الفصل الأول: الغنوصة والغنوصيَّة المسيحيّةَ

الفصل الأول
الغنوصة والغنوصيَّة المسيحيّةَ

«الغنوصة» من اليونانيَّة  γνωσις تعني «المعرفة». وهي تدلُّ بشكل أدقّ على معرفة تشير إلى الله وإلى الأمور الإلهيَّة. فقيل في العربيَّة: العرفة أو العرفان. هي تقدِّم نفسها، لا بشكل علم نكتسبه، بل بشكل وحي باطنيّ، يُتيح للإنسان أن يُدرك الأسرار والخفايا، ويقود هكذا إلى الخلاص.
مدَّة طويلة رأى الباحثون في الغنوصة هرطقة مسيحيَّة توسَّعت في القرون الأولى من الكنيسة، فضمَّت إلى عناصر مسيحيَّة، عناصر يهوديَّة وبابلونيَّة وإيرانيَّة. ولكنَّنا اليوم نعلم أنَّه ينبغي ألاَّ نتحدَّث عن غنوصة واحدة، وكأنَّها تيّار موحَّد، معروف. بل نتحدَّث عن غنوصات عديدة. ويكفي مثلاً أن نتطلَّع إلى اثنين عملا في التيّار الغنوصيّ. من جهة، ولنطين، ذاك الذي أتى إلى رومة في القرن الثاني المسيحيّ فقال: «هناك كائن واحد صالح، وحرِّيَّة الكلام عنده هي تجلِّيه للابن. وبه وحده يُطهَّر القلبُ حين يُطرَد من القلب كلُّ روح شرّ». ذاك ما أورد عنه كليمان الإسكندرانيّ في موشَّياته. ومن جهة ثانية، باسيليد الذي قال عنه إيرينه إنَّه علَّم في الإسكندريَّة ودوَّن إنجيلاً يصوِّر فيه الحرب بين الظلمة والنور، ويتحدَّث عن الفداء الذي يصيب النفوس، لا الأجساد الذاهبة إلى الفساد.
فالغنوصة الحاضرة في كلِّ الديانات، ترافق أحد الأنماط الفكريَّة وتتوافق مع حركة باطنيَّة، ويكون لها حياةٌ خفيَّة قبل أن تتجلَّى في سياق اجتماعيّ. وبسبب طابعها الوجوديّ، هي معرفة تبدِّل قلبَ الإنسان وبالتالي تحوِّل معتقداته والتحاماته وتصرُّفاته. وبما أنَّها علم ومعرفة وحكمة، فإنَّها تحوِّل الإنسان كلَّه. أمّا جذورها فهي داخل الإنسان في ثنائيَّته. إمّا يبقى على السطح، وإمّا ينزل إلى العمق ليصل إلى المعنى الخفيّ والروحيّ.
1-    معنى الغنوصة وأصلها
تدلُّ الغنوصة على طريقةٍ بها نتطلَّع إلى الواقع الدينيّ. ومع أنَّ أصلها وظهورها كانا مثار جدال وآراء مختلفة، بل متعارضة، فهي امتلكت هذا المعنى خلال الحقبة الهلنستيَّة. في هذا المجال نجد اليوم توافقًا عامًّا يعطي أهمِّيَّة حاسمة للترجمة البيبليَّة السبعينيَّة، مع الأخذ بعين الاعتبار سياقها اليهوديّ.
أ‌-    هرطقة مسيحيَّة
قال ترتليان (155-229 تقريبًا): إنَّ الهرطقة تلحق الأرثوذكسيَّة دائمًا، والضلال يتبع الايمان المستقيم. هذا القول لا ينطبق على الغنوصة إلاَّ بقدر ما نحسبُها هرطقة، بدلاً من أن ندرسها في ذاتها، في قيمتها كفكر وروحانيَّة، وبمعزل عن كلِّ أرثوذكسيَّة. فقبل ظهور المسيحيَّة، كانت الغنوصة حاضرة، ومنذ ذلك الوقت مُشتبَهٌ بها.
دراسة الغنوصة صعبة بسبب ندرة الوثائق المتكلِّمة عنها. لأنَّ هذا الفكر عُرف بشكل خاصّ عبر شهادات لامباشرة ينتمي أغلبُها إلى الأدب البوليميّ أو الهجوميّ والدفاعيّ. فالعداوة الأنتي غنوصيَّة شوَّهت التعاليم في معنى محقِّر، بحيث أفلتت منّا، ربَّما، ميزاتُ هذه التعاليم. ولكن مع أنَّ آراء النقّاد حول أصل الغنوصة ومع أنَّ تجلِّياتها تبقى دومًا مثار جدال، إلاَّ أنَّ اكتشافات البرديّات وترجمتها الحديثة أتاحت لنا أن نكوِّن عن هذه المسألة فكرة نهائيَّة أو أقلَّه مستنيرة استنارة صحيحة.
حين دوَّن رينان سنة 1886 تاريخ العقائد، أعطى تحديدًا للغنوصة لبث تأثيره حاضرًا حتَّى هذه السنوات الأخيرة. إذ تكلَّم عن المسيحيَّة الكاثوليكيَّة والمسيحيَّة الغنوصيَّة. كتب: «يقوم الاختلاف الكبير جوهريًّا في أنَّ المفاهيم الغنوصيَّة مثَّلت دنيوة وصلت إلى ذروتها، وهليَنت المسيحيَّة هلينة جذريَّة وسابقة لوقتها، مع رفض للعهد القديم. أمّا النهج الكاثوليكيّ، فدنيوةٌ وهلينة تمَّتا بشكل تدريجيّ مع المحافظة على العهد الجديد». وهكذا جعل كتّابٌ عديدون من الغنوصة هرطقة مسيحيَّة، لأنَّها قدَّمت نفسها في العصور الأولى للمسيحيَّة، باندفاعٍ لفت النظر ومارس تأثيرًا على التيّارات الغنوصيَّة اللامسيحيَّة.
ب‌-    انتشار الغنوصة
ما انطفأت يومًا الظاهرة الغنوصيَّة، وبرزت خلال العصر الوسيط بشكل متقطِّع. غير أنَّ مختلف الديانات الماورائيَّة امتلكت نهجًا غنوصيًّا، وبانت الغنوصة المسيحيَّة على أنَّها وضع خاصّ يستحقُّ أن يُدرَس وحده. في الديانات اللامسيحيَّة، كان العداء للحركات الغنوصيَّة، أقلَّ عنفًا. وفي النهاية، قُبلت الغنوصة، كثيرًا أو قليلاً، وفي الوقت نفسه لبثت على هامش التعليم الرسميّ. والاضطهادات التي نالها الغنوصيُّون باستمرار، أثارها مرارًا استقلالهم بالنسبة إلى الكنيسة الكبرى أو التعاليم المثبتة والمعتبرة ضروريَّة للنظام الاجتماعيّ. إذًا، اعتُبر تأثيرُها على الدوام خطراً يحمل العدوى والضلال. وهذا ما نلاحظه حين ندرس في الكنيسة الأولى، أقوال باسيليد أو ولنطين من جهة وكليمان الإسكندرانيّ وأوريجان من جهة ثانية.
ويضمُّ التيّار الغنوصيّ، أفلاطون، أفلوطين، فيلون، كليمان الإسكندرانيّ، أوريجان. ومع كلِّ هؤلاء، هي تنظيرات يهوديَّة حول «المركبة» وأسفار الرؤى ورؤية حزقيال والقباليَّة والمندائيَّة والمانويَّة. وتضمَّن التيّارُ الغنوصيّ أيضًا عدَّة عناصر تنتمي إلى السوتيريولوجيّات الشرقيَّة والتيوسوفيّات  المختلفة. ولكن بالرغم من التجلِّيّات المختلفة، فدور الغنوصة يبقى هو هو: فصل البنفما عن المادَّة.

2-    الثنائيَّة
تستند الغنوصة على ثنائيَّة، مع مبدأين متعارضين منذ البدء ولا يتوافقان: المعرفة والجهل، الخير والشرّ، الحياة والموت، الروح والجسد، النور والظلمة، الله الصالح والله الشرِّير. كلُّ هذه الأزواج يتعارضون بشكل جذريّ، قليل أو كثير. ولكنَّ هذه الثنائيَّة تُوجَد في أشكال مختلفة، في أسفار الرؤى: المسيح والأنتيمسيح أو المناوئ للمسيح، المرأة الملتحفة بالشمس وزانية بابل الكبيرة، القدِّيس ميخائيل والتنِّين.
أ‌-    جدار بين عالمين
كلُّ شيء يبدأ بمعرفة الذات، التي تختلف عن المعرفة السقراطيَّة (إعرف نفسك)، فتتيح للغنوصيِّ أن يُدرك ذاته في الثنائيَّة: يدرك في نفسه، النور والظلمة، الخير والشرّ، نتائج الإله الصالح والإله الشرِّير. إنَّه ممزَّق بين مملكتين، وينتمي إلى الوحدة والقسمة. ويعكس وضعُه التعارضَ السائد بين مبدأي الخير والشرّ. ثنائيَّة الغنوصة هذه، مصادرها شرقيَّة، فنجدها في المزدويَّة، حيث كلُّ شيء مفصول، حيث لا جسرَ يتيح اللقاء. وإن كان إبليس يحمل مثل هذا الاسم، فلأنَّه الفاصل في جوهره، في الغنزة.
انظر البحر العظيم
عبْرَه ما من عبور
انظر النهر الجامح
عبره ما من رصيف
.....
انظر الجبل العالي
عليه ما من درب مسهَّل
انظر الجدار، الجدار الحديديّ.
هذا العالم المحاط بالأسوار، محروم من جسر ومن باب يوصلان إلى العالم الآخر. فهل حُكم على الإنسان بأن يتيه وهو متعلِّق بأركون هذا العالم الذي وظيفتُه أن يفصل. فليس له سوى باب خلاص واحد: الغنوصة. وحدها المعرفة تَفتح فجوة في السور الذي يحيط بالعالم. سواء اعتبرنا الإنسان جسدًا، نفسًا، روحًا – أو فقط جسدًا وروحًا – فهو بشر (لحم ودم)، وهذا البشر تعتبره الغنوصة سجنًا لا بدَّ من الفرار منه. ففي كتاب المندائيِّين المقدَّس، تشتكي النفس فتقول:
أنا متعبة، معذَّبة في لباس الجسد،
الذي فيه حملوني ورموني.
إذا كان الجسد سجنًا، قبرًا، فكلُّ ما يتعلَّق بالجسم البشريّ وبالرغبات هو فساد. فالجثَّة لا تَلد سوى الجثث. إذًا تُمنَع العلاقاتُ الجنسيَّة والإيلاد. والخليقة نفسها ينبغي أن تُعتبَر شرِّيرة. ولكنَّ الإنسان لا ينحصر في ضلالاته. فهذه تَنتج عن ميول تشبه عناصر مضافة. وبحسب باسيليد، هي زوائد تتعلَّق بالنفس لكي تصغِّرها وتدمِّرها وتميل بها عن غايتها.
ب‌-    فجوة المعرفة
فالإنسان السجين في جسمه البشريّ، هو أيضًا سجين العالم. وهو بالمعرفة يتحرَّر من هذا الليل الذي يحصره، من هذه القلعة التي لا منفذ منها. وينقسم العالم الغنوصيّ إلى عوالم عديدة هي بمثابة حبوس تُغلق على الإنسان بشكل لا رحمة فيه. أو يمكن أن تُقابَل بحلقات متحرِّكة حول الأرض، وكلٌّ منها تمتلك بابًا يحرسُه تنِّينٌ ينبغي أن نغلبه لكي نعبر الباب. وهذه التنانين تُدعى مرارًا أمراء الكوسموس أو أراكين. هم يشبهون آلهة الكون عند الكلدائيِّين.
في أقسى أشكال الغنوصيَّة، العالم كلُّه شرِّير، ولا يحتوي شرارة واحدة من النور. لهذا يشبَّه بالجحيم. وحدها النفس في جزئها العالي تقدِّم مركز نور لا يشتعل إلاَّ بقدر التصاقه بعالم آخر. أمّا بالنسبة إلى الغنوصة المخفَّفة، فلا يكون العالم جحيمًا متَّقدًا، بل يكون كلُّه ينبوع نور تستحيل المشاركة فيه. مع المانويَّة، تضعف الثنائيَّة، أو أقلَّه تتلوَّن في الداخل: لا يكون العالم كلُّه شرِّيرًا. فكلُّ جوهر يمتلك وجهتين، واحدة صالحة وأخرى شرِّيرة. وينتج عمود النور من اتِّجاه العالم.
صالح وسط الأشرار،
نور يشعُّ في الظلمات.
ويكون في العالم حنين يشعر به مثل إحساسِ قرابة تجاه الوطن الذي انفصل عنه. فيحسُّ بنفسه أنَّه غريب في هذا العالم. ونستطيع أن نقرِّب هذا الحنين من ميثة الفردوس المفقود. وما خسرناه يمكن أن نسترجعه. والغنوصيُّ يسترجعه بالمعرفة.
ويقف الجهلُ تجاه المعرفة، فيدلَّ على الشرِّ (عند أفلاطون يرتبط الشرُّ أيضًا بالجهل). وبحسب الغنوصة، الجهل كثيف جدًّا بحيث يشكِّل للإنسان قبرًا حقيقيًّا. ومن هنا وُسعُ القلق البشريّ الذي هو بالنسبة إلى الوجود، ما الصدأ بالنسبة إلى الحديد، بحسب باسيليد. ويفرز عالم الشرّ انبعاثات مدمِّرة، كما عالمُ الخير يمتلك قوى مُحسنة. فيصبح الإنسانُ، بحسب خياره، فريسة هذه القوَّة الناشطة أو تلك. وحين تنتصر المعرفة، يتراجع الجهل مع موكبه من الشرور: «معرفة الله جاءت إلينا، وبمجيئها إلينا، يا ابني، يُطرَد الجهل. جاءت إلينا معرفةُ الفرح. وحين تصل هي، يا ابني، يهرب الجهل باتِّجاه الذين يقدرون على استقباله». هذا النصُّ من المجموعة الهرمسيَّة يجدِّد معنى الغنوصة كتتمَّة للعلم الذي نفهمه على أنَّه عطيَّة من الله. وهذه العطيَّة هي جزء من الإنسان لأنَّ البنفما تتعلَّق بطبيعة الغنوصيّ الأونطولوجيَّة.
وبقدر ما الإنسان سجين نفسه السفلى، يقف في حبس الجهل والنجاسة. وفي هذا قال ولنطين: «يبدو لي أنَّه يحصل للقلب ما يحصل في حانة، حين يقيم فيها أناس خشنون... هم لا يعيرون اهتمامًا للأمكنة، لأنَّ هذه الأمكنة تخصُّ آخرين. وهذا ما نقوله عن القلب ما دام مهمَلاً. إنَّه مسكن مجموعة الشياطين. ولكن حين ينظر إليه الآب، الذي هو وحده صالح، عندئذٍ يتقدَّس ويشعّ». فالغنوصيّ يعتبر الشرَّ واقعًا في ذاته. فينبغي عليه أن يَحلَّ خلقَه ويحلَّ العالم. أمّا بالنسبة إلى المسيحيّ، فالشرُّ مرتبط بالأسر الذي يجب التحرُّر منه.

3-    إله الغنوصة
في وجهات مختلفة، يلبث المطلق بلا تغيير، متماهيًا مع ذاته. تأثَّر باسيليد بالبوذيَّة. فدعاه «لا شيء». «إنَّه لا شيء، لا مادَّة، لا جوهر، لا غير جوهر، لا بسيط، لا مركَّب، لا معقول، لا غير معقول، لا غير محسوس، لا إنسان، لا ملاك، لا إله، وبشكل عامٍّ لا شيء ممّا يحمل اسمًا». كلُّ ما يمكن أن يقال عن الله هو خطأ. وهناك نصٌّ ينتمي إلى المجموعة الهرمسيَّة يوجز هذه النظريَّة الغنوصيَّة فيقول: «لا يُسمَّى الله إلاَّ بالصمت، ولا يُعبَد إلاَّ بالصمت». وحسب ولنطين، اللجَّة والصمت هما صفتا الإله المجهول. والإله الكامل غريب عن العالم المادّيّ، عن الزمن، عن أحداث التاريخ، عن الآلام التي يتحمَّلها الجسمُ البشريِّ. ويَعرف الغنوصيُّ أنَّه يستحيل عليه أن يراه في واقعه الساميّ. غير أنَّه يتوسَّل إليه لكي يكشف وجهه ويخلِّص العنصر الإلهيّ الذي يحمله في ذاته. وهكذا يخلِّص المخلِّصُ ذاته فيؤمِّن الخلاص لما يأتي منه ولما يخصُّه حقًّا. هذا الإله هو بدون سلطان على العالم الشرِّير، الذي يخصُّ الإله الأسفل، خالق المادة وأبا العالم والجسد. وعند مرقيون، التعارض واضح جدًّا بين المبدأين، الشرّ والخير، بحيث نُسب إليه الاعتقاد بإلهين اثنين.
وحين يتحرَّر الغنوصيّ من العالم، ومن المادَّة التي لم يخلقها الله، فهو يُفلت من قبضة المبدأ الأسفل، ويجد المبدأ الذي يسمو على العالم. من هنا الصلاة المعبَّر عنها في إيمان حكمة: «نجِّني من المادَّة ومن الظلمات». فالإله الخالق الذي يُدعى الفاطر، والأركون الكبير وابن الشواش وإله الجنود، يُصوَّر مرارًا وكأنَّه إله شيطانيّ. وماهَى مرقيون الإله الشرِّير مع إله العهد القديم (أكثريَّة تلاميذه وقفوا ضدَّ هذا المزيج). وهناك نصٌّ غنوصيٌّ مغفَّل أورده دورسي، يحدِّد طريقة الخلق: «أخذنا من السماء قطعة صغيرة، مزجناها وذوَّبناها مع قطعة صغيرة من الأرض وفبركنا الإنسان». في المانويَّة، يحتلُّ الفاطر مكان الإله الصالح. غير أنَّ مادَّة العالم قدَّمها أميرُ الظلمة. لهذا لن يعود التعارض مطلقًا، والنور الإلهيُّ لن يكون بالتالي غائبًا من العالم، بل ممزوجًا.
داخل الحركات الغنوصيَّة، تبدو النظريّات المتعلِّقة بالخلق كثيرة، فتعود بشكل متواتر إلى تراتبيَّة كائنات، الإيّونات. بحسب ولنطين، تكوِّن الإيُّونات البليروما أو الملء. وآخر هذه الإيُّونات، سوفيا (الحكمة) سقطت، ومن سقوطها خرجت المادَّة. فوجب على الله أن يفصل العالم الكامل عن العالم اللاكامل (أو: الناقص)، اللامنظور عن المنظور. وهذا الفصل يُدعى «الحدّ». بعض المرّات، تميل الثنائيَّة بين المبدأين الصالح والشرِّير فتتجاوَزهما. وبتأثير من الفكر البوديّ، خُفِّفت بتأكيدٍ يقول إنَّ العالم هو ظاهر (ما يبدو من الشيء مقابل ما هو عليه)، كما في هذا النصِّ من موشَّحات سليمان:
فكلُّ شيء هو فوق، ولا شيء هو تحت
ولكن يظهر فقط للذين حُرموا من المعرفة.
وتخسر الثنائيَّة من رقَّتها حين تنتقل من التعارضات الدقيقة إلى مجرَّد التمييز بين النقائض. تلك هي النظريَّة التي عرضتها «العظات الإقليميَّة» التي تعود إلى كتّاب يهومسيحيِّين من القرن الرابع. وما يجب أن نحتفظ به في البدع الغنوصيَّة والنصفغنوصيَّة هو مجهود المصالحة لحصر الثنائيَّة أو على الأقل للنظر إليها بشكل أقلّ مادِّيَّة.

4-    وضع الغنوصيّ
الغنوصيّ هو الروحانيّ أو أيضًا البنفماويّ. أو ذاك الذي صار فيه البنفما (الروح) حيًّا. هو الذي يرى، والقادر أن يتقبَّل نور البهاء المعقول. هو الذي يعرف، وذاك الذي يمتلك الوحي والخبرة والحدس.
أ‌-    موستية  الوحدة
إذا كانت معرفة الذات هي وعيُ ثنائيَّة، فهي أيضًا امتلاك علم يلج سرَّ الوحدة، كما قال عن ذلك بواش: «هو فعلُ وعيٍ إجماليّ واحد ومتزامن، يكشف اللهَ للغنوصيّ، والغنوصيَّ لذاته». من هذا القبيل، نصُّ الإنجيل بحسب توما واضح: «حين تعرف ذاتك عندئذٍ تُعرَف وتَعرف أنَّك ابن الآب الذي هو حيّ. ولكن إذا كنتَ لا تعرف ذاتك، عندئذٍ تكون في الفقر» (القولة 3). ثمّ: «ذاك الذي يجد ذاته، فالعالم (كوسموس) لا يستحقُّه» (قولة 111). إذًا بمعرفة الذات يقدر الغنوصيُّ أن يبلغ إلى الملكوت أي إلى الفردوس الذي يرتبط ارتباطًا حميمًا بشخص يسوع. فبالنسبة إلى الغنوصة المسيحيَّة، الملكوت الذي يبلغ إليه الغنوصيّ، يُوجَد مصوَّرًا في مثل الكنز المخفيّ في حقل (مت 13: 44). فيسوع، بتجسُّده، اشترى هذا الحقل. وبحاشه وآلامه، فلحَه ووجد الكنز حين تخلَّى عن جسده. في هذه اللحظة يصل إلى الوحدة التي يدعو إليها أولئك الذين يُحبُّهم. والغنوصيّ المسيحيّ، إذ يقتدي بيسوع، يتجاوز لا المستوى البشريّ فقط، بل فعل الجنسين (الرجل والمرأة). وهكذا يقوم بعودة إلى الوحدة الأصليَّة. فبالغنوصة، بالمعرفة، يتحقَّق هذا التوحيد الكامل، ومتطلِّبةُ الوحدة التي يعلِّمها الإنجيل بحسب توما في فرائض شبه وعرة: «قال يسوع: حين تجعلون من الاثنين واحدًا، تصيرون ابن الإنسان» (قولة 106). وأيضًا: «قال لهم يسوع: حين تصنعون من الاثنين واحدًا، وتصنعون الداخل مثل الخارج، وما هو فوق مثل ما هو تحت، وحين تصنعون الذكر مع الانثى شيئًا واحدًا بحيث إنَّ الذكر لن يكون ذكرًا والأنثى لن تكون أنثى... عندئذٍ تُدخلون في الملكوت» (قولة 22). هكذا يُدعى المؤنَّث ليكون روحًا، وينبغي على الذكر أن يتخلَّى عن أن يكون ذكرًا، فيتحدَّد موقعُه أبعد من الفصل بين الجنسين فتوصل الغنوصةُ إلى الأندروجينة. ولكن في الموستيَّة تأخذ هذه الوحدة كلَّ بروزها: كلُّ ما هو أرضيّ هو مؤنَّث تجاه السماويّ الذي هو العريس (الإلهيّ). وثيمة الكلمة (الإلهيّ) المولود من دون أمٍّ والمسيح المولود من دون أب، ترمز حينئذٍ إلى السماويّ المذكَّر وإلى الأرضيّ المؤنَّث. وفي النهاية، العذراء ترمز إلى نفس المؤمن الغنوصيّ.
ب‌-    الحكمة والجوهر الأنثويّ
في غنوصة القباليَّة من مدرسة صفرد، نجد التيمة عينها، ولكن على مستوى مختلف. هي تصف في الله علاقة الحبّ، حبّ المذكَّر والمؤنَّث...
فالغنوصيّ يبلغ إلى الملكوت الذي هو في الوقت عينه حياة ونور. بهذه الوحدة الكاملة لا سلطة بعد للفاصل عليها. هو يحتفظ بوجدان غربته، لأنَّه ليس من مواطني هذا العالم. فموطنه الحقيقيّ ليس هنا. لهذا يُقال له: «كُن عابرًا». فوضعُ الغنوصيّ هو أن يكون، خلال وجوده كلِّه، رجلاً مسافرًا. من هنا الضرورة له أن يمارس السهر المستمرّ وأن يصوم عن العالم. والتخلِّي عن القدرة وعن الحياة الجنسيَّة، وقبول الفقر، واللاإهتمام بالغد، كلُّ هذه مواقف مطلوبة للاستعداد إلى الغنوصة. وهذا التعليم الذي يقدِّمه الإنجيل بحسب توما، يتجاوب مع تعليم الأناجيل كما مع جميع التقاليد الكبرى.

5-    الزمن والميثة والرمز
رؤية الغنوصة للعالم هي خاصَّة، لهذا كانت مسألة الزمن فيها مركزيَّة. وبعض النظم تأخذ بتجسُّد جديد أو بتطهيرات متتالية بعد الموت، دون الاعتقاد، ضرورةً، بعودة إلى الحياة على الأرض. في أيِّ حال، يُصوَّر الزمنُ على أنَّه حتميَّة. إنَّه مزيج وبالتالي هو شرِّير.
أ‌-    التاريخ والروح
إنَّ التعليم الغنوصيّ يعارض في هذه النقطة النظريّات اليهوديَّة والهلِّنيَّة والمسيحيَّة. بالنسبة إلى الهلِّنيَّة، الزمن هو في حلقة حيث نعود إلى نقطة الانطلاق. في المسيحيَّة هو في خطٍّ: ينطلق من الخلق ويسير نحو مستقبل. والإسكاتولوجيّا (أي نهاية الزمن) تربط بين الحاضر والمستقبل. ونحن في انتظار نهاية العالم. أمّا الزمن الغنوصيّ، فيرفض التكرار كما يرفض الاستمراريَّة، ويستبعد في الوقت عينه العودة الأبديَّة  والانتقال من موضع إلى آخر. إنَّه حضور دائم.
أصالة المسيحيَّة تقوم في أنَّها تقدِّم فلسفة التاريخ، التي تجهلها الهلِّنيَّة (أوريجان هو شاهد على معارضة لا مصلحة فيها بين الوجهتين). فالغنوصة تقود، لا إلى إنكار الأمور التاريخيَّة، مثل أعمال يسوع خلال حياته، بل إلى التطلُّع فيها على مستوى روحيّ. وهذا واضح بشكل خاصٍّ في النصوص المنحولة وفي أسفار الرؤى، أو عند أوريجان، الذي ترمز بالنسبة إليه أحداثُ حياة يسوع إلى طبيعة سماويَّة، وتشكِّل نسخة مطابقة لإيُّونات البليروما. من هذا القبيل، بيَّن جان دانيالو أنَّ الدراما السماويَّة تنعكس في الدراما الأرضيَّة، وأنَّ هذه هي ظلُّ تلك. وهذا النمط من التفسير الذي يخصُّ هرقليون، نجده عند كليمان الإسكندرانيّ وإيرينه. وخصوصيَّة التأويل الغنوصيّ هي أن تعطي للأحداث الزمنيَّة التي يقدِّمها الإنجيل، تتمَّة في عالم الأرواح. وهكذا، فزمنُ الغنوصة ليس كونيًّا ولاتاريخيًّا، بل وجوديًّا. فيأخذ وظيفة المركز كما يرسمه رمزُ النقطة. وهكذا تكون الغنوصة قريبة من سيكولوجيا الأعماق. هي لا ترفض كلِّيًّا الزمن. فكما أنَّ الوحي الباطنيّ للغنوصيّ قد يكون فريسة النعاس، بحيث يجب أن يُوقَظ، كذلك يبدو ضروريًّا وجودُ مخلِّص يظهر في الزمن، فيلعب دور المُيقظ وبالتالي المخلِّص وصانع الخلاص. وقارب سارج هوتين الغنوصة من الوجوديَّة المعاصرة، فبيَّن في الحالين أنَّ الإنسان «مرميٌّ في العالم». في الوجوديَّة، هو منفتح على العالم. وفي الغنوصيَّة هو يميل عن العالم. وأدرك هنري شارل بواش عقدة المسألة فكتب: «ما هو مُوحى، ليس الكائنَ في العالم، لكن كائنًا هو في العالم ولكنَّه ليس من العالم، أو أقلَّه كائنًا لا يريد أن ينتمي إلى العالم، وذلك حين نتَّخذ الأمور في بدايتها. وفصلُ الروح عن الجسم، المفروض للبلوغ إلى ملكوت الله، يتمُّ في الزمن، وحين يَتمُّ، يصبح الإنسان خارج الزمن. وحين يتجرَّد الغنوصيّ من العالم، من الجسم البشريّ، من المادَّة، فهو يحطِّم الزمن ويقوم قبل نهاية الأزمنة. فينضمُّ إلى ملاكه أي إلى نمطه الأوَّل السماويّ، ويرتدي حالة نهائيَّة لا يستطيع الموت الطبيعيّ أن يكون له سلطة عليها».
وهكذا، كمّا حدَّد بواش، «هو الميثة الذي يمفصل في الوقت عينه النظرة إلى العالم المتساميّ والنظرة إلى المرمى التاريخيّ... الميثة هي اللازمنيّ الممفصل». وإذ تتكيَّف هذه الوجهة الميثيَّة مع الهلنيَّة والمسيحيَّة، تحوِّل هذين التيّارين الفكريِّين.
ب‌-     الرمزيَّة
بين الميثات الجوهريَّة في الغنوصة، تَشرح ميثةُ السقطة، المعتبرة حادثًا حصل في عالم البليروما، والشرَّ والابتعاد عن الإله الصالح. وتضخِّمه أيضًا ميثة «المزج» المانويَّة التي نجدها عند باسيليد: في البدء كان مَبدَئا النور والظلمة منفصلَيْن. وتوصَّل كلُّ مبدأ إلى معرفة الآخر. وإذ شاهدت الظلمةُ النور وحسبته أفضل منها، تمنَّت أن تشارك فيه. ما حسدَ النورُ الظلمة، بل شاهدها بمعاونة مرآة في انعكاسٍ أرادت الظلمةُ أن تضع يدها عليه. هذه الميثة هي في أساس ثنائيَّة الضوء والظلال، اللذين يلتقيان في الخلق ويمتزجان. والغنوصة تتيح استعادة كلَّ النور الأوَّل النقيّ فتلغي حالة المزج: يعود النور إلى النور والظلمة إلى الظلمة.
وإذ تُفلت الغنوصة من كلِّ بُعد دنيويّ، تنتمي إلى المقدَّس، والرموز التي تعبِّر عنها تتقرَّب من رمزيَّة المقدَّس: فالرموز «تُجلي»  المقدَّس. في هذا المجال، تحدَّث جيلبار دوران عن «ديناميَّة أنتروبولوجيَّة»، فبيَّن كيف أنَّ الغنوصة المجسَّدة في كلٍّ من الأشكال التي تأخذ، تَعبر «محطَّات» مختلفة تقابل بُنى ومضامين رمزيَّة محدَّدة جدًّا. ويحتفظ الكاتب بثلاثة مراكز نموذجيَّة مثاليَّة: الأوَّل يدلُّ على الفصل عن الجدار والسور. الثاني ينتظم حول المرسَل والوسيط في «هوى» يتواجه فيه النور والظلمة، الحياة والموت. والثالث يرتبط بالخشوع مع رمزيَّة العذراء ورمزيَّة الحكمة (سوفيا).
جميع الصور الغنوصيَّة ترتبط بهذه الميثات الرئيسيَّة. فعند أفلاطون والنيوأفلاطونيِّين، برز رمزُ الظلمة والنور (ميثة المغارة). في كتابه «فادر»، يدلُّ الجناح على الحركة الصاعدة من الأسفل إلى الأعلى. والنفس المجنَّحة تُفلت من كلِّ جاذبيَّة. ورمز الحيَّة الذي تستعمله بدعٌ غنوصيَّة عديدة، يكشف العلاقة الوثيقة بين تعليمهم والأسرار القديمة. ورمز الأمّ الكبرى الذي يرتدي الأشكالَ المتنوِّعة، يدلُّ على تأثير من الديانة البابلونيَّة القديمة.
يبدو أنَّ الرمزيَّة ترتبط بسحر الكلمات، بالأهميَّة المعطاة «للاسم» بفم بدعٍ غنوصيَّة تقول: أن نسمِّي يعني نعرف. والمعرفة تتيح ممارسة سلطة. وما من اسم يمكن أن يُعطى لله، لأنَّه فوق كلِّ اسم. أمّا القوى السفلى فلها أسماء. ويجب أن نعرفها لكي ننتصر عليها. وحين نزل المخلِّص وحين صعد، تلفَّظ بأسماء. وهكذا تدخل معرفةُ الأسماء في الغنوصة، وتتيح للغنوصيّ أن يتحرَّك في الخليقة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، في احتفالات التنشئة، يندرج استعمال الزيت والماء والخمر في طقوس يكون فيها للكلمات معنى محدَّد وخلاصيّ.

6-    الغنوصة المسيحيَّة
وُجد 49 مؤلَّفًا، مدوَّنة في اللغة القبطيَّة، وكُشفت حوالي سنة 1943 في صعيد مصر، وهي تتيح لنا أن نعرف المواضيع الكبرى في الغنوصيَّة، معرفة أفضل. وبين هذه الكتب، الإنجيل بحسب توما يستحقُّ مكانة خاصَّة. هو يتضمَّن 114 قولة (لوغيا) ليسوع، وهي تتوزَّع في أقوال مأثورة، في مفاهيم، في لعنات ومباركات. بعض من هذه النصوص تُوجَد في الأناجيل. وهناك قرابة أربعين «قولة» تظهر هنا للمرَّة الأولى. ويبدو المؤلَّف كأنَّه وحيٌّ سرِّيٌّ من يسوع أعطيَ للرسول توما. وهذا البلاغ لا يُوجَّه إلى التلاميذ وحدهم، بل إلى الرجال وإلى النساء، شرط أن يكونوا «بنفماتيِّين» لا «بسيخيِّين». ومن استطاع أن يفسِّر هذا البلاغ «لن يذوق الموت». والفائدة من الإنجيل بحسب توما هي أنَّه يُقدِّم نصًّا واضحًا وأوضح من بستيس سوفيا الذي هو كتاب غنوصيّ، عُرف كلُّه ولكنَّه دُوِّن في لغة معقدَّة.
فالغنوصة كمعرفة سرِّ الله، تظهر عند مختلف كتّاب العهد الجديد. ولكنَّ الآراء متنوِّعة في هذا المجال. لمَّح متّى إلى الذين «أعطي لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت الله» (13: 11). واستعاد لوقا أيضًا هذا الموضوع (8: 10): أعطيَ للبعض «أن يعرفوا أسرار ملكوت الله، أمّا الآخرون فيكلَّمون بالأمثال، بحيث لا يرون وهم ينظرون ولا يفهمون حين يسمعون». مثل هذه النصوص تقيم فصلاً بين فئتين من الناس: أولئك الذين يبلغون إلى معرفة الأسرار، والذين يلبثون غرباء عنها. ولكنَّ هذا القول لا يتضمَّن أنَّ التلميذ يعرف أسباب اختيار الله وإمكانيَّة مصير مُسبَق. فمعرفة الآب موجودة في الابن، ومعرفة الابن موجودة في الآب «ومن أراد الابنُ أن يَكشف له» (مت 11: 27؛ لو 10: 22). ومعرفة الأسرار هذه تعني ملكوت الله والعلاقات بين الأقانيم الثالوثيَّة (يو 10: 15؛ 14: 17، 20؛ 16: 3). وهي جزء من خفايا اللاهوت (يو 8: 28). والأبديَّة (التي تمتلك المعنى الخفيّ للفظ العبريّ עלם) بالنسبة إلى الغنوصيّ المسيحيّ، لا تبدأ بعد الموت ولا تعود إلى الزمن.
واعتبر دارسو الهرطقات المسيحيَّة سمعانَ الساحر أنَّه أوَّل غنوصيّ. فهو يلمِّح في وحيه إلى «وحي الصوت والاسم الآتيان من الفكر ومن القدرة الكبيرة اللامحدودة». هذا الشخص الذي ذُكر في أعمال الرسل، جنَّد عددًا كبيرًا من التلاميذ بين السامريِّين. ونحن نجده في الأخبار البسودوإقليميَّة وسيُصبح فيما بعد الساحر المشهور في الروايات الوسيطيَّة. كانت حركتان غنوصيَّتان تتعارضان في القرون الأولى. واحدة حُسبَتْ أرثوذكسيَّة، قديمة، وثانية هتروذكسيَّة، خارجة عن استقامة الإيمان. خطّان قريبان، وُلدا معًا ونميا معًا في الأوساط اليهومسيحيَّة. إيرينه (130-208 تقريبًا)، هيبوليت (170-235)، ترتليان (155-222) انتقدوا البدع الغنوصيَّة. أمّا كليمان الإسكندرانيّ (150-211/216) وأوريجان (185-252) فحاولا أن يصوغا غنوصة مسيحيَّة. لامَ إيرينه في الردّ على الهراطقة هذه التيّارات بأنَّها تتوجَّه إلى نخبة قادرة وحدها أن تدرك الأسرار التي لا تُوصَف. وأعلن أنَّ المحبَّة تتفوَّق على كلِّ معرفة. وكان كليمان الإسكندرانيّ أكثر انفتاحًا، فاستعمل الفلسفة اليونانيَّة لفائدة غنوصةٍ تتغذَّى بالإيمان والكتاب المقدَّس. واعتبر أنَّ الغنوصة والإيمان لا يتواجهان، بل يتزاوجان ويُغني الواحد الآخر. والمعرفة التي حوَّلتْها المحبَّة، تتوسَّع وتُزهر في المشاهدة. وهكذا نقترب من المعرفة التي يمتلكها الملائكة. وفي نظر أوريجان، الغنوصة تكمِّل الإيمان. «فمعرفة الله هي حبٌّ تنظيريّ» (في الأمثال 6). وأبعد من المعنى التاريخيّ والحرفيّ في الكتاب المقدَّس، ينكشف المعنى الروحيّ الذي وحده يستطيع أن يغذِّي النفس ويوجِّهها نحو الأمور اللامنظورة. مع غريغوار النيصيّ (335-394)، معرفةُ الله تتجاوز كلَّ معرفة وتتحوَّل عادة إلى معرفة مُحبَّة. في القرون المسيحيَّة الأولى، كما في كلِّ حقبة، قدَّمت الغنوصة دومًا سمتين، واحدة سوتيريولوجيَّة وأخرى إسكاتولوجيَّة. وفرضت نفسها كتطهير، أبعد من الأهواء ومن اقتناء الفضائل. وحاولت الكنيسة الكبرى دومًا أن تلغيها، لا في القرون الأولى وحسب، بل كلَّ مرَّة تتقدَّم مع البليروما والإيُّون خرستوس وسوفيا. إذا كان أوريجان أقلق أفكار العصر الوسيط، فلأنَّه، قبل كلِّ شيء، قدَّم الإنجيل، لا كحدث تاريخيّ بل في سمات حياة روحيَّة. وبالطريقة عينها «صليب النور» الذي تكلَّمت عنه أعمال يوحنّا هو حقيقيّ مثل خشبة الحاش والآلام. وحين رفضت الكنيسة، منذ القرون الأولى، الإلهام النبويّ، أرادت أن تلغي الغنوصة وتصف أولئك الذين يستندون إلى وحي باطنيّ، بأنَّهم هراطقة. لهذا نال الاضطهادُ دومًا الموستيِّين (أو: المتصوِّفين) الكبار. وبقدر ما تصبح الديانة علمانيَّة واجتماعيَّة، تخسر بُعدها الباطنيّ.
تطوَّرت الغنوصيَّة المسيحيَّة على مرِّ التاريخ، فاختلف التعليم الكاتاريّ  عن تعليم ولنطين أو باسيليد أو ماني. أمّا الغنوصيّ الأصيل في الحقبة الوسيطيَّة فكان يواكيم ده فلور. تلقَّى وحيًا روحيًّا من الكتاب المقدَّس فاستبطن معناه. وعاش في زمن المنفى، الأحداث التاريخيَّة المرويَّة في العهد القديم وفي العهد الجديد. حدَّد موقعه على هامش الكنيسة الرسميَّة فتلقَّى النتائج في حياته وفي نشر أفكاره.
E. de FAYE, Gnostiques et gnosticismes, Paris, 1913.
S. PÉTREMENT, Le dualisme chez Platon, les gnostiques et les manichéens, Paris, 1947.
F.-M. SAGNARD, La gnose valentinienne et le témoignage de saint Irénée, Paris, 1947.
R. M. GRANT, La gnose et les origines chrétiennes, Paris, 1964.
Coll. The Origins of Gnosticism, Colloque de Messine, Leyde, 1967.
M. TARDIEU, Trois mythes gnostiques… Paris, 1974.
H.-C. PUECH, En quête de la gnose, 2 vol, Paris, 1978.
الخوري بولس الفغالي، امتداد الأدب البولسيّ في الأسفار المنحولة، سلسلة على هامش الكتاب، رقم 14
الخوري بولس الفغالي، الحركة الغنوصيَّة في أفكارها ووثائقها، على هامش الكتاب، 15
الخوري بولس الفغالي، التيّارات الغنوصيَّة في الشرق القديم، على هامش الكتاب، 17
الخوري بولس الفغالي، فيوض في الفكر المشرقيّ، على هامش الكتاب، 18
الخوري بولس الفغالي، المرقيونيَّة والمانويَّة، على هامش الكتاب، 19
الخوري بولس الفغالي، التراث اليوحنّاويّ، I، على هامش الكتاب، 20
الخوري بولس الفغالي، التراث اليوحنّاويّ، II، على هامش الكتاب، 21

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM