أنا الراعي الصالح

أنا الراعي الصالح

الخوري بولس الفغالي

وصلت الأخبار إلى الربِّ يسوع في أعلى سمائه، فإذا هي مقلقة. رتَّب اثني عشر رسولاً وأطلقهم فانتشروا في العالم كلِّه كما يروي التقليد، فوصل بعضهم إلى رومة، وآخرون إلى مصر والحبشة، وتوما إلى الهند. ورتَّب سبعين تلميذًا، "أرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كلِّ مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه" (لو 10: 1). ولكن كيف حال كنيسته اليوم، ولاسيَّما في الشرق حيث بدأ رسالته؟ "خراف مشتَّتة لا راعي لها" (مر 6: 34). يحتاجون إلى الكلمة، كما يحتاجون إلى الخبز وكادت قواهم تخور في الطريق (مر 8: 3). من أجل هذا، نزل من السماء متخفِّيًا وجال في الرعايا لكي يتعرَّف إلى الكهنة الذين يُفرَض فيهم أن يواصلوا الرسالة "إلى انقضاء الدهر" (مت 28: 20). هل حافظوا على محبَّة الأوَّلين، أم هم يحتاجون إلى التوبة لئلاَّ تؤخذ منهم منارتهم (رؤ 2: 4-5)؟ هل عمل فيهم الفتور عمله فكاد الربُّ يرفضهم (رؤ 3: 15-16)، أم هم يشبهون "ملاك فيلدلفية الصابر على المحنة، والمنتظر مجيء الربّ والإكليل على رأسه (رؤ 3: 10-11)؟ مرَّ الربُّ فصنَّف كهنته في ثلاث فئات، على ما نقرأ في إنجيل يوحنّا: هناك اللصّ والسارق. وهناك الأجير. وأخيرًا، هناك الراعي الراعي الذي يستعدُّ أن يبذل ذاته من أجل رعيَّته، على مثال يسوع المسيح.

1. جئت لتكون لهم الحياة

ذاك ما يفعل الراعي. وذاك ما يفعل الربّ الذي ننشد له: "الربُّ راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يريحني، ومياهًا هادئة يوردني" (مز 23: 1-2). الراعي حاضر هنا. يهتمُّ أوَّل ما يهتمُّ بأن لا يَنقصَ خرافَه شيء: لا الطعام، لا الشراب، لا الراحة. والربُّ حاضر هنا يقول لأبنائه: "لا تخف أيُّها القطيع الصغير! فأبوكم السماويّ شاء أن يُنعم عليكم بالملكوت" (لو 12: 32). أجل، لا مجال للخوف مع الربّ، ولو مشى الخراف في الظلمة وعتمة الليل، فالله هو من يهديهم في سبل الحياة. وعدم الخوف لا يأتي من قوَّة الخراف، فمثل "هؤلاء" يخافون من لا شيء. ومثلهم صار المسيحيّون في أيّامنا. حالاً يهربون لأنَّهم يعرفون أنَّهم مهدَّدون لألف سبب وسبب. نحن نجد قوَّتنا في الربِّ ولو كنّا ضعفاء، ونعرف أن نكتفي بخبزنا كفاية يومنا كما وعدنا الربُّ حين نتلو الصلاة الربِّيَّة.

سرور الآب أن يعطينا. وعطاء الله لا حدَّ له. يعطينا الملكوت، فماذا  نطلب بعد ذلك. يعطينا الروح القدس فينيرنا ويعضدنا في الصعوبات. يعطينا ما نحتاج إليه في حياتنا اليوميَّة: "لا يهمُّكم لحياتكم ما تأكلون وما تشربون، ولا للجسد ما تلبسون" (مت 6: 25). إذا كان الربُّ يهتمُّ بطيور السماء ألا يهتمُّ بالذين انتموا إليه في المعموديَّة وصاروا أبناءه وبناته؟ إذا كان يُلبس الزهورَ كلَّ هذا الجمال، هل يترك الذين آمنوا به عراة مساكين؟ هذا مستحيل. فينادينا الربّ: أما عندكم إيمان؟ فلماذا تخافون؟

الربُّ راعيّ. وما يميِّزه هو العطاء، لا الأخذ. الله يطلب منّا السجود! من قال لكم هذا؟ يطلب منّا أن نتعامل معه كما الأولاد مع والديهم. نرتمي في حضنه بكلِّ ثقة. وندعوه "أبّا، أيُّها الآب". أما هكذا ينادي والده؟ الله يطلب منّا "الذبائح" كما كانوا يقولون في العهد القديم. أجاب الربُّ في مز 50: "لا آخذ من بيوتكم عجولاً ولا من حظائركم تيوسًا... إن جعت فلا أخبركم... (آ9، 12).

إذًا، ماذا يطلب الربّ؟ أن ندعوه في يوم الضيق (آ15). فالأب يفرح حين يسمع صوت ابنه وابنته. ويقولون: الله يطلب منّا الإماتات، يطلب منّا أن نصوم، يطلب منّا أن نصلّي... طلبات وطلبات. كلاّ. فالربُّ قال لنا في إنجيله: إذا صمتم، هكذا تصومون. إذا صلَّيتم هكذا تصلُّون. وفي أيِّ حال، الصوم ينميكم في حياة الله. والصلاة تُبقي الاتِّصال بينكم وبين الله. فإذا انقطعتم عن الصلاة، صرتم مثل بطرس وهو يمشي على البحر. كاد يغرق. فاحتاج إلى يد الربِّ تمسكه. "منَّن" الشعب الله: نصوم ولا تنظر، نتَّضع وأنت لا تلاحظ (إش 58: 3). أتُرى الله يحتاج إلى صيامنا وهو "الذي خلق كلَّ شيء" حسنًا؟ الصوم ينفعنا نحن لا الربّ، والإماتة تشبه ما يفعله الربُّ حين يشذِّب الأغصان اليابسة بحيث تعطي الكرمة ثمرًا أكثر (يو 15: 2).

الربُّ هو إله العطاء، لا الأخذ. قال عن عروسه، عن شعبه: "أنا أعطيتُها القمح والخمر والزيت، وأكثرتُ لها الفضَّة والذهب" (هو 2: 10). ذاك ما يفعله الراعي. أمّا الذي رآه الربُّ يسوع في جولته، فهو "سارق ولصّ" (يو 10: 1). نتخيَّل الراعي "سارقًا"! وماذا يسرق؟ يسرق نفسه. وأكثر من ذلك: يستعمل السلاح، يلجأ إلى العنف. كم هو بعيد عن يسوع الذي دعانا لكي نتعلَّم منه: هو الوديع والمتواضع القلب (مت 11: 29). يرى شعبه "متعبين، رازحين تحت الأثقال" (آ28)، فهل يزيدهم تعبًا على تعب وثقلاً على ثقل؟ فالراعي الحقيقيّ يطلب الراحة لرعيَّته، لا يحمِّلهم الأثقال ساعة هو لا يحرِّكها بإحدى أصابعه (مت 23: 4). بل يسمع كلام الربّ: "نيري هيِّن وحملي خفيف" (مت 11: 30).

ما أجمل أن نسمع: هذا الكاهن خفيف، لا نحسُّ بحضوره. لا أنعم منه ولا ألطف. أما هكذا كان يسوع مع تلاميذه؟ حدَّثنا يوحنّا عنه: "أحبَّهم منتهى الحبّ" (13: 1). أحبَّهم حتّى الغاية، حتّى النهاية. لا يمكن أن يكون حبٌّ أعظم من هذا. قال لهم: "تدعونني معلِّمًا وسيِّدًا، وحسنًا تفعلون لأنِّي هكذا أنا" (آ13)، ومع ذلك، هل تصرَّف معهم كالسيِّد أم الخادم؟ غسل أرجلهم وما طلب منهم أن يغسلوا له رجليه. كان "المعلِّم" يجلس على كرسيّ، والتلاميذ يجلسون عند قدميه، كما كان شاول (بولس) لدى قدمَي غملائيل (أع 22: 3)، أمّا يسوع فكان عند أقدام تلاميذه. أين كرامته! أنريد الكاهن أن يفعل هكذا وهو "المحترم"؟ هكذا كان يسوع. إلاَّ إذا كنّا نسير وراء يسوع آخر "يحبُّ مقاعد الشرف في الولائم، ومكان الصدارة في المجامع، والتحيّات في الأسواق".

يفرح الكاهن أن يُدعى "المعلِّم" مع أنَّ لا معلِّم سوى يسوع المسيح. أمّا إذا أراد أن يكون معلِّمًا، فيكون فمه امتدادًا لفم يسوع المسيح. يسمع لصوت الربِّ في عمق صلاته الشخصيَّة، ولا يقول إلاَّ ما يريد يسوع أن يقوله بفمه. يفرح الكاهن أن يدعو "أبانا" مع أنَّ لنا أبًا واحدًا هو الآب السماويّ. حين كان الكاهن يقبِّل يد الأسقف في القديم، كان الأسقف يقبِّل الكاهن في رأسه حيث علامة تكريسه. أمّا الآن فجاء المثل الذي ينبغي أن يجعلنا نستحي من ذواتنا: "بوس الأيادي ضحك على اللحى". فكيف نرضى أن يقبِّل المؤمنون يدنا ونحن بعيدون جدًّا عن الأبوَّة. الويل لنا عند الآب السماويّ بسبب التمثيل الذي نمثِّله!

هنا يقول لنا بولس الرسول: "أنت، يا من يعلِّم غيره، أما تعلِّم نفسك؟ تنادي: لا تسرق، وتسرق أنت؟ تقول: لا تزني، وتزني أنت؟ تستنكر الأصنام وتنهب هياكلها؟ تفتخر بالشريعة وتهين الله بعصيان شريعته؟ فالكتاب يقول: "بسببكم يستهين الناس باسم الله بين الأمم" (رو 2: 21-24). هناك نصٌّ آخر يقول: يُجدَّف على اسم الله بسببكم. كم من الناس ابتعدوا عن الكنيسة وعن الأسرار بسبب تصرُّف هذا الكاهن أو ذاك! نحن نفتخر أنَّنا كهنة، ويا ما أعظم هذا الافتخار! ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل يحقُّ لنا أن نفتخر؟ وبماذا؟ بلباسنا؟ بحضورنا على المذبح؟ بترؤُّس الصلاة؟ إذا كنّا غير لابسين اللباس الكهنوتيّ، هل يعرفنا الناس حين نتكلَّم، حين نتصرَّف؟ هل نجرؤ أن نقول للناس كما قال بولس الرسول: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح" (1 كو 11: 1)؟

حين كتب يوحنّا إنجيله حوالى سنة 100، تذكَّر الراعي الصالح ورأى العديد من الكهنة وخدَّام الكنيسة. قال بفم يسوع: "جميع الذين جاؤوا قبلي (وبعدي) سرّاق ولصوص. فما أصغت إليهم الخراف" (يو 10: 8). لا ثقة لها بهم. من هو اللصّ؟ هو الذي يتصرَّف في السرِّ والخفاء بحيث لا يراه أحد. "يتسرَّق" على الناس، يعمل في الظلمة، بل يفضِّل أن يعمل في الظلمة لئلاَّ تنفضح أعماله. ما هذه التسمية التي يندى لها الجبين! الله لا يدخل بالباب، لا يتسلَّق الجدار. طريقه غير طريق الراعي، لأنَّ هدفه غير هدف الراعي. الراعي يدخل من الباب لكي يأخذ الخراف إلى المرعى، أمّا السارق فيأتي "ليسرق ويقتل ويهدم" (آ10). أو بالأحرى، يهلك، ليقود الخراف إلى الهلاك.

أمّا يسوع راعينا فجاء لكي يعطينا "الحياة، بل ملء الحياة". في أيِّ حال، هو الماء الحيّ، ولمّا أعطى السامريَّة من هذا الماء، نسيَتْ جرَّتها والماء الذي كان فيها من بئر يعقوب. وهو خبز الحياة. قال: "جسدي هو القوت الحقيقيّ، ودمي هو الشراب الحقيقيّ. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه" (يو 6: 55-56).

2. أضحّي بحياتي

ما جاء يسوع لكي يضحّي بالخراف من أجل فائدته، بل جاء يضحّي بنفسه. قال: "ما من حبٍّ أعظم من حبِّ من يبذل نفسه من أجل أحبّائه". هكذا يكون الراعي وهو بعيد كلَّ البعد عن الأجير. فالأجير يشتغل لقاء شجرة. ويشتغل بقدر الأجرة التي تُعطى له. وإن لم يكن من أجرة، فلا عمل. لم يُعدُّ الكهنة رسلاً لكن تجّارًا يطلبون الثروة بعجل. يا ليتهم يتذكَّرون ما كان يقال عن اللاويّين في العهد القديم.: حصَّتهم الربُّ وهم حصَّة الربّ. لا أرض لهم بين سائر القبائل. هم يخدمون المذبح ويعيشون من المذبح. يذكِّرنا بهذا الوضع القدّيس بولس: "وهكذا أمر الربُّ للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة" (1 كو 9: 14). ويضيف الرسول حالاً: "فما هي أجرتي؟ أجرتي هي أن أبشِّر مجّانًا وأتنازل عن حقّي في خدمة البشارة" (آ18).

الأجير تبقى نفسيَّته نفسيَّة أجير، وللعبد نفسيَّة عبد. والويل للرعيَّة إذا العبد ساد! يعطينا يسوع صورة عنه: "يضرب رفاقه، ويأكل ويشرب مع السكّيرين" (مت 24: 49). ماذا يكون مصيره؟ "يمزِّقه سيِّده تمزيقًا" (آ51). وهو يستحقُّ مثل هذا العقاب. بعد أن ترك الذئب يأتي "فيخطف الخراف ويبدِّدها" (يو 10: 12). يمزِّقها. هو مَن بذل نفسه من أجل خرافه. فالخراف لا تخصُّه. هو يهرب، خوفًا على نفسه. وما اهتمَّ بالخراف ليخاف عليها. كثيرون من كهنتنا في هذا الشرق تركوا الرعيَّة، وتركوا بلدهم ومضوا إلى الغرب. بعضهم يعيش في فرنسا، فالحياة راحة هناك، ولا همَّ لنا. أمّا أبناء الرعيَّة فنشفق عليهم ونتحسَّر، ونرسل إليهم مالاً بين الوقت والآخر. ولكنَّ الغرب هو أوستراليا وأميركا. فهناك يجمع الكاهن الثروة وينسى الذين تركهم في البلاد. حسب نفسه حرًّا فإذا هو عبد. ترك عبادة الربِّ واتَّخذ آخر هو "مامون" هو إله المال، الذي يعطينا الطمأنينة في حياتنا. فكما يهاجر الإنسان يطلب رزقه، كذلك يفعل الكاهن وكأنَّه سوف يموت جوعًا بعد أيّام!

الحمد لله. هناك كهنة، هناك أساقفة، رفضوا أن يكونوا أجراء. فالقطيع قطيعهم، والرعيَّة رعيَّتهم. والربُّ كلَّفهم بذلك. هم "الوكلاء" وما يُطلب من الوكيل أن يكون أمينًا. هم كالقبطان في السفينة. لا ينجون بنفوسهم ويتركون الناس يتدبَّرون أمرهم ويفرِّقون. قبلوا أن يسجنوا، أن يموتوا، فكانوا مثالاً لنا في هذا الشرق حيث المسيح يضطهدون من زمان طويل. هؤلاء يستحقّون كلام الربّ "طوبى لكم إذا عيَّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كلَّ كلمة سوء من أجلي، افرحوا وابتهجوا لأنَّ أجركم عظيم في السماوات. هكذا اضطهدوا الأنبياء قبلكم" (مت 6: 11-13).

ونتذكَّر الأنبياء، فهم يعلِّموننا كيف يجابه خادم الله الصعوبات. عاموس اقتُلع من جنوب البلاد وأُرسل إلى الشمال. قال عن نفسه: "أنا راعي غنم (أو: راعي بقر) وقاطف جمَّيز. أخذني الربُّ من وراء الغنم وقال لي: "اذهب تنبَّأ" (عا 7: 14-15). وهكذا أتى إلى السامرة ومعبدها بيت إيل. وبالرغم من الصعوبات، لم يتوقَّف. فهو "الغريب" قويّ بقوَّة الله. لا شكَّ في أنَّه طُرد. لا بأس. وهو ينتظر نداء آخر من الربّ، على ما قال الربُّ: "إذا اضطهدوكم في مدينة فاهربوا إلى غيرها" (مت 10: 23). وقال: "إذا امتنع بيت أو مدينة عن قبولكم أو سماع كلامكم. فاتركوا المكان وانفضوا الغبار عن أقدامكم" (آ14). ونطرح السؤال في صعوباتنا: من يفعل هكذا؟ ويأتينا الجواب من بولس ورفيقه برنابا حين كانا في أنطاكية بسيدية: "طردوهما من ديارهم، فنفضا عليهم غبار أقدامهما، وانتقلا إلى إيقونية" (أع 13: 51).

وإيليّا النبيّ هدَّدته الملكة بالموت: "ويل لي من الآلهة إن لم أجعلك في مثل هذه الساعة غدًا كواحد منهم" (1 مل 19: 2). ماذا يقول الكتاب عن هذا النبيّ "الشجاع"؟ "خاف وهام على وجهه" (آ3). ومن شدَّة الحزن "قعد تحت شجرة وتمنّى الموت. وقال: كفاني الآن يا ربّ، فخذ حياتي، فما أنا خيرٌ من آبائي" (آ4). أعطاه الربُّ طعامًا وشرابًا فوصل إلى جبل حوريب ليعود إلى الرسالة، بعد أن قال له: "ارجع في طريقك" (آ15). فرجع وتابع الجهاد.

في الحالات الصعبة، يطلب منّا الربُّ البطولة. ماذا نقول؟ في تلك الساعة الحرجة "نعطى ما نتكلَّم به... الروح يتكلَّم فينا" (مت 10: 19-20). ماذا نفعل؟ الروح يقود خطانا. والخطر؟ "الحياة عندي هي المسيح، والموت ربح" (فل 1: 21). وقال الرسول إلى أهل غلاطية: "مع المسيح صلبتُ، فما أنا أحيا بعد، بل المسيح يحيا فيَّ. وإذا كنت أحيا الآن في جسم بشريّ، فحياتي هي في الإيمان بابن الله الذي أحبَّني وضحّى بنفسه من أجلي" (2: 20).

قيل عن إشعيا إنَّه وُضع في جذع شجرة ونُشر بمنشار. وميخا بن يملة نال لطمة على فكِّه (1 مل 22: 24) ثمَّ حُكم عليه بأن يعطوه "قليلاً من الخبز والماء" (آ27) لأنَّه تكلَّم بما جعل الربَّ على لسانه (آ28). أمّا آلام إرميا فلا تُعدّ، وفي النهاية جعلوه في بئر موحلة حيث كاد يموت. ويسوع نفسه هدَّده هيرودس، ذاك الثعلب المحتال. فهل تراجع؟ كلاّ. "يجب أن أسير في طريقي اليوم وغدًا وبعد غد، وفي اليوم الثالث أتمِّم كلَّ شيء" (لو 13: 32). فالرسالة ليست في يد السلطان ولا في يد شخص مقتدر، بل هي في يد الله.

الفرق شاسع بين الذين ضحّوا بحياتهم "في سبيل الخراف" وما تركوهم يتيهون، في الماضي كما في أيّامنا، لا في الشرق فقط، بل في الغرب أيضًا. كلُّنا يذكر المطران روميرو الذي قُتل وهو على المذبح لأنَّه دافع عن الفقراء، فامتزجت حياته بحياة المسيح وموته بموت المسيح. كما نتذكَّر الرهبان اليسوعيّين في أميركا الوسطى. والرهبان البندكتان الذين كانوا يصلُّون في ديرهم. وشارل ده فوكو الذي دعا نفسه "صديق البشر". وبين الأجراء الذين يكثرون في أيّامنا. نؤمِّن حياتنا. نعيش في الرفاهيَّة. نبتعد عن الخطر قدر الإمكان. نهرب، لا من أجل رسالة جديدة، بل لكي ننجو بأنفسنا ونترك القطيع بيد الذئاب.

3. أنا الراعي الصالح

هنا نعود إلى يسوعنا الذي تعلَّقنا به وربطنا حياتنا بحياته. دعا نفسه الراعي الصالح. لماذا هذه الصفة؟ لأنَّ هناك الراعي الصالح. كما أنَّ هناك النبيّ الصادق والنبيّ الكاذب. يكون النبيّ كاذبًا حين يقول كلمته لا كلمة الربّ. حين يقول ما يرضي "رئيسه"، لا ما يُرضي الله. أشرنا إلى ميخا بن يملة الذي طُلب منه أن يكون "خروفًا بين الخراف"، يضع رأسه في ما آل إليه سابقه ويسير. أن يكون "بوقًا بين أبواق عديدة" لا تزعج الملك، بل تتبع نزواته. قيل له: "يكون كلامك مثل كلامهم" (1 مل 22: 13). إذا كان الأمر هكذا، فلماذا دعوتموني؟ وماذا يضيف "كاذب" على عدد من "الكذبة"؟ لا شيء. بل يكون مثل "حجر الشطرنج" تحرِّكه اليد كما تشاء. أهذا ما طلب ملك يهوذا بعد أن سمع "أربع مئة رجل من الأنبياء" (آ4)؟ كلاّ. بل هو قال لملك السامرة: "أما من نبيٍّ آخر (يكون) للربِّ (لا للملك) هنا فنستشير به الربّ؟" فأجاب الملك: "هناك واحد بعد. لكنّي أبغضه" (آ8). نتخيَّل! أربع مئة نبيٍّ في خدمة الملك. أمّا الربُّ فلم يبقَ له سوى نبيٍّ واحد.

ونتساءل بعد ذلك لماذا رعايانا ضعيفة. فقط نبيّ. فقط كاهن مميَّز. ونحن نعيِّد في هذه السنة كاهنًا قدّيسًا، وشفيع الكهنة. هو يوحنّا ماري فيانّاي، الخوري في رعيَّة صغيرة ما أراد أحد أن يمضي إليها، صعبة، فقيرة. وقال عنها الخوري آرس: اتركوا رعيَّة عشرين سنين بدون كاهن يعبدون العجل. كما فعل العبرانيّون حين مضى موسى إلى جبل سيناء. منذ مئة وخمسين سنة توفِّي هذا الكاهن وما لبث مثالاً لنا. هو صورة رائعة عن الراعي الصالح. هزئ منه رفاقه: إلى أين يمضي هذا وماذا سيفعل هناك؟ وقال آخرون: كاهن بسيط. لا يعرف اللغة اللاتينيَّة مثل هذه الرعيَّة توافقه. هو فقير وهم فقراء. أمّا الكاهن "المتعلِّم" فلا يقدر أن يمضي إلى هناك ويدفن علومه بين فلاّحين ومزارعين. كم أخطأوا. قالوا: هو يريد أن يكون قدّيسًا. يريد أن يتميَّز عن غيره. هذا آخر ما فكَّر فيه جان ماري فيانّاي. أُرسل إلى هناك وهناك يعمل. ضيعة فقيرة، صارت بفضله غنيَّة. قرية مجهولة، ولكن عرفها العالم المسيحيّ كلُّه وإليها يحجّون. أمّا الذين جاؤوا من باريس، الملافنة، المعلِّمون الكبار، الذين هزئوا بهذا "الحمار" فراحوا في عالم النسيان.

مضوا كلُّهم. تركوا رعيَّتهم. تركوا هذه الرعيَّة لأنَّ لا "خير" فيها. ولكن إن مضوا كلُّهم فأنا باقٍ مهما قيل عنّي. وفي أيِّ حال، لست وحدي. أعطاني الربُّ هذه النعمة الكبيرة أن أكون راعيًا معه لقطيع الربّ. فيا للشرف الكبير! جعل ثقته فيَّ فهل أتجرَّأ بأن لا أكون على قدر الثقة؟ كان بالإمكان، منذ البداية، أن أقول للربِّ "كلاّ" مثل ذاك الشابّ الغنيّ، فأكون منطقيًّا مع نفسي. ولكن أن أضع يدي على المحراث وأنظر إلى الوراء، فهذا لا يليق بإنسان يحترم نفسه ووعد الله. وخصوصًا لا يليق بالربّ الذي قال لي: اتبعني. فتركت كلَّ شيء مثل الرسل الأوَّلين ومضيت وراءه. ولكن ماذا انتظرتُ من اتِّباع يسوع؟ تحسين حياتي المادِّيَّة، وأنا من أسرة فقيرة؟ ارتفاع في السلَّم الاجتماعيّ وأنا من محيط وضيع؟ بحث عن الكرامة في علوم تُعطى لي مجّانًا؟ إذا كنتُ طلبتُ هذا، فأنا ضللتُ الطريق. فقبلي يهوذا طلب المال، على ما أخبر عنه يوحنّا، فكانت النتيجة موته مع المال. وغيره طلب الكرامة فناله التوبيخ.

دعاني الربُّ فقلت: هاءنذا. وبدأت باندفاعٍ كبير. ولكن ماذا حصل بعد عدد من السنين؟ بدأت ببناء توقَّفت. بدأت ببناء لله، ثمَّ اهتممت ببناء لنفسي. على ما قال النبيّ حجّاي للعائدين من المنفى والعائشين في الأحلام: "أنتم تسكنون في بيوتكم وبيت الربِّ خرب" (1: 4). أمن أجل هذا يدعونا الربُّ "نربح العالم ونخسر نفوسنا"؟ إذا كان بولس قال لنا: أخاف أن أكون من الخاسرين بعد أن بشَّرتُ الآخرين. فما عسى بعضنا أن يقول، لاسيَّما وأنَّه لم يهتمَّ بالرعيَّة، بل اهتمَّ بنفسه وعياله ومشاريعه الخاصَّة.

ومن هو الراعي؟ هو الذي يراقب خرافه ويساعدها لكي ترعى، لكي تسرح في الكلأ وتأكله. والراعي هو من يرعى الرعيَّة ويدبِّر شؤونها. يحفظها من الخطر. يتطلَّع إلى كلِّ واحد منها، ماذا ينقصه؟ هل هو مريض، متعب، بائس؟ وإذا طلب من الخراف أن تطيع راعيها وتخضع له، فهذا يعني أنَّه يعامله كالأب والأمِّ مع أولادهما.

الراعي، كما قال يسوع عن نفسه، يدخل من الباب، والبوّاب يفتح له. يدخل إلى كلِّ بيت من بيوت الرعيَّة. يزورهم واحدًا واحدًا يتعرَّف إلى أسمائهم وحالاتهم المعيشيَّة. هو لا "يتجسَّس" ولا "يتلصَّص" ليعرف ما يقول هذا عن ذلك. ربُّ البيت يفتح للكاهن ويستقبله فرحًا إذا رأى فيه الراعي كما استقبل زكّا العشّار يسوع. الراعي يتكلَّم والخراف تسمع، تصغي. لا في وقت العظة فقط، بل حين يكون في وسط الخراف. الراعي يقود الخراف إلى المرعى. يؤمِّن لها الطعام والشراب. الراعي يمشي قدَّام القطيع. هو لا يخاف. فإذا كان من كرامة، يمشي الكاهن قدَّامنا. ونحن نفتخر بذلك. ولكن إذا كان خطر، هل يهرب، هل يحتمي بالرعيَّة؟ كان يُقال عن القائد الرومانيّ: يمشي في المقدِّمة فيتشجَّع الجميع وينطلقون وبالتالي ينتصرون. أما ينبغي على الكاهن أن يفعل مثله لكي يستحقَّ أن يُدعى الراعي. الخراف تتبع الراعي، وهنيئًا لها إن قادها في طريق القداسة بمثله قبل أن "يعميها" بخطبه الفارغة. هناك ثقة متبادلة بين الكاهن والمؤمنين: هو يعرفهم ويعرف حاجاتهم. وهم يعرفون صوته، بمعنى يتعلَّقون بكلامه.

فعل "عرف" مهمٌّ جدًّا، أكثر من معرفة عقليَّة. هي معرفة من القلب إلى القلب. حين قال يسوع: أعرف خرافي وخرافي تعرفني، أي هي متَّحدة بي وأنا متَّحد بها، تابع كلامه: "مثلما يعرفني الآب وأنا أعرف الآب". نتخيَّل كيف أنَّ يسوع ربط معرفته بالخراف بمعرفته للآب. والكاهن، الربُّ عرفه وأرسله إلى الرعيَّة. ونقرأ كلامًا مماثلاً: "كما أرسلني الآب هكذا أنا أرسلكم". صرنا على مستوى المسيح. والدعوة التي نالها نلناها نحن. ماذا يفترض مثل هذا الإرسال؟ الاستعداد للتضحية. قال يسوع: "أضحّي بحياتي في سبيل خرافي". ثمَّ المحبَّة. فالربُّ لم يكلِّف بطرس بالخراف إلاَّ بعد أن أعلن له حبَّه ثلاث مرّات: "أتحبُّني أكثر ممّا يحبّني هؤلاء؟" وجاء جواب بطرس: "نعم يا ربّ. أنت تعرف أنّي أحبُّك". حينئذٍ قال له يسوع: "ارعَ خرافي" (يو 21: 15). ذاك هو السؤال الأساسيّ: هل تحبُّ يسوع؟ وبالتالي، هل نحبُّ رعيَّتنا؟ المحبَّة وحدها تربط الراعي برعيَّته والكاهن بالمؤمنين الذين أوكلنا الربُّ بهم.

الخاتمة

تطلَّعنا في تأمُّلنا إلى يسوع المسيح الراعي الصالح. هو لنا المثال الأوَّل والأخير. منذ البداية ربطنا حياتنا بحياته، والويل لنا إن نحن تخاذلنا وتركناه حين تكون الأمور صعبة. بل نهتف بفم سمعان بطرس: "إلى من نذهب يا ربّ، وكلام الحياة الأبديَّة عندك؟" (يو 6: 68). يسوع أعطانا الحياة، أعطانا السلطان الكهنوتيّ. وهو يطلب منّا أن نعطي لا بعض الوقت، لا بعض العمل، بل أن نعطي ذاتنا. جعل الربُّ في يدنا الحياة ونحن نحملها إلى الآخرين. يسوع سار أمامنا في طريق التضحية، فبيَّن لنا كيف يكون الرسول. طلب يعقوب ويوحنّا الكرامة: وزير عن اليمين ووزير عن الشمال (مز 10: 37). فدلَّهما يسوع على "الكأس التي يشربانها"، والصليب الذي ينتظرهما. تحدَّث بطرس عن "المسيح ابن الله الحيّ" (مت 16: 16) وعمّا وراء هذا الكلام من سلطة تتعدَّى الألم والموت، فأعاده يسوع كما أعاد التلاميذ إلى الطريق التي اختارها لنفسه" (آ21). وأخيرًا علَّمنا يسوع كيف يكون الراعي الصالح. عرفه الآب فعرف رعيَّته. أحبَّه الآب فأحبَّ رعيَّته. أرسله الآب وها هو يحاول أن يكون على قدر الرسالة فينال الجزاء الطيِّب: "يا لك عبدًا صالحًا وأمينًا". ولكن الويل للكاهن الذي يدعوه الربّ: العبد الشرّير، الكسلان!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM