نهاية المسيرة مع العهد في شكيم (قرب السامرة). ولكنَّ البداية كانت صعبة جدًّا. وبين البداية والنهاية، جيل كامل امتدَّ على أربعين سنة. فوجب على موسى أن يرافق هؤلاء «الفارِّين» من أرض مصر، ويجعل منهم «جماعة ليتورجيَّة « سوف تجتمع قرب جبل سيناء. هذا يعني أنَّه يحتاج إلى الصبر وطول الأناة. فمنذ طلعوا من البحر سالمين وأنشدوا نشيد الخلاص، بدأوا يتذمَّرون على موسى. «ماذا نشرب؟» (خر 15: 24). المياه مرَّة، لا شكَّ في ذلك. وهي تختلف عن مياه النيل، ذاك النهر الذي ألَّهه المصريُّون واعتبروه مصدر الحياة لهم. قالوا عنه: «هو أبو الآلهة... الوحيد الذي يخلق نفسه بنفسه، والذي يجهلون مصدره... ربُّ الأسماك والغنيّ بالحبوب».

مياه صحراويَّة وقريبة من البحر. داواها موسى بأوراق إحدى الشجرات، وانحلَّت العقدة. وأطلَّت صعوبة أكبَر من هذه: «تذمَّر كلُّ جماعة بني إسرائيل... ليتنا متنا بيد الربِّ في أرض مصر إذ كنّا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزًا للشبع. فإنَّكما (يا موسى وهارون) أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كلَّ هذا الجمهور بالجوع» (خر 16: 2). مقابلة قاسية بين برِّيَّة قاحلة وأرض مصر الخصبة. أهذا ما منحه الربُّ لشعبه؟ هل أتى بهم إلى الحياة أم إلى الموت؟ وسوف يرافق هذا الحنين إلى مصر، الشعبَ طوال الطريق، بحيث لن يدخل إلى أرض الموعد سوى الذين وُلدوا في البرِّيَّة.

وفي مناسبة ثالثة، «خاصم الشعب موسى وقالوا: "أعطونا ماء لنشرب". فقال لهم موسى: "لماذا تخاصمونني؟ لماذا تجرِّبون الربّ؟" (خر 17: 2). عندئذٍ صرخ موسى إلى الربِّ قائلاً: "ماذا أفعل بهذا الشعب؟ بعد قليل يرجمونني"» (آ4).

وهكذا كانت المسيرة في البرِّيَّة. الشعب يتذمَّر على موسى أمام الصعوبات المتتالية. وموسى يصرخ إلى الربّ. وفي مرَّة من المرّات، يذكِّر الربَّ بواجباته. هو الأب والأمُّ لهذا الشعب، فلماذا يضع كلَّ هذا الثقل عليه: «ألعلِّي حبلتُ (مثل أمٍّ) بجميع هذا الشعب؟ ألعلِّي ولدتُه حتّى تقول لي احمله في حضنك كما يحمل المربِّي الرضيع...؟ لأنَّكم يبكون عليَّ... لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع هذا الشعب لأنَّه ثقيل عليَّ» (عد 11: 12-14). ووصلت الأمور بهذا «القائد» إلى اليأس، وكأنَّه يقول للربّ: تتركني أعمل وحدي! هل أنا المسؤول أم أنت؟ وينهي كلامه باكيًا: «إن كنتَ تفعل بي هكذا، فاقتلني قتلاً إن وجدتُ نعمة في عينيك لئلاَّ أرى بليَّتي» (آ15).

ولكن مع كلِّ هذه الصعوبات، هل تخلَّى موسى عن شعبه؟ بل هو لم يقبل، مع أنَّ الله عرض عليه ذلك أكثر من مرَّة. كما دافع عنهم حين أراد الله أن «يضربهم» بعد خبرة العجل الذهبيّ. «هذا الشعب اقترف خطيئة عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب» (خر 32: 31). ماذا يطلب لهم؟ «اغفر لهم خطيئتهم». وإن كنت لا تشاء «فامحُني من كتابك التي كتبت» (آ32) أي أفضِّل أن أموت ولا أرى شعبي معاقَبًا بهذا القدر. كأنِّي به يستعدّ أن يأكل الضربة ولا يريد أن ينالها هؤلاء الذين رافقوه، وإن خطئوا.

ومرَّة قال الربُّ لموسى إنَّه مستعدٌّ أن يتخلَّى عن هذا الشعب، ويؤسِّس له مع موسى شعبًا آخر. ولكنَّ موسى تضامن معهم حتّى النهاية، وعمل على إقناع الربّ: ماذا يقول المصريُّون؟ يقولون: أدخلهم إلى البرِّيَّة وهناك قتلهم. أترضى بأن يقولوا هذا عنك (عد 14: 16)؟ ومتى دافع موسى عن شعبه؟ حين أراد الشعب أن يرجمه (آ10). عندئذٍ ظهر مجد الربِّ في خيمة الاجتماع... وقال: «إلى متى يهينني هذا الشعب؟... إنِّي أضربهم بالوباء وأبيدهم» (آ11). وذكَّر الربَّ بصفاته الحلوة: هو طويل الروح (طويل البال)، مملوء لطفًا، يغفر الذنوب والخطايا. وقال موسى: «اصفح عن هذا الشعب كعظمة لطفك، كما غفرتَ من مصر إلى ههنا». وكان جواب الربّ: «صفحتُ حسب قولك» (آ20).

ونتعرَّف إلى موسى كما شهد فيه الرب من خلال الكتاب: «كان رجلاً حليمًا، متواضعًا، أكثر تواضع من جميع الناس الذين هم على الأرض» (عد 12: 3). تلك صفة أساسيَّة في من يرسله الله من أجل عمل تحريريّ. لا يحسب نفسه «رئيسًا» يريد السيطرة والسيادة. لا يسكتهم بسلطته التي لا تُناقَش مهما فعل لهم. يصرخون فيسمع صراخهم. يتذمَّرون فيفهم تذمُّرهم. هو مثل الأمِّ في البيت التي تتحمَّل أولادها وتربِّيهم وتنمِّيهم شيئًا فشيئًا. طلب موسى من الربِّ أن يكون طويل البال، فتعلَّم هو هذه الصفة الأساسيَّة التي لا تستعجل الأمور، بل تنتظر الوقت المناسب، وتستعدّ لاقتبال معونة الربّ. ومع ذلك، لا يكون عند  «المرسل» تراجع، مهما حاول الذين معه أن يفعلوا. الهدف هو أرض الموعد، تلك الأرض التي تدرُّ لبنًا وعسلاً، لأنَّها أرض الربّ، وهكذا تكون أرض السعادة.

حسده أخوه هارون، وربَّما أخته مريم: «هل كلَّم الربُّ موسى وحده؟ ألم يكلِّمنا نحن أيضًا؟» (عد 12: 2). لا شكَّ. فالربُّ يكلِّم الجميع وكلَّ واحد من موقع مسؤوليَّته. هل غضب موسى على مثل هذا الموقف وهذا الكلام؟ كلاّ، بل ترك الربَّ يفعل. قال: «إن كان منكم نبيّ للربّ، فبالرؤيا أستعلن له، في الحلم أكلِّمه. وأمّا عبدي موسى فليس هكذا. بل هو أمين في كلِّ بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلَّم معه، لا بالألغاز، وشبه الربِّ يعاين» (آ6-8).

تلك هي الصفة الأساسيَّة عند من يرسله الربّ: الأمانة. والأمانة هي بنت الإيمان. أي نعمل مع ذاك الذي لا يُرى وكأنَّنا نراه. هكذا كان موسى في طريقه الصحراويَّة مع شعب عانَد وأكثر، وفي النهاية وصل إلى مشارف الأرض، وصل إلى تلال موآب ومن هناك نظر إلى غربيّ الأردنّ.

الخاتمة

تلك كانت مسيرة موسى مع الربّ. تردَّد في البداية لألف سبب وسبب. ولكن حين وضع يده بيد الله، وأحسَّ بقوَّة تنتقل إليه، بحيث أجرى المعجزات بواسطة عصا الربّ، انتزع الخوفَ من قلبه وانطلق ولا شيء يوقفه. وأخذ عواطف الربِّ كما قال لنا بولس الرسول: «اقتدوا بالله كأبناء أحبّاء» (أف 5: 1). «لا تخرج كلمة شرّ من أفواهكم، بل كلُّ كلمة صالحة للبنيان عند الحاجة وتفيد للبنيان... وليكن بعضكم لبعض ملاطفًا، رحيمًا، غافرًا... « (أف 4: 29ي). بمثل هذه الصفات يتحلَّى ذاك الذي يرسله الله من أجل شعبه. هو مسؤول أي يسأله الله عمّا فعل بالوزنات التي نالها، وكيف تعامل مع الضعفاء وما حاول أن يرضي نفسه. وكيف أطال روحه مع الذين لا يقدرون أن يسيروا مسيرته، لأنَّهم تعبوا أو لأنَّهم لا يرون ما يراه هو. لهذا يحاول إقناعهم، ويصلِّي لأجلهم. حتّى ولو تعبتْ يداه، يرفعهما باتِّجاه الله. وخصوصًا، لا يغسل يديه أمام الموقف الواجب اتِّخاذه. ولا ينام على حرير وكأنَّ الأمور تسير على ما يرام. إنَّه يحمل همَّ الجميع على ما قال الرسول عن نفسه: «من يضعف وأنا لا أضعف معه؟ ومن يقع في الخطيئة وأنا لا أحترق من الحزن عليه!» (2 كو( 11: 29).

هلمَّ فأرسلك. سمع موسى النداء. ومثله كثيرون. وإلى اليوم يتوجَّه الله إلى كلِّ واحد منّا، فيدعونا، ويدعو بشكل خاصّ أولئك الذين أوكلهم بشعبه. وأرسلهم. وما أجملهم يعودون مثل الرسل ويخبرون المعلِّم «بكلِّ ما عملوا وعلَّموا» (مر 6: 31). فينشد يسوع: «أحمدك يا أبتِ، يا ربَّ السماء والأرض!» (مت 11: 25).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM