الفصل الثامن : السيِّد المسيح أمام بيلاطس البنطيّ

الفصل الثامن

السيِّد المسيح أمام بيلاطس البنطيّ

الحكم على يسوع وصلبه وقيامته، كل هذه الأمور أحداثٌ هامة في نظر المسيحيين الأولين. ولا شك بأنه وُجد أرشيف خاص يحمل المراسلات بين بيلاطس والسلطة الرومانيّة. ولكن بما أنهم لم يجدوا أية وثيقة، استنبطوا نصوصًا في هذا المجال. وها نحن نقدّم نصًا عربيًا وصل إلينا: هو يبرز وجه بيلاطس من جهة، واهتمام يسوع بأن يواصل مسيرته من جهة أخرى. وينتهي كل شيء يحزن الطبيعة ودور يوسف الراعي. هذا ما جاء في رسالة بعث بها بيلاطس إلى الامبراطور طيباريوس قيصر الذي حكم رومة بعد أوغسطس، من سنة 14 إلى سنة 37.

1-   مصاعب تواجه بيلاطس لدى دخوله أورشليم

بعد تقديم ما يجب لسامي المقام من السلام والإكرام أعرض: إنَّ الحوادث التي حصلت في ولايتي في هذه الأيّام، هي ذات شأن عظيم، حتّى رأيتُ من المناسب أن أحرِّر لجلالتكم تفصيلاتها، لأنَّه لا عجب إذا كانت تغيِّر مستقبل أمَّتنا مع مرِّ الأيّام وكرِّ الأعوام. لأنَّه يظهر لي أنَّ الآلهة غضت الطرف وتخلَّت عنّا في هذه الأيَّام، حتّى إنِّي أكاد ألعنُ اليوم الذي استلمت فيه زمام حكومة اليهوديَّة عقب «فاليريوس غراتيوس»، ولكن هكذا قدِّر وهكذا صار.

عند وصولي إلى أورشليم استلمتُ محلَّ القضاء، وأمرت بإعداد وليمة فاخرة دعوت إليها رئيس ربع الجليل ورئيس الكهنة وحاشيته ومعيَّته. ولكن لم يحضر أحد منهم في الميعاد المقرَّر للحضور، فاعتبرت ذلك سبَّة وإهانة لمركزي ومقامي. وبعد أيَّام قليلة تنازل جنابُ رئيس الكهنة وزارني. وكانت تلوح على وجهه الهيبة والخداع، وادَّعى أنَّ ديانته لا تبيح ولا تجيز له ولا لحاشيته الجلوس على مائدة الرومانيِّين وإهراق السكائب معهم. فرأيت أنَّ الأقرب إلى الصواب والسياسة قبول اعتذاره. ولكن تأكَّدت من هذه اللحظة أنَّ الأمَّة المقهورة التابعة لنا، أضمرت العدوان والمناوأة لأسيادها المستولين عليها. ويظهر لي أنَّ مدينة أورشليم هي المدينة الوحيدة التي يصعب حكمها بخلاف باقي المدن التي استولينا عليها، فإنَّ دأبَ سكانّها الميلُ إلى العدوان والهيجان والاضطراب بحيث إنَّني دائمًا في أرق وجزع وفزع، لئلاَّ يخلعوا دثار الطاعة ويُحدثوا القلاقل والفتن. وليس عندي لقمعهم وإخضاعهم سوى قائد مائة وشرذمة قليلة من العساكر تعدُّ بالأصابع. وطلبت من والي سورية أن يرسل لي إمدادات، فأخبرَني أنَّه لا يستغني عن نفر واحد من عساكره. فإنَّهم غير كافين لحماية ولايته وحفظ الأمن إلاَّ بشقِّ النفس.

وأخشى أنَّ التولُّع الزائد لفتح البلاد وتدويخ العباد وتوسيع مملكتنا بزيادة فاحشة حتّى نعجز عن حمايتها والدفاع عنها، يكون سببًا في ضعضعة أركان حكومتنا الفخيمة.

2-   يسوع الناصريّ موضوع احترام لدى بيلاطس

ومن الإشاعات التي طرقَتْ أذني واستلفتت أنظاري بنوع خصوصيّ هذه الإشاعة: وهي أنَّ شابًّا ظهر في الجليل يدعو الناس بمسحة ولهجة شريفة إلى شريعة جديدة. وكنت أحشى في مبدأ الأمر أن تكون غايته توغير الصدور على الرومانيِّين وإغراءهم على القيام عليهم، ولكن زال ما كان يختلج فؤادي من الريب وانقشعت مخاوفي. فكان يؤخذ من كلام يسوع الناصريّ أنَّه يميل إلى الرومانيِّين أكثر من ميله إلى اليهود.

وفي ذات يوم لمّا كنت مارًّا في «جهة سلوا» حيث كان مجتمعًا جمهورٌ من الناس، رأيت في بهوة الحلقة شابًّا متوكِّئًا على شجرة يخاطب الجمهور بهدوء وسكون. فقلت بعد الاستفهام إنَّ هذا الشخص هو يسوع، وهو ما كنت أنتظره وأتوقَّعه ويلهمني إليه وجداني.

فإنَّه كان يوجد بينه وبين السامعين بون عظيم وفرق جسيم. فلونُ شعره الذهبيّ ولحيته اللطيفة جعلت هيأته سماويَّة، ويظهر أنَّه بلغ من العمر ثلاثين سنة.

ولم أرَ في حياتي وجهًا صبوحًا أحلى أو أصفى أو أنقى من وجهه.

وما أعظم الفرق بينه وبين سامعيه ذوي اللحى السوداء واللون الأسمر.

ولمّا كنت لا أريد أن أشوِّش عليه، استمررت في السير، ولكنِّي أوعزت إلى كاتبي «مانيليوس» حفيد زعيم المتآمرين الذين حلُّوا في «أترورية» في انتظار «كاتلين»، وكان مانيليوس سابقًا من اليهوديَّة وله إلمام تامّ باللغة العبريَّة، وأظهر الولاء والأمانة لي وهو جدير بثقتي.

ولمّا دخلت محلَّ القضاء لقيت «مانيليوس»، فقصَّ عليَّ أقوال يسوع التي نطق بها في «سلوا»، ولم أسمع في خطب الخطباء ولا في مؤلَّفات الفلاسفة كلامًا يشبه كلام المسيح وجوامعَ كلِمه.

3-   بيلاطس يتأثَّر بتعليم يسوع ويعطيه حرِّيَّة التبشير

فسأله أحد اليهود القساة العصاة – فإنَّ أمثال هذا العاتي كثيرون في أورشليم – وقال له:

هل يجوز أن نعطي الجزية والجباية لقيصر أم لا؟

فأجاب يسوع: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». فلذا أعطيت هذا الناصريّ بسبب حكمة أقواله حرِّيَّة تامَّة، لأنَّه كان في استطاعتي وإمكاني إلقاء القبض عليه ونفيه إلى بنطس. ولكن لو فعلت هذا لكان منافيًا للإنصاف والعدل اللذين اشتهر بهما الرومان. فلم يكن هذا الرجل من المفسدين ولا من العصاة. وجعلته تحت ظلِّ حمايتي ورعايتي، وإن لم أطلعه على ذلك، فيجوز له أن يفعل كيف يشاء ويتكلَّم مع من يشاء ويجتمع مع الناس ويخاطبهم ويختار تلاميذه بلا تضييق عليه ولا قيد. فإذا قدر (لا سمحت الآلهة بوقوع هذا الفال) بأن تَنسخ ديانةُ يسوع ديانةَ أسلافنا وجدودنا، يكون سبب دفن ديانة رومية في الرمس وزوالها من الوجود وإطلاق عنان الحرِّيَّة للناس في الديانة، وأكون أنا الرجل التعيس آلة ووسيلة، فيما يسمِّيه المسيحيُّون العناية، ونسمِّيه نحن بالمكتوب المقدَّر.

ولكنَّ إطلاق الحرِّيَّة ليسوع هيَّج اليهود الأغنياء والأقوياء لا البائسين الفقراء – ولا يُنكَر أنَّ يسوع كان صارمًا على الأغنياء الأقوياء – ومن رأيي أنَّ عدم تقييد حرِّيَّة الناصريّ هو حكمة سياسيَّة مفيدة. فكان يقول للكتبة والفرِّيسيِّين ما نصُّه: «يا أولاد الأفاعي أنتم تشبهون القبور المبيَّضة». وكان يزدري بصدقة العشّارين الصادرة عن الكبرياء، وأوضح لهم أنَّ فلس الأرملة هو عند الله خير وأبقى وأثمن وأغلى. وكانت تقام شكاوى جديدة كلَّ يوم في محلِّ القضاء على وقاحة اليهود. وبلغني أنَّهم عزموا على الفتك به، وليست هذه المرَّة الأولى التي رجمَتْ فيها أورشليمُ أنبياءها. وبلغ عتوُّهم أن قالوا إذا لم تنصفهم الولاية رفعوا دعواهم إلى قيصر.

ومع كلِّ هذا، وقعَ سلوكي من مجلس «السناتو» في رومية موقع الاستحسان، ووعدوني بإرسال الإمدادات بعد الحرب «البارتيانيَّة». وبما أنَّه إذا استفحل الأمر وحصلت ثورة، فليس في استطاعتي إخمادها لعدم وجود القوَّة الكافية، فلذلك عزمت على اتِّخاذ هذه الطريقة التي تتكفَّل باستتباب الهدوء والسكون في المدينة بدون تعريض الولاية للذلِّ والاستكانة بالرضوخ لمقترحاتهم.

4-   بيلاطس ينصح يسوع بتقدير الظروف المعادية

أرسلت خطابًا إلى يسوع، طالبًا مقابلته في محلِّ القضاء للتحدُّث معه، فلبَّى الطلب. ولا يخفاكم أنَّ في عروقي يجري الدم الأسبانيولي المختلط بالدم الرومانيّ، بحيث لا أخشى من اضطراب الجأش. ولمّا وصل كنت أتمشَّى في المحكمة وظهر أنَّ قدمَيَّ رُبطتا بيد من حديد بأرض المحكمة المبلَّط بالرخام، وارتعدَتْ فرائصي كأنِّي مجرم، مع أنَّ الناصريّ كان هادئًا ساكنًا. ولمّا دنا منِّي، وقف وأشار إليَّ كأنَّه يقول لي: «ها أنا أتيت». فتفرَّستُ بالانذهال والهيبة في هذا الرجل العجيب الصورة والهيئة التي لم يكن لقرائح المصوِّرين والنقّاشين أن يأتوا بمثل هذا الشكل البديع، مع تفنُّنهم في رسم صور الآلهة والأبطال. وأخيرًا قلت له ولساني متلعثم: «يا يسوع الناصريّ منحتُك في الثلاث سنين الماضية حرِّيَّة وافرة لتخاطب الناس، وإنِّني غير متأسِّف على هذا، فإنَّ أقوالك هي أقوال حكيم ولا أعرف إذا كنتَ طالعت كتب "سقراط" أو "أفلاطون" أو غيرهما. ولكنّ الأمر الأكيد عندي هو أنَّ خطاباتك وأقوالك مشهورة بالبساطة السامية التي ترفع قدرك على أولئك الفلاسفة. وبلغ الإمبراطور خبر هذا، وبما أنَّني النائب عنه في الحكم على هذه الأمَّة، فأنا منشرح لأنَّني منحتك هذه الحرِّيَّة فإنَّك جدير بها...».

«... ومع ذلك فلا أخفي عليك أنَّ أقوالك وخطاباتك أحدثَتْ لك أعداء أقوياء ألدَّاء، ولا عجب في هذا فقد كان لسقراط أعداء، ومن شدَّة بغضهم له جرَّعوه غصص المنون. وأعداؤك يستاؤون منك لسببين: أوَّلهما أقوالك، وثانيهما الحرِّيَّة التي خوَّلتُها لك. بل اتَّهموني بالاتِّحاد معك سرًّا لنجرِّد العبرانيِّين من السلطة الطفيفة التي تركَتْها رومية لهم. فغاية ما ألتمُسه منك، ولا أقول على سبيل الأمر، هو أن تزداد تبصُّرًا واحتياطًا في المستقبل، وأن لا توغر صدور أعدائك لئلاَّ يهيِّجوا عليك الأوباش، ويحملوني على استعمال آلات العدل...».

5-   يسوع يتمسَّك بمتابعة التبشير ويقبل المخاطرة

فأجاب يسوع الناصريّ بهدوء:

«يا حضرة أمير الأرض، إنَّ أقوالك هذه ليست صادرة من الحكمة الحقيقيَّة. أيجوز أن تقول للتيّار: قفْ في وسط الجبل، لأنَّه يستأصل أشجار الوادي؟ إذن لأجابك هذا التيّار الجارف قائلاً: يجب عليَّ أن أطيع نواميس الخالق، فالله هو الذي يعرف وحده المحلَّ الذي يصبُّ فيه التيّار. الحقَّ أقول لك إنَّه قبل أن يزهر نرجس شارون يهرُق دمُ البارّ».

فأجبته بروعة وقلت له: «لا يُسفَك دمك، فإنَّ منزلتك عندي بالنظر إلى حكمتك هي أسمى من منزلة جميع الفرِّيسيِّين المتغطرسين الميّالين إلى الهيجان والعدوان، الذين لم يعرفوا قيمة الحرِّيَّة التي خوَّلها لهم الرومان، بل تألَّبوا على القيصر وتآمروا وتوهَّموا أنَّ ما أظهرناه لهم من اللين هو خوف. ولم يدرِ هؤلاء الأسافل الوقحاء أنَّه قد يلبس أحيانًا ذئب الأحراش جلد الغنم. وعلى كلِّ حال إنَّني سأحميك من مكائدهم، وسراي عدالتي هي مفتوحة لك تلتجئ إليها في أيِّ وقت شئت».

فأطرق يسوع رأسه بلا مبالاة ولا اهتمام، وقال بلطف وتبسُّم: «إلهي، متى حلَّ يوم ابن الإنسان لا يكون له ملجأ في الأرض ولا تحت السماء، وإنَّ ملجأ البارِّ هو هناك». قال هذا مشيرًا إلى السماوات وإنَّه ينبغي أن يتمَّ ما هو مكتوب في كتب الأنبياء.

فأجبته بتؤدة وقلت له: «أيُّها الشابُّ، إنَّك تلزمني على تغيير طلبي إلى أمر، فإنَّ سلامة الولاية التي فوِّض لي الاهتمام بشأنها تستلزم ذلك، والواجب عليك أن تراعي زيادة الاعتدال في خطاباتك، واتبعْ أوامري ولا تنقضْها، ولترافقْك السعادة، وأودعك في أمان الله».

فأجاب يسوع وقال:

«يا أمير هذه الأرض، إنِّي لم آتِ بحرب إلى هذا العالم بل أتيت بسلام ومحبَّة. ووُلدت في اليوم الذي أعطى فيه أغسطس قيصر سلامًا للعالم الرومانيّ. فالاضطهاد لا يصدر منِّي بل من غيري، وسألاقيه طاعة لإرادة أبي الذي أراني الطريق. إذا أكظم تبصُّرك الدنيويّ فليس في طاقتك ولا في استطاعتك أن تحجز الذبيحة عن الفداء»... قال هذا واختفى كظلِّ لامع خلف ستار السراي. فالتجأ اليهود أعداء يسوع إلى هيرودس الذي كان واليًا على الجليل، وطلبوا منه أن ينفث انتقامه على الناصريّ. فلو فُوِّض الأمر لهيرودس، لأمرَ بقتل المسيح حالاً. ولكن مع تباهيه وافتخاره بمقامه الملوكيّ، كان يخشى من الإقدام على عمل يحطُّ من نفوذه.

(قال بيلاطس): ففي ذات يوم زارني هيرودس في محلِّ الولاية. ولمّا عزم على الانصراف بعد أحاديث تافهة، استفهم منِّي عمّا أراه بخصوص الناصريّ، فأجبته قائلاً: «يظهر لي أنَّ يسوع هو من كبار الفلاسفة الذي يندر ظهور مثله في الأمم العظيمة، وأنَّ تعاليمه لا تمسُّ حرمة الدين مطلقًا. وأنَّ غاية رومية أن تطلق له عنان الحرِّيَّة في الخطابة، فإنَّ سلوكه وتصرُّفه يجعلان له حقًّا في ذلك». فتبسَّم هيرودس تبسُّم الحقد والخبث، وانصرف إلى حال سبيله بعد أن سلَّم عليَّ سلام متهكِّم.

6-   هياج الشعب ومطالبتهم بصلب يسوع

وبما أنَّه قرب عيدُ اليهود العظيم، كان غرض أئمَّة ديانة اليهود انتهاز فرصة ضجَّة ورجَّة وهرج ومرج الشعب، التي كانوا دائمًا يظهرونها في احتفالات الفصح لدرك مآربهم. وكانت المدينة غاصَّة برعاع اليهود أصحاب الشغب والاضطراب الذين كانوا يصيحون طالبين قتل الناصريّ. وأفادني رسلي بأنَّ خزينة الهيكل صُرفت على إغراء القوم على الهياج، والخطب الجسيم، حتّى تطاولوا على قائد مائة رومانيّ بالشتم. وطلبت من والي سورية أن يرسل إليَّ مائة عسكريّ من المشاة ومائة أخرى من العساكر الخيّالة فلم يسعفني، فرأيتُ نفسي فريدًا بشرذمة من العساكر يعدُّون على الأصابع في وسط مدينة عاصية، وليس في استطاعتي تسكين هذا الاضطراب وإخماد نيران الشغب. ولم يبقَ سبيل سوى ترك الأمور تجري في مجاريها، فألقى الأوباش الهائجون القبض على يسوع. ولمّا نسوا عدم الخوف من الحكومة إذ ظنُّوا مع زعمائهم أنَّني جزع فزع من ثورتهم، تمادوا على الصياح قائلين: «اصلبه، اصلبه».

وقد تحالف وتآمر في هذا الوقت ثلاثة أحزاب أقوياء. وبيان ذلك أنَّ الهيرودسيِّين اتَّحدوا مع الصدوقيِّين على إحداث الشغب والاضطراب لسببين. أوَّلهما: تعصُّبهم للناصريّ. وثانيهما: تولُّعهم لخلع نير رومية والتحرُّر من سلطانها. فلم يغتفروا لي دخول مدينتهم المقدَّسة بالبنادر والأعلام المرسوم عليها صورة إمبراطور رومية، وقد وقعتُ في هذا الخطأ المشؤوم جهلاً منِّي بعاداتهم، فاستبشعوا واستعظموا هذا الأمر وعدُّوه انتهاكًا لحرِّيَّة الدين. والأمر الثاني الذي أوغر صدورهم وزاد حقدهم وكيدهم، هو أنَّني كنت أشرت بصرف جانب من خزينة الهيكل في تشييد أبنية ذات منافع عموميَّة فنبذوا هذه الإشارة ظاهريًّا.

وأيضًا كان الفرِّيسيُّون أعداء يسوع الالدّاء، ولم يكترثوا بحكومتنا، وتجرَّعوا غصص التوبيخات والتنديدات الصارمة التي رجمهم بها الناصريّ مدَّة النذالة والجبن وخور العزيمة ولجوا باشتياق وتولُّع أبواب مشاحنات الهيرودسيِّين والصدوقيِّين. وزيادة على هذه الأحزاب الثلاثة، تعيَّن عليَّ أن أكافح الأوباش والرعاع الجامحين في الغوايات الميّالين إلى الانحياز إلى الثورات والفتن لأنَّهم يستفيدون من الفوضى والاختلال الناشئ عن هذه الفتن.

7-   يسوع أمام محكمة رئيس الكهنة

فساقوا يسوع إلى أن أتوا به أمام رئيس الكهنة الذي كان وقتئذٍ «قيافا». فأبدى رئيس الكهنة عملاً دلَّ على خضوعه السخريّ. فإنَّه لو كان خاضعًا لنا خضوعًا حقيقيًّا وممتثلاً امتثالاً صادقًا، لما حكم على يسوع بالموت. فأرسل إليَّ لأنطق بالحكم، فأجبته قائلاً: بما أنَّ يسوع كان جليليًّا، فهذه القضيَّة هي من اختصاصات هيرودس، وبناء عليه أمرت بإرساله إلى الجليل، فتظاهر رئيس الربع هذا الخداع المكّار محتجًّا باحترامه لمقامي بصفة كوني وكيل القيصر وفوَّض أمر هذا لي، وفي الحال صارت هيئة سراي كهيئة قلعة محصورة. وكان يزداد عدد الثائرين كلَّ لحظة، وغصَّت أورشليم بالأفواج الكثيرة الآتين من جبال الناصرة، وظهر لي أنَّ كلَّ اليهوديَّة انسكبت في أورشليم انسكابًا.

8-   يسوع أمام محكمة بيلاطس وفي حلم زوجته

وكنت اقترنت بزوجة من «الغال» ادَّعت أنَّ لها علمًا بالمستقبل. فبكت وألقت بنفسها عند قدميَّ وقالت لي: «احترس، ولا تمسَّ هذا الرجل لأنَّه قدُّوس. فقد رأيته البارحة في رؤيا الليل ماشيًا على الماء وطائرًا على أجنحة الرياح وكلَّم العاصفة وأسماك البحيرة، وكان الكلُّ مطيعًا له ممتثلاً لأمره، وها هو ذا سيل جبل قدرون جاريًا بالدم وتماثيل القيصر ملآنة بأقذار حيمونيَّة، وأعمدة الأنتربيم سقطت وسترت الشمس حدادًا كالعذارى الباكيات على القبر. فيا بيلاطس، إذا لم تنصت لالتماس زوجتك لا بدَّ أن يلاقيك الشرّ، واخشَ لعنة السناتو الرومانيّ وبأس القيصر».

وفي هذه الأثناء، كادت سلالم الرخام أن تسقط من ثقل الأفواج الكثيرة. فأتوا ثانية بالناصريّ إليَّ، فتوجَّهت إلى كرسي القضاء يتبعني حرسي، وسألت المتجمهرين بصوت صارم عمّا يطالبونه فأجابوا: «نطلب موت الناصريّ». فقلت لهم: «وأيَّ ذنب اقترف». فأجابوا قائلين: «إنَّه جدَّف وتنبَّأ عن خراب الهيكل، وقال إنَّه ابن الله وإنَّه الماسيّا ملك اليهود». فقلت لهم إنَّ القانون لم يقدِّر عقابًا بالموت على هذه الذنوب. فصاح هؤلاء الجماهير العتاة القساة قائلين: «اصلبه، اصلبه». وكاد صياح هذه الجماهير الهائجين المائجين أن يزعزع أساس القصر. وكان في وسط هذه الجماهير الكثيرة، شخص ساكن هادئ، وهذا الشخص هو الناصريّ. وبعد أن بذلت جهدي مرارًا عديدة لوقايته وحمايته من مضطهديه القساة المجرَّدين من الشفقة والرحمة لم يُجدِ ذلك نفعًا. فاتَّخذت هذه الطريقة التي ظهر لي أنَّها الوحيدة لإنقاذ حياته، وهي أنَّني أمرت بجلده. ثمَّ طلبت طشتًا وغسلت يديَّ أمام الجمهور مشيرًا بذلك إلى استهجان عملهم، ولكن لم يأتِ ذلك بثمرة ولا فائدة، فإنَّ نفوس أولئك الأشقياء ظمآنة لقتله.

وكثيرًا ما رأيت في ثوراتنا الداخليَّة هيجان الجماهير وأحقادهم، ولكن ليست بشيء بالنسبة لما رأيت في اليهود في هذه الحالة، حتّى يمكن أن يقال إنَّه اجتمعت جميع الأرواح الجهنَّميَّة في أورشليم. وكان يلوح لي أنَّ هؤلاء الجماهير غير ماشين على الأرض بل محمولين على الأمواج المتلاطمة من أبواب محلِّ القضاء لغاية جبل صهيون، يعجُّون ويصيحون ويجأرون ويزأرون، ممّا لم يسمع بمثله «في فتن البانوتيه» أو في ميدان رومية.

9-   الطبيعة تثور وتحزن لموت يسوع

فأخذ النهار يعتم ويظلم بالتدريج مثل شفق الشتاء. وكان مثله مثل الظلام الذي شوهد عند موت يوليوس قيصر العظيم الذي كان في 15 مارس. أمّا من جهتي أنا، والي هذه البلاد، فكنت متوكِّئًا على عمود من أعمدة قصري شاخصًا من الظلام المخيف إلى زبانية العذاب يجذبون الناصريّ البريء ليجرِّعوه غصص المنون. وخلا جميع الجهات التي حولي فإنَّ أورشليم تقيّأت جميع الساكنين فيها إلى بوّابة الجنازة التي ... والتحسُّر، وانضمَّ حرسي إلى الخيّالة وقائد المئة لإظهار ظلِّ القوَّة باذلين الجهد لحفظ النظام، فصرت وحيدًا منفردًا. وناجاني فؤادي بأنَّ هذه الأمور الحاصلة الآن هي من متعلِّقات الآلهة وليست من متعلِّقات إنسان. وسُمع صياح وصراخ عال من الجلجثة محمولاً على الرياح، منبئًا بكرب لم يطرق إذن إنسان مثله، فنزلت سحب مظلمة معتِّمة على أجنحة الهيكل واستقرَّت على المدينة وكأنَّها سترتها بحجاب. وكانت العلامات التي ظهرت في السماوات والأرض هائلة مخيفة حتّى صاح «ديونيسيوس الأريوباجيّ» قائلاً: «إمّا أن يكون خالق الطبيعة متألِّـمًا أو أنَّ العالم آخذ في التمزُّق.

وفي الساعة الأولى من الليل خلعت ردائي ونزلت إلى المدينة وتوجَّهت إلى بوّابة الجلجثة، وكان قد مضى الأمر وتمَّت الذبيحة. وعادت الجماهير، وإن كانت هائجة مائجة، إلاَّ أنَّه كان يلوح على وجوههم الكمد واليأس وإشغال البال، لأنَّه اعتراهم التحسُّر والفزع ممّا شاهدوه. وكذلك رأيت فرقتي الرومانيَّة مارَّة وعليها هيئة الاكتئاب، وغطَّى رافع اللواء صورة النسر (وهي علامة بيرق الرومانيِّين) علامة على الحداد والغمّ، وكان بعض العساكر يهمسون بعض ألفاظ غريبة لم أفهم معناها، وكان البعض الآخر يروون عجائب وغرائب تكاد أن تشبه الغرائب التي كثيرًا ما أصابت الرومانيِّين بإرادة الآلهة، وكانت تقف أحيانًا زمر من الرجال والنساء ساكنين باهتين موجِّهين أنظارهم إلى جبل الجلجثة منتظرين طروء أمر عجيب آخر.

10- يوسف الرامي يطلب جسد يسوع

فرجعت إلى كرسي القضاء كاسف البال كثير التفكير والبلبال. ولمّا طلعتُ السلالم التي كانت لا تزال ملوَّثة بدم الناصريّ، شاهدتُ رجلاً هرمًا في حالة الاستغاثة والتوسُّل، وكان خلفه جملة من النساء باكيات. فألقى نفسه عند قدميَّ وبكى بكاءً مرًّا. ولعمري إنَّه يوجِّعني ويؤلمني رؤية رجل هرم يبكي فقلت له بلطف: «يا أبي، من أنت وما هي طلبتك». فأجاب قائلاً:

«أنا يوسف... من أرماثا متعطِّفًا حضرتكم وأنا جاثٍ على ركبتيَّ أن تأذن لي بدفن يسوع الناصريّ».

فقلت له: «قد أجبتُ طلبك». وفي الحال أمرتُ مانيليوس أن يأخذ بعض عساكر معه ليلاحظ ويباشر دفنه لئلاَّ يتعرَّض أحدٌ له.

وبعد ذلك بأيَّام قليلة، وُجد القبر فارغًا، وأذاع تلاميذ يسوع في أطراف البلاد وأكنافها أنَّ يسوع قام من بين الأموات كما تنبَّأ.

فبقي عليَّ القيام بهذا الواجب وهو إبلاغ جلالة الإمبراطور هذه الحوادث المكدِّرة.

وبناء عليه بادرت بتحرير هذا. ولم أنتهِ من تحرير هذا البلاغ إلاَّ وبزغ نور النهار. وفي هذا الوقت طرق أذني صوت نفير يصرب نغمة «ديانا»، فوجَّهت نظري نحو بوَّابة قيصر، فشاهدتُ فرقة من العساكر وسمعت من على بعد أبواقًا تضرب سلام القيصر، فاتَّضح لي أنَّها الامدادات التي وعدتني الحكومة الرومانيَّة بإرسالها ويبلغ عددها نحو ألفي نفر من نخبة العساكر. فصرختُ فاركًا يديَّ: قد قدِّر وقوع هذا الإثم العظيم ولا راد للقضاء، ولو وصلت العساكر لما حصل ما حصل، ولكن، هل تقول إنَّ العساكر وصلوا اليوم لمنع حدوث فعلة البارحة.

فتبًا لهذا الدهر الغدّار الذي يعبث بأحوال البشر. ولعمري لقد صدق ما صرَّح به الناصريّ وهو معلَّق على الصليب: «قد تم»[1].


[1] نقلاً عن مجلَّة الرسول، مجلَّة دينيَّة رعويَّة إخباريَّة، عدد 20، آذار 1997، ص 4-13. (القمّص دوماديوس البرموسي). هو مخطوط وُجد بمكتبة الفاتيكان في رومية.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM