حقيقة الكهنوت والكاهن المسؤول

حقيقة الكهنوت والكاهن المسؤول

يوحنّا

وليست الكبرياء البغيضة هي التي جعلتني أعتزل الكهنوت كما يزعمون. إنَّ موقفي لم يكن موقف متكبِّر. وإليك البيان: لو كنت رفضت أن أكون قائدًا لمعسكر، أو حاكمًا لدولة، فقد كان يمكن أن أُرمى بالكبرياء، بل بالجنون! ولكن إذا أنا اعتزلت وظيفة سامية تقيم فرقًا بينها وبين وظائف الدنيا، كالفرق الذي بين النفس والجسد، فكيف للناس أن يصموني بالكبرياء؟

أفليسَ إذن ممّا يضادُّ العقل والصواب أن يرمى الإنسان بالجنون، إذا هو رفض قبول وظيفة بسيطة، وأن يرمى بالكبرياء إذا رفض قبول وظيفة سامية؟ ولست أعتقد أنَّ بين البشر من يبلغ بهم التفكير إلى مثل هذه الادِّعاءات المخالفة لناموس المنطق. ومن يخطر له مثل هذا التفكير، إنَّما يخطئ ذاته، ويسفِّه رأيه. زد على ذلك أنَّ مثل هذا التفكير الخاطئ يفسد معنى وظيفة الكهنوت السامية التي يحطونها إلى مستوى المهن العاديَّة.

كيف لي أن أهرب من الكهنوت متكبِّرًا، وأنا الحدث الذي ما إن ملك أشدَّه، حتّى تسنَّى له أن يجذب إليه الأبصار، ويحجب بغتة خدَّام الكنيسة المعمَّرين، ويفوز برضا الجمهور وثقته؟ كيف لي أن أهرب من المجد، وقد بات لقمة سائغة في فمي، وبعد أن تهيَّأ لي أن أكون من الأشخاص الذين يشار إليهم بالبنان؟

والواقع أنَّ الجميع في الكنيسة يجهلون حتّى اسمي. ويبدو للكثيرين أنَّني لم أرشَّح للكهنوت أبدًا وأنَّني أُقصيت عنه لعدم استحقاقي، ولم يكن لي في الأمر اختيار.

 

باسيليوس

صحيح هذا، ولكنَّ الذين يعرفون الحقيقة سيحفظون إعجابهم بك.

 

يوحنّا

ولكنَّ هؤلاء هم الذين قلت إنَّهم يتَّهمونني بمحبَّة المجد الباطل والكبرياء. وعلى هذا فممَّن أتوقَّع إذن ملامة ومطعنًا؟ أمن الجمهور وهو يجهل كلَّ شيء؟ أم من الجماعة القليلة التي نوَّهنا عنها، وهم الذين انبروا لملامتي والنيل منِّي؟ ولم تأتِ أنت إلاَّ لترعف ماذا يجب أن نجيبهم؟

عندما تنجلي الحقيقة لجميع الناس، فاتِّهامات الكبرياء والمجد الباطل لن تقوم لها قائمة.

وإذا كن هناك من لا يقدِّر الكهنوت حقَّ قدره (وهذا ممّا لا شكَّ فيه) فإنِّي أريد أن أجيبهم وأن أطالعهم ببعض التعريف به.

إنَّ الكهنوت يمارَس على الأرض في الواقع، ولكنَّ محلَّه في السماء. ولم يحلَّه هذا المحلَّ إنسان، أو ملاك، أو رئيس ملائكة، بل الروح القدس نفسه، هو الذي أذِن لخلائق بشريَّة من لحم ودم أن تقوم بخدمة الملائكة. ولأجل هذا يجب أن يكون الكاهن من الطهارة والنقاوة كما لو كان يقطن السماوات بين الطغمات الملائكيَّة. إنَّ الكهنوت العبرانيَّ كان يوحي مهابة وخوفًا مقدَّسًا بما كان على ثياب الكاهن من الجلاجل والحواشي المرزكشة والحجارة الكريمة البارقة فوق صدره ومنكبيه، والمنطقة ولباس الرأس والجلباب الضافي الفضفاض، وقدس الأقداس الذي كان يدخله وحده، وهيبة السكينة المهيمنة فيه.

غير أنَّنا إذا اعتبرنا الكهنوت في العهد الجديد نرى أنَّ ما يتملَّكنا من الرهبة والخوف غير ما يتملَّكنا في ذلك بريق الأوَّل ليس شيئًا أمام مجد الثاني (2 كو 3: 10).

ألا قلْ لي، رعاك الله، لدى معاينتك الإله ذبيحًا ممدَّدًا على المذبح الطاهر، والكاهن واقفًا، والحربة في يديه، ينحني ويصلِّي فوق الذبيحة، وجميع الحاضرين، وقد شربوا هذا الدم الطاهر، فأشرقت وجوههم غبطة، قل لي هل تحسُّ نفسك في تلك الساعة على الأرض وبين البشر؟ ألا ترى ذاتك منسلخًا عن الجسد، ومنتقلاً حالاً إلى السماء، متأمِّلاً بعقلك المنعتق من كلِّ رباط أرضيٍّ الغرائب السماويَّة المدهشة؟ فيا للعجب! ويا لمحبَّة الله للبشر! إنَّ المستوي في الأعالي مع أبيه السماويّ، يؤخذ في هذه اللحظات، بين أيدي جميع الحاضرين، ويهب ذاته طعامًا لكلِّ من يريده. هذا ما تراه عين الإيمان! أفليس كلُّ شيء عظيمًا رائعًا؟ وأمام هذه العظمة وتلك الروعة، أفلا ينبغي أن تتلاشى كلُّ كبرياء وعظمة؟ أوَتريد أن تعرف روعة أسرارنا المقدَّسة أيضًا بالمقابلة إلى عجب آخر؟ تمثِّل مشهد جبل الكرمل: إيليّا النبيُّ في رأس الجبل، وجمهور لا يحصى واقف حوله، والضحيَّة ممدَّدة على حجارة المذبح، الشعب كلُّه منتصب في هيبة الصمت العميقة، النبيُّ وحده يصلِّي بصوت عال. وإذا اللهيب يهبط من السماء على الضحيَّة ويأكلها. يا له من عجب يأسر النفس! فانتقل الآن إلى تمثُّل روعة أسرارنا المقدَّسة لترى عجبًا غير ذلك العجب، وتحسَّ تأثيرًا غير ذلك التأثير. هنا الكاهن واقف لا ليستنزل نارًا من السماء، بل الروح القدس نفسه الذي يُطهِّر بالدم الإلهيِّ نفوس الحاضرين، ويجعلهم أشدَّ بريقًا ولمعانًا من الذهب المنصهر بالنار.

وأمام هذه الأسرار الرهيبة السامية، يجب أن يكون الإنسان فاقد الحسِّ ومسلوب العقل، لكي لا يشعر بعظمتها وسموِّها. إذا قدَّرنا جيِّدًا هذا السرّ، وهو أنَّ رجلاً تحت سلطان اللحم والدم، يستطيع أن يقترب من هذه الطبيعة المغبَّطة والروح النقيّ الطاهر، إذا قدَّرنا هذا السرّ، عرفنا أهمِّيَّة السلطة التي خوَّلها الروح القدس للكهنة، لأنَّه على أيديهم تتمُّ هذه الأسرار السامية، كما تتمُّ أيضًا عجائب أسرار أخرى لا تقلُّ أهمِّيَّة عن هذه لأجل خلاصنا.

مخلوقات تعيش على الأرض، وتتَّصل أسباب حياتهم بالعالم اتِّصالاً وثيقًا، يُنتدَبون لخدمة أسرار السماء، ويقبلون من الله سلطانًا لم يعطه للملائكة ولا لرؤساء الملائكة، لأنَّه لم يقل للملائكة: "كلُّ ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكلُّ ما حللتموه على الأرض يكون محلولاً في السماء".

إنَّ عظماء هذا العالم يملكون أيضًا سلطان الربط والحلّ، ولكن ليس لهم هذا السلطان إلاَّ على الجسد. غير أنَّ السلطان الذي يعطيه المسيح للكهنة إنَّما هو على النفوس أيضًا، ومفعوله يسري في السماء: إنَّ ما يقرِّره الكاهن على الأرض يُقرَّر في السماء، والحكم الذي يلفظه الخادم هنا يبرمه المعلِّم في السماء.

ألَمْ يُمنح الكهنة كلُّ سلطان في السماء؟: "من غفرتم خطاياهم تُغفر لهم ومن أمسكتم خطاياهم تُمسك لهم" (يو 20: 22). وهل يوجد سلطان أعظم من هذا السلطان؟ إنَّ الآب أعطى لابنه كلَّ سلطان الحكم، وأرى أنَّ الابن بدوره قد خوَّل الكهنة هذا السلطان بكامله. أفلا يجب أن يقال إنَّ الله إذ خوَّلهم مثل هذا السلطان أقامهم في السماء، ورفعهم فوق الطبيعة البشريَّة، وأعفاهم من الخدمات البشريَّة؟ إذا أراد ملك أن يشاركه أحد أتباعه في سلطانه، أي أن يخوِّله الحقَّ في أن يسجن من يريد ويطلق من يريد، ترى الجميع يحسدون هذا الإنسان ويشيرون إليه بالبنان. أفهل يجوز أن يُستخفَّ أو يُستهان بسلطان وهبه الله نفسه لإنسان؟ ولهذا السلطان من الأهمِّيَّة بقدر ما بين السماء والأرض، وبمقدار ما بين النفس والجسد؟ وما أخلقنا بالبعد عن هذا الجنون!

وفعلاً أليس من الجنون المطبق ألاَّ يسلَّم بأهمِّيَّة خدمة بدونها لا يتيسَّر لنا الخلاص، ولا البلوغ إلى المجد الذي وعدنا به الله؟ فما دام من المحقَّق أنَّه لا يستطيع أحد أن يدخل إلى ملكوت السماوات إلاَّ بعد أن يولد من جديد بالماء والروح القدس، وأنَّه لا يحصل على الحياة الأبديَّة إلاَّ من أكل جسد السيِّد وشرب دمه، فمن المحقَّق أيضًا أنَّ كلَّ هذه المواهب لا نستطيع الحصول عليها إلاَّ من يدي الكاهن المقدَّستين. وإذ ذاك فكيف لنا أن نجتنب نار جهنَّم، أو ننال الإكليل السماويِّ بدون الكاهن؟

أجل، هم الكهنة الذين يلدوننا بحياة النعمة ويلدوننا روحيًّا بالمعموديَّة. هم الكهنة الذين يلبسوننا المسيح ويدفنوننا معه في القبر، ويقيموننا بجسده. هم الذين يجعلون من المسيح لنا رأسًا، ويجعلون منّا لجسده أعضاء. ويجب أن نكرمهم أكثر من تكريمنا للأمراء والملوك، وأن نحبَّهم ونقدرهم أكثر من محبَّتنا وتقديرنا لآبائنا في اللحم والدم. فآباؤنا قد أعطونا الحياة الطبيعيَّة من دمهم ومن شهودة أجسادهم، أمّا الكهنة فإنَّهم يعطوننا الحياة الروحيَّة التي هي من الله، ونحن مدينون لهم بولادتنا الجديدة السعيدة وبحرِّيَّتنا الحقيقيَّة وبلقب "أبناء الله".

إنَّ كهنة الناموس القديم كان لهم سلطان أن يشفوا من البرص، أو بالأحرى ما كانوا يشفون منه بأنفسهم أحدًا، بل كانوا يلاحظون الشفاء فقط. ومع هذا فمن المعلوم أنَّ الكهنة كانوا على جانب من الشرف والكرامة. وأمّا كهنة الناموس الجديد فقد مُنحوا سلطانًا أعظم من سلطان شفاء البرص ألا وهو شفاء برص النفوس. وليسوا مكلَّفين بملاحظة الشفاء، بل إنَّهم هم الذين يجرون عمليَّة الشفاء بأنفسهم.

إنَّ من يحتقر الكهنوت ينقلب أشدَّ نجاسة وأكثر استحقاقًا للقصاص الهائل من داثان وأبيروم. فإذا كان داثان وأبيروم قد طالبا بوظيفة ليست لهما، فادِّعاؤهما وقتالهما في سبيل الحصول على الكهنوت يدلُّ على عظم تقديرهما له. أمّا الآن، وقد أصبح لنا كهنوت جديد يفوق القديم عظمة وجمالاً وسلطانًا، فإنَّ احتقاره لا يعني فقط جريمة مثل جريمة داثان وأبيروم، بل جريمة أشدَّ هولاً وفظاعة من تلك. ولكن يا لتعاسة تلك النفس التي يبلغ بها الجهل حدَّ احتقار مقام سامٍ كهذا المقام! لا يمكن أن تُعتبر إلاَّ أنَّها منقادة بالشيطان.

وأعود إلى الكلام عن سلطان الكهنة. الكهنة يلدوننا لحياة خالدة مستقبلة، ووالدونا يلدوننا لحياة حاضرة فانية. إنَّ والدينا لا يعرفون أن يخلِّصوا أجسادنا من المرض، ولا من الموت، في حين أنَّ الكهنة يستطيعون أن يخلِّصوا نفوسنا من المرض ومن الموت. يعرفون أن يصفوا العلاج، ويعرفون كيف يتلافون سقطاتنا، ليس فقط بواسطة تعليمهم ونصحهم، بل بواسطة صلواتهم. ليس للكهنة مهمَّة غفران خطايانا وتجديدنا بماء المعموديَّة فقط، بل إنَّ لهم سلطانًا ترك الخطايا التي نرتكبها بعد المعموديَّة. قال يعقوب الرسول: "إذا مرض أحدكم فليدعُ قسوس الكنيسة وليصلُّوا عليه باسم الربِّ ويمسحوه بزيت فيبرأ، وإذا كان له خطايا تُغفَر" (يع 5: 14-15). ثمَّ إنَّ الأبناء إذا وقعوا تحت غضب سلاطين العالم، فليس لهم أن يرجوا من والديهم أيَّة مساعدة، ولكنَّ الكهنة، على العكس، لا يصالحوننا مع سلاطين العالم وملوكه، بل مع الله الذي يحاكم ويعاقب السلاطين والملوك أنفسهم.

والآن ماذا ترى، هل لأحد أن يرميني بالكبرياء؟ وأرجو أن أكون قد وفِّقت إلى إظهار الكهنوت حيث هو من الاعتبار والاحترام، حتّى لا يُرمى بالكبرياء والتهوُّر الذين يهربون منه، بل الذين يقتربون منه، وليست عندهم الدعوة، ويستعملون كلَّ الوسائل من أجل الوصول إلى هذه الرتبة السامية.

إذا أوليت تقاليد الأمور في الدولة إلى رجل ليست فيه كفاءة واستقامة فتكون النتيجة جرَّ هذا الإنسان إلى التعاسة والسير بالبلاد إلى الخراب. وإذا قُلِّد إنسان أمر سياسة كنيسة المسيح وعروسته، فعلى كم من الصفات السامية يجب أن يكون حائزًا؟ وكم من النِعم السماويَّة يجب أن تكنفه حتّى لا يعرِّض الكنيسة وسلامته إلى الخطر.

ما من أحد أحبَّ يسوع كما أحبَّه القدِّيس بولس الرسول. وما من أحد أظهر مثل غيرته. وما من أحد تلقَّى من النعم مثلما تلقَّى هذا الرسول، وعلى الرغم ممّا كان يتمتَّع به من الهمَّة العالية، وكثرة الإنعامات، كان يرتعد أيضًا أمام عظمة الخدمة والرسالة، كما كان يقلق ويخاف على النفوس التي تكلف بقيادتها: "لكنِّي أخاف كما أنَّ الحيَّة أغوت حوّاء باحتيالها، كذلك تفسد بصائركم عن الإخلاص الذي للمسيح" (2 كو 11: 3).

هوذا إنسانٌ نُقل إلى السماء الثالثة، وسمع الأسرار الإلهيَّة. هذا إنسان منذ يوم ارتدَّ إلى المسيحيَّة، كان يذوق طعم الموت عدد الأيّام التي عاشها. ولكي لا يُعثر المؤمنين، كثيرًا ما كان يرفض أن يستخدم في المسيح سلطانه عليهم. وكان مثالاً بالعلم والعمل بالناموس، ولم يلتمس مطلقًا منفعة شخصيَّة، بل كان يلتمس منفعة المؤمنين! لنتأمَّل هذا الإنسان ولنقل: إذا رأينا إنسانًا مثل هذا يرتعب أمام عظمة خدمته، فكم من الخوف يتملَّكنا نحن أمام الكهنوت؟ نح الذين لا نفتِّش إلاَّ على مصالحنا الخاصَّة، وإذ نكون أبعد من أن نعمل بالوصايا، نتجاوز التعاليم نفسها. "من منكم يضعف ولا أضعف أنا؟ من منكم يتشكَّك ولا أحترق أنا؟" (2 كو 12: 29). انظر ما يجب أن يكونه، بل ويجب أن يكون أكثر من هذا. لأنَّ هذا ليس بشيء أمام الكلام الذي يضيفه الرسول بولس قائلاً: "إنَّ لي غمًّا شديدًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع، وتمنَّيت لو أكون أنا نفسي هالكًا بدل إخوتي وأقربائي بالجسد" (رو 9: 3).

إنَّ الهرب من الكهنوت هو تعاسة لمن يستطيع أن يقول هذه الأقوال، وأن يصلِّي مثل هذه الصلاة. ولكن من كان مثلي بعيدًا عن درجة هذه الفضيلة، فليس الهرب من الكهنوت هائلاً بالنسبة إليه، بل قبول الكهنوت يكون هائلاً عنده.

إذا أتى بإسكاف أو حدَّاد وكلِّف قيادة حملة عسكريَّة والقيام بمهمَّات حربيَّة، فماذا نسمِّي هذا الرجل التعس إذا هو رضي بذلك، ولم يعمل كلَّ ما في وسعه للإفلات والنجاة من الهاوية التي يُرمى فيها؟ إذا اشتُرط فيمن يحمل مسؤوليَّة الكهنوت أن يكون من ذوي الحزم والمرونة، وأن يكون مع هذا ذا نفس مستقيمة، وحياة طاهرة، وفضيلة تتزايد يومًا بعد يوم، إذا اشتُرط في صاحب الكهنوت أن يكون كما ذكرت، فما أحقَّك بمعذرتي إذا أنا لم أقبل به دون تفكير ولا تروٍّ، وأن أرمي بنفسي في هذه الهاوية!

لو أنَّ صاحب باخرة كبيرة، مشحونة بالبضائع، وقف بي عند ساريتها، وعرض عليَّ أن أسيِّرها وأجتاز بها بحر إيجه أو بحر تيرينيين، لعاد بي الخوف إلى الوراء من أوَّل كلمة أسمعها. وإذا سُئلتُ: ما السبب؟ أجيب: يعتريني خوف عظيم من غرق الرجال والبضائع والتطويح بهم وبنفسي وبالباخرة في قلب البحر. وما من أحد يعيِّرني قلَّة نباهتي وفطنتي، مع أنَّ الأمر هنا هو أمر فقدان مال وموت أجساد. فكيف بالناس يأخذونني باللوم والعنف، ويريدونني على المجازفة عندما تكون القضيَّة قضيَّة هلاك النفوس، لا في البحر بل في أعماق جهنَّم؟ وعندما يكون الموت موت النفس والجسد معًا بالعقاب الأبديّ؟ كلاّ! فليس هذا من المعقول. إنَّني أعرف نفسي. أعرف ضعفها وحقارتها، كما أنِّي أعرف عظمة الكاهن ومصاعب وظيفته وأعرف أنَّ عليه أن يجابه من العواصف ما لم تثرها ريح فوق سطح البحر.

وأولى الصخور التي يصطدم بها إنَّما هي محبَّة المجد الباطل. وخطر هذه الصخرة يختلف عن خطر السيرين التي تُفيض الميتولوجيا اليونانيَّة بذكرها. لأنَّ خطر هذه السيرين قد تنبَّه له كثير من المسافرين فاجتنبوه وجازوا بمراكبهم، في حين أنَّ محبَّة المجد الباطل أشدُّ خطرًا. إنِّي أحسُّ الآن بكثير من الصعوبة في اجتنابه مع أنِّي خارج الكهنوت. فكأنِّي بمن يريد أن يحمِّلني عبء الكهنوت، قد أوثق يدي، وتركني إلى هذه الوحوش المفترسة التي تقطن فوق صخور محبَّة المجد الباطل لأرعاها كلَّ الأيّام. ولا أظنُّك تجهل تلك الوحوش: فهي الغضب والجبن، والحسد، وروح الخصومة، والنميمة، والوشايات، والكذب، والرياء، والتآمر، والتحامل على من لم يسئ إلينا والفرح بسقطات خدَّام القدسات، والحزن من نجاح الآخرين، ومحبَّة المديح، والتعطُّش إلى السمعة (وهذه من الشهوات التي تجعل الإنسان طاغية باغيًا) والوعظ الذي لا يُقصد به غالبًا سوى إرضاء الجمهور، والتملُّق الذميم، والغشوش الرديئة واحتقار الفقراء، والبشاشة للأغنياء، والتعظُّم الذي لا يخلو من مضرَّة للآخرين، والمنن التي لا يكون خطرها على الممتن أقلّ من خطرها على من منَّ عليه، والمخاوف الوضيعة التي هي أخلق بالعبيد منها بالسادة، وفقدان الثقة والتواضع، والتظاهر الكاذب الذي ليس في الحقيقة شيئًا، وفقدان الجرأة على التوبيخ والتأنيب، أو بالأحرى استعمال هذا الحقِّ مع الضعفاء (لأنَّه عندما يقتضي الأمر توبيخ العظماء فلا يستطيع أحد أن ينبس معهم ببنت شفة)، هذه هي الوحوش التي تربَّى على هذه الصخور البحريَّة مع كثير غيرها. فإذا اتَّفق للإنسان مرَّة أن يقع بين مخالبها، يصبح لها عبدًا، وإذ به يعمل أحيانًا في سبيل مرضاة بعض النساء أشياء لا يليق ذكرها. ذلك أنَّ النساء، وقد منع الناموس إدخالهنَّ في الكهنوت، يحاولن ذلك بالقوَّة، فيمارسن التأثير على الآخرين. وقد يبلغ من تأثيرهنَّ أنَّهنَّ يقصين من الكهنوت من يردن، ويقرِّبن من يردن، ويعكسن معاني الأشياء رأسًا على عقب كما يشأن. ومن هنا يصحُّ المثل القائل: الأمراء ينقادون لأتباعهم! وأيُّ أتباع هؤلاء الأتباع؟ إنَّهم لو كانوا رجالاً لما كان على الأسياد غضاضة، وكلُّهم من النساء اللواتي ليس لهنَّ حقٌّ بالوعظ. وماذا أقول حقّ الوعظ؟ إنَّ القدِّيس بولس الرسول لم يسمح لهنَّ حتّى بأبداء رأيهنَّ في الكنيسة. وقد يحدث لهنَّ أن يوبِّخن بسلطان الأساقفة ويعاملنهم معاملة أردأ من معاملة الأسياد للعبيد!

وهكذا تجد أنَّ المسؤولين هم الذين يوسِّخون الكهنوت ويدنِّسونه بإعطائهم إيّاه لأوَّل قادم. والمنتخَبون الذين لم يتفحَّصوا خبايا نفوسهم، ولا قدَّروا ثقل المسؤوليَّة يرمون بأنفسهم إلى الكهنوت. ولكنَّهم عندما يمارسون عمليًّا واجبات وظيفتهم، يتخبَّطون عميانًا على غير هدى في ظلمات عدم اختبارهم، ويبذرون المتاعب والشكوك بين المؤمنين الذين كلفوا رعايتهم.

هذا هو عمق الشقاء الذي أوشكت أن أقع فيه لولا أنَّ الله أسرع إلى إنقاذي من خطره وأخذته الرأفة بي وبكنيسته.

وما هو، حسب رأيك، سبب هذا الاضطراب العظيم الذي تتخبَّط فيه الكنيسة الآن؟ ليس له من سبب، في نظري، سوى أنَّ اختيار الكهنة والأساقفة يجري دون معرفة تامَّة بنفوسهم، ودون معرفة للناس بهم.

إنَّ الرأس يجب أن يكون من الصحَّة والقوَّة بحيث يتمكَّن من أن يخضع أو ينبذ الميول المضرَّة التي تثور على أجزاء الجسد. وأمّا إذا كان من الضعف بحيث لا يستطيع أن يدفع التأثيرات المفسدة، فإنَّه يفقد هو نفسه ما يبقى له من القوَّة والصحَّة، وينتهي به الأمر إلى أنَّه يصير بباقي الجسم إلى الخراب. فلكي يجنِّبني الله مثل هذا الشقاء قد استبقاني حيث أنا من الدنيا. لأنَّه، أيُّها الصديق، فضلاً عن الصفات التي عددتها لك آنفًا توجد صفات لازمة للكاهن ليس عندي شيء منها.

وأولى هذه الصفات هي تحرُّر النفس من الطمع. إنَّ من اتَّخذ رتبة الكهنوت، وهو يحمل بين جنبيه أقلَّ شهوة من الشهوات، فلا يكاد يباشر هذه المهنة السماويَّة حتّى تضطرم نار هذه الشهوة ويضطر لكي يشبع هذا الميل، إلى التملُّق والتزلُّف والدناءة وإلى كلِّ ما يسيء إلى الكرامة وإلى المتاجرة والمكسب الخسيس. ولا أريد أن أتكلَّم عن أنواع من الشدَّة والارتكابات التي ملأ بها بعض الناس الكنائس، ولا التخريب الذي زرعوه في أكثر من مدينة ليصلوا إلى الأسقفيَّة! وما أظنُّ أنَّ أحدًا كان يصدِّقني لو ذكرت مثل هذا الذي يبدو غير معقول لو لم يحصل شيء منه فعلاً.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM